الإسلام و العصر الحديث مراجعة نقدية شاملة للموروث الديني.. كتاب جديد
تاريخ النشر: 31st, January 2025 GMT
الكتاب: الوحي و النص قراءة في المشروع المحمدي
الكاتب: فراس السواح
الناشر: دار التكوين للنشر و التوزيع ـ الشارقة ـ الطبعة الأولى 2024
(397 صفحة من القطع الكبير)
وجهة النظر التاريخية لا تؤمن بوجود جواهر أو ثوابت. فالإنسان ليس بالفطرة ليبرالياً أو اشتراكياً، كما أنه ليس بالفطرة متديناً أو ملحداً، طيباً أو شريراً، بل الإنسان سيرورة وتاريخه تراكم على المدى الطويل.
ليس أغرب في تاريخ البشرية المسلمة، من الفترة الفاصلة بين القرن السادس عشر والقرن التاسع عشر، ثورة بشرية يجعلها المؤرخ هشام جعيط الثورة الثانية بعد النيولينية (العصر الحجري الأخير) المفارقة أن هذه الثورة كانت في صالح أوروبا، رغم أنَه في في نهاية القرن الخامس عشر كانت الدول الثلاث الأقوى في العالم القديم هي دول المينغ في الصين ودولة المغول المسلمين في الهند والدولة العثمانية في الأناضول وشرق المتوسط.ةوفي القرن السادس عشر كان الجيش العثماني الأقوى بين جيوش العالم وتقدم نحو أوروبا حتى بلغ أسوار فيينا. في القرن السابع عشر تعادلت موازين القوى بين أوروبا وحضارات الشرق مع تفوق أوروبي في المجال البحري. وفي القرن الثامن عشر أصبح العالم كله يعيش تحت الضغط الأوروبي، ثم في القرن التاسع عشر تحت وصايته.
مع ذلك، نرى أن هذا التحول الرئيسي الذي حصل في التاريخ، والذي نعيش آثاره إلى اليوم، بدا ثانوياً في نظر الثقافة العربية السائدة، التي فضلت أن تقف بنظرها على ما حدث في القرن السابع الميلادي (الأول من الهجرة)، أي سقوط الإمبراطورية الفارسية وضمور الإمبراطورية البيزنطية بقيام الدولة الإسلامية.
فالثقافة العربية ترفض بشدة المساءلة التاريخية لفترة ظهور الإسلام، باعتبارها فترة ذات رمزية دينية، لتتصور ما يكون اليوم مصير مؤرخ يطبق التقنيات التاريخية الحديثة ليكتب أطروحة بلغة من اللغات المستعملة في العالم الإسلامي موضوعها عمر بن الخطاب وعهد حكمه.
هذه الفترة التاريخية بقيت خاضعة لأدب السير دون مناهج التاريخ. والمفارقة أن ما قبل الإسلام لا يعتبر جديراً بالبحث لأنه جاهلية، وعهد النبوة والخلافة الراشدة لا يخضع للمساءلة لأنه تاريخ مقدس، وما بعد ذلك يعتبر روايات قصاص لا قيمة لها أو أنها لا تمثل إلا انحرافاً عن الرسالة. فماذا يبقى حينئذ للتاريخ؟
في هذا الكتاب الجديد الذي يحمل العنوان التالي :"الوحي و النص قراءة في المشروع المحمدي" المتكون من مقدمة وسنة فصول كبيرة، ويحتوي على 397 صفحة من القطع الكبير،والصادر عن دار التكوين للنشر و التوزيع بالشارقة عام 2024، يقدم مؤلفه الأستاذ فراس السواح المؤرخ المتخصص في تاريخ الشرق القديم وأديانه ، مقاربة تحليلية ونقدية للنص الديني الذي يستخدم بنى لغوية وأسلوبية قديمة تتصل بالعصر الذي دون فيه، فهو ينتمي إلى ماض بعيد وبيئه ثقافية واجتماعية مغايرة لبيئة قارئ اليوم الذي يعيش عصر الثورات العلمية والتكنولوجية المتلاحقة.
إنَّ المحور الذي تنتظم حوله موضوعات الكتاب هو العلاقة بين الوحي والنص المقدس، وهي علاقة معقدة لأنَّ الوحي شأن إلهي والنص بداعي طبيعته اللغوية شأن ثقافي إنساني، وبين مطرقة الوحي وسندان النص يتشكل مأزق النبي الذي يشرح المؤلفأبعاده عبر رحلة طويلة في تاريخ أديان هذه المنطقة.
