إن القوة أو الكيانات التي تُهمل بناء الوعي، فإنها مهما عظمت أدواتها العسكرية والسياسية والشعبية، تسقط أمام أول اختبار حقيقي، هذه النظرية التي تفسر إلى حد كبير مراحل وعقوداً بل وقروناً من الأحداث والصراعات في العالم عموما وفي المنطقة العربية والإسلامية على وجه الخصوص، وتلخص أسباب انحسار الكثير من الدول والممالك والكيانات لتصبح مجرد حكايات تروى في سردية التاريخ، كما أن هذا المفهوم يُعرف حقيقة الصراع، سواء بين المشاريع العربية العربية، أو بين المشروع العربي الجامع والقوى العالمية من حوله، وفي اليمن ترجمة فعلية لكثير من هذه المفردات، وهو الذي بقي فعلاً حاضرا في التاريخ عبر كل الحقب، بينما المحيط من حوله يتسلسل تاريخه بين ماض تام وبين فعل يؤول في مساراته وسلوكيات قواه حتميا إلى الماضي.
لم ينطلق المشروع القرآني من اليمن كجغرافيا وكقائد وكحاضنة شعبية من باب الصدفة التاريخية التي تحتمل الخيارات الأخرى، أو المحطة التي لا تستحق التأمل كثيراً في حيثياتها، بل إحياء كوني مفعم بالأسباب والمعطيات لفعلٍ كان يتهددهُ مثل غيره التموضع في زاوية الماضي، وهي اليمن الذي اتفقنا مسبقا على أنه فعل استثنائي غير قابل للاشتقاق، وحين تتخبطه التقلبات يأتي الله بمن يحييه ويعيد قولبته في مساره الطبيعي.
وحين نتحدث عن التقلبات فإننا نعني تلك الفترة الفارقة ما بين الموت والحياة، والتي كانت الإخفاقات الناجمة عن التجارب العربية عنوانا لها، بدءاً من القوميات البعثية والناصرية والمنهجيات اليسارية والليبرالية المعلبة والمستنسخة، وانتهاء بما يسمى حركات الإسلام السياسي، كلها كانت شعارات رنانة فضفاضة، لكن أساسها كان هشاً بما يكفي لأن تتهاوى وتسقط أمام التحديات.
وفي هذا الركام من الهشاشة والضعف للمنهجيات والشعارات، انبعث المشروع القرآني مختزلا مضمونه العميق بشعارٍ قد لا يبدو فضفاضاً في مفرداته ولا رناناً في مصطلحاته وهو: “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”، لكنه عظيم بجرأته في مضمار الصراع، وفي قدرته على إعادة تشكيل الوعي الجمعي لليمني، واستنهاض روحه النضالية التواقة دوماً إلى العزة والخروج من بوتقة التبعية والضياع.
لم يكن (المشروع والشعار) مجرد تنظير يترك معتنقوه واتباعه سارحين في دوامة لا منتهية من الوعي الوهمي، بل أدهشهم بقدرته وفاعليته، سواء في ارتداد أثره على الأعداء استنفاراً وخوفاً، أو في استمراريته ونموه المتعاظم في ظل التحديات، وقدرته على مقارعة التحركات المعادية والمخططات التآمرية، ولا يحتاج القارئ اليوم لأن نسرد أمامه مراحل عايشها مع هذا المشروع بداية من مهده وانتهاء بما هو عليه اليوم.
لقد وجدنا انفسنا مع هذا المشروع أمام حالة استثنائية لم نعهدها من قبل، ومتى كان القمع محفزاً للنمو، والحصار والتجويع مصدراً للقوة والانتشار! ألم يكن هذا هو الواقع الذي اعترض المنهجية على مختلف المراحل وحتى اليوم؟، أم أن لدى أحدنا رواية مختلفة يمكن أن يسردها للتاريخ بكل منطق وضمير ودون فجور في الخصومة!؟
تجاوز الشعار وشعبه معطيات القوة عسكريا وسياسياً وشعبياً كرهان ثبت عدم جدوائيته، فاتخذوا الوعي الخالص سلاحاً قارعوا به المخاطر والأهوال، وبه برهنوا انموذجه الفريد والمتكامل الذي يتجاوز اللحظة الراهنة إلى أساس مستدام من الوعي والإيمان لبناء أُمَّـة إسلامية قوية وقادرة على أن تصنع المستحيلات.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
المعارضة الأردنية وأسئلة الوعي الوطني
#سواليف
#المعارضة_الأردنية وأسئلة #الوعي_الوطني
بقلم: أ.د. محمد تركي بني سلامة
في زمن تزدحم فيه الأوطان بالتحديات، وتتسارع فيه التحولات من حولنا، يصبح السؤال عن موقعنا من معادلة الإصلاح والوعي السياسي أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
ليس من قبيل الترف الفكري أن نعيد اليوم قراءة مسيرة المعارضة السياسية الأردنية الممتدة على مدى قرن من الزمن، بل هي ضرورة وطنية ملحّة، إذا أردنا أن نرسم لأنفسنا طريقًا إلى المستقبل، بعيدًا عن التكرار العقيم والاجترار البائس لخيبات الماضي.
ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه علينا بإلحاح لا يحتمل التأجيل:
ما الدور الذي اضطلع به المثقفون الأردنيون في تشكيل الوعي السياسي الوطني؟
وهل استطاعت النخب الفكرية أن ترتقي بدور المعارضة فتقودها إلى خدمة المشروع الوطني، أم أنها وقعت – كما وقع غيرها – في شراك المعارك الجانبية، وتاهت وسط الحسابات الفئوية والإقليمية الضيقة؟
لقد كان الرهان على المثقفين كبيرًا. كانوا يؤمل منهم أن يكونوا صوت العقل الوطني، والحصن الأخير في وجه تكلس النظام السياسي وانغلاقه. ولكن التجربة، للأسف، كانت متباينة، وتكشفت عن مواقف مترددة، وأحيانًا متناقضة، عجزت عن تقديم بديل وطني جامع وقادر على إحداث الفارق.
من جهة أخرى، فإن سؤال جدوى المعارضة ذاته يحتاج إلى مراجعة شجاعة:
هل كانت المعارضة، عبر مئة عام، أداة فاعلة في دفع الإصلاح الوطني إلى الأمام، أم أنها تحولت – في كثير من محطاتها – إلى مجرد صدى للاحتجاج، دون أن تقدم مشروعًا وطنيًا متكاملاً ومؤسسًا؟
وهل استطاعت أن تؤسس جبهة وطنية موحدة قادرة على حمل هموم الوطن والمواطن، أم أن الخلافات الأيديولوجية، والانقسامات الفئوية، والطموحات الشخصية كانت أقوى من أي حلم بالإصلاح الحقيقي؟
أسئلة موجعة، ولكنها ضرورية، تلامس جرح الوعي الوطني، وتدق ناقوس الخطر أمام كل من يؤمن بأن الأردن يستحق أكثر مما هو عليه الآن.
نطرحها لا بغرض جلد الذات، ولا استحضار الأسى، بل بحثًا عن بصيص أمل في أن يكون هناك طريق ثالث، طريق وطني صادق، يعيد للحياة السياسية معناها، ويجعل من المعارضة شريكًا مسؤولًا لا خصمًا مبتورًا.
إن هذه المرحلة من تاريخنا السياسي تفرض علينا جميعًا، مثقفين وناشطين وأصحاب رأي، أن نراجع أنفسنا بصدق، بعيدًا عن الانفعال أو التبرير أو الاتكاء على الماضي.
فالتحولات الإقليمية والدولية لا تنتظر المترددين، والفرص الوطنية الحقيقية تحتاج إلى شجاعة الاعتراف بالخطأ، والتفكير الجاد في كيفية تجاوز حالة الاستنزاف السياسي والاجتماعي التي نعاني منها.
وإيمانًا مني بأهمية فتح هذا النقاش الوطني العميق والمسؤول، سأخصص سلسلة من المقالات التحليلية النقدية خلال الفترة القادمة، أتناول فيها بتفصيل المحطات المفصلية في مسيرة المعارضة الأردنية: نجاحاتها، إخفاقاتها، وملامح الطريق الذي ينبغي أن يُرسم إن أردنا أن نصنع إصلاحًا حقيقيًا لا يضيع وسط الضجيج أو التسويات السطحية.
لكن، ومع هذا الالتزام، يظل السؤال المرير معلقًا في الأفق:
هل لما نكتب اليوم من جدوى؟
وهل ستجد كلماتنا الصادقة صدى في وطن أرهقته الأزمات والانتظار الطويل؟
سنكتب… لأن الكلمة كانت دائمًا البذرة الأولى لكل تغيير، ولأن الأمل في الإصلاح، مهما تراجع، سيظل أمانة في عنق كل من آمن أن الأوطان لا تبنى إلا بالصدق، والشجاعة، والتضحية.