كُسرت سوريا خلال العقد الماضي، وكُسر دورها الإقليمي مع تحول أرضها إلى ساحة يتصارع فيها الخصوم الإقليميين والدوليين.. هرب الأسد وطويت معه تحالفات ظلت راسخة لعقود خلت.. لم تعد رياح الشرق تهب وحدها اليوم على سوريا، بل رياح دافئة آتية من الخليج العربي وأخرى أقل دفئا تأتي من الضفة المتوسطية الأخرى.
وإذا كانت القطيعة من الشرق القريب (إيران) تمثل هدفا استراتيجيا لسوريا الجديدة، فإن القطيعة مع الشرق البعيد (روسيا، الصين) ليست كذلك.
روسيا، الصين
ليست العلاقة السورية ـ الروسية مجرد علاقة محصورة ببعد اقتصادي فقط أو سياسي ـ دبلوماسي فقط، بل هي علاقة استراتيجية عميقة منذ الاتحاد السوفيتي وحتى الآن، باستثناء تسعينيات القرن الماضي، حين كانت موسكو مشغولة بترتيب بيتها الداخلي.
علاقة سوريا مع الغرب لا يمكن عزلها عن إسرائيل، وهنا تبدو الصعوبة على المستوى البعيد وليس القريب، إذ كما يبدو يتجاهل الشرع وإدارته أي حديث عن التوغل الإسرائيلي في عمق الأراضي السورية وقصفها لقواعد الجيش السوري، ضمن براغماتية سياسية لا تريد خلق مخاوف مع الولايات المتحدة، وفي ظل أوضاع لا تسمح لسوريا بفعل أي شيء حيال التوغلات الإسرائيلية.وبهذا المعنى، لم يكن التدخل العسكري الروسي عام 1016 في سوريا، نابعا من منافع اقتصادية قد تحصل عليها روسيا، بقدر ما كانت نابعة من مصلحة استراتيجية كبيرة في الحفاظ على بلد ما يزال جزءا من الفلك الروسي بمعايير الحاضر، وليس بمعايير الحرب الباردة السابقة.
مع هروب الأسد وسقوط النظام، تغير وجه سوريا وتغير معها خطابها وتوجهها السياسي، بطريقة تشكل قطعا تاريخيا مع المراحل السابقة.
غير أن علاقة سوريا الجديدة مع روسيا ليست محكومة بصراع طائفي مغلفُ بغطاء أيديولوجي حدي كما هول الحال مع إيران، فما يربط دمشق بموسكو محصور بالبعد الجغرافي السياسي ليس إلا، لا توجد فيه خلفيات أيديولوجية أو طائفية، ولا توجد فيه أثقال شخصية، على الرغم من دعم بوتين القوي لنظام الأسد.
في ممارسة البراغماتية السياسية تحضر الجغرافية السياسية دائما إذا ما كانت معزولة أو خالية من أية ممارسات إثنية أو طائفية تهدد المصال المباشرة بين الطرفين.
في ضوء هذه الخلفية، يمكن قراءة زيارة الوفد الروسي برئاسة نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف إلى دمشق، كانعكاس لمصالح استراتيجية محضة تُعبر عن رغبة صناع القرار في الكرملين في عدم خسارة سوريا نهائيا.
مصالح بدت مفهومة عن حكام سوريا الجديدة الذين أكدوا لـ بوغدانوف على ضرورة احترام روسيا سيادة سوريا وسلامة أراضيها، ودور روسيا في إعادة بناء الثقة مع الشعب السوري، من خلال تدابير ملموسة، مثل التعويضات وإعادة الإعمار والتعافي.
يخطئ البعض حين يتصور أن سوريا يمكن أن تدير ظهرها بالكامل إلى روسيا كما هو الحال مع إيران، فطبيعة موقع سوريا المحاذي لإسرائيل، وطبيعة الشعب السوري المفعم بالقومية والمسكون بهاجس القضية الفلسطينية، لا يسمح لها أن تكون جزءا من الفلك الأميركي على الطريقة السعودية والمصرية والأردنية، وهذا ما تدركه المؤسسة السياسية الأميركية.
لسوريا مصلحة في إعادة ترتيب علاقتها بروسيا والصين للاستفادة منهما في موازنة علاقاتها الدولية أولا، وللاستفادة منهما في الدعم الاقتصادي، خصوصا إعادة الإعمار، ناهيك أن المؤسسة العسكرية السورية تاريخيا وإلى الآن ذات عقيدة روسية، ومعداتها روسية، وتدريب ضباطها على الخبرة الروسية، وبالتالي، فإن عملية التوجه العسكري نحو الغرب ستكون مكلفة جدا، وذات أمد طويل حتى تُقطف ثمارها.