النص المقدس إشكالي
فالنص يصل إلى أفهامنا من خلال مجهود إنساني فيغدو نصاً ذا تفسير وتأويل. ومثله في الفيزياء مثل الضوء عندما يمر عبر موشور بصـري زجاجي، فينكسر ويغير اتجاهه بزاوية انحراف يمكن قياسها. ولهذا السبب نجد أن كل رسالة دينية قام نبي بإبلاغها، تلبس في كل زمن لبوساً جديداً، وكذلك الأمر إذا ما انتشرت في المواطن الأخرى، حتى وإن بقي النص محفوظاً بصيغته البكر التي لم يمسها تغيير، لأن ثبات النص لا يعني ثبات المعنى، ولنا في تاريخ الأديان الكبرى شواهد كثيرة على ذلك.
يقول المؤرخ فراس السواح: "فالزرادشتية تقوم على تعاليم النبي زرادشت التي بثها في مجموعة أناشيد وتراتيل تُدعى الغاثا، وهي مدونة باللغة الإيرانية القديمة بأسلوب أدبي رفيع يتميز بالبلاغة والإيجاز. ولذلك فقد كان المؤمنون الزرادشتيون لا يقرؤون الغاثا إلا من خلال مجموعتين من الأدبيات الكهنوتية هما الأفيستا والأفيستا الصغرى اللتان تحتويان، وفق ادعاء الكهنة، على تعاليم زرادشت الشفوية وأحاديثه، وعلى شروحات وتعليقات اللاهوتيين. وبمرور الوقت صارت الأفيستا نفسها قديمة وبحاجة إلى شرح فظهرت مجموعة الزند أفيستا أي شروحات وتعليقات على الأفيستا. وهذا نموذج عما دعوته بالمجهود الإنساني الذي يضاف إلى النص ليجعل منه نصاً مفسراً ومؤولاً.
النص يصل إلى أفهامنا من خلال مجهود إنساني فيغدو نصاً ذا تفسير وتأويل. ومثله في الفيزياء مثل الضوء عندما يمر عبر موشور بصـري زجاجي، فينكسر ويغير اتجاهه بزاوية انحراف يمكن قياسها. ولهذا السبب نجد أن كل رسالة دينية قام نبي بإبلاغها، تلبس في كل زمن لبوساً جديداً، وكذلك الأمر إذا ما انتشرت في المواطن الأخرى، حتى وإن بقي النص محفوظاً بصيغته البكر التي لم يمسها تغيير، لأن ثبات النص لا يعني ثبات المعنى، ولنا في تاريخ الأديان الكبرى شواهد كثيرة على ذلك.و"البوذية التي نشأت في الهند على تعاليم البوذا الأصلية، راحت تتبدل مع انتقالها إلى الأقطار الأخرى، حيث وجد الكهنة أن صرامة تعاليم البوذا تجعل منها ديناً للنخبة القادرة على التزامها، فهي هينا ـ يانا" أي "المركبة الصغرى لأنها لا تتسع إلا للعدد القليل من المؤمنين الراغبين في خلاص الروح الذي وعد به المعلم، فقام هؤلاء بصياغة بوذية الماها ـ يانا" أي المركبة الكبرى التي تتسع للعدد العديد، ولم تصل البوذية إلى الصين واليابان حتى تبدلت بشكل جذري وغدت ديناً موازياً للأصل.
و"يخطئ من يظن أن اليهودية تقوم على تعاليم موسى في أسفار الخروج واللاويين والعدد والتثنية، وبقية الأسفار التي تشغل في الترجمات الحديثة نحوا من 1400 صفحة، فبعد اكتمال الأسفار التي عُدت قانونية في القرن الثاني قبل الميلاد، وجرت ترجمتها في الإسكندرية إلى اليونانية وهي الترجمة المعروفة بالسبعينية، لم يغلق باب الاجتهاد والتطوير ونشطت حركة إبداع ديني انتجت ما يدعى بالأسفار التوراتية غير القانونية / Pseudepigrapha، زاد عدد صفحاتها في الترجمات الحديثة عن عدد صفحات الكتاب القانوني. وتلا ذلك إنتاج كتاب التلمود في عدة آلاف من الصفحات، تلته المدراشات (مفردها مدراش) وهو أدب أسطوري تعليمي استمر تدوينه حتى القرن الثامن الميلادي.
