عبد الله علي إبراهيم

"إننا لنخشى أنه بدعوتكم للعقيد قرنق للحديث إلى برلمانكم (الألماني) إنما ترسلون إشارة محبطة للديمقراطيين السودانيين الذين جاهدوا من أجل التعددية الحزبية لعقود أربعة طوال"

في صباح يوم من أوائل عام 1989 أخذت طريقي من مكتبي بجامعة الخرطوم إلى السفارة الألمانية الغربية القريبة من الجامعة وإن استغرقني الاهتداء إليها بعض الوقت.

وطلبت عند البوابة مقابلة السفير الألماني الغربي. وحين سئلت ما خطبي قلت إنني أحمل إليه مذكرة تـأبطتها من مكتبي وخرجت. وضمنت المذكرة احتجاجي على دعوة البرلمان الألماني للعقيد قرنق للحديث إلى أعضائه. وكانت المذكرة أصلاً ضيقاً باليسار الجزافي منه وغير الجزافي أكثر منه بالألمان الغربيين وبرلمانهم.
فلدي عودتي من البعثة الدراسية في 1987 وجدت أن الجماعة السودانية، التي تتمثل في "تقدم" و"الجذري" اليوم، قد قنعت من خيراً في الديمقراطية الليبرالية التي فدتها بالمهج طوال عقدين من دولة نميري. وكان نجم الميدان السياسي يومها مقاطع لانتخابات 1986 هو العقيد جون قرنق، قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان، لا من خاضها بمستحقها مثل السيد الصادق المهدي وفاز بها "قنقر" حبوه أم كرهوه. بل بدأت طلائع تلك الجماعة تتسلل خلسة إلى معسكرات قرنق لتتدرب على حرب النظام الديمقراطي في الخرطوم. وحمل عمودي الراتب بجريدة "الخرطوم" على تلك الرداءة الليبرويسارية بحق الديمقراطية، بل وخيانتها لها. ولم تكن تلك نباهة مني، بل ولاء لتعاليم حزبي الشيوعي الذي قرر في "سبيل السودان للسلم والديمقراطية"، وثيقة مؤتمره الثالث في 1956، أن البرلمانية هي طريقنا للاشتراكية. فمن فوق الحقوق الديمقراطية في التعبير والتنظيم، التي تبدأ مع العمال والكادحين في النقابة والاتحاد، وحدها سيرى جمعهم بشرى الاشتراكية لهم.
ما جاءتنا الديمقراطية في 1985 حتى اتضح أنها ضيف ثقيل لا أحد يرغب فيه. وحين أقرأ لليبرلويساريين في يومنا غناءهم العذب في الديمقراطية اتعجب كأنها أحسنوا لها يوماً ناهيك من طلبها في صحبة جيش خلاء للمرة الثانية. واستعيد في خاطري كلمة كتبتها في صحيفة (الخرطوم) في نحو 1988 حين رأيت انفضاض اليساريين الجزافيين الكبير عن الليبرالية. فشبهت كساد هذه الجماعة في النظام الديمقراطي الذي فدوه بالمهج بموقف مشهور للاعب الهلال الفذ السد العالي. فقد قيل إنه استخلص الكرة من خصومه بجهد بارع وما كاد يتجه نحو المرمي حتى صاح فيه زميل ما يطلب منه أن "يباصي" له الكرة. وكان السد العالي سيئ الظن فيما يبدو بقدرة زميله فقال له بمصريته الرشيقة: "وحتعمل بيها أيه يا فلان؟"
وكان انفضاض تلك الجماعة عن الديمقراطية هو ما دفعني لأحمل مذكرتي ضد دعوة البرلمان الألماني وحدي في وحشة كدت اسمع بها حفيف حذائي على الأرض.

إلى نص الرسالة في نصها المعرب:

