التطورات التي تعيشها سوريا الجديدة، تعيد تركيب عدد من الأسئلة الفكرية حول الثورة، ومفاعيلها، وطرف استحالة الثورة إلى دولة، ومنهجية الانتقال المؤسساتي، وإدارة التعدد الطائفي، وبناء التعاقدات المجتمعية والسياسية، وجدل الداخلي والخارجي، وحدود توطين الخيارات الثورية في ظل الضغط الخارجي، وترتيب الجواب عن التحديات بين الداخلي والخارجي،  وقواعد المشروع المجتمعي الجديد، وغيرها من  الأسئلة التي ظل مثقفو النهضة يناقشونها دون أن يخرجوا منعا بطائل، وتعثرات تجارب نهضوية وثورية عربية دون أن تنجح في إرساء تجربة ناجحة، لا يتحول ربيعها إلى خريف  بمناهضة جيوب المقاومة أو ما يسمى بالثورات المضادة.



كما يثار سؤال آخر مهم، حول مفهوم الدولة الراعية، الذي تفتقت مفرداته مع التجربة الماركسية والماوية، واستلهمته الثورة الإيرانية، وحاولت أن تحدث عليه تحيينات كثيرة، فانتقل من مفهوم تصدير الثورة إلى مفهوم الأذرع الثورية الإقليمية، ليستقر في المراحل الأخيرة على مفهوم محاور المقاومة.

من السابق لأوانه اليوم، أن نتحدث عن نسق فكري نضج في الحالة السورية بأجوبته المركبة عن هذه الإشكالات المفاهيمية، لكن الأسلوب العملي الذي يتم انتهاجه في مواجهة التحديات، وتصنيفها (داخلي وخارجي) وترتيب أولوياتها، فضلا عن منهجية الانتقال من الثورة إلى الدولة،  وطريقة التفاعل مع الفاعل الأجنبي، هذه كلها تشي بأن هذه التجربة، جديرة بأن توضع ضمن مشرحة التأمل الفكري، حتى يتم نقل هذا الأسلوب العملي البراغماتي إلى صياغة فكرية ونسق  عام، يمكن دراسته ضمن الدراسات المقارنة سواء تلك التي تقارب طرق الانتقال من الثورة إلى الدولة، أو التي تعنى  بالانتقال إلى الديمقراطية، أو التي تعنى بمنهجية إدارة التعدد الطائفي، وكيفية بناء التعاقدات المجتمعية الكبرى.

تعيش سوريا اليوم أربعة تحديات داخلية رئيسة، أولها، تثبيت شرعية الدولة في كل التراب السوري، وتوحيد الجهاز الأمني والعسكري، وبناء الاقتصاد السوري، وترتيب خطوات العملية السياسية بما يسمح بالمرور من العملية الانتقالية إلى تأسيس البنيان الدستوري والمؤسساتي بناء على التقاعدات المجتمعية الجديدة.سنقدم في هذا المقال، بعض ملامح هذا النسق، وكيف يتصور التحديات التي تواجهه، والأولويات التي يشتغل عليها، والتحديات التي امانعه، وكيف يصنفها ويرتبها، وكيف يتعاطى معها..

سوريا الجديدة والتحديات الأربعة

تعيش سوريا اليوم أربعة تحديات داخلية رئيسة، أولها، تثبيت شرعية الدولة في كل التراب السوري، وتوحيد الجهاز الأمني والعسكري، وبناء الاقتصاد السوري، وترتيب خطوات العملية السياسية بما يسمح بالمرور من العملية الانتقالية إلى تأسيس البنيان الدستوري والمؤسساتي بناء على التقاعدات المجتمعية الجديدة.

بيد أن هذه التحديات، التي تبدو كلها داخلية، ترتبط بالجوهر باستحقاقات تتعلق بالسياسة الخارجية، أو بنوع المقاربة التي ستنهجها الإدارة الانتقالية لكسب هذه التحديات الأربعة، فتثبيت شرعية الدولة على كل التراب السوري، يطرح سؤال التعاطي مع قوات سوريا الديمقراطية، وهي الورقة التي تمسك بها كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي (باسم حق الأقليات)، لضمان الأمن القومي الإسرائيلي من جهة، والحيلولة دون تعزيز النفوذ الإقليمي لتركيا.  كما أن بناء الاقتصاد السوري مرتبط أساسا برفع العقوبات عن سوريا، وهي ورقة تمسك بها الدول الغربية للضغط على سوريا في اتجاهات متعددة، سندقق فيها خلال هذا المقال، كما أن تحدي تأسيس البنيان الدستوري والمؤسساتي في سوريا وتوحيد الجهاز الأمني والعسكري، هو الآخر يخضع للاعتبارات السابقة، مما يعني في المحصلة، أن مشكلة سوريا الأساسية، هي مشكلة سياسة خارجية، في وسط جد معقد، لا يسمح بخيارات مفتوحة وبهامش أكبر للمناورة.

في هذا المقال، سنحاول أن نعرض للمعادلات التي كانت تحكم سوريا قبل الإطاحة بالنظام، وبأهم التحولات التي عرفتها هذه المعادلات بعد الإطاحة به،  وبنقاط الضعف التي يمسك بها الفاعل الدولي لرفض أجندته على الإدارة الجديدة، وبالخيارات التفاوضية التي تملكها  سوريا الجديدة لبناء سياسة خارجية متوازنة تؤهلها لرفع العقوبات الدولية، وعودتها إلى محيطها الإقليمي والدولي.

معادلات ما قبل الإطاحة بنظام الأسد

قبل الإطاحة بنظام بشار الأسد، كانت المعادلة معقدة، بسبب ضعف النظام السياسي، وحاجته لتبرير استمراره في ظل تحولات دولية وإقليمية متسارعة،  فقد كان نظام بشار  الأسد يشتغل بتكتيكين متناقضين تماما: تكتيك تقليدي، يراهن فيه على تحالفه مع إيران وروسيا، وبمقتضاه، يسمح النظام  السوري لإيران بنفوذ أمني وعسكري كبير مع تـأمين تدفق السلاح إلى حزب الله، الذي بدوره استثمر ضعف النظام السياسي في مواجهة المعارضة والمناخ الدولي، وأصبح فاعلا ميدانيا قويا في  القصير وحمص وحلب ما بين 2012 و 2019، إلى أن فرضت عليه الحرب الإسرائيلية على لبنان عودة مقاتليه إلى جنوبه. التكتيك الثاني، ظهر بالتحديد مع إعلان الإمارات العربية المتحدة تطبيع علاقتها مع دمشق، وإعادة فتح سفارتها بها سنة 2018، إذ كانت نية الإمارات، أن تفتح للنظام السوري خيارا آخر، للحفاظ على وجوده، دون السقوط الكلي في الحضن الإيراني، وبدأ الاستثمار من تلك الفترة بورقة تحالف سوري عربي، بدعم أمريكي إسرائيلي، ينهي عزلة النظام السوري من خلال عودة دمشق إلى الجامعة العربية.