و"الحديث عما حصل للمسيحية بعد صلب يسوع من بولس الذي كان أول من قدم التفسير لحياة يسوع وصلبه في رسائله الأربعة عشر وأسس للاهوت المسيحي، إلى مرقيون من أواسط القرن الثاني الميلادي الذي قامت على أفكاره المسيحية الغنوصية، إلى آريوس ونسطور والمجامع الكنسية ومؤلفات آباء الكنيسة، وصولاً إلى مارتن لوثر والإصلاح الديني في مطلع العصور الحديثة حتى صار من الصعب على المرء أن يتبين وجه يسوع تحت كل هذا الركام مما دعوته بالمجهود الإنساني التفسيري.
و"في الإسلام تعهد الله بحفظ القرآن: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ) الحجر: 9. ولكنه ترك للإنسان حرية التفسير: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبِ أَقْفَالُهَا) محمد: 24 (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَّ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) النساء: 82. وقد سارت العملية التفسيرية في أكثر من اتجاه خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة، فظهرت السيرة النبوية، وتكاثرت مؤلفاتها حتى زادت عن الخمسين، ولم يتوفر لدينا حتى الآن شواهد موضوعية على أي حدث من أحداثها. كما ظهرت مصنفات الحديث التي احتوت على نحو مئة ألف حديث نبوي، وجُلُّها ضعيف أو موضوع وتوالدت تفاسير القرآن الذي فهم على مراد المفسرين لا على مراد الله ورسوله، وعددها اليوم بين قديم وحديث يربو عن المئة، وعلوم القرآن، وعلى رأسها المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، التي عملت على تحويل فكر متلقي القرآن من تدبر آي الذكر الحكيم إلى تأمل منعكساتها في فكر المؤسسة التفسيرية"(ص 7و8 من المقدمة).
يعتقد المؤلف أنَّ المؤسسة التفسيرية أنتجتْ ، بالأدوات التي ذكرت الصيغة التي وصلتنا من الإسلام بعد أن وضع عليها الإمام الغزالي (ت عام 505هـ) بصمته في كتابه إحياء علوم الدين، وهي صيغة أنتجها الفكر الفقهي القياسي، ولم يشاركها في ذلك الفلاسفة والمفكرون والعلماء، بل تركوها لأولئك المدعوين بالعلماء الذين اتخذوا من الدين حرفة، وناصبوا الفلاسفة العداء وحرضوا الدهماء على حرق كتبهم. فكانوا في ذلك على النقيض من المؤسسة اللاهوتية المسيحية التي لم تقطع صلتها بالفلسفة خلال العصر الوسيط، بل أنتجت فلسفة مسيحية دعيت بالفلسفة المدرسية/ Scholastique لعبت أفكار أرسطو دوراً في تشكيلها، وكان لهم آراء في العلم وإن اتسمت بالمحافظة ورفض الجديد.
دُعِيَ هذا الإسلام لدى الباحثين الغربيين بالإسلام الأرثوذكسي، وهو مصطلح لا يُحِيل على الأرثوذكسية المسيحية كمذهب، بل يتضمن معاني المحافظة وتقديس الماضي والخوف من الجديد. فمنذ القرن السادس الهجري والإسلام يُعيد إنتاج نفسه، أو نسخ رديئة منه وأكثر مقاومة للتجديد، تجلت في العصر الحديث بالإسلام السياسي الذي أفرز الإسلام التكفيري والجهادي، الذي بات يشكل خطراً على المجتمعات الإسلامية لاسيما العربية منها والمجتمع الدولي.
لهذا فقد صار المسلمون، الذين يتهيؤون لدخول العصر الحديث وإنتاج الثقافة بدلاً عن استهلاكها أمام خيارين؛ فإما أن يدخلوا العصر كمجتمع بلا دين كما فعلت أوروبا عندما تركت الدين للتقوى الفردية، وتحولت إلى مجتمعات لا دينية. أو أن يدخلوه مع الدين بعد مراجعة نقدية شاملة للموروث الديني بقضيه وقضيضه، من أجل إسلام يليق بالعصر، وأكثر اتفاقاً مع مقاصد القرآن الكريم. وهي عملية شاقة ومديدة تقع على عاتق المفكرين من مسلمين متنورين، وعلمانيين يرون في الإسلام هوية لا ينبغي التخلي عنها. إن ما سيلي من فصول كتابي هو مساهمة في هذا المشروع، أقدمها بمنهجية مؤرخ أديان يرى إلى الإسلام في السياق العام لمسيرة الإنسان المعرفية.
