لا لن يستمر التيه فبالإسلام قد وضح المسار

#الشيخ_كمال_الخطيب


✍️إن ما هو أخطر من المرض نفسه هي تلك المكابرة والمعاندة ورفض المريض الإقرار بمرضه، لأن هذا سيكون سببًا في انتشار المرض وتفشّيه وبالتالي صعوبة علاجه، والعكس هو الصحيح، فإن من أهم أسباب شفاء المريض بإذن الله تعالى، هو إقراره واعترافه بمرضه وعدم المكابرة، لأن هذا الاعتراف سيجعله يذهب إلى الطبيب وسيسهّل على الطبيب وصف الجرعات الدوائية المناسبة له حيث سيلتزم بأخذها في وقتها.


✍️ أما إذا لم يقرّ المريض بمرضه فإنه لن يذهب إلى الطبيب، وإذا ذهب تحت ضغط وإلحاح الأهل، فإنه سيتهرب من أخذ العلاجات ولو كانت من أثمن أنواعها ومن أشهر وأجود الماركات والمختبرات العالمية، وهذا معناه تفشّي المرض وزيادة ومضاعفة آلامه وخطورته ولعلّه يقود إلى الموت.
✍️ومثل الأفراد فإنها الأمم والشعوب المكلومة والمنكوبة فإنه لن يغيّر من حالها، ولن يشفي جراحها، ويخلّصها من نكباتها، ويحررها من ذلها وهوانها، إلا أن تعترف بالواقع المرّ والمؤلم الذي هي عليه، وأن الحال الذي تعيشه ليس هو ما كانت عليه سابقًا، حيث وضعها الطبيعي هو القوة والعزّة والمنعة والرفعة، وأن الاعتراف والإقرار بتغيير الحال سيجعلها تبحث عن الأسباب وتبحث عن العلاج المناسب الذي يشفيها ويداوي جرحها ويخلّصها مما هي فيه.
✍️وإن أمتنا العربية والإسلامية ليست بدعًا من الأمم، ولا أن هذه السنّة الكونية لن تصيبها، ولا أن الأمراض لن تتفشى فيها. لقد أصابها كل هذا وأكثر منه وقد أثخنتها الجراح بفعل سهام طعنها بها بعض أبنائها قبل أن يطعنها أعداؤها. إنهم الأبناء الذين ارتموا في حضن الأعداء، ورضعوا من الحليب الفاسد والمغشوش الذي أفسد عليهم دينهم وأخلاقهم. هؤلاء بعد أن أُوصِلوا إلى مواقع القيادة، فقد أصبحت وظيفتهم المزيد من الإثخان والمزيد من الطعن في جسد الأمة عبر سعيهم من خلال المقدّرات المالية والإعلامية والعسكرية التي بين أيديهم، وترسيخ أن ما عليه الأمة الآن هو خير بل هو الخير كله، وأن هذا هو الشفاء والدواء لما كانت عليه في تاريخها وماضيها الذي يعتبرونه تاريخًا غير مشرف ويجب أن يتخلّصوا وينسلخوا منه. إن هؤلاء قد أصبحوا أداة لجعل شعوبهم مختبرًا يجري عليه وفيه الأعداء نظرياتهم السياسية والأخلاقية الفاسدة.
✍️ تقول الأخت الفاضلة بنت الشام يمان السباعي في كتابها الرائع -الراقصون على جراحنا-: “إن الأمم تداوي جراحها بينما نحن نمسك المُدى -أي السكاكين- لنوسع الجرح ونجعله ينزف وينزف حتى يغرقنا بدماء العار. إن جراحنا تنوّعت وتعدّدت ومنها ما تعفّن، إنها جراح سياسية واجتماعية وأخلاقية واقتصادية وأدبية، ورغم هذه الجراح، فما يزال من شبابنا من هم صور منسوخة عن أحد المائعين المنفلتين العابرين إلينا عبر الأثير، لا يعرفون إلا الرقص والغناء ولا يجيدون إلا لغة الحبّ والغرام، وكلهم يحملون سلاحًا واحدًا إنه المرآة والمشط”، ولعلّ في أمثال هؤلاء يصدق قول الشاعر:
بكى الخنفوس لما جنّدوه وساقوه إلى ساح الجهاد
وأضحى يلطم الخدّين حزنًا كأرملة أقامت في الحداد
