عائلات بلا معيل.. السوريات في مواجهة آثار الحرب
تاريخ النشر: 31st, January 2025 GMT
"ما أحصل عليه لا يكفي لتسديد آجار المنزل، فاضطررت أن أستعين بجمعيات أهلية كانت تقدم لنا بين حين وآخر مواد غذائية مختلفة، غير أن ذلك لم يكن حلا" هكذا بدأت هالة، البالغة من العمر 55 عاما، حديثها عن معاناتها بعد أن اعتقلت قوات الأمن السورية زوجها في مطلع عام 2013 بتهمة التظاهر ضد النظام، ولم تسمع عن مكان احتجازه أو مصيره حتى الآن.
لجأت هالة مع أطفالها الثلاثة إلى بيت أحد أقربائها في "جديدة عرطوز"، على بعد 17 كيلومترًا غربي دمشق، بعد أن تعرض حي القابون الدمشقي آنذاك لقصف حكومي عنيف طال أغلب عماراته، تمكنت لاحقًا من استئجار شقة متواضعة في البلدة نفسها، حيث تستقر فيها حتى اليوم.
اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4إعلان الشرع رئيسا لسوريا في المرحلة الانتقاليةlist 2 of 4جيش المشرق.. أنشأته فرنسا وكان بذرة لهيمنة العلويين على سورياlist 3 of 4الليرة السورية تواصل الارتفاع أمام الدولار اليوم الخميسlist 4 of 4هكذا تدرجت إسرائيل في استهداف الأونرواend of listتتابع هالة حديثها للجزيرة نت: "كنت أشعر بحمل ثقيل نتيجة قيامي بدور الأب والأم معا، كان عليّ أن أبحث عن مصدر رزق أنفق منه وأسدد آجار المنزل، وأهتم بشؤون أطفالي واحتياجاتهم. عملت في ورشة لصنع الملابس، لكن المرتب الذي كنت أتقاضاه كان قليلا، وعجزت في كثير من الأحيان عن تأمين الطعام لأطفالي".
تنسحب معاناة هالة على آلاف النساء السوريات اللواتي يترأسن اليوم عائلات فقدت معيلها، إما نتيجة مقتله على يد قوات النظام السوري أثناء الحرب المروعة التي شهدتها البلاد، أو تغييبه قسرا داخل السجون.
إعلان آلاف العائلات بلا معيليوصف الترمل (فقدان أحد الزوجين) بأنه واحدة من أخطر المشكلات التي أفرزتها الحرب، وتعاني العائلات السورية من تداعياتها على المستويين الإنساني والمعيشي بشكل كبير.
وأظهر مسح ديمغرافي متعدد الأغراض أجراه المكتب المركزي للإحصاء -مؤسسة حكومية- بالتعاون مع منظمات دولية، وجود 518 ألف امرأة فقدت زوجها خلال الحرب.
في حين يشير تقرير دولي صادر عن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن أكثر من 145 ألف أسرة سورية لاجئة في لبنان والأردن والعراق ومصر، ومثلها عشرات الآلاف في تركيا، تعيلها نساء يكافحن بمفردهن من أجل البقاء على قيد الحياة، يشكل مجموعها نحو 22% من مجمل عدد العائلات السورية.
خلّفت الحرب التي شهدتها سوريا منذ عام 2011، بحسب تقارير البنك الدولي، اقتصادًا منهارًا وفقرًا وجوعًا، وعائلات تعيلها نساء أرامل يحملن أعباء ومسؤوليات كبيرة تجاوزت قدرتهن على التحمل، يعانين اليوم من ضروب المشقة والعزلة والقلق، بعدما أُرغمن على تحمل مسؤولية أسرهن بمفردهن منذ وقت مبكر.
وكثيرًا ما عانين من قلة المورد، وارتفاع الديون، وعدم الحصول على طعام كاف، واضطرار المزيد من أطفالهن للعمل في اقتصادات الظل، وتعرض البعض منهم لدرجات متفاوتة من العنف بأشكال مختلفة.
وفي الإطار ذاته، ربط الباحث في وحدة الأبحاث الاجتماعية بمركز حرمون للدراسات المعاصرة، طلال المصطفى، بين زيادة نسبة النساء المعيلات، وحاجة الأسر إلى تغطية العجز في ميزانياتها، ورأى أن معدلات فقر المرأة ارتفعت إلى مستويات غير مسبوقة مع تزايد عدد الأرامل في المجتمع.
وأشار في دراسة له حول مصائر المرأة السورية في ظل الحرب، إلى أن الحرب فرضت واقعًا ثقيلًا على النساء في الجانب النفسي، نتيجة غياب الأمان وصعوبة القدرة على التكيف في مثل هذه الأوضاع المضطربة، بالإضافة إلى حالة مستمرة من القلق والتوتر والخوف من فقد زوجها أو أولادها.