أخبار مكة بين التهويل والتهوين
إنَّ تاريخ مكة قبل ظهور الاسلام مرتبط بتاريخ رئيس قريش ألا وهو قصي، حيث ينسب أهل الأخبار قريش كلها إلى نسل رجل أسمه (فهر ابن مالك ابن النظير ابن كنانة أبن خزيمة ابن مدركة ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان). وقريش تنتمي إلى القبائل العدنانية، إلى مجموعة العرب المستعربة، ويعتبر قصي رئيس قريش، وأول رئيس من رؤساء مكة، فهو الذي " ثبت الملك ففي عقبه، ونظم شؤون المدينة، وقسم الوظائف والواجبات على أولاده حين شعر بدنو أجله، فلما أشرق الاسلام كانت أمور مكة في يد قريش ولها وحدها الهيمنة على هذه المدينة حتى عرف سكانها بآل قصي".
لقد لعب الغزو والنهب دوراً تاريخياً مهما في عملية الاندماج وذلك من خلال الأحلاف التي عقدتها قريش بين القبائل، والصلح والزواج المختلط مع قريش الظواهر (الدين ينزلون خارج الشعب) وهم الساكنون خارج مكة في أطرافها وكانوا على مايبدو من وصف أهل الاخبار أعراباً أي أنهم لم يبلغوا مبلغ قريش البطاح في الاستقرار وفي اتخاذ بيوت من مدر. وكانوا يفخرن على قريش مكة بأنهم أصحاب قتال، وأنهم يقاتلون عنهم وعن البيت، وأنهم كانوا دون (قريش البطاح، في التحضر وفي الغنى والسيادة والجاه لأنهم أعراب فقراء، لم يسكن لهم عمل، يعتاشون منه غير الرعي).
يبتدئ نقاد الرواية الإسلامية عن الإسلام المبكر خطابهم بمقولة مفادها أن مكة لم يرد لها ذكر في كتب المؤرخين الإغريق والرومان، ولم تظهر على خرائط الجغرافيين الذين مسحوا منطقة الشرق القديم، والقديم المتأخر، وبينوا مواقع مدنها الكبيرة منها والصغيرة. وقد توصل بعض هؤلاء إلى نتيجة مفادها أن مكة عصر الرسول ليست مكة التي نعرفها، وراحوا يبحثون عنها في الشام وجنوب العراق، وكان على رأس هؤلاء المؤرخ الكندي دان جيبسون الذي توصل من خلال دراسته للتوجه نحو القبلة في المساجد التي بنيت خارج جزيرة العرب فيما بين القرن الأول الهجري والقرن الثالث إلى نتيجة مفادها أن مكة عصر الرسول هي مدينة البتراء عاصمة دولة الأنباط، لأن قبلة تلك المساجد كانت تتجه نحوها بشكل تقريبي وليس نحو مكة الحجاز.
يقول المؤرخ فراس السواح: "وفي الحقيقة فإنَّ مكة لم ترد في أخبار المؤرخين ولم تظهر على خرائط الجغرافيين، لأنها لم تكن موجودة قبل نحو قرن من ميلاد الرسول إذا كان العام 570م هو عام مولده، ولم يكن فيها تجمع سكاني حضري وإنما خيام متناثرة قرب بنية معمارية بدائية مؤلفة من أربعة جدران حجرية قليلة الارتفاع وبدون سقف هي الكعبة، التي كانت مكاناً مقدساً لعدد من قبائل عرب الحجاز تقصده في مواسم الحج، لأنه كان بيتاً لله الإله الأعلى خالق السماوات والأرض، وفيها الحجر المقدس الذي يعبر عن حضور الألوهة المعبودة في المكان، كما هو الحال في المراكز الدينية الصحراوية المعروفة لنا من خلال التنقيبات الأثرية التي جرت في النقب وصحراء سيناء. وكانت بطون من القبيلة الموكلة بشؤون الحج تقيم تحت الخيام قرب الكعبة، وأقربها إلى الذاكرة العربية جرهم وخزاعة.