أيذهب للوغى من كان خنثى وساحته المقاهي والنوادي
إذا دقّت طبول المجد يومًا ولبينا نداء للمنادي
فأعط الخنفس المخبول مشطًا ومرآة فذاك من العتاد
✍️مع الأسف لم يعد أمثال هؤلاء يصلون إلى مجتمعاتنا عبر الأثير على الشاشات فقط، وإنما يُستقبلون في دولنا العربية والإسلامية استقبال الأبطال والفاتحين. إن أمثال هؤلاء من المغنين والراقصين المخنّثين والمصارعين وعارضي الأزياء والممثلين، أصبحوا ترسل إليهم الطائرات الخاصة ويعطون بل تُغدق عليهم الأموال الطائلة ليقيموا الحفلات قريبًا من مكة المكرمة والمدينة المنورة حيث يراد لهم أن يكونوا هم القدوات والنماذج بدل أعظم القدوات والرجال محمد ﷺ ثم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وسعد والمثنى وطارق وصلاح الدين، بل بدل سيد السادات وقدوة القدوات محمد ﷺ.
????جرعات من بلسم الإسلام
✍️إن الواقع وإن العقل وإن المنطق وإن التاريخ، ليؤكد على أن أمتنا ومنذ عقود كثيرة فإنها تعاني من ظاهرة مرضية خطيرة، وإن ما هي عليه الآن من ذلّ وهوان وفرقة وتسلّط أعداء هو من آثار ومظاهر المرض، وأنها أحوج ما تكون لجرعات دوائية قد تداوي مرضها وتداوي جرحها. إنها أحوج ما تكون إلى جرعات كالتي أخذتها يومًا، إنها جرعات من بلسم الإسلام والقرآن ليهديها من ضلالة، ويعلّمها من جهالة، ويرفعها من سفالة، ويعزّها من نذالة، ويحرّرها من عمالة، ويخلّصها من حثالة، ولتعود تتقدم قافلة الإنسانية كما كانت وترعى الأمم والبشر وليس الشاة والبقر.
وما أصدق ما قاله الشاعر في بيان المرض الذي أصاب أمتنا والدواء الذي يُذهب عنها مرضها:
الله للدين كم ظلمًا أهين وكم ظنّوه نقصًا وفي التفكير نقصان
سل صفحة الأمس عمّن أيدوه أما كانت لهم في نواحي الأرض تيجان
دين الحضارة والأخلاق أسعدهم فمذ أهانوه قد ذلّوا وقد هانوا
عدل من الله تأييدًا لسنته حظّ المقصّر إقصاء وحرمان
يا قوم لوذوا بحبل الله واعتصموا إن الدواء لداء العُرب قرآن
✍️وحتى لا يستمر الهوان، وحتى لا يتفشى المرض، وحتى يتوقف النزيف، فلا بد من الاعتراف والإقرار بوجود المرض. وبعد الإقرار بوجود المرض، وبعد أن جُرّبت كل الأدوية والعلاجات وكلها فشلت، فلا بد من الإقرار أن العلاج والبلسم والدواء لما عليه أمتنا فإنه ليس إلا بالرجوع إلى الدين والتمسك بأهداب الشريعة، قال ﷺ: “تركت فيكم لن تضلوا ما إن تمسّكتم به، كتاب الله وسنتي”. وقال عمر رضي الله عنه: “كنا معشر العرب أذلّ قوم فأعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغير الإسلام أذلنا الله”.
يقول الشاعر والصدق فيما يقول:
شريعة الله للإصلاح عنوان وكل شيء سوى الإسلام خسران
تاريخنا من رسول الله مبدؤه وما سواه فلا عزّ ولا شان
✍️نعم إنها الشريعة كتاب الله وسنة رسوله ﷺ هي الدواء وهي الشفاء والبلسم، فليس أن بتركها يكون الذلّ والهوان والضياع، بل إنه الأصعب من ذلك، إنه سؤال الله جل جلاله لنا عن ذلك وإنه عتاب رسول الله ﷺ يوم القيامة:
ماذا نقول لربي حين يسألنا عن الشريعة لم تحيِ معانيها
ومن يجيب إذا قال الحبيب لنا أذهبتموا سنتي والله محييها
???? حتى لا نظلّ أصفارًا
✍️قال المرحوم الشيخ محمد الغزالي: “والذين يرجعون هزيمة العرب أمام الإسرائيليين وأن ذلك يعود إلى عبقرية الإسرائيليين وشجاعتهم الفريدة، إن هؤلاء فإنما يريدون الاستمرار بقصة الإستغفال لشعبنا واستمرار عدم اعترافنا بمرضنا وحاجتنا للدواء. وإن ما حصل من نكبتنا عام 1948 ونكستنا عام 1967، فإن سببه ليس عبقريتهم ولا شجاعتهم، وإنما عبقريتنا نحن وجرأتنا في الحرب على الله تعالى وعلى دينه”. وإلا فماذا يعني أن يقول قائل من أبواق حزب البعث: “بحثنا عن الله وعن القيم فلم نجدها إلا في مزابل التاريخ”. وأن يقول القائل من جلاوزة سجون جمال عبد الناصر لما سمع أحد السجناء لما كان يُجلد ويُعذب فإنه كان يستنجد بالله قائلًا: “يا الله”، فما كان من سجّانه الظالم إلا أن يقول: “إن الله هذا الذي تستنجد به فإنني سأعتقله وأضعه في الزنزانة رقم 14” وقد قيل إنها كانت أقسى وأسوء وأقذر زنزانة في السجن.
✍️ ويقول كذلك الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “ولقد حصل في التاريخ أن الصليبيين وخلال حملتهم على المشرق الإسلامي، فإنهم لما وصلوا إلى بلاد المسلمين، فإنهم كانوا يجرّون أقدامهم جرًا من الجوع والمرض والتعب، ومع ذلك فإنهم انتصروا على المسلمين الموفورين بالصحة والشبع ودخلوا القدس وذبحوا في ساحات المسجد الأقصى سبعين ألفًا من المسلمين، والسبب أن العرب والمسلمين كانوا على حالة من الفرقة والفسق والبطر والغفلة حرمتهم من رعاية الله ونصره”. وكان رحمه الله قد قال بعد مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها الميليشيات المسيحية الكتائبية في لبنان بمساندة وحماية الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين اللاجئين في مخيمي صبرا وشاتيلا، وكان ذلك في أيام 16-18/9/1982 وقد قتلوا قريبًا من “5000” فلسطيني، فقال الشيخ الغزالي: “إذا لم يعتنق العرب الإسلام وينضموا إليه ظاهرًا وباطنًا فلينتظروا خسفًا ومسخًا ومذابح أخرى”. ولقد كان مع الأسف ما قاله الشيخ وكل ذلك بسبب بعدهم عن دين الله عز وجل.
ولله در الشاعر حين قال:
إن يُسلخ العُرب من إسلامهم رجعوا على شمال المعالي بعض أصفار
✍️وحتى لا نظلّ أصفارًا، وحتى نشفى من مرضنا، وحتى لا يستمر الهوان ولا يطول، فإنها المسؤولية الفردية والجماعية علينا جميعًا بالعمل على نصرة الإسلام والتمكين له حتى يكون التغيير المنشود وفق سنن الله تعالى ونواميسه {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ..} آية 53 سورة الأنفال. فلا يزهدنّ أحدنا بأي جهد يبذله يمكن أن يصبّ في مشروع التغيير ليتحول من نقطة ماء هنا أو هناك إلى تيار جارف ونهر هادر، قال رسول الله ﷺ: “ما فيكم من أحد إلا وسيكلّمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشقّ تمرة”. وإن أعظم ما يمكن أن يقدّمه المسلم من عمل به يتق الله، فإنه العمل للإسلام ونصرة الدين والسعي للشفاء من مرض الهوان الذي نحن فيه، ولسان حال كل واحد منا يقول:
أبدًا أظل مع التقاة مع الدعاة العاملين
الرافعين لواء أحمد عاليًا في العالمين
✍️نعم، لا بد أن يغمر قلوبنا حب وعاطفة جيّاشة لنصرة الإسلام ليكون هو الطريق الأقصر للتغيير، وليتوقف ولا يستمر نزيف التيه والهوان كما قال المرحوم الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله: “إن الواجب أن تكون فينا عاطفة مثل عاطفة النار متّقدة في قلب كل أب يرجع إلى بيته فيجد ابنه مريضًا يتلوّى من الألم فلا يسعه عندها إلا سرعة حمله إلى الطبيب متحاملًا على جوعه وتعبه”.
✍️وكذلك قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “قد يستطيع العرب لمحاولة رفع الهوان عن أنفسهم وإيقاف نزف جرحهم أن يستوردوا السلاح من كل جهة، ولكنهم لو أداروا ظهورهم لله تعالى ثم جمعوا السلاح من المشرق والمغرب فلن يدركوا به إلا ذلّ الدهر وخذلان الأبد، ولن يغني عنهم أن يعطف عليهم هذا الفريق أو ذاك، هذا المعسكر أو ذاك، قال الله سبحانه: {أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ ۚ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} آية 20 سورة تبارك. وما أصدق ما قاله الشاعر في هذا المقام:
وغاية السيف أن يزهو بحامله ولا ينفع السيف إلا في يد البطل
????شباب الجيل وبكل فخر
✍️إن من فضل الله علينا أن نكون ممن يعيشون هذه المرحلة وأن نكون من جيل الصحوة الإسلامية المباركة، وجيل الشباب المسلم والمؤمن الذي أخذ على عاتقه أن لا يستمر الهوان. إنها الصحوة المباركة التي يتكالب على حربها الأعداء وأبناء الجلدة على أنها هي التي ستنهي مشوار استعبادهم للأمة الإسلامية وتسلّطهم على مقدّراتها، هذه الصحوة التي حتى لو تعثّرت فإنها ستعود إلى مسارها، حتى وإن كبت فإنها ستنهض، حتى وإن حاولوا إجهاض أحلامها فإنها لن تيأس وستظلّ تسعى لتحقيق أحلامها وآمالها بل ووعد ربها سبحانه.
✍️هذا الجيل المبارك الذي إذا التفت إلى الماضي فإنه ليس للبكاء على الأطلال، وإنما ليستمد من الماضي معاني العزة والشموخ حتى لا يستمر الهوان.
✍️ هذا الجيل الذي عرف أن للمجد طريقًا واحدًا لا ثاني له، فاختاره ومضى فيه دون أن يلتفت إلى أصوات الناعقين والمثبطين والمحبطين والزاحفين على بطونهم من أصحاب الشعارات البرّاقة والعبارات الرنّانة، سواء كانت الوطنية المزعومة أو القومية الموهومة أو أدعياء الواقعية والبراغماتية والاستسلام للأمر الواقع، وهم في حقيقتهم يسعون لاستمرار الهوان والضياع لأمتنا.
شباب الجيل للإسلام عودوا فأنتم روحه وبكم يسود
وأنتم سرّ نهضته قديمًا وأنتم فجره الزاهي الجديد
نعم يا شباب الجيل وحملة رايته ومن على أيديكم سيحقق الله للأمة آمالها وينهي مشوار تيهها وضياعها.
شباب الجيل قولوها تدوي فلن يجدي يمين أو يسار
كفرنا بالدعاوي زائفات فبالإسلام قد وضح المسار
أنتم وليس غيركم شباب الجيل الذي سينهي مشوار الهوان وإلى الأبد، وسيطوي صفحة الذلّ فلن تعود. الجيل الذي يصرخ في الدنيا يفاخر بهويته التي لن يرضى عنها بديلا.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مقالات ذات صلة “سيفعلان ذلك”.. ترامب يرد على سؤال عن رفض مصر والأردن لخطة التهجير 2025/01/31

المصدر: سواليف

كلمات دلالية: الشيخ كمال الخطيب شباب الجیل رحمه الله وحتى لا ما کانت الذی ی حتى لا

إقرأ أيضاً:

محمد غنيم يكتب: مع الشيخ محمد رفعت

بعد أن فقد بصره وهو ابن ثلاث سنوات سأل والده: "متى النهار يطلع يا بابا؟"، فبكى الأب بحرقة وقال "سترى بقلبك يا بني أكثر مما ترى بعينيك"، لم يعرف الأب وقتها أن صوت ابنه سيكون كالشمس في تاريخ مصر، لا يبدأ النهار إلا بسماعه عندما تشير عقارب الساعة إلى تمام السابعة صباحا.

إنه الشيخ محمد رفعت -رحمه الله- الذي تلاحم صوته مع نسيج الوعي المصري ووجدانه، فأراد الله أن يحيا صوت الشيخ رفعت في مناسبتين، الأولى طوال العام عند الساعة السابعة صباحا عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، هذا الوقت الذي يتعلق بذاكرة كل مصري أثناء ذهابه إلى المدرسة ونزوله إلى عمله صباحًا، إذا سمع صوت الشيخ رفعت أدرك أن الشمس قد أشرقت إيذانًا بميلاد يوم جديد مصحوب بصوت الشيخ محمد رفعت.

وأما الثانية فطوال شهر رمضان المبارك مع أذان المغرب، هذا الأذان الذي إن سمعه المصريون في أي وقت استشعروا بنسمات شهر الصيام، ارتبط أذان الشيخ محمد رفعت بالإعلان عن وقت الإفطار كل يوم في رمضان، فأصبح له خصوصية يتفرد بها عن أي أذان آخر.

الشيخ محمد رفعت هذا الصوت الملائكي الخالد الذي تجددت فيه معجزة القرآن، إلا أن التسجيلات التي وصلتنا لم توفه حقه، ذلك لأن أغلب التسجيلات كانت قديمة تحتاج إلى ترميم وإصلاح، فغير المونتاج الصوتي شيئا من حقيقة صوت الشيخ رفعت، والأمر الثاني أن التسجيلات بدأت في فترة مصاحبة المرض لهذا الصوت، كما قال موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب في إحدى لقاءاته إن تسجيلات الشيخ محمد رفعت تحمل تأثير مرضه وكأنك تسمع صوتا جميلا لكن عليه مسحة من المرض، وذكر أن تسجيل سورة مريم هو الذي يعطي بعضا من صوت الشيخ رفعت في اكتماله وشبابه ومقدرته.

في حي المغربلين بمنطقة الدرب الأحمر ولد الشيخ محمد رفعت سنة 1882 لأب يعمل ضابط شرطة بقسم الخليفة، وأم طيبة ترعى بيتها وتقوم على شئون الزوج والأولاد، واسم محمد رفعت هو اسم مركب أما والده فاسمه محمود رفعت وهو اسم مركب أيضًا، ولأن كل إنسان منا يسير إلى قدره المكتوب في الحياة، فقد واجه الشيخ محمد رفعت مصيره في الحياة مبكرا، المأساة الأولى عندما فقد بصره وهو في الثالثة أو الرابعة من عمره، والمأساة الثانية عندما فقد والده وهو ابن تسع سنوات.

ولأن في المنع عطاء، وفي كل محنة منحة، فكانت المأساة الأولى هي سبب العطاء الأعظم في حياة الشيخ محمد رفعت بعد أن قرر والداه أن يهباه للقرآن، وأتم حفظ القرآن وتجويده وهو طفل صغير في مسجد فاضل باشا، والذي عين فيه قارئا للسورة يوم الجمعة إلى أن أقعده المرض، وأما المأساة الثانية فكانت السبب في أن يتحمل الشيخ رفعت مسئولية أسرته الصغيرة المكونة من أمه وخالته وأخيه الأصغر بعد أن أصبح هو العائل الوحيد لهم، وظل على هذا الحال حتى ذاع صيته وأصاب سحر صوته كل من سمعه وتأثر به.

الشيخ محمد رفعت هو معجزة القرن العشرين في تلاوة القرآن الكريم، كان لصوته مفعول السحر على مستمعيه، فلا تسمع تلك الصيحات أثناء تلاوته كما يحدث في السرادقات مع قراء اليوم، ولكن طريقة قراءة الشيخ رفعت بما فيها من هيبة ووقار وإبهار كانت تجعل المستمعين لا يحركون ساكنا، يخشعون رهبة وإجلالا لعِظم ما يُقرأ عليهم.

تقليد الشيخ رفعت يحتاج لإمكانيات صوتية خاصة ولطبقة صوت اختص بها الله الشيخ رفعت، فيصعب جدا تقليده، تمتع الشيخ رفعت بصوت ماسي حاد جدا رنان كأنه الياقوت والمرجان، وبصوت عميق عريض جدا كأنه زئير الأسد في أدنى طبقات صوته، والعجيب أن في علو صوت الشيخ رفعت وهبوطه لا يشعر المستمع بأنه ينتقل بين القرار والجواب فهو يقرأ بطريقة السهل الممتنع، يلون الآيات بصوته وبما يناسب كل آية، فالموهبة وحدها لا تكفي، ولكنها تحتاج لذكاء يوظفها بطريقة صحيحة، والشيخ محمد رفعت وهبه الله من الذكاء الفطري والبصيرة الربانية ما جعله يقرأ القرآن بوعي وتدبر وذكاء.

عاش الشيخ محمد رفعت واهبًا حياته لخدمة القرآن الكريم ينشر صوته في كل مكان ويلبي الدعوات بعفة نفس خدمة للقرآن، لم يكن طالب مال ولا شهرة أو جاه، ترك لأبنائه ساعة يد وروشتة طبيب ومصحفًا، كما أخبر بذلك ابنه الأكبر محمد رحمه الله، وأصيب الشيخ رفعت بمرض الزغطة الذي اتضح أنه سرطان الحنجرة، فتوقف عن القراءة سنة 1943 بعد أن حبسه المرض وهو يقرأ ولم يخرج صوته في بعض الآيات فسكت ثم غادر المسجد وسط بكاء كل الحاضرين، وظل يعاني من هذا المرض الذي فشل الطب في علاجه، كان راضيا صابرا ولم يسخط، وفي يوم التاسع من مايو سنة 1950 أخذ يردد (الحمد لله) ويسأل زوجته عن أولاده، ويقول (الحمد لله) ثم فاضت روحه إلى رب العالمين، ليترك لنا صوتا لم ينطفئ يومًا، هذا الإرث الذي يشهد له بما قدمه في حياته لخدمة القرآن وإيصال رسالته، رحم الله قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت.

مقالات مشابهة

  • عبد الله: ودعنا اليوم رفيقنا علي عويدات الذي تشهد له الساحات والمواقف
  • الجيل الديمقراطي يطالب بفرض عقوبات دولية على إسرائيل لوقف انتهاكاتها ضد المدنيين
  • مدير مدينة الشيخ نجار الصناعية: عجلة الإنتاج تدور حالياً في 960 منشأة… ومنشآت أخرى تستعد للإقلاع في الأشهر القادمة
  • كمال ريان: الحزمة الجديدة الأكبر في دعم محدودي ومتوسطي الدخل
  • معنى تصفيد الشياطين في شهر رمضان.. ومن الذي يوسوس لنا ؟
  • بري عرض مع الخطيب الأوضاع العامة
  • محمد غنيم يكتب: مع الشيخ محمد رفعت
  • سامي الجابر: بهذا الدفاع الهلال لا يستطيع الإكمال في الدوري
  • خطيب الجامع الأزهر: القرآن الكريم هو نبراس الأمة الذي ينير طريقها
  • العلامة الخطيب: آن الاوان لدعوة رئيس الجمهورية الى طاولة حوار وطني