السيد رئيس البرلمان الألماني
تحية طيبة وبعد
ليأذن لي سيادتكم بالاحتجاج على الدعوة التي وجهتموها للعقيد جون قرنق ليخاطب البرلمان الألماني. لم اقصد بهذا الاحتجاج أن أصادر حق البرلمان الألماني في إنشاء ما شاء من لجان التحقيق ليتقصى المسائل الخلافية في عالمنا بما يمليه عليه الإنصاف الذي يقتضي الاستماع إلى وجهات النظر المتنافسة. غير أن الديمقراطية الحقة، وهي تقوم بمثل هذا الإجراء المثالي، ينبغي أن تحرص جداً ألا تخيب توقع الديمقراطيين الآخرين فيها.
لست من رأيكم في أهلية العقيد قرنق، وهو الذي يعتنق تكتيك حرب العصابات، للحديث إلى مؤسسة تدار على نهج الديمقراطية. فقد رفض العقيد مراراً وتكراراً الدعوات المؤكدة التي وجهت له بترك الحرب والولوج ساحة الديمقراطية السودانية الناشئة وليساهم في تشكيلها بما يرضي أهل السودان. وأهم من ذلك كله أن خطاب العقيد حول "السودان الجديد" الذي يدعو له إما ساكت عن أشكال وملمس التعددية الحزبية، أو أنه يدعو إلى "ديمقراطية جديدة" مبهمة فيها مخائل ومخاطر التحول إلى دولة كلانية مسدودة.
إننا لنخشى أنه بدعوتكم للعقيد قرنق للحديث إلى برلمانكم إنما ترسلون إشارة محبطة للديمقراطيين السودانيين الذين جاهدوا من أجل التعددية الحزبية لعقود أربعة طوال. فاحتفاء الديمقراطية الألمانية بمقاطع مؤكد للمؤسسة الديمقراطية في بلده مثل العقيد قرنق مما يشتم منه أن الديمقراطية الألمانية تفضل أن تبقى على الحياد في الجدل الدائر في بلدنا بين البطاقة الانتخابية وطلقات الرصاص. وهذا الحياد غير المحتشم مما يقرض القماشة الأخلاقية للديمقراطية.
بوسع البرلمان الألماني أن تكون له طرقه السالكة دائماً مع حركة تحرير شعب السودان. وأخال أن الديمقراطيين السودانيين سيرحبون بذلك لأنهم يقدرون الخير الذي سيترتب على حواركم ونصحكم لحركة من حركات حرب العصابات. غير أن دعوة العقيد قرنق، رمز الحركة، بعد نجاحه في "تحرير" عدد من الدوائر الانتخابية العادية في جنوب السودان، مما قد يوحي بأن طوائف اللوبي المختلفة التي تعمل لصالح العقيد قد اجتهدت أن يكون ظهوره أمامكم ضرباً مميزاً من ضروب أعمال العلاقات العامة.
في انتظار كلمة منكم أظل،
المخلص،
د. عبد الله علي إبراهيم
مدير معهد أبحاث الديمقراطية والتغيير الاجتماعي (تحت التأسيس)، الخرطوم.

ibrahima@missouri.edu

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: البرلمان الألمانی للحدیث إلى

إقرأ أيضاً:

تزامنا مع القلق الذي أثاره “قاتل المدن”.. ناسا ترصد 5 كويكبات اقتربت من الأرض هذا الأسبوع

#سواليف

توجد معظم #الكويكبات في حزام الكويكبات الرئيسي بين #المريخ والمشتري، لكن بعضها قد يعبر مسارات قريبة من الأرض، ما يجعلها موضوعا للدراسة والمراقبة الدائمة من قبل العلماء.

وعلى الرغم من أن معظم الكويكبات لا تشكل تهديدا مباشرا لكوكبنا، إلا أن بعضها قد يحمل طاقة تدميرية هائلة في حال اصطدامه بالأرض. لذلك، تولي وكالات #الفضاء، مثل ناسا، اهتماما كبيرا بتتبع هذه #الأجسام_الفضائية وفهم مساراتها، لتقييم أي مخاطر محتملة واتخاذ الإجراءات الوقائية في الوقت المناسب.إقرأ المزيد

وفي الواقع، تصدر الكويكب 2024 YR4، الذي وصف بـ” #قاتل_المدن “، عناوين الأخبار بسبب الاحتمال الكبير لاصطدامه بالأرض في ديسمبر 2032، ولكن بعد إجراء المزيد من المراقبة والملاحظات أعلنت #ناسا أنه من غير المرجح أن يصطدم بكوكبنا، حيث تبلغ فرصة مروره بسلام 99.9961%.

مقالات ذات صلة بعد إثارته القلق.. فيديو يطمئن العالم ويكشف مسار الكويكب “قاتل المدن” 2025/03/01

ومع ذلك، من المتوقع الآن أن يصطدم هذا الكويكب العملاق، الذي يقدر عرضه بين 12 مترا و27 مترا، بالقمر بدلا من الأرض.