إن أقرب مثال تاريخي على بدايات مكة كمكان مقدس يجمع بين القبائل هو بدايات مدينة دلفي في اليونان القديم. فدلفي لم تكن في بدايات التاريخ اليوناني سوى معبد ديني متواضع مكرس لإلهة الأرض جايا، تقيم فيه عرافة تنطـق بالنبوءات لمن يأتي ليستخير مشيئة الآلهة، ثم صار معبداً للإله الكبير أبوللو. ونظراً لقداسة المكان لدى القبائل اليونانية فقد عقدت بينها حلفاً دعي حلف الجيران Amphictyony يوطد السلام بينها ويعطي لكل قبيلة الحق في الحج إلى المكان وإقامة الشعائر فيه. وخلال فترة ازدهار الثقافة اليونانية مع بدايات القرن الخامس قبل الميلاد، تحول المعبد المتواضع في دلفي إلى معبد ضخم ألحق به مسرح وملاعب رياضية، كما تحولت دلفي إلى بلدة مزدهرة يسكن فيها الكهنة وخدام المعبد والمشرفون على النشاطات الرياضية والألعاب السنوية الدورية فيها"(ص14).
هذا المثال ينطبق على مكة التي لم تكن بعيد قرن من مولد الرسول سوى مكان مقدس لمجموعة من القبائل، ولم تتحول إلى مركز حضري إلا بعد أن استقرت بها قبيلة رعوية تدعى قريش قادمة من بلاد الشام بقيادة شخصية كارزمية تدعى قصي بن كلاب. فكان قصي أول من نقض الخيام وبنى البيوت بعد أن أبعد قبيلة خزاعة عن المكان، على ما ترويه لنا المصادر الإسلامية. وأول ما بناه دار لاجتماع شيوخ بطون قريش وعددها عشرة، للتداول في شؤون الجماعة واتخاذ القرارات في الشؤون العامة، والتي عرفت بدار الندوة. وقصي هذا هو السلف الخامس للرسول محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب.
لقد شكلت شبه الجزيرة العربية متحداً جغرافياً وثقافياً مع سوريا، لأن الصحراء العربية تتصل ببادية الشام التي تبدو على الخريطة امتداداً طبيعياً لها دون حواجز طبيعية. ولذلك فقد كانت الجماعات العربية في حركة دائبة بين مواطنها والشام وفق فصول السنة،أما عن قدوم قريش. من الشام، فيوثقه لنا المؤرخ جواد. علي في الجزء الأول من كتابه تاريخ العرب في الإسلام، حيث يورد نصاً كتبه اللاهوتي السرياني نرسي Narsi المتوفى سنة 485م، يتحدث عن غزو قام به أبناء هاجر من الإسماعيليين على بيت عربايا (عربستان)، وكانت الجماعة التي يدعوها قريش أشد أولئك المهاجمين ضراوة. وكانت بيت عربايا منطقة خاضعة للنفوذ الساساني، وشكلت منطقة صراع بين فارس وبيزنطة من أجل السيطرة عليها. ومن الواضح هنا أن بيزنطة قد استخدمت القبائل العربية المقيمة في الشام في حربها على الفرس، فقد كانت بلاد الشام في ذلك الوقت تعج بالجماعات العربية الرعوية التي كانت تتجول في المنطقة، وبعضها كان قد استقر منذ أواخر الألف الأولى قبل الميلاد، وشكل ممالك مزدهرة أسهمت بقوة في الحياة السياسية والثقافية للمنطقة .
لقد شكلت شبه الجزيرة العربية متحداً جغرافياً وثقافياً مع سوريا، لأن الصحراء العربية تتصل ببادية الشام التي تبدو على الخريطة امتداداً طبيعياً لها دون حواجز طبيعية. ولذلك فقد كانت الجماعات العربية في حركة دائبة بين مواطنها والشام وفق فصول السنة، ففي الشتاء كانت المناطق العشبية مثل نجد واليمامة المكان الأنسب لرعي الإبل والأغنام، وفي الصيف كانت المسالك إلى الشام مفتوحة أمامهم للبحث عن المرعى في البادية السورية. وكان وصولهم إلى أطراف المناطق الحضرية في الهلال الخصيب يترافق مع انتهاء موسم حصاد الحبوب، ويكون ما تبقى من سيقان القمح والشعير غذاء مناسباً لأنعامهم، ويتم ذلك بالاتفاق مع المزارعين الذين يكونون في انتظارهم من أجل التبادل التجاري بين الطرفين، فأهل الوبر من الأعراب لديهم اللحوم ومنتجات الألبان وأهل المدر من المزارعين لديهم الحبوب والقماش والمواد المصنعة. ثم إن بعض هؤلاء الأعراب لم يعد إلى العربية بل استقر وأسس تسع ممالك من أواخر الألف الأول قبل الميلاد وأواسط الألف الأول الميلادي هي: البتراء وأبطوريا، والحضر، وميسان، والرها، وتدمر، وحمص والحيرة، وغسان. لذلك فإن مصطلح عرب الشمال» الذي استخدمته في كتابي هذا أعني به عرب العربية من دون اليمن وعرب الشام.