وهكذا، فقد باركت كل كن البحرين وعمان عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وتبنت الأردن، جزءا من هذه الرؤية، لكن أفق نظرها، كان يتجه أكثر إلى تقليص النفوذ الإيراني، ودفع الدول الغربية إلى تخفيف العقوبات الدولية على دمشق، ودعم عودتها للجامعة العربية مقابل تعاونها في التحرر من الهيمنة الإيرانية خاصة في المجال الأمني والعسكري، وقد ظهر ذلك بوضوح في خارطة الطريق الذي اقترحها الملك عبد الله الثاني على الرئيس الأمريكي جو بايدن، في واشنطن في تموز 2021، وضمنت هذه الخارطة ضرورة تعاون روسيا في هذا السيناريو.

وقد كان المؤمل في القمة العربية بالجزائر أن تنهي مشكلة وجود دمشق خارج الجامعة العربية بحكم التحركات العربية الكثيفة التي سبقت القمة، لكن الظاهر أن بشار الأسد لم يقدم التزامات واضحة بشأن فتح النسق السياسي وإشراك المعارضة السورية، مما دفع كلا من السعودية ومصر وقطر للتحفظ، فلم تنجح قمة الجزائر المنعقدة في 2022 في إعادة دمشق للجامعة العربية.

من المرجح أن تغير الموقف السعودي، بعد اتفاقها لاستئناف العلاقات مع إيران بوساطة صينية في مارس 2023، ساعد في الدفع بقوة في اتجاه استعادة دمشق لمكانها في الجامعة العربية، وهي الخطوة التي تطورت بشكل تدريجي، إلى أن أصبحت حقيقة في قمة جدة التي انعقدت في ماي 2023. تلك القمة، التي-وإن رسمت حضور نظام الأسد فيها-إلا أنها أبقت الباب مفتوحا لمواقف عربية تتأرجح بين والتطبيع وعودة العلاقات بشكل سلس، وبين التطبيع المشروط بالتزامات واضحة من لدن نظام الأسد بإشراك المعارضة السورية في الحكم وإحداث مصالحة سياسية شاملة.

من الواضح أن التحول في الموقف العربي، الذي قد يبدو مندرجا ضمن التكتيك الثاني، لم يكن كله، على نسق واحد من الرؤية الاستراتيجية، فالإمارات، لم تكن معنية كثيرا بفكرة المصالحة السياسية وإشراك المعارضة السياسية في الحكم، وإنما كانت معنية بدرجة أولى باستبدال وجهة النظام السوري من إيران إلى إسرائيل، بينما توحد الموقف العربي بجميع مكوناته على مستوى هدف تقليص النفوذ الإيراني، مع تقديم التزامات سورية واضحة بخصوص العملية السياسية، وموقع المعارضة فيها، وقضية المصالحة السياسية.

الموقف التركي في سوريا، تدرج هو الآخر بشكل كبير إلى أن وصل إلى لحظة إسناد كلي للمعارضة المسلحة، فمن المطالبة بإصلاحات جذرية في النظام مع بداية الثورة السورية 2011، انتقل إلى دعم المعارضة، والدفع بحل سياسي مشروط برحيل رأس النظام بشار الأسد، ليتغير الموقف بشكل سريع إلى تدخل عسكري مباشر في الأراضي سنة 2016 ضمن ما أسمته تركيا بعملية "درع الفرات" تحت حجة حماية أمنها القومي من الإرهابين: إرهاب تنظيم الدولة والإرهاب الذي تشكله قوات سريا الديمقراطية.

وقد شكلت محادثات أستانا2017 محطة أساسية لتغير آخر في الموقف التركي، لجهة التخلي عن شرط سوريا من غير بشار الأسد. وعلى الرغم من انخراط تركيا في لقاءات مع سوريا على عدة مستويات عسكرية وأمنية واستخباراتية برعاية روسية، إلا أن اشتراط بشار الأسد في كل لقاء إمكان التوصل إلى خارطة طريق تنهي التوتر بين البلدين شريطة انسحاب انقرة من جميع الأراضي السورية، لم يكن يجد صدى لدى أنقرة، التي كانت تنظر لتدخل جيشها في سوريا على اعتبار أنه يمثل جوابا استراتيجيا عن أمنها القومي ضد الإرهاب، وقوات سوريا الديمقراطية، التي كانت في حالة تنسيق كلي مع نظام الأسد وواشنطن وإيران لزعزعة استقرار تركيا.

سوريا الجديدة تحررت بإطاحتها لنظام الأسد من عدد من العراقيل التي كانت تمنع عودتها وانفتاحها الإيجابي مع محطيها الإقليمي والدولي، فقد زال أو تقلص إلى حد كبير محذوران: يتعلق الأول، بالخطر الإرهابي، والثاني، بالنفوذ الإيراني، وكسبت في المقابل، الدعم العربي الواسع، ثم انفتاح المجتمع الدولي عليهافي المحصلة، حصل تغيير آخر في الموقف التركي، لجهة دعوة الرئيس التركي طيب رجب أردوغان الرئيس السوري بشار الأسد للقاء مباشر لطي صفحة الخلاف وتطبيع العلاقات مع أنقرة، إلا أن إصرار بشار الأسد على رؤيته السابقة، لم تسمح له بالتقاط الإشارة، وأن أنقرة، كانت في الجوهر، بصدد إرسال الإنذار الأخير له قبل وقوع العاصفة.

الموقف الأمريكي، الذي استغل الظاهرة الإرهابية، لتثبيت وجوده في سوريا، يلعب في الظاهر على أكثر من واجهة: الأولى، استثمار الخطر الإرهابي لتثبيت شرعية وجوده  العسكري في سوريا بحجة مواجهة الدولة الإسلامية ومكافحة بقايا القاعدة، والثانية، توجيه البوصلة إلى مصادر الطاقة في سوريا، ثم الثالثة العمل على تقليص النفوذ العسكري الإيراني عبر توجيه الضربات العسكرية لبعض مواقعه في سوريا، والرابعة، منع أي توسع للنفوذ الروسي بسوريا، والخامسة منع  تركيا من التوسع الإقليمي بتشغيل ورقة قوات سوريا الديمقراطية،  وهذا ما يفسر انتشار معظم القواعد والنقاط العسكرية الأمريكية بشكل رئيسي في المنطقة الشمالية الشرقية.

بالنسبة للموقف الروسي، فلم يكن رهان موسكو على أكثر من الحفاظ على قاعدتها العسكرية في حميحيم، ومراكز نفوذها في طرطوس، وقد ربطت حمايتها للنظام، بدرجة دفاع النظام عن نفسه، وجاهزية جيشه لهذه المهمة، ودخلت في تفاهمات مع كل من إيران وتركيا وسوريا (اتفاق أستانا)، لترسيم نفوذ كل طرف على حدة، ومنع تحول الصراع إلى الواجهة العسكرية.

بالنسبة للموقف الإسرائيلي، فمن الواضح، أنه كان الأعقد، فقد كان من جهة يخشى من تغول النفوذ الإيراني في سوريا، وتحويلها إلى ممر لتدفق الأسلحة إلى حزب الله، كما كانت في قمة الانزعاج من وجود حزب الله على الأراضي السورية المحاذية للحدود اللبنانية. ومن جهة ثانية، كانت لا تخفي انزعاجها من توسع النفوذ التركي في سوريا عبر حجة المنطقة الأمنية العازلة، وأبقت في الجهة الثالثة، على حبل الاتصال مفتوحا مع موسكو، لإبقاء النظام في دائرة الحياد اتجاه إسرائيل، ومع واشنطن لدعم قوات سوريا الديمقراطية بما يسمح لتقويض الأهداف الاستراتيجية التركية في المنطقة. وفي المحصلة، فإن تل أبيب كانت لا تريد استبدال خطر شيعي ترعاه إيران، بخطر سني ترعاه تركيا.

في الواقع، اختار نظام بشار الأسد في مواجهة هذه المعادلات ثلاثة خطوط رئيسة: الإبقاء على خط التحالف الأمني والعسكري والاستخباراتي مفتوحا مع كل من إيران وروسيا لكن دون تحويل سوريا إلى جبهة إسناد للمقاومة الفلسطينية، ووحدة الهدف مع كل من إيران واشنطن وإسرائيل وإيران لدعم قوات سوريا الديمقراطية ضد الأهداف الاستراتيجية التركية، والاشتغال على فتح قنوات التواصل مع العرب، وأيضا مع إسرائيل بشكل سري  وبوساطة إماراتية، لعودة سوريا إلى الجامعة العربية، عبر ورقة التحرر من التغول الإيراني بديلا عن تقديم التزامات سياسية بإشراك المعارضة  السورية.

سوريا الجديدة.. نقاط الضعف وأوراق التفاوض

من المؤكد بأن سوريا الجديدة تحررت بإطاحتها لنظام الأسد من عدد من العراقيل التي كانت تمنع عودتها وانفتاحها الإيجابي مع محطيها الإقليمي والدولي، فقد زال أو تقلص إلى حد كبير محذوران: يتعلق الأول، بالخطر الإرهابي، والثاني، بالنفوذ الإيراني، وكسبت في المقابل، الدعم العربي  الواسع، ثم انفتاح المجتمع الدولي عليها، وعلى إمكان دعمها لتجاوز المرحلة الانتقالية، ووضع الأساس المتين لبنيانها الدستوري والمؤسساتي والسياسي، لكن، مع ذلك، ثمة عدد من النقاط التي لا تزال تشكل  نقاط ضعف، تحاول الأطراف الدولية السابقة استثمارها في المرحلة السابقة، فالمجتمع الدولي على سبيل المثال، وإن تم تحقيق هدف تقليص النفوذ الإيراني، وحتى الروسي، فإنه، أصبح يضع في مقابل رفع العقوبات على سوريا شروطا أخرى سياسية واجتماعية وثقافية وحقوقية، تصل في أحيان كثيرة حد التدخل في المرجعية الثقافية للمجتمع، وفرض مرجعية أخرى بديلة.

على أن قضية رفع العقوبات الدولية ليست هي نقطة الضعف الوحيدة، فثمة إلى جانبها، نقطة ضعف أخرى، تتمثل في الشروط الاقتصادية والاجتماعية، فسوريا الجديدة، أطاحت بنظام بشار الأسد، ووجدت أمامها واقع انهيار البنية التحتية، وتدهورا في العملة والناتج الزراعي والصناعي، وأيضا في مجال الطاقة وما يتركه ذلك من آثار اجتماعية. فسوريا التي تملك إمكانات كبيرة على مستوى النفط والغاز، تعاني أزمة البنيات التقليدية في قطاع الطاقة، وتعاني من جهة تأثير العقوبات الدولية التي تمنع دخول الشركات الدولية لإعادة تهيئة آبار النفط.

نقطة الضعف الثالثة، تتمثل في ضيق الخيارات، فهي من جهة بين المحور الغربي (واشنطن والاتحاد الأوربي)، وبين المحور الشرقي (روسيا والصين)، وفي الوقت الذي يشترط المحور الغربي، عليها تقليص النفوذ الروسي، واختبار النموذج السوري في كل مستوياته، وبخاص مستواه الإيديولوجي، تحرص موسكو من خلال زيارة نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، على إبداء مرونة كبيرة، من أجل الحفاظ على امتيازاتها اقتصادية ووجودها العسكري بسوريا. أما الصين، فتبدو الأكثر مرونة، فهي مستعدة لتقديم دعمها لسوريا من غير شروط، فرؤية الصين، تراهن أكثر على المدى البعيد، وبالأخص على تطوير العلاقات بين البلدين في كل مستوياتها، وبالخص المستوى الاقتصادي والتجاري.

نقاط ضعف لا تمنع تحريك أوراق تفاوض مهمة

ومما يزيد من ضيق هذه الخيارات، أن سوريا الجديدة مرتبطة بشكل أو بآخر بتركيا، وهي بهذا الاعتبار، لا يمكن أن تؤسس لمفردات سياسية خارجية جديدة، بعيدا عن السياسة الخارجية التركية نفسها.

ومع أن نقاط ضعف كهذه، تكبل يد الخارجية السورية، وتعيق فاعليتها، فإن ذلك لا يمنع الإدارة السورية الجديدة من تحريك أوراق تفاوض عدة، بعضها أقوى من بعض بحسب الفاعل الدولي أو الإقليمي الذي تتفاعل معه.

سوريا الجديدة تحتاج الإبقاء على علاقة استراتيجية مع روسيا لاعتبارين اثنين، أولهما حتى تمارس لعبة التوازن مع المحور الغربي، والثانية، لأن روسيا ظلت تمثل الممون الأساسي للترسانة العسكرية السورية، مما يعني أن هناك حاجة إليها لصيانة هذه الترسانة وتقويتها، قبل أن يتقوى اقتصاد سوريا وتحدد وجهتها الجديدة لتلبية حاجتها من السلاح.فروسيا على سبيل المثال، والذي تصر أن ترسم وضعها النهائي مع سوريا الجديدة خلال هذا الأسبوع من خلال زيارة نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، حركت معها الإدارة الجديدة ورقتين ثقيلتين: الأولى، إلغاء عقد مع شركة روسية لإدارة وتشغيل ميناء طرطوس (غربي البلاد) تم توقيعه في عهد الرئيس بشار المطاح به بشار الأسد، والثانية، هو مطالبة روسيا برأس الأسد.

سوريا الجديدة تحتاج الإبقاء على علاقة استراتيجية مع روسيا لاعتبارين اثنين، أولهما حتى تمارس لعبة التوازن مع المحور الغربي، والثانية، لأن روسيا ظلت تمثل الممون الأساسي للترسانة العسكرية السورية، مما يعني أن هناك حاجة إليها لصيانة هذه الترسانة وتقويتها، قبل أن يتقوى اقتصاد سوريا وتحدد وجهتها الجديدة لتلبية حاجتها من السلاح.

سوريا الجديدة، عقدت بدون شك بعض أهداف واشنطن، خاصة ما يتعلق بأدوار قوات سوريا الديمقراطية، فالإدارة الجديدة، تبدو مصرة أكثر من أي وجه ومضى على خوض معركة حاسمة مع هذه القوات التي رفضت أن تلقي بسلاحها، وهي ورقة قوية أثبتت نجاعتها في التعاطي مع واشنطن، إذ لم يعد لواشنطن من ورقة لممارسة الضغط على سوريا،  فقد عزلت قوات سوريا الديمقراطية نفسها حين رفضت وحدها تسليم السلاح للإدارة الجديدة، واكتسب الإدارة الجديدة المبرر لمواجهتها باسم وحدة سوريا ووحدة الجهاز العسكري والأمني، وحق الدولة وحدها في احتكار السلاح.، ولعل هذا جزء مما يبرر عزم الإدارة الأمريكية في عهد ترامب سحب الآلاف من الجنود الأمريكيين بسوريا، فهي أضحت مقتنعة أو مصالحها يمكن أن ترعى بشكل أفضل عبر علاقة استراتيجية مع تركيا، وأن الاستثمار في ورقة قوات سوريا الديمقراطية، سيكون على الضد من أهدافها الاستراتيجية.

إسرائيل، فهمت الرسالة مبكرا، ولم تكتف بتحقق هدف تراجع النفوذ الإيراني في سوريا، وتوقف تدفق السلاح من سوريا لحزب الله، بل اتجهت إلى تعويض ورقتها المحترقة (قوات سوريا الديمقراطية) بالسيطرة على جبل الشيخ، واعتبار ذلك ضرورة استراتيجية لأمنها القومي، والإعلان أن وجودها بهذه المنطقة لن يكون مؤقتا بتاريخ محدد.

وإذا كانت هذه الخيارات التفاوضية متاحة، وضمن رؤية إدارة التوازن في العلاقات الخارجية بين محوري الغرب والشرق، فإن أكبر نقطة قوة تملكها سوريا الجديدة، هو علاقتها الاستراتيجية مع تركيا، والمستقبل المفتوح للعلاقة مع العراق، والدعم العربي لعودة سوريا موحدة وقوية إلى حضنها العربي. ما عدا ذلك، فإن الوقت يمثل جزءا أساسيا من الحل.

وبالمناسبة، فالوقت ليس فقط سلاحا بيد الغرب وحده، ولكنه قد يكون أيضا سلاحا سوريا، فسوريا الجديدة، بالتأكيد، لن تبقى مكتوفة اليد إزاء انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي لمختلف الاتفاقات الدولية، فقد طالبت خلال استقبالها وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لعمليات السلام، جان ليار لاكروا، القوات الإسرائيلية بالانسحاب من الأراضي التي توغلت إليها في جنوب البلاد،  كما نقلت وسائل الإعلام عن عدم التوصل لأي اتفاق بينها وبين روسيا، وأن القضية الوحيدة التي تم فيها التوصل إلى اتفاق هو إبقاء المجال مفتوحا للنقاش السياسي بين الطرفين، مما يعني بأن هناك وعيا سوريا مهما بأهمية الزمن، سواء في تفويت الفرصة على الأعداء، أو إعطاء  فرصة لبناء العلاقة مع الحلفاء، أو  البحث عن منطقة وسط، لبناء توازن الموقف المطلوب.

من الواضح أن الغرب يلعب بالوقت من أجل ربط العقوبات باستحقاقات غير ذات شرعية دولية، كما تلعب إسرائيل على الورقة نفسها لتبرير سيطرتها على أطراف من اراضي سورية بحجة  ضمان أمنها القومي،  لكن، في حالة إصرار سوريا الجديدة على حقها في رفع العقوبات، وعدم ربط ذلك بأي مشترطات خارج الشرعية الدولية، فإنه من غير الواضح إن كان الغرب سيبقى على نفس موقفه، خاصة وأن الغرب يتخوف من أن يتعمق ارتهان سوريا للمحور الشرقي، ولذلك، ربما كان من حكمة الإدارة السورية، إبطاء الحوار مع روسيا مع إصرار موسكو على حسم جميع الملفات مع الإدارة السورية، وذلك في رسالة موجهة للمحور الغربي، بأن التلكؤ في عدم رفع العقوبات، يمكن أن يضطر سوريا للذهاب في اتجاه يكون معاكسا تماما للتطلعات الغربية.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير سوريا سياسة التحولات سوريا سياسة رأي تحولات أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة قوات سوریا الدیمقراطیة العقوبات الدولیة الجامعة العربیة الإدارة الجدیدة النفوذ الإیرانی الأمنی والعسکری نظام بشار الأسد المحور الغربی سوریا الجدیدة استراتیجیة مع رفع العقوبات نظام الأسد الثورة إلى التی کانت من إیران مما یعنی فی سوریا عدد من من جهة

إقرأ أيضاً:

إرث سام .. إمبراطورية الأسد نهبت سوريا وتركت الشعب يتسول

سرايا - من مقارّها في تلال وعرة مشرفة على دمشق، استنزفت الفرقة الرابعة، إمبراطورية ماهر الأسد شقيق الرئيس المخلوع بشار الأسد، الاقتصاد السوري، فنهبت مقدراته واستنفدته حتى آخر قطرة.