وبالتزامن مع هذه الأنباء حول الكويكب 2024 YR4 التي أثارت قلقل المتابعين، رصد ناسا مجموعة من الكويكبات التي عبرت مسار الأرض من مسافات قريبة خلال هذا الأسبوع:

2025 DN6

مر الكويكب 2025 DN6 الذي تصفه ناسا بأنه “بحجم سيارة” ويبلغ طوله 11 قدما، بجوار الأرض على مسافة 185 ألف ميل (298 ألف كم). وهذه المسافة أقرب من بعد القمر عن الأرض، لكنها كافية لتجنب الاصطدام بالأرض أو بالأقمار الصناعية. ودخل الكويكب مدار الأرض قبل أن يمر خارج مدار المريخ.إقرأ المزيد

وعلى الرغم من أنه مر بجانب كوكبنا على مسافة آمنة، إلا أنه يعد أقرب كويكب يمر بجوارنا هذا الأسبوع. كما سيكون هذا أقرب مرور له بالأرض حتى الآن، ولن يعود مرة أخرى حتى مايو 2064. وعندما يعود، سيمر على مسافة أبعد بكثير تبلغ أكثر من 5380000 ميل.

2025 DT1

تراقب ناسا الكويكب 2025 DT1، الذي يبلغ طوله 20 قدما، أي أكبر قليلا من طول الزرافة. ومر هذا الكويكب المكتشف حديثا على مسافة آمنة تبلغ نحو 531 ألف ميل (855 ألف كم)، وبالمقارنة مع الكويكبات الأخرى، تعد هذه الصخرة السماوية صغيرة نسبيا. وإذا نجا الكويب من رحلته حول نظامنا الشمسي، فمن المتوقع أن يعود ليمر بجوار الأرض مرة أخرى في مايو 2052.

2009 DE1

اقترب الكويكب الضخم 2009 DE1، الذي يبلغ طوله 150 قدما، من الأرض على مسافة تقارب 1560000 ميل. وهذا الكويكب موجود على قائمة مراقبة ناسا منذ أكثر من عقد. وهو أصغر قليلا من قوس النصر في باريس، الذي يبلغ ارتفاعه نحو 160 قدما. وكانت آخر مرة مر فيها بجوار الأرض في فبراير 2009، وقبل ذلك في فبراير 1993. وله مدار يستغرق نحو 16 عاما، ما يعني أن زيارته القادمة ستكون في أغسطس 2043.إقرأ المزيد

2025 DY

يبلغ طول الكويكب 2025 DY نحو 69 قدما، أي أكبر قليلا من ملعب كريكيت. وتصنفه ناسا بأنه “بحجم طائرة”، لكنها ستكون طائرة صغيرة، وأصغر بكثير من الطائرات التجارية العادية.

وقد مر هذا الكويكب على مسافة 2260000 ميل من الأرض، وهي مسافة آمنة وبعيدة عن القمر.

2025 DK3

يصنف الكويكب 2025 DK3 ضمن فئة “بحجم المنزل” لدى ناسا، وقد مر على مسافة آمنة تبلغ 664 ألف ميل من الأرض. ومع ذلك، تواصل ناسا تتبع هذه الصخور الفضائية تحسبا لاحتمال اصطدامها بقطع حطام أخرى قد تغير مسارها وتجعلها على مسار تصادمي مع كوكبنا.

مقالات مشابهة

  • ليون :”بن العمري اللاعب العربي الوحيد الذي حمل رقم 3 “
  • توجه العراق نحو الليبرالية الجديدة – 3 – شكل الصراع القادم
  • نائب: البرلمان الحالي “معطل”
  • الأردن يرفض المحاولات التي قد تهدد وحدة السودان عبر الدعوة لتشكيل حكومة موازية
  • البعثة الأممية: “تيتيه” أكدت على أهمية بناء الديمقراطية في ليبيا على المستوى المحلي
  • “السعودي الألماني- دبي” يدخل “غينيس” للأرقام القياسية
  • الفياض: البرلمان سيصوت على قانون تقاعد الحشد بأمر من “الإمام خامئني”
  • تزامنا مع القلق الذي أثاره “قاتل المدن”.. ناسا ترصد 5 كويكبات اقتربت من الأرض هذا الأسبوع
  • حمادة هلال: أول أجر حصلت عليه 5 جنيه جبت بيها هدية لأمي
  • البرلمان البريطاني من ونستون تشرشل إلى سليمان صندل