إعلانولفتت الدراسة إلى أن النساء اللواتي فقدن أزواجهن أو معيلهن تعرضن إلى ضغوط كبيرة بسبب القيام بأدوار جديدة تضاف إلى أدوارهن المعتادة، مثل العمل داخل المنزل وخارجه.
وتزاول النساء المعيلات لأسرهن في كثير من الأحيان أعمالًا غير مألوفة أو مجهدة، وغالبًا ما يلجأن لأعمال تحتاج إلى ساعات عمل طويلة لقاء أجور زهيدة، كتغليف المواد الغذائية، أو تسويق خضار جاهزة للطهي.
كما ترزح أغلب العائلات التي تقودها امرأة تحت سطوة الفقر في ظل انهيار اقتصادي تسبب به ارتفاع نسب إنفاق النظام على الحرب، وتحييد موارد البلاد الاقتصادية لصالح قوى فاعلة على الأرض.
تؤكد منظمة اليونيسيف أن الفقر في سوريا يسيطر على 90% من السكان، فيما يتراوح معدل سوء التغذية لدى الأمهات من 11% في شمال غرب البلاد وأجزاء من دمشق إلى 25% في شمال شرق سوريا.
وبالنسبة لفاتن (52 عاما)، التي فقدت زوجها نتيجة إصابة بقصف عشوائي حكومي طال أحد الأسواق التجارية في بلدة سقبا شمال شرقي دمشق، لا تختلف الصورة كثيرًا، تقول "كنت في أوقات الشدة أقترض المال من الأقارب وأحيانًا من الجيران لأنفق على احتياجاتنا الأساسية. وعندما يشتد الضيق أقوم بشرائها من متجر قريب بالدين، وأسدد ما اقترضته من المتجر بعد أن تصلني مساعدة مالية".
ورغم التزامها بعمل في القطاع غير الرسمي، تتقاضى عليه مرتبًا، فإنها تحتاج مع أسرتها لمساعدات مالية وغذائية شبه دائمة، كي تتمكن من تسديد ما يترتب عليها من نفقات أساسية.
وأوضحت فاتن في حديثها للجزيرة نت أن توفير أجرة المنزل، في ظل ارتفاع الأسعار، بات يشكل مصدر قلق مستمر، لما يترتب على تأخير سدادها من محاذير قد تفتح المجال لإخلائنا، ولفتت إلى أنها كثيرًا ما غادرت مائدة الطعام وهي جائعة، مقابل أن يشبع أولادها، مع أن المائدة تفتقر لأنواع عديدة من الأطعمة التقليدية التي كان من المفترض وجودها، على غرار ما كان حالهم في فترة ما قبل الحرب.
إعلانواشتكت نساء أخريات ممن تواصلت معهن الجزيرة نت في مناطق مختلفة من البلاد، يترأسن أسرا فقدت معيلها خلال فترة الصراع، من سوء أوضاعهن المعيشية إذ انعدمت أمامهن سبل الحياة بصورة مقلقة.
وأدى تضاعف المسؤوليات التي حملتها المرأة المتأثرة بالحرب، وفق المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، لصدمة كبيرة لم تَخل من شعور سلبي تجاه هذا الدور الجديد. ونقلت عن معهد متخصص في خدمات الدعم النفسي والاجتماعي، ارتفاع نسبة خطر الشعور بالاكتئاب والضغط النفسي، لما تتعرض له النساء في أوضاع كهذه.
كانت الأمم المتحدة قد أشرفت في الأعوام السابقة على أكبر استجابة دولية لتقديم المساعدات الإنسانية للشعب السوري، وصلت -حسب مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية- إلى أكثر من 40 مليار دولار.
بَيد أن مصير هذه المساعدات بقي محط تشكيك وجدل، مع اتهامات مستمرة لنظام الأسد باستغلالها لصالحه والاستفادة منها في دعم بيئته السياسية.
ويرى الخبير الاقتصادي فراس السيد أن الإرث الذي خلفه نظام المخلوع والآثار المترتبة عليه تتطلب إعادة تقييم شاملة للمسائل والقضايا المتعلقة بالموارد الطبيعية، والموارد العامة للدولة لبحث تأثيراتها المحتملة على الاقتصاد وحاجات السكان الحيوية.
وقال للجزيرة نت، إن سقوط النظام السوري ينطوي على فرصة مهمة لإعادة ضبط هذه الموارد التي استثمرتها في المرحلة السابقة فئة محدودة من المنتفعين، والبدء من جديد، عبر رؤية واضحة المعالم حول سوريا المستقبلية، التي تعيش اليوم تحولًا تاريخيًا، من المفترض أن يتحسن فيه واقع الفئات الضعيفة، وذات الدخل المحدود، التي أفقرها النظام بزبائنية اقتصاده.