بعد إطاحة حكم الأسد، تعرض الكثير من مقار تلك الوحدة العسكرية السيئة السمعة التي أثارت الرعب في سوريا، للنهب. لكن مستندات متناثرة داخلها تروي تفاصيل عن حياة ترف وثروات تمتع بها "سيدي المعلم"، أي ماهر الأسد، مع المحظيين من معاونيه، فيما كان بعض جنوده يكافحون لتأمين قوت عائلاتهم إلى حد التسوّل.



وتكشف مجموعة وثائق اطلعت عليها وكالة فرانس برس داخل عدد من هذه المواقع المهجورة الآن، النقاب عن إمبراطورية اقتصادية واسعة بناها ماهر الأسد وشبكته من المنتفعين، لم تترك مجالا لم تتدخل فيه، من صنع الكبتاغون والاتجار به وصولا إلى فرض أتاوات على المعابر الحدودية والحواجز.



ولطالما اتهمت حكومات غربية ماهر الأسد وأعوانه بتحويل سوريا إلى "دولة مخدرات" أغرقت الشرق الأوسط بأقراص الكبتاغون، وهي مادة منشطة غير قانونية كانت تهرّب خصوصا إلى الخليج.



لكن بعيدا عن التجارة التي تقدّر قيمتها بأكثر من 10 مليارات دولار، تُظهر المستندات التي تفحصتها فرانس برس كيف تغلغلت الفرقة الرابعة في الكثير من مفاصل البلد، ما جعلها أشبه بـ"مافيا" محظية داخل دولة مارقة.

 


استولت الفرقة الرابعة على منازل ومزارع، وصادرت بضائع شتى من مواد غذائية وسيارات وأجهزة إلكترونية لبيعها. ونهبت النحاس والمعادن من مناطق دمرتها سنوات الحرب الطويلة.


وفرضت كذلك أتاوات عند الحواجز ونقاط التفتيش، وجنت أموالا من مرافقة صهاريج نفط وحماية مسارها، حتى تلك الآتية من مناطق سيطر عليها المتشددون. واحتكرت أيضا تجارة التبغ والمعادن.


أنفاق وخزنات
في صلب هذه الشبكة الفاسدة، تربّع المقر الخاص لماهر الأسد فوق متاهة أنفاق محفورة في قلب جبل يعلو دمشق، يتسع بعضها لمرور شاحنة.


وقاد حارس ملثم تابع للسلطة السورية الجديدة فريق وكالة فرانس برس عبر الأنفاق، كما لو أنه دليل سياحي، مشيرا إلى حمام هنا وغرفة نوم هناك، وما بدا أشبه بمسارات خروج في حالات الطوارئ.



بعد النزول عبر سلم شديد الانحدار مؤلف من 160 درجة، توجد غرف موصدة ببوابات مصفحة.


ويقول الحارس إنه أحصى تسع خزنات داخل إحدى الغرف.

ويوضح كيف أن الخزنات تعرضت "للكسر" والنهب على أيدي أشخاص اقتحموا المكان في الثامن من كانون الأول/ديسمبر، بعد ساعات قليلة على إطاحة فصائل معارضة بقيادة هيئة تحرير الشام بحكم عائلة الأسد التي قادت سوريا بقبضة حديد لأكثر من خمسة عقود.

وبحسب مصدر عراقي رفيع المستوى ومصدرين سوريين آخرين، لم يعلم ماهر الأسد (58 عاما) حينها بعزم شقيقه الفرار إلى روسيا. وهرب بشكل منفصل في مروحية أقلته إلى العراق ومنها إلى روسيا، عبر إيران على الأرجح.

في المجمع تحت الأرض، تبدو جلية الفوضى: خزنات مفتوحة وصناديق ساعات رولكس وكارتييه فارغة مرمية في كل ناحية. ولا يتضح ما إذا كانت الخزنات قد أُفرغت من الأموال قبل نهبها أم لا.

ويشير الحارس إلى مكتب، يقول إنه "المكتب الأساسي" لماهر الأسد، مؤلف من "طابقين فوق الأرض وتحته أنفاق تضم غرفا مغلقة لا يمكن فتحها".
إلى جانب خزنة مهجورة داخل ممر، يمكن رؤية جهاز تغليف حراري جرى استخدامه على الأرجح لتغليف الأوراق النقدية.

ثروات مخفية
في أحد المستندات التي تفنّد بالتفصيل النفقات كافة، وبين مئات الأوراق المبعثرة داخل مكتب أمن تابع للفرقة الرابعة، يظهر أنه كان هناك حتى الرابع من حزيران/يونيو سيولة نقدية قدرها ثمانون مليون دولار، وثمانية ملايين يورو، و41 مليار ليرة سورية.

وتوثّق مئات المستندات احتفاظ ماهر الأسد ومكتب الأمن بمبالغ شبيهة في الفترة الممتدة بين العامين 2021 و2024.

ويقول الباحث لدى معهد كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط خضر خضور لفرانس برس "هذا ليس إلا عينة صغيرة من الثروة التي جمعها ماهر وأعوانه عبر صفقاتهم التجارية المشبوهة".

ويقدّر أن تكون ثروتهم الحقيقية مخفية "في الخارج، على الأرجح في دول عربية وإفريقية".


ويضيف "كانت الفرقة الرابعة بمثابة آلة لطباعة المال" في سوريا، حيث يعيش أكثر من 90% من السكان، وفق الأمم المتحدة، بدولارَين أو أكثر بقليل في اليوم الواحد.

دولة داخل الدولة
لم تنجح العقوبات الغربية في كبح جماح ماهر الأسد ورجاله أو الحدّ من نفوذهم طيلة سنوات النزاع.

ويقول العميد السابق في الفرقة الرابعة عمر شعبان الذي عقد تسوية مع الإدارة السورية الجديدة "كانت الفرقة الرابعة دولة مستقلة، تمتلك كل شيء".

وفي حين كان التعامل بالدولار الأميركي محظورا في سوريا، أصبح العديد "من ضباط الأمن أصحاب ثروات، لديهم خزنات وأموال بالدولار حصرا"، على حد قوله.

وأقام أعوان ماهر المقربون في قصور فاخرة، واعتادوا على شحن سيارات فارهة من الخارج، بينما كان البلد خارج أسوار قصورهم غارقا في دوامة من الفقر والبؤس والخوف.

بعد أسابيع من إطاحة حكم الأسد، كان سوريون ما زالوا يأتون إلى فيلا ماهر الأسد المشيّدة على تلة في منطقة يعفور الراقية، ويفتشون في الغرف القريبة من اسطبلات اعتادت ابنته الفائزة بجوائز عدة، ركوب الخيل فيها.

داخل القصر المنهوب، سأل رجل بانفعال فريق فرانس برس وهو ينتقل من غرفة إلى أخرى "أريد الذهب. أين الذهب؟".

لكنه لم يعثر إلا على صور قديمة مبعثرة على الأرض، إحداها لماهر وزوجته مع أولادهما الثلاثة.

"الرجل الخفي"
لطالما كان ماهر الأسد شخصية غامضة تثير الخوف في سوريا. ويُنظر إليه على أنه الرجل الذي تولّى تنفيذ "الأعمال القذرة للنظام".

ومع أن صوره غُلّقت داخل كل مقر للفرقة الرابعة، لكنه نادرا ما كان يظهر في الأماكن العامة.


ورغم اتهامه من منظمات حقوقية بإصدار أوامر لقتل متظاهرين عزل في سوريا منذ العام 2011، وربط اسمه باغتيالات، لكنه بقي بمثابة "الرجل الخفي"، وفق ما يقول مصدر مقرب من عائلة الأسد لفرانس برس.

ويوضح المصدر "ستجد قلة من الأشخاص يقولون إنهم يعرفونه" شخصيا.

في مقابلة مع قناة "العربية" مطلع شباط/فبراير، قالت مجد الجدعان، شقيقة زوجة ماهر الأسد والتي غادرت سوريا بعد خلافات معه عام 2008 وتقدّم نفسها على أنها معارضة لعائلة الأسد، إنه كان كريما وأحيانا ذا صحبة طيبة. لكن "حين يغضب، كان يفقد السيطرة بالكامل على تصرفاته وأقواله، وهذا ما كان مرعبا في شخصيته".


وكانت الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد بمثابة القبضة الحديد للنظام، وارتبط اسمها بسلسلة طويلة من الفظائع.

بعد اندلاع الحرب في سوريا، قالت جدعان في مقابلة مع تلفزيون فرنسي: "ماهر يعرف كيف يدمّر، يعرف كيف يقتل ثم يكذب ليظهر بريئا"، مشبهة قسوته بوالده الراحل حافظ الأسد.

سيارات فارهة
حين يعدّد سكان في دمشق بسخط انتهاكات الفرقة الرابعة، يتردّد اسم آخر إلى جانب اسم ماهر الأسد، هو غسان بلال، مدير مكتب الأمن في الفرقة الرابعة.

على غرار رئيسه، كان بلال مولعا بجمع السيارات الفارهة ويقيم في فيلا في يعفور. وتقول مصادر أمنية إنه غادر سوريا بعد سقوط الحكم.

داخل مكتبه الفسيح في المقر الرئيسي لمكتب الأمن، تكشف معاينة فاتورة تلو الأخرى تفاصيل أسلوب حياته الباذخ. وبين تلك الفواتير واحدة متعلقة بصيانة سيارته الكاديلاك.

في صيف 2024، شحن بلال سيارتَين من طراز ليكسس ومرسيدس، بحسب وثيقة اطلعت عليها فرانس برس. وتظهر فواتير تسديد مبلغ بقيمة 29 ألف دولار كبدل جمارك وتأمين عبر بطاقة ائتمان مسجّلة باسم شخص آخر.

وتظهر ورقة مكتوبة بخط اليد أنه كان يسدّد، بسبب خضوعه لعقوبات غربية على خلفية اتهامه بانتهاكات لحقوق الإنسان، بدل اشتراك بمنصة "نتفليكس" للأفلام "بواسطة أحد الأصدقاء عبر بطاقة ائتمان في الخارج".

وتتضمن قوائم أخرى نفقات، غالبيتها منزلية ولأولاده أو للمطبخ أو لشراء الوقود ومصاريف أملاك بينها الفيلا التي تعرضت لاحقا للنهب.

وبلغت قيمة تلك النفقات خلال عشرة أيام فقط من شهر آب/أغسطس 55 ألف دولار.

في الشهر ذاته، كتب جندي من الفرقة الرابعة إلى بلال متوسلا منحه "إعانة مالية (كونه) بوضع مادي سيئ جدا".

وقد صرف له بلال 500 ألف ليرة سورية كإعانة، أي ما يعادل حينها 33 دولارا، فيما تظهر وثيقة أخرى ضبط أحد جنود الفرقة الرابعة يتسوّل في الشوارع أثناء دوامه.

رجال المال
وتمّ إحراق آلاف المستندات والملفات، على ما يبدو، لكن العديد من الوثائق السرية التي نجت تحمل في طياتها معلومات كثيرة.

من بين الأسماء البارزة المذكورة في بعض الوثائق والتي ساهم أصحابها في تمويل الفرقة الرابعة، تبرز أسماء رجال أعمال مدرجين على لوائح العقوبات، على غرار خالد قدور ورئيف القوتلي، والأخوين قاطرجي المتهمين بجني مئات الملايين من الدولارات لصالح الحرس الثوري الإيراني والحوثيين في اليمن، عبر بيع النفط الإيراني إلى سوريا والصين.

وبحسب مصادر أمنية ومن قطاع الأعمال، تولى القوتلي إدارة نقاط تفتيش ومعابر، حيث "فُرضت أتاوات" على بضائع أو جرت مصادرتها.

ونفى قدّور الذي فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات لدعمه ماهر الأسد ماديا في تهريب الكبتاغون والسجائر والهواتف، أن يكون له أي تعامل مع ماهر الأسد حين سعى لأن تُرفع العقوبات الأوروبية عنه عام 2018.

لكنّ قائمة إيرادات المكتب الأمني لعام 2020، أظهرت أنه وفّر نحو 6,5 ملايين دولار في ذاك العام لصالح المكتب.

وتتضمن الوثيقة لائحة طويلة من المبالغ بالليرة السورية ومصادرها المتنوعة، وبينها الدخان الوطني، و"ترفيق"، أي حماية صهاريج النفط، وبيع المصادرات.

"مافيا"
ويشير خضر خضور إلى أن مكتب الأمن كان يتولى معظم المعاملات المالية للفرقة الرابعة ويصدر بطاقات أمنية للأشخاص الذين تعامل معهم لتسهيل تحركاتهم.

في 2021، قال أحد تجار المخدرات الذي يحمل جوازي سفر لبنانيا وسوريا، لمحققين لبنانيين إنه استحوذ على بطاقة أمنية من الفرقة الرابعة، وإن مكتب الأمن وافق على حماية شحنة مخدرات لتاجر آخر مقابل مليونَي دولار، بحسب إفادة اطلعت عليها فرانس برس في حينه.

وتؤكد مصادر أمنية عدّة لفرانس برس أن بلال كان الشخص الأساس في تجارة الكبتاغون لدى الفرقة الرابعة، واتهمته وزارة الخزانة الأميركية بالفعل بأنه من اللاعبين الرئيسيين في تلك التجارة.

وزارت فرانس برس مصنعا لإنتاج الكبتاغون داخل فيلا استولت عليها الفرقة الرابعة في بلدة الديماس بريف دمشق قرب الحدود مع لبنان. وكانت غرفها مليئة بصناديق وبراميل من مواد الكافيين والإيثانول والباراسيتامول المستخدمة في صنع المخدر.

ويقول سكان محليون إنه لم يُسمح لهم أن يقتربوا من الفيلا، وكان يُمنع حتى على الرعاة التواجد في التلال المحيطة.

ويقول ضابط سابق أمضى جزءا من خدمته في مكتب الأمن دون الكشف عن اسمه، إن المكتب كان يتمتع بـ"حصانة وكان ممنوعا على أي جهة أمنية التعرّض لأي عنصر إلّا بموافقة ماهر".

ويضيف "كانت مافيا، وكنت أعلم أنني أعمل لدى مافيا".

"تركوا الشعب يجوع"
وطارد جشع الفرقة الرابعة عائلات على مدى عقود، كما تُظهر رسالة كتبها عدنان الديب، وهو مشرف على مقبرة في مدينة حمص (وسط).

عند حاجز مهجور للفرقة الرابعة قرب دمشق، وبين مئات المستندات المتسخة والمرمية أرضا، عثر فريق فرانس برس على رسالة من ديب يطلب فيها من الفرقة الرابعة استعادة مزرعته.

ويروي الديب لفرانس برس كيف أن الفرقة الرابعة صادرت فيلا تملكها عائلته وقصورا أخرى مجاورة قبل عشرة أعوام في قرية كفرعايا قرب حمص.

ورغم عدم السماح له بالاقتراب من ممتلكاته، كان على الديب دفع الضرائب المتوجبة على العقار الذي حولته الفرقة الرابعة بحسب قوله، إلى مكاتب، بينها أحد فروع مكتب الأمن، ومستودعات للمواد المصادرة، وغرفة أشبه بسجن.

خلال جولة في العقارات المصادرة، يقول أحد السكان لفرانس برس "مكتب أمن الرابعة هنا كان خطا أحمر لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه".

ويروي كيف وجد بعد فرار العناصر كمية هائلة من البضائع المصادرة وبينها سيارات ودراجات نارية ومئات غالونات زيت القلي.

ويضيف "تركوا الشعب يجوع فيما كان كل شيء متاحا لهم هنا".

وتُظهر وثيقة من أحد العقارات المصادرة، أن مواطنة بلغ عدد أفراد عائلتها 25 شخصا، كان قسم منهم يقيم في خيمة وآخرون في "قنن للدواجن"، طلبت أكثر من مرة أن يخلي عناصر من الفرقة الرابعة منزلها لتقيم فيه مع عائلتها.

حصة الأسد لبشار
لم تسيطر الفرقة الرابعة على أي قطاع في الاقتصاد السوري بقدر سيطرتها على سوق المعادن.

ويقول العميد الشعبان "كان ممنوعا أن يحرّك أحد الحديد من دون موافقة الرابعة"، مضيفا أن التعامل بالنحاس مثلا كان حقا "حصريا" لها.

ويروي الضابط في مكتب الأمن الذي رفض الكشف عن اسمه، كيف توافد عناصر من الفرقة إلى إحدى ضواحي دمشق بمجرد سيطرة القوات الحكومية عليها حينها، وبدأوا يسحبون أسلاك النحاس والحديد من المنازل المدمرة.

ويقول رئيس غرفة الصناعة السابق فارس الشهابي إن أحد مصانع المعادن الذي كان يديره أحد شركاء ماهر الأسد، كان يحتكر السوق، وأُجبر الجميع على الشراء منه حصرا. و"لم يعد بإمكان" العديد من المعامل العمل جراء هذا الضغط، وفق الشهابي.

ويوضح أن ماهر الأسد و"أصدقاءه" كانوا يسيطرون على حصة كبيرة من الاقتصاد السوري، لكن المستفيد الأكبر كان بشار الأسد.

ويقول الشهابي "كانت شركة واحدة... والقصر الرئاسي كان دائما المرجع".

ويؤكد الضابط السابق في مكتب الأمن أن حصة من الأرباح والمضبوطات كانت تذهب دائما إلى القصر الرئاسي.

إرث سام
ورغم أنه لم يتبق من الفرقة الرابعة اليوم إلا مستودعات مهجورة ومقرات منهوبة، يحذر الخبير في الشأن السوري لارس هاوخ من مؤسسة "كونفلكت ميدييشن سولوشنز"، من أن إرثها قد يكون ساما جدا.

ويقول "كانت الفرقة الرابعة لاعبا عسكريا، وجهازا أمنيا، وكيانا استخباراتيا، وقوة اقتصادية وسياسية، ومؤسسة إجرامية عابرة للحدود".

ويضيف "مؤسسة ذات تاريخ يمتد لعقود، وقدرات مالية هائلة، وعلاقات وثيقة مع النخب، لا يمكن أن تختفي ببساطة".

وينبه إلى أنه "فيما فرّت القيادة العليا من البلد"، فقد تراجعت "نواتها الصلبة"، ومعظمهم من الموالين للحكم السابق، إلى المناطق الساحلية ذات الغالبية العلوية، الطائفة التي تنتمي إليها عائلة الأسد.

ولا يستبعد هاوخ وجود أسلحة مخبأة في مخازن، تضاف إليها "مليارات الدولارات" التي كانت موضّبة في خزنات الفرقة الرابعة.

وينبّه من أن "كل ما يلزم لتمرد طويل الأمد متوافر... إذا فشلت عملية الانتقال في سوريا في أن تكون شاملة بالفعل وتحقق العدالة الانتقالية".

إقرأ أيضاً : مصر .. محاكمة وائل غنيم بسبب تركي آل الشيخإقرأ أيضاً : رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت: يجب طرد نتنياهوإقرأ أيضاً : الاحتلال يكشف تفاصيل مقترح تمديد الهدنة ونتنياهو يهدد بالتصعيد



تابع قناتنا على يوتيوب تابع صفحتنا على فيسبوك تابع منصة ترند سرايا
وسوم: #النفط#روسيا#الخليج#سيارات#مصر#إيران#لبنان#مدينة#العراق#سوريا#اليوم#الدولة#أمن#العمل#الاحتلال#الشعب#قلب#الجميع#جبل#رئيس#الوزراء#الرئيس#القوات#الذهب#اليمن#الخاص#شهر



طباعة المشاهدات: 640  
1 - ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه. 03-03-2025 11:35 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
رد على :
الرد على تعليق
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
اضافة
قصة الفانوس .. تاريخه وكيف أصبح من طقوس رمضان؟ وفاة 13 شخصاً بحادث مروع في مصر حالة طبية غريبة .. سكتة دماغية تزيد رغبة مريض في العطاء كيف تتجنب فخ التسوق العاطفي في رمضان؟ نصائح للتحكم في قراراتك الإعلامي إبراهيم شاهزادة يستغيث: "أرحموا عزيز... بالفيديو .. رحيل الغرايبة يهاجم عثمان الخميس:... بن سلمان يسأل ماذا يُريد عباس؟ .. خفايا وكواليس... وسم " عثمان خميس" يتصدر منصات التواصل... بالفيديو .. وفاتان و3 إصابات في حادث تدهور مركبة... الشرطة الإسرائيلية: تم تحييد منفذ عملية الطعن في حيفا مصر .. محاكمة وائل غنيم بسبب تركي آل الشيخرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت: يجب...الاحتلال يكشف تفاصيل مقترح تمديد الهدنة ونتنياهو...قطر تُطالب بتدخل دولي لضمان وصول آمن للمساعدات... الاتحاد الأوروبي يدين منع "إسرائيل" دخول...خرجت عن السيطرة .. اندلاع 175 حريقا في غابات ولاية..."ستارمر " يرفض إلغاء الدعوة الموجهة..."وزير الدفاع الأمريكي" يرد على هيلاري... "من لا أخلاق له لا قيمة له": فمن تقصد هنا... "أحمد فهمي" يكشف سراً عن طلاقه من هنا... في خطوة تضامنية لافتة .. ممثل شهير يعلق شعار... بعد أن كلمت صورته في مسلسلها .. تامر حسني يوجه... طلاسم مسلسل "المداح" تثير الجدل في مصر ..... بسبب تعليقه "زينة رمضان" .. محمد صلاح يقلق جماهير ليفربول نيمار يواصل الضغط للعودة .. وبرشلونة: مجاناً وبشروطنا بعد التدخل المتهور .. 25 "غرزة" في أذن مهاجم كرستال بالاس غياب رونالدو عن مواجهة استقلال طهران برشلونة يكتسح سوسييداد وينفرد بصدارة الدوري الإسباني في أول أيام رمضان .. يقتل والده ويحرق جثته في مصر في مزاد علني كوبي .. بيع مرطب سيجار فاخر بـ4.77 ملايين دولار طالبة تحل مشكلة رياضية عمرها 100 عام أصغر مصاب بالزهايمر في العالم يغير نظرة العلماء للمرض حزام بطل العالم على طاولة ترامب .. هدية زيلينسكي تثير الجدل شابة تركية احتفظت بجثة رضيعتها في حافظة ماء إيلون ماسك يستقبل مولوده الـ14 في أول أيام رمضان .. رجل يقتل والده ويحرق جثته! سفينة فاخرة في مهب الريح بالفيديو .. إشتعال النيران بطائرة "بوينغ" وهي في السماء

الصفحة الرئيسية الأردن اليوم أخبار سياسية أخبار رياضية أخبار فنية شكاوى وفيات الاردن مناسبات أريد حلا لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر(وكالة سرايا الإخبارية) saraynews.com
الآراء والتعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها فقط
جميع حقوق النشر محفوظة لدى موقع وكالة سرايا الإخبارية © 2025
سياسة الخصوصية برمجة و استضافة يونكس هوست test الرجاء الانتظار ...

مقالات مشابهة

  • دوغين: روسيا لن تسلم بشار الأسد للإدارة السورية الجديدة تحت أي ظرف (شاهد)
  • صفورية التي كانت تسكن تلال الجليل مثل العصفور.. جزء من هوية فلسطين
  • مدينة جرمانا السورية.. جارة الفيحاء
  • إرث سام .. إمبراطورية الأسد نهبت سوريا وتركت الشعب يتسول
  • الشركات السورية تكافح مع وفرة السلع المستوردة وتعثر الاقتصاد
  • الرئيس السوري يكلف لجنة بمهمة صياغة مسودة إعلان دستوري  
  • انتقاد إسرائيلي لتزايد نقاط الضعف بالجيش.. هل فشل في استخلاص الدروس من المواجهات؟
  • مشاهد جوية ترصد الجيش الإسرائيلي في ثلاث نقاط بالقنيطرة السورية
  • رايةٌ في الرمال.. مستقبل تنظيم الدولة في سوريا الجديدة
  • سوريا تستقبل شهر رمضان دون نظام المخلوع بشار الأسد