بعيدا عن الاستعمال التراثي لكلمة "التنوير" في مصنّفات كثيرة لعل من أشهرها حديثا تفسير "التحرير والتنوير" للعالم الزيتوني محمد الطاهر بن عاشور، فإن هذه المفردة قد تمحّضت عند النخب العربية للدلالة على ذلك المشروع "التحديثي" الذي يتخذ فلسفة "عصر الأنوار"، وما تفرع عنه من سرديات أيديولوجية كبرى مرجعا أعلى للمعنى في التعاطي مع واقع المجتمع وتاريخه ومستقبله المتخيل أو المنشود.
وقد يستغرب القارئ من عنوان المقال الذي ينبني على ضرب من المطابقة بين العقل البرهاني أو "المجرّد" في تجليه الغربي وبين العقل العرفاني أو "المسدّد" في تجليه الإسلامي. بل إن الاستغراب سيستوي على سوقه إذا ما استحضرنا أن "التنوير العربي" قام أساسا على الانتصار للعقل في تجلياته التراثية (خاصة الفلسفة والاعتزال) ورفض الأسرار والتعاليم الباطنية، وهو ما يجعل من وصم التنوير بالباطنية المعلمنة أمرا يحتاج إلى دليل يخرجه من حد الدعوى والكلام المرسل.
سنحاول في المقال التالي رفع تلك الاعتراضات وبيان وجاهة أطروحتنا من خلال تقديم بعض العناصر المختلفة التي قد تصلح لبناء طرح نسقي يجمع بين القضايا التالية: أولا حاجة "الأقليات" الأيديولوجية أو الطائفية أو العسكرية إلى مبدأ الفصل بين الدين والدولة لتفكيك العصبيات التقليدية وبناء شرعيتها السياسية؛ ثانيا، دور آلية "التأويل" بالمعنى الباطني للكلمة في شرعنة الخيارات اللادينية -أو حتى المعادية للدين من منظور عموم المسلمين- للنخب أو للأنظمة في مرحلة الاستعمار غير المباشر؛ ثالثا، مدى تأثير الرأي العام في تحديد سقف القراءة الباطنية/ التأويلية لآلة القمع الأيديولوجية بقيادة نخب "التحديث الفوقي".
رغم أننا قد اخترنا في هذا المقال أن نبرهن على أن "التنوير" في المجال العربي هو ضرب من الاستصحاب للفكر الباطني بعد علمنته، فإننا نذهب إلى أن كل ما يرتبط بمشروع "التحديث" أو "التجديد" من منظور علماني/لائكي هو أيضا باطنية مُعلمنة. إنها قاعدة عامة قد لا تكون من المفكر فيه لدى "التنويري" ذاته، بل هي على الأغلب مردودة عنده لأنها تهدم علة وجوده ذاتها، أي دعوى القطع مع التراث وخرافاته والانحياز لمنجزه "العقلاني" دون سواه. وليس يعنينا في هذا المقال أن نبسط القول في التأريخ لمشروع التنوير أو الإحياء وعلاقته بما يسميه الباحث ممدوح الشيخ وغيره بـ"دولة التنظيم السري" (بدءا بجمال الدين الأفغاني والشيخين محد عبده ومحمد رشيد رضا، مرورا بمشاهير "الليبراليين" و"التنويريين" في القرن الماضي وانتهاء بمركز "تكوين"). ولكنّ ما يهمنا هو الإشارة إلى أن "التنظيم السري" الذي كثيرا ما ارتبط بالحركات الإسلامية أو اليسارية والقومية، هو أيضا خاصية "تنويرية" لا يمكن نفي أصلها "الباطني" سواء من جهة هيكليتها وارتباطاتها الخفية بمراكز القرار الداخلي والخارجي، أو من جهة أفكارها القائمة على القول بوجود أسرار "مضنون بها على غير أهلها".