الولايات المتحدة وأوروبا
إذا كان إعادة ترتيب العلاقة بين سوريا وروسيا مسألة غير ملحة بالنسبة لدمشق، فإن إعادة ترتيب العلاقة مع الغرب الأميركي والأوروبي تبدو مسألة ملحة جدا، بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة، وبسبب الحصول على الشرعية الدولية لحكام سوريا الجدد، وبسبب الاستفادة من الغرب في بناء سوريا جديدة اقتصاديا وسياسيا.
لكن علاقة سوريا مع الغرب لا يمكن عزلها عن إسرائيل، وهنا تبدو الصعوبة على المستوى البعيد وليس القريب، إذ كما يبدو يتجاهل الشرع وإدارته أي حديث عن التوغل الإسرائيلي في عمق الأراضي السورية وقصفها لقواعد الجيش السوري، ضمن براغماتية سياسية لا تريد خلق مخاوف مع الولايات المتحدة، وفي ظل أوضاع لا تسمح لسوريا بفعل أي شيء حيال التوغلات الإسرائيلية.
ما يهم الحكم الجديد في سوريا، هو تقديم خطاب مطمئن للغرب على ثلاثة مستويات:
الأول، سوريا لن تكون منصة عداء لكل الدول الإقليمية بما فيها إسرائيل (على الأقل نظريا في هذه المرحلة)، باستثناء إيران التي ستكون خارج المشهد السوري.
إذا كانت لسوريا الجديدة مصلحة استراتيجية في الانفتاح على الغرب، وفي المقدمة الولايات المتحدة، فإن من مصلحتها أيضا أن تواظب على علاقات قوية مع روسيا والصين، كتوازن بين الشرق والغرب، تفرضه طبيعة الصراع العربي ـ الإسرائيلي من جهة، ومقتضيات المصالح السورية من جهة أخرى.ثانيا، حكم داخلي رشيد، يسمح لجميع المكونات بالمشاركة السياسية دون إقصاء لأحد، مع حريات سياسية واقتصادية، وتحقيق مستوى معيشي معقول.
ثالثا، لا مكان في سوريا الجديدة للتيارات الإسلامية الراديكالية، وإنما تقديم خطاب إسلامي معتدل متصالح مع قيم الديمقراطية والليبرالية السياسية والاقتصادية، مع ضوابط لليبرالية اجتماعية لا تؤدي إلى استياء مجتمعي لدى الأقليات.
وإذا كانت لسوريا الجديدة مصلحة استراتيجية في الانفتاح على الغرب، وفي المقدمة الولايات المتحدة، فإن من مصلحتها أيضا أن تواظب على علاقات قوية مع روسيا والصين، كتوازن بين الشرق والغرب، تفرضه طبيعة الصراع العربي ـ الإسرائيلي من جهة، ومقتضيات المصالح السورية من جهة أخرى.
وضمن هذه المعادلة بين الشرق والغرب، تجد دمشق أولويتها وامتداها الطبيعي ضمن محيطها العربي، ليس في البحث عن شرعية عربية فحسب، بل أيضا من أجل الحصول على دعم مالي واقتصادي وسياسي عربي يسمح لها بإعادة بناء نفسها داخليا.
وليس صدفة أن يكون الحضور السعودي والقطري والتركي هو الأكثر قوة في المشهد السوري الجديد.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا سوريا سياسة رأي تحولات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة بین الشرق والغرب سوریا الجدیدة من جهة
إقرأ أيضاً:
الحكومة الجديدة تعتمدها.. هل تُنقذ الخصخصة الاقتصاد السوري؟
تتعامل حكومة تسيير الأعمال السورية التي يترأسها محمد البشير منذ سقوط النظام السابق وتكليفها رسميا مع "الخصخصة" كأداة لإصلاح وإنقاذ الاقتصاد السوري شبه المدمر.
وتجلى ذلك، في تكرار التصريحات الحكومية عن "الخصخصة" وآخرها إعلان وزير الخارجية، أسعد الشيباني، عن توجه دمشق نحو خصخصة الموانئ والمصانع المملوكة للدولة بهدف "إنقاذ الاقتصاد السوري المتهالك".
ويذكر أن الخصخصة تعني تحويل ملكية الأصول والشركات العامة المملوكة للدولة إلى ملكية خاصة بشكل كلي أو جزئي (تشاركية).
توجه حكومي مبرر
بحسب تقديرات اقتصادية، فإن الوضع الاقتصادي والمالي الذي يُحكم البلاد، وخاصة لجهة "إفلاس" الخزينة العامة، تبدو "الخصخصة" أقرب إلى الحل الوحيد، وذلك لضمان إنعاش الحالة الاقتصادية في سوريا.