كل هذا يقودنا إلى القول بأن العرب لم يكونوا منعزلين سياسياً، لأنهم شاركوا في كل الأحداث التي كانت تجري في المنطقة، وبالتأكيد لم يكونوا منعزلين دينياً غارقين في ظلام الوثنية. ولعل ما يؤكد لنا هذه الحقيقة أن الديانة المانوية التي بشر بها الإيراني ماني انطلاقاً من موطنه في منطقة بابل أواسط القرن الثالث الميلاد قد انتشرت في الحيرة وفي جيوب متفرقة من العربية. وعندما صارت المسيحية ديناً للإمبراطورية الرومانية في عهد قسطنطين (306-337م) تنصر عرب الشام، وتنصرت العربية الجنوبية وصار للمسيحية جيوب متفرقة لدى بقية عرب الجزيرة. وكان لليهودية وجود قوي في يثرب وشمال غرب العربية وفي اليمن .
يؤكد المؤرخ فراس السواح أنَّ الموطن الذي وفدت منه قريش هو الشام، على الرغم من أن أسباب نزوحها إلى الحجاز تبقى غامضة، وكذلك الأمر فيما يتعلق بخيار قصي بن كلاب الاستقرار في مكة دون غيرها من مناطق الحجاز. فمكة تقع في واد صخري ضيق غير ذي زرع وسفوح المرتفعات المحيطة بها عابسة لا خضرة فيها ولا شجر، وكل ما يمكن أن تنتجه أرضها هو بعض النخيل المقاوم للجفاف. فأمطارها نادرة وقد تنحبس شهوراً ثم تنهمر مدراراً لتحدث فيضانات مدمرة، وطقسها حار في الصيف لا يطيقه من لم يعتد عليه. أما عن مصادر الحياة فلا يوجد منها سوى بئر زمزم الملاصق للكعبة، وبعض الآبار البعيدة التي يجد الإنسان مشقة في نقلها. وقد حالت هذه العوامل الطبيعية دون نشوء مركز حضري متميز في الموقع، ولم تتحول مكة إلى مدينة حقة حتى العصر الأموي.
أما عن الكعبة، يقول المؤرخ فراس السواح:" فقبل الحديث عن بنيتها المعمارية وأثاثها الطقسي، أود أن ألفت النظر إلى أنها لم تكن المحجة الوحيدة لدى العرب، بل العرب الحجاز بشكل رئيس، لأنه كان للعرب محجات كثيرة إلى جانب محجة الكعبة منها: كعبة نجران، وكعبة شداد الأيادي، وكعبة غطفان، وبيت العزى، وبيت مناة وبيت رضا، وكان بيت اللات في الطائف الأكثر شبها بكعبة مكة والأكثر منافسة لها. فقد كان بنو ثقيف يسترون بيت اللات بكسوة تضاهي كسوة بيت مكة، ويحتوي في داخله على صخرة بيضاء تضاهي حجر مكة الأسود، وكان سدنته يضاهون به كعبة مكة. هذه البيوت أو الكعبات هي الشكل العربي للمعلاة أو المرتفعة في العبادات السامية، والسابقة على المعبد الضخم. وهي تتألف من بيت مربع أو مستطيل الشكل بلا سقف في معظم الأحيان، يوضع فيه النصب الحجري الذي يحل فيه الإله المعبود أثناء الطقوس، وأمامه مذبح أو بلاطة حجرية تراق عليها دماء القرابين. ثم حل الصنم محل النصب الحجري، أو اجتمعا معاً كما هو الحال في كعبة مكة حيث اجتمع صنم هبل والحجر الأسود.
لا نجد في كتب الأخبار وصفاً دقيقاً للبيت الحرام في الجاهلية ولا حتى في أيام الرسول، وخلاصة ما يمكننا استخلاصه منها هو أن قصي بن كلاب كان أول من جدد الكعبة وسقفها بالخشب وسعف النحل، وقد كانت قبله قائمة في فلاة لا يبني أحد حولها، فلما آل أمرها إليهم جعل لها حرماً حدد مساحته بعدد من الأنصاب الحجرية، بلغت الثلاثمئة نصباً، ثم راح الناس يبنون بيوتاً لهم تدريجياً خارج هذا الحرم.
