علي جمعة: الفكر المستنير نتاج استضاءة العقل بنور الهداية
تاريخ النشر: 1st, February 2025 GMT
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ان الفكر على ثلاثة أنحاء: "فكر سطحى" وهو الذي ابتلينا به في عصرنا الحاضر؛ ينظر إلى الأشياء من الخارج ويفسرها بطريقة ساذجة، ويتعامل مع الأحداث بانطباع وليس بعقل ، ولا بمعرفة المآل وما تؤول إليه الأشياء ، فإذا استُثير ثار, وإذا أُنكر عليه انهار .
واضاف جمعة، في منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ان هناك تفكير آخر ، وهو : "التفكير العميق" ويشترك فيه الإنسان مؤمنًا كان أو كافرًا ، فهو لا يختص بفئة دون أخرى ، بل هو قدرة وهبها الله للإنسان في ربط المعلومات. فالذكاء في حقيقته ، وفي تعريفه الأصح ، هو قوة ربط المعلومات.
والإنسان لديه قوة وهبها الله له في ربط المعلومات, وهذه المعلومات تصله عن طريق الحواس ، فيتلقاها ويفكر فيها ، ثم يرتب بعضها فوق بعض ، أو بجوار بعض ، فيستنبط من المقدمات النتائج. وهذه القوة ، وهي قوة ربط المعلومات وهي الذكاء ، فتراها سريعة قوية واضحة عند بعضهم، وبعكس ذلك عند آخرين. و{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } فتجد أحدهم ذكيًا ، وترى الآخر غبيًا بليدًا لا يستطيع ربط المعلومات ولا استخراج النتائج من المقدمات. هذا هو التفكير العميق الذكى ، وهو ما يحقق كثيرًا من مصالح الدنيا.
الثالث: "التفكير المستنير" مستنير يعني أنه طالب للنور، ومستنير يعني طالب للنور ، أي أن النور يقع عليه فيضيء طريقه ، مثل الشمعة التي تشتعل فتضيء لغيرها الطريق. وقد يكون التفكير العميق مستنيرًا .
ولكن ما التفكير المستنير تحديدًا؟ التفكير المستنير لا يصلح أن يكون تفكيرًا سطحيًا, بل يجب أن يكون عميقًا ، لكنه لا يقتصر على العمق فقط ، بل لا بد أن يكون هناك ضوء ، نور جاء إليه ، وقع عليه نوره. ما هذا الضوء ؟ { وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } الذِّكر.. ذكر الله وربط الأشياء به ، ومعرفة قضية الكون وغايتها ، ومعرفة كلام الله وهدايته، هذه هى الاستنارة.
فلو فكرتم بعمق ، ووصلت إلى أن هذه الورقة التى في الشجر مكونه من اليخضور ، ومن البلازما ، ومن الكلوروفورم ، وغير ذلك ، فهذا تفكير عميق ومفيد ، ويمكن من خلاله إنتاج معجون أسنان لمقاومة التسوس ، وهذا تفكير عميق ومفيد ، ولكن كونك تربط هذا بالله ، وترى هذا الكون فتستدل من هذا الأمر الذي قد مكّنك الله منه وبه على الله ، وكونك قد التزمت بمراد الله في كونه من صلاح الأرض وعدم إفسادها ، ومن التعمير لا التدمير, ومن التحبيب لا التخريب, فإنك بذلك تكون في نطاق الاستنارة. لأنك قد أدخلت الله ، مقصود الكل ، في المسألة.
أما الذي يعيش وقد ولى ظهره لله ، وحرم نفسه من فتح الله ، وحرم نفسه من هداية الله ، فأنَّى له الاستنارة ! فالنور خارج عن دائرته ، فهو في دائرة الظلمة ، لا في دائرة النور ، وإن كان يفكر تفكيرًا عميقًا. لذا ، عندما يقول الله تعالى : { وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } فإنه ينقلنا من دائرة الظلام إلى دائرة النور ، فلا يرضى لنا أن نفكر التفكير السطحى ، ولا يرضى لنا أن نقف عند التفكير العميق ، بل يأمرنا أن ندخل به بهذا التفكير العميق ، الذي به العمارة ، إلى نور قد جاء من عند الله {وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } ذِكرًا، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } بهذا البيان .. فاللهم اجعلنا من الشاكرين.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: التفكير العميق المزيد التفکیر العمیق ربط المعلومات تفکیر ا
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: المفتي الماجن أخطر من الجاهل الصريح لأنه يدعو إلى فتنة تفسد المجتمع كله
قال الدكتور علي جمعة، مفتى الجمهورية السابق، وعضو هيئة كبار العلماء، إن مما ابتُليت به الأمة في عصورها المتأخرة أن تصدر للقول في دين الله من لم يحط بأصول العلم، ولم يرسخ قدمه في مدارج الفهم، فصار يتكلم في المسائل الكبار، ويخوض فيما لا علم له به، خروجًا عن الجماعة العلمية المعتبرة، وتخليًّا عن الضوابط المرعية التي بها يحفظ الدين وتصان الدنيا.
وأشار عبر منشور عبر صفحته على فيس بوك، إلى أن سيدنا رسول الله ﷺ حذَّر من هذا المسلك الخطير، فقال: «فعليكم بالسواد الأعظم»، وقال: «ومن شذ شذ في النار» (رواه ابن ماجه).