ويقول الأكاديمي والخبير الاقتصادي السوري يحيى السيد عمر، إن الخصخصة كنمط أو اتجاه اقتصادي، له سلبيات وإيجابيات، وبشكل عام تحظى الخصخصة بسمعة ليست جيدة في الدول النامية، والسبب لبس بها بحد ذاتها، بل بأسلوب التنفيذ الذي في حالات كثيرة يشوبه الفساد الإداري والمالي.
ويوضح لـ"عربي21" أن كل ذلك جعل الخصخصة تحقق مصالح المستثمرين وفئة محددة من مسؤولي الدولة، معتبرا أن "الخلل هنا ليس في الخصخصة، بل في آلية التطبيق، وعموماً تعد الخصخصة كنظام اقتصادي شائع في غالبية دول الغرب، وبالفعل حققت نتائج إيجابية".
وتركيزا على سوريا، يقول السيد عمر "بالفعل هناك توجه حكومي للاعتماد على الخصخصة، وهذا يعد مبرراَ خاصة أن غالبية المؤسسات العامة في الدولة خاسرة، وإعادة هيكلتها الإدارية والمالية قد يستغرق الوقت الطويل والتكلفة الكبيرة".
ويرى أن "الخصخصة إحدى الحلول المطروحة وذلك كونها تتيح الاستفادة من المرونة العالية للقطاع الخاص، ما يعني إمكانية تعزيز كفاءة هذه المؤسسات في وقت قصر نسبياً"، قائلا: "الخصخصة بالتأكيد ليست حلاً بحد ذاتها، لا بد من دراسة العديد من التجارب الدولية والاستفادة من الإيجابيات وتجنب السلبيات، وهو ما يعزز من فرص نجاح التجربة في سوريا".
التعامل بحذر
دعا وزير الاقتصاد والمالية في "الحكومة السورية المؤقتة" التابعة للائتلاف عبد الحكيم المصري، إلى "التعامل الحذر" مع التوجه نحو الخصخصة.
وقال المصري لـ"عربي21": "يجب الحذر عند الحديث عن خصخصة أصول الدولة، بحيث لا يجب بيع الأصول السيادية، بل طرحها للاستثمار لمدة محددة، ولا بأس في خصخصة القطاعات الإنتاجية، مثل المعامل الحكومية (النسيجية، الغذائية، الأسمنت)، التي كانت خاسرة، وتضيف الأعباء إلى الاقتصاد السوري".
وذكر أن القطاع الخاص يمتلك المرونة والأدوات التي تساعد على تحويل هذه القطاعات إلى رابحة، وقال: "من المهم جداً خصخصة المصانع الخاسرة".
ليست حلا متكاملا
ولا يرى الوزير المصري في "الخصخصة" حلاً متكاملاً للاقتصاد السوري، معتبرا أن "الحل يمر عبر توفير وخلق مناخات آمنة للاستثمار، وتحسين الدخل للمواطن السوري، قبل تحرير الأسعار".
ومن وجهة نظر مصدر اقتصادي مقرب من حكومة دمشق، فإن "الخصخصة تضمن معالجة الترهل في المؤسسات العامة، وقد تكون من بين الحلول السريعة والمفيدة".
وقال المصدر لـ"عربي21"، مفضلا عدم الكشف عن اسمه، "اتخذ النظام السابق أداة الخصخصة لسرقة الدولة، وبيع ورهن أصولها السيادية في خدمة مصلحته، لا مصلحة الشعب السوري، وبذلك يجب أن تتعامل الحكومة مع الخصخصة بدقة وحساسية، والأهم أن تتم دراستها بما يناسب الحالة السورية، وليس الاعتماد على تجارب خارجية، قد لا تنطبق على واقع سوريا".
وعلى حد تأكيده "لا يبدو للآن أن لدى حكومة دمشق رؤية واضحة للخصخصة"، مختتماً بقوله: "القضية حساسة وشائكة، ولا بد من التريث قبل بيع أي أصول حكومية، لأنها بالنتيجة من حق الشعب السوري".
إيجابيات وسلبيات
في السياق ذاته، يرى الباحث الاقتصادي مخلص الناظر، أن الخصخصة لا بد وأن تقوم على مراحل تحليل الأصول، إعداد السياسات والتشريعات، التقييم المالي، اختيار الأسلوب، بيع مباشر للأصول، شراكة بين القطاعين العام والخاص، طرح أسهم في البورصة، وتنفيذ العملية، والمتابعة والمراقبة.
وأضاف عبر حسابه على منصة "إكس" (تويتر سابقا)، أن الخصخصة في الحالة السورية تحتاج إلى دراسة دقيقة، من حيث تقييم الإيجابيات المأمولة، السلبيات والتحديات الطارئة، فالإيجابيات تتضمن جذب الاستثمار الأجنبي، تحسين الكفاءة، تقليل الأعباء المالية، بينما التحديات، تكمن في البيئة السياسية، الفساد وعدم الشفافية، التأثير على العمالة، وتركز الملكية لجهات محلية أو دولية.