وقد كان ارتفاع جدرانها تسعة أذرع، أي نحو أربعة أمتار، وبابها في الأرض، وفي بطنها عن يمين الداخل حفرة على هيئة خزانة يوضع بها ما يهدى إلى الكعبة من مال وحلية. وعلى الجدار المقابل للداخل علق رأس كبش منحوت له قرنان ضخمان. وعلى الرغم من أن المصادر لا تتحدث عن مكان الحجر الأسود في ذلك الوقت، إلا أنني أرجح أن يكون في داخل الكعبة منصوباً تحت رأس الكبش وبقي كذلك إلى ما بعد فتح مكة. عندما كثر الحجاج الذين يرغبون في لمس الحجر والتبرك به، أو حتى تقبيله كما روي عن الرسول أنه فعل، وصارت الحاجة ماسة إلى وضعه في الخارج، فنقل إلى مكانه الحالي في الركن الجنوبي الشرقي، في زمن لا أستطيع تحديده بدقة. وعندما تداعت جدران الكعبة في شباب الرسول إثر سيل عرم من تلك السيول التي عرفتها الحجاز، أعادت قريش بناءها وزادوا في ارتفاع جدرانها فبلغت ثمانية عشر ذراعاً، أي نحو سبعة أمتار، وسقفوها بالحجارة والخشب(ص17).
لا نجد في كتب الأخبار وصفاً دقيقاً للبيت الحرام في الجاهلية ولا حتى في أيام الرسول، وخلاصة ما يمكننا استخلاصه منها هو أن قصي بن كلاب كان أول من جدد الكعبة وسقفها بالخشب وسعف النحل، وقد كانت قبله قائمة في فلاة لا يبني أحد حولها، فلما آل أمرها إليهم جعل لها حرماً حدد مساحته بعدد من الأنصاب الحجرية، بلغت الثلاثمئة نصباً، ثم راح الناس يبنون بيوتاً لهم تدريجياً خارج هذا الحرم.بالغت المصادر الإسلامية في عدد الأصنام التي احتوت عليها الكعبة، وتبعها في ذلك الباحثون المحدثون فجواد علي يقول في ذلك ما يلي: لقد ضم البيت عدداً كبيراً من الأصنام يكاد يجمع شمل أصنام أكثر القبائل يومئذ حتى صار بانثيوناً، أو متحفاً، أو مخزناً تكدست فيه الأوثان من مختلف الأحجام والمواد، فيها المهذب المهندم المنسق، وفيها الوثن البدائي، وفيها الصور المصنوعة في بلاد الشام من أصل نصراني، تمثل القديسين والأولياء والأنبياء والملائكة، تحولت إلى أوثان معبودة في مكة توجهوا إليها لتحيتها ومناجاتها واكتساب عطفها ورحمتها... وجعلوا في دعائم الكعبة صور الأنبياء، فكان فيها صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام، وصورة عيسى وأمه في العمود الذي يلي الباب. وبعد إعادة بنائها أعادوا إليها صنم هبل وقرني الكبش، وكسوها حين فرغوا حبرات يمانية... وقد أزيلت الأصنام والأوثان عام الفتح وصور الأنبياء والملائكة، عندما أمر الرسول بطمسها عدا صورة عيسى وأمه مريم.
فالكعبة هنا تبدو على صغر مساحتها التي لا تزيد عن 140م2، أشبه بمتحف للفنون لا مكاناً للعبادة، ولكن المؤلف يتابع تفسيره لهذه الظاهرة الفريدة من نوعها في عبادات الشرق القديم فيقول: لقد كانت وثنية قريش تتقبل كل صنم أو وثن، فتضمها إلى الأعداد المكدسة في الكعبة وتتقرب إليها، لا يهمها أصلها ومصدرها ما دامت تقدمة وهبة إلى رب البيت، قدمت إليه على أنها شفيعة تقرب أصحابها من ذلك الرب. فعبادة مكة في هذا العهد كانت عبادة شفعاء ووسطاء تتمثل في تماثيل وصور وأصنام وأوثان على نحو ما ذكرت.
إن معرفتنا بالحضارة القديمة شرقاً وغرباً لم تزودنا بمعلومات عن معبد احتوى كل هذا العدد من التماثيل والصور. فالبارثنون في أثينا القرن الخامس قبل الميلاد على سعته وعظمته لم يحتو إلا على تمثال للإلهة أثينا، وكذلك الأمر في معابد الرومان والهندوس، والشرق القديم. ولذلك فإن الكعبة لم تحتو في رأيي إلا على صنم للإله هبل إضافة إلى رأس الكبش والحجر الأسود. وقد وصفه ابن الكلبي في كتاب الأصنام بأنه مصنوع من عقيق أحمر مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش على هذه الشاكلة فصنعوا له يداً من ذهب.