إن عدم دسترة العلمانية في الدستور التونسي والحرص على التنصيص على الإسلام باعتباره الدين الرسمي للدولة، لم يكن يعني أن الأقلية الأيديولوجية/ الجهوية (الفرنكفونية) التي قادت الدولة-الأمة بعد الاستقلال الصوري عن فرنسا كانت تتحرك خارج الأفق التحديثي اللائكي. فـ"التحديث" أو "التجديد" أو "التنوير" أو "التحرير" وغيرها؛ هي كلها مفاهيم تتعامد وظيفيا داخل فلسفة لائكية "مُتونسة"، أي فلسفة تراعي اختلاف المجال التداولي التونسي عن المجال التداولي الأصلي لكن دون التنكر لذلك الأصل ومقاصده النهائية.
لم يرغب النظام التونسي -رغم انتمائه إلى الفلسفات السياسية "الكمالية" (نسبة إلى كمال أتاتورك)- في تَونسة النموذج التركي واختار منهجا مختلفا يقوم على "التجديد" من الداخل، أي على ربط خياراته بالدين وتقديمها على أنها اجتهادات من داخله. وبصرف النظر عن آليات الشرعنة الجزئية ومفرداتها، فإنها ترجع جميعا إلى اعتماد آلية التأويل (فتح باب الاجتهاد وحصره في أجهزة الدولة دون منازعيها من أفراد وهيئات)، والمصادرة على وجود "روح" للدين تفيض على تعيناته التاريخية.
لمصاحبة عملية "التنوير" أو "التحديث" كان على "التفسير" وأصحابه أن يتراجعوا إلى خلفية المشهد كي يحل "التأويل" وأهله محلّهم، ولذلك لم يجد القيمون الجدد على عملية التأويل حرجا في "التطبيع" مع أهل التأويل التراثي من الطرق الصوفية، وعملوا على تثمين الباطنية القديمة من القرامطة وغلاة الصوفية وغيرهم من "المفكرين" الذين كانوا مخالفين للأغلبية السنية ومقدساتها، كما حرصوا على تقديم هؤلاء -في البرامج التعليمية والمنتجات الثقافية- باعتبارهم تجارب "ثورية" أو "تنويرية" من التراث.
إننا أمام ضرب من البحث عن أصل تراثي يجعل الأطروحات "التنويرية" موصولة بالتراث وغير مفصولة عنه. ويأتي الأصل الباطني لآلية التأويل في الاستعمال "التنويري" أو "التحديثي" من أنها ليست مرادفا للتفسير -كما هو الأمر عند أهل البيان- ولست كذلك "الحقيقة التي يؤول إليها الأمر أو الخبر" دون مخالفة المعلوم من الدين بالضرورة بمراتبه المعروفة عند الأصوليين. إننا في حضرة تأويل هو من نسل "التفسير الإشاري" المعروف عند الصوفية أو هو ضرب من "التأويل الباطني" المعروف عند أهل العرفان الشيعي. ذلك العرفان الذي تنفك فيه العلاقة التواضعية بين الدال والمدلول ويكون للظاهر باطنا هو "حقيقته" ومراد الشارع منه.
إذا كان مطلب الصوفي من التأويل هو وجه الله والمعراج الروحي بعيدا عن تضييقات أهل الظاهر والرسوم، ومطلب الشيعي هو وجه الإمام وحق آل البيت بعيدا عن الشرعيات السلطوية الزائفة، فإن مطلب "التنويري" التونسي -بل العربي عموما- هو توطين الفكر "الحديث" وفلسفته العلمانية (الدهرية) في الفضاء العربي- الإسلامي بأقل ممانعة أو تصادم ممكن. فعلى خلاف اليساري الراديكالي، فإن "التنويري" (أي ذلك اليساري السابق، أو اليساري الذي ارتد عن المفاهيم الصلبة للماركسية وتحوّل إلى مبشّر حقوقي أو مدني أو سياسي بـ"الخلاص الحداثي" من منظور ليبرالي) يتجنب الصدام المباشر مع الهوية الجماعية. ولذلك فإن "التنويري" يخفي مضمراته الأيديولوجية (مثل مقولة الاستثناء الإسلامي أو الأصل الخرافي للدين أو البنية الدهرية العميقة لمقولات العلمانية) ليدير الصراع باعتباره صراعا ضد "الإسلاميين" لا ضد الإسلام في ذاته، وباعتباره أيضا انتصارا لـ"روح الدين" ضد قشوره.
رغم أننا لا نستطيع التسوية بين مفهومي "مقاصد الشريعة" و"روح الدين"، فإننا نستطيع أن نعتبر أن "روح الدين" هو مفهوم يرث "المقاصد" من منظور الباطنية المُعلمنة. ومن هذا المنظور يمكن اعتبار الفقه بأحكامه الجزئية وأصوله ومقاصده جزءا من تجلي "روح الدين" في التاريخ. ولا شك في أنّ القول بوجود روح تقبل التجسد أو التقمص أو التناسخ في أكثر من جسد أو صورة هو قول ذو جذور باطنية لا لبس فيها، بل إن الجذر الباطني للتنوير لا يخفى أيضا في القول بوجود أدوار تشريعية قد يؤذن آخرها بزوال الحاجة إلى التشريعات المرعية في الأدوار التي سبقته. فـ"التنوير" في جوهره هو قول بانتفاء الحاجة إلى ما سبقه من عقائد وتشريعات ومؤسسات. وهو يوظف "روح الدين" لشرعنة هذه الدعوى بصورة حولته من خطاب في فصل الدين عن الدولة إلى خطاب يخدم دين الدولة أو توظيفات الدولة للموروث الديني؛ باعتباره "الصراط المسقيم" والحق المطلق الذي لا تجوز منازعته.
بالتوازي مع حرصهم على إظهار الطابع العقلاني و"التقدمي" لأطروحاتهم، فإن دعاة التنوير في بلادنا وغيرها قد عملوا -وما زالوا يعملون- على تقديم أنفسهم باعتبارهم اجتهادا من داخل الدين لا من خارجه. وهو اجتهاد يتجاوز "مقاصد الشريعة" إلى روحها. وهذا التجاوز سيكون متعذرا دون الركون إلى "التأويل" بالمعنى الباطني لهذا المفهوم في التراث، ولكنّ التأويل في المنظور الباطني المعلمن ليس مجرد صرف للمعنى الظاهر للكلام بقرينة مستقلة، وليس بحثا عن معراج روحي صوفي أو عن دليل لسلطة آل البيت ومركزيتهم العقدية، بل هو شرعنة لسلطة "الأقليات" الأيديولوجية والجهوية والطائفية والعسكرية التي هيمنت بقوتها النوعية على السلطة.
ونحن لم نكتب هذا المقال إلا لإعادة التفكير في جملة من القضايا التي همشتها النخب "العلمانية" بصورة مقصودة أو غير مقصودة: ما علاقة عملية التحديث والتنوير والسرديات الكبرى بحكم "الأقليات"؟ ما هو دور "التأويل" في استراتيجيات الهيمنة وإعادة الهندسة الاجتماعية من منظور تلك "الأقليات"؟ ما هو حجم "اللاّ مفكر فيه" من جهة علاقة "الأقليات" بمشاريع الهيمنة في مرحلة الاستعمار غير المباشر؟ إنها أسئلة سيكون علينا أن نجيب عنها، خاصة بعد موقف أغلب النخب "التنويرية" أو "الديمقراطية" أو "التحديثية" أو "العلمانية" أو "التقدمية" -وهي في نظرنا مفاهيم ذوات علاقة استبدالية بحكم انتمائها إلى منظومة فكرية "دهرية" واحدة- من الثورات العربية ودورها "المشبوه" في الانقلاب عليها بالتحالف مع ورثة الأنظمة القديمة وبرعاية محور الثورات المضادة.
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الباطنية علماني التونسي تونس اسلامي علماني باطنية ايديولوجي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة روح الدین من منظور ضرب من
إقرأ أيضاً:
دولفين يرد الجميل للبحار الذي أنقذه.. فيديو
خاص
في مشهد رائع يعكس معنى الوفاء بين الإنسان والحيوان، قام دولفين برد الجميل للبحار الذي أنقذه.
أظهر مقطع الفيديو المتداول على مواقع التواصل الاجتماعي لحظة قيام البحار بتخليص دولفين من شبكة صيد، ثم إعادة إطلاقه في البحر.
وبعد فترة من تلك الواقعة، عاد الدولفين إلى نفس القارب، ومعه سمكة في فمه، وقدمها للبحار كنوع من الشكر له على إنقاذه.
https://cp.slaati.com//wp-content/uploads/2025/01/فيديو-طولي-537.mp4