وبين أن الجماعة العلمية ليست مجرد اجتماع أشخاص، بل هي مقام الأمة في علمها، وضميرها في فهم نصوصها، وميزانها في ضبط استنباط الأحكام وتنزيلها على الوقائع. والخروج عنها شذوذ، والشذوذ مهلكة في الدين والدنيا معًا.
متى يظهر الشذوذ عن الجماعة
الشذوذ عن الجماعة العلمية يظهر عندما يتكلم من لم تكتمل فيه شروط الإفتاء والاجتهاد:
- فلا يحسن فهم النصوص الشرعية ولا يفرق بين قطعيها وظنيها.
- ولا يدرك الواقع المعيش بكل تعقيداته وتغيراته.
- ولا يراعي المصالح الشرعية، ولا المقاصد الكلية، ولا المآلات المستقبلية للأقوال والأفعال.
- ولا يزن الفتوى بميزان اللغة العربية وأعرافها المرعية.
فإذا اجتمع هذا الجهل المركب، خرج المفتون عن سواء السبيل، وصار تجديدهم تبديدًا، وتقريبهم تبعيدًا، وإصلاحهم إفسادًا.
وهؤلاء إذا رأوا مشكلة، هربوا منها بآراء غريبة، وكلمات تهدم أصول الدين من حيث لا يشعرون، فيتناقض أول كلامهم مع آخره، وتضطرب أقوالهم اضطراب السقيم في خطواته. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد نبه علماء الأصول إلى هذا الصنف من الناس، وسموه "المفتي الماجن"، وهو الذي خرج عن الجماعة العلمية، وخالف القواعد المرعية، ولم يبالِ بإجماع ولا مصالح ولا مقاصد.
قالوا: المفتي الماجن أخطر من الجاهل الصريح؛ لأنه يلبس على الناس أمر دينهم، ويدعو إلى فتنة لا تقتصر على الدين وحده، بل تفسد المجتمع كله، وتهدد الأمن المجتمعي الذي يقوم على سقف الشريعة الإسلامية.
والفرق بين الفقه والإفتاء واضح عند العلماء:
- الفقه هو تحصيل المسائل العلمية من نصوص الكتاب والسنة.
- أما الإفتاء فهو تنزيل الأحكام على وقائع الناس وأحوالهم، بعد فهم النصوص وفهم الواقع معًا، وضبطهما بالضوابط الشرعية الدقيقة.
أركان الإفتاء
ولذا، فإن الإفتاء يحتاج إلى ثلاثة أركان:
1. إدراك النص (بأقسامه: نص مقدس، ونص اجتهادي).
2. إدراك الواقع (بأبعاده الأربعة: الأشياء، الأشخاص، الأحداث، الأفكار).
3. الربط بين النص والواقع وفق قواعد الاجتهاد وضوابط الفتوى.
ينقسم النص في الشريعة إلى:
- نص مقدس، كالقرآن الكريم والسنة النبوية الثابتة بالسند الصحيح، وهما المصدران المعصومان.
- ونتاج بشري، هو اجتهادات العلماء والمجتهدين عبر العصور، التي بذلوا فيها الوسع، وجعلوا العلم فوق حياتهم وأهوائهم.
ومع النتاج البشري ينبغي ألا نقف عند مسائلهم الجزئية، بل نغوص في مناهجهم الاستنباطية التي تجاوزت الزمان والمكان، وكان منهاجهم مستوعبًا لطبيعة تغير الأحوال والأزمان.
ولا يصح لمن يتصدر للفتوى أن يتخير من أقوال الفقهاء ما يشتهي دون ضابط، بل عليه أن يتحرى في ضوء:
- قواعد الاجتهاد المقررة.
- ضوابط المصالح والمقاصد والمآلات.
- مراعاة الإجماع واللغة العربية.
وقد أُلِّفَت مجلدات في تحرير هذه الضوابط، مثل ما كتبته دار الإفتاء المصرية في خمسة مجلدات متينة بعنوان "ضوابط الاجتهاد الفقهي".
ليس ما نراه اليوم من فتن الفتاوى الشاذة جديدًا، بل له جذور قديمة:
- في سنة 1930 ظهر محمد أبو زيد الدمنهوري فأنكر المعجزات، وخالف في أحكام الحدود والميراث والخمر والحجاب، ورد عليه العلماء في مجلة الأزهر في ردود مفحمة، وسكنت الفتنة.
- ثم ظهر محمد نجيب، فأنكر السنة، وألف كتابًا سماه "الصلاة"، زعم فيه أن الصلوات عشر، واستدل استدلالات سخيفة، حتى صار مضرب المثل في الجهالة والضلال، حتى ارتد عن الإسلام ومات سنة 1960.
- ثم تتابعت بعده فتن: أباح بعضهم التدخين في رمضان، وآخرون استباحوا القبلات علنًا، وكلما ماتت فتنة بعث الله لها علماء صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فدحضوا الباطل ودافعوا عن الدين.
طريق الشذوذ العلمي طريق مظلم يقود إلى ضياع الدين والدنيا معًا.
ولا نجاة إلا بالرجوع إلى الجماعة العلمية، والتأدب بأدب العلم، ومراعاة أصول الشريعة ومقاصدها.
فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأله أن يحفظ ديننا وأمتنا من شذوذ المفتين ومجانة المتجرئين، وأن يردنا إلى الحق ردًا جميلا.
والله المستعان وعليه التكلان.