والاسم هبل لا جذر له في اللغة العربية لأنه من أصل سوري وهو مؤلف من مقطعين؛ الأول هو الهاء أداة التعريف في بعض اللغات السامية الغربية مثل العبرية والنبطية، والثاني هو (بعل) اللقب الشائع لإله الطقس السوري هدد ويعني الرب أو السيد وبعد إسقاط حرف العين من الاسم على الطريقة التدمرية يغدو هبل. وهذا يعني أن وجود هبل في جوف الكعبة ليس من قبيل إدخال إله على عبادات عرب الحجاز، بل إلى وضع منحوتة لرب الكعبة القديم تحت لقب السيد أو الرب. ولربما كان على جدران الكعبة الداخلية بعض الرسوم ومنها صورة مريم وابنها عيسى، لا صنمان لهما.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الإمارات كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العصر الحدیث القرن السادس الشرق القدیم وکذلک الأمر قبل المیلاد على تعالیم فی القرن فی تاریخ من خلال فقد کان التی لم أول من التی ع لم تکن فی ذلک
إقرأ أيضاً:
مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 31 يناير 2025 في المدن والعواصم العربية
مواقيت الصلاة اليوم.. ترتفع معدلات البحث من قِبل الكثير من المسلمين عن مواقيت الصلاة بشكل دوري حتى يؤدوا الفرائض في أوقاتها، وبعض الأشخاص يرتبون جدول يومهم على مواعيد الصلاة.
مواقيت الصلاة اليومينشر موقع الأسبوع مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 31 يناير 2025 وفقًا للتوقيت المحلي لمدينة القاهرة الكبرى وعدد من محافظات الجمهورية، ولمزيد من الخدمات التي يقدمها موقع الأسبوع اضغط هنـــا.
كذلك يبحث الكثير من المسافرين والقادمين عن مواقيت الصلاة في العواصم والمدن العربية، لذا ينشر موقع الأسبوع مواقيت الصلاة في عدد من العواصم والمدن العربية، وعلى رأسها مدينتا الحرمين الشريفين مكة المكرَّمة والمدينة المنورة وأبو ظبي والكويت ومسقط.
اقرأ أيضاًمواقيت الصلاة اليوم الجمعة 31 يناير 2025 في مدن ومحافظات مصر
بالأسماء.. وزارة الأوقاف تفتتح اليوم 41 مسجدًا في عدد من المحافظات
مواقيت الصلاة في مكة المكرمة
موعد صلاة الفجر 5:37
موعد صلاة الظهر 12:24
موعد صلاة العصر 3:29
موعد صلاة المغرب 5:50
موعد صلاة العشاء 7:20
مواقيت الصلاة في المدينة المنورة
موعد صلاة الفجر 5:43
موعد صلاة الظهر 12:25
موعد صلاة العصر 3:25
موعد صلاة المغرب 5:45
موعد صلاة العشاء 7:15
مواقيت الصلاة في الرياض
موعد صلاة الفجر 5:14
موعد صلاة الظهر 11:57
موعد صلاة العصر 2:56
موعد صلاة المغرب 5:16
موعد صلاة العشاء 6:46
مواقيت الصلاة في دبي
موعد صلاة الفجر 5:42
موعد صلاة الظهر 12:27
موعد صلاة العصر 3:26
موعد صلاة المغرب 5:41
موعد صلاة العشاء 7:11
مواقيت الصلاة في أبو ظبي
موعد صلاة الفجر 5:45
موعد صلاة الظهر 12:31
موعد صلاة العصر 3:31
موعد صلاة المغرب 5:46
موعد صلاة العشاء 7:16
مواقيت الصلاة في عمان
موعد صلاة الفجر 5:10
موعد صلاة الظهر 11:40
موعد صلاة العصر 2:25
موعد صلاة المغرب 4:48
موعد صلاة العشاء 6:10
مواقيت الصلاة في مسقط
موعد صلاة الفجر 5:25
موعد صلاة الظهر 12:09
موعد صلاة العصر 3:10
موعد صلاة المغرب 5:31
موعد صلاة العشاء 7:01
مواقيت الصلاة في الكويت
موعد صلاة الفجر 5:15
موعد صلاة الظهر 11:52
موعد صلاة العصر 2:42
موعد صلاة المغرب 5:01
موعد صلاة العشاء 6:31