ويرى السيد أن احتياجات السكان، وخاصة بعد أن يعود ملايين اللاجئين في الخارج إلى بلادهم، ستستمر في التغير تبعًا للتحولات الجديدة في بنية المجتمع والتطورات التي يشهدها، وحاجته لإستراتيجيات وبرامج عمل جديدة تنسجم مع تطلعاته بعد 6 عقود من حكم شمولي أوصل البلاد على جميع المؤشرات الدولية إلى المراتب الأخيرة.
إعلانوتحاول حكومة تصريف الأعمال من جهتها معالجة الشق الاجتماعي من الاقتصاد، نظرًا لسوء الأوضاع المالية وقلة الموارد التي يعاني منها السكان، في ظل ارتفاع حجم التضخم خلال العقد الأخير، وارتفاع الأسعار، وتراجع قيمة العملة الوطنية، لكنها تواجه في هذا الصعيد تحديات عديدة زادت من أعبائها، أبرزها:
توقف المساعدات التي كان يقدمها برنامج الأغذية العالمي لـ5.5 ملايين سوري من أجل تمويل احتياجاتهم الإنسانية. وجود 16.7 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات لتلبية احتياجاتهم الإنسانية، وفق تقديرات الأمم المتحدة. زيادة مستويات الفقر والفاقة لدى قطاعات واسعة في المجتمع.ويقر وزير المالية، محمد أبا زيد، بعدم امتلاك الحكومة عصا سحرية لحل ما ورثته عن النظام الآفل من مشكلات اقتصادية، وخزائن فارغة، وديون ضخمة، وقطاع عام 70% من شركاته خاسرة، إلا أن الحكومة كشفت عزمها على إصلاح حزمة الرواتب والأجور، في خطوة عاجلة لتحسين واقع الفئات الضعيفة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات إلى أن بعد أن
إقرأ أيضاً:
السادس من أبريل..من سرق الوعد النبيل؟
يصادف اليوم مرور الذكرى الأربعين لقيام ثورة أبريل 1985 فيما صارت أوضاع بلادنا أسوأ من أوضاع ذات الأيام التي اندلعت فيها. العنوان الأبرز بعد هذه السنوات من العراك السياسي، والعسكري، هو فشل السودانيين في استثمار الوقت، والإمكانية، والعقل.
ورثت أبريل الحرب الأهلية في جنوب البلاد، وما تزال الحرب بعد أربعة عقود تغطي الآن كامل البلد. بل لم يبق مواطن بعيداً عن التأثر المؤلم بها. وحتى الذين أوقدوها ثم هربوا إلى الخارج لحقت بهم بأشكال متفاوتة، وأقلها دفع أهاليهم، ومناطقهم، ثمناً باهظاً للخراب. خلافاً لحرب الجنوب التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الحل أثناء ديمقراطية أبريل، فإن الحرب الراهنة ضربت قلب البلاد لتنتشر في كل نجوعها، بينما كانت الحرب الأهلية في الجنوب تحاول شل أطرافها للوصول إلى العاصمة.
استنسخت ثورة أبريل عزم ثورة أكتوبر لمعالجة الخلل البنيوي الذي صاحب نشوء الدولة السودانية ما أدى إلى استشراء رقعة الحرب حتى الشمال. ولكن للأسف تعثرت كل محاولات استمرار الثورة الواعدة لاستدامة الديمقراطية. ذلك بوصفها الخطوة الأولى نحو إقامة الدولة الوطنية التي تحقق الشعارات التي رفعتها هذه الأجيال التي خلقت الثورات الواعدة.
ما ميز ثورة أبريل وسط هذه الثورات السودانية أن قادتها الحزبيين كانوا أكثر تعليماً، وكفاءةً. ولكن ظل العراك الحزبي الذي تمت استعادته من فترة ما بعد أكتوبر هو جوهر هذا الفشل في إدارة الصراع الحزبي في الزمن الديمقراطي. ولاحقاً استعارت النخبة السياسية في ديسمبر ذات الأخطاء التي مهدت للعسكر الحزبيين الانقضاض على السلطة، على ما في طبيعة تفكير النخب العسكرية دائماً من استهانة بقدرة المدنيين أصلا في إدارة الدولة، وصيانة مصالح المواطنين.
برغم كل ما لازمها من مطبات سياسية، فإن أوضاع ما بعد ثورة أبريل خلقت نوعاً من الحراك السياسي لو استمرّ إلى يوم الناس لهذا فربما قلت الحاجة إلى ثورة ديسمبر. ولساهمت الانتفاضة - كما سميت أيضاً - في تطوير الوعي السياسي، وأوجدت من ثم تراكماً في التداول السلمي الذي يخلق تنافسه الحتمي بين الأحزاب روّى بصيرة لدى القيادات السياسية المنتخبة.
لكن أنهت الجبهة الإسلامية التداول السلمي للسلطة التي سطت عليها فاعتمدت الاستبداد كوسيلة أحادية
للتطور السياسي التقدمي، وكأداة للبناء الوطني الموحد، وكرافعة لتحقيق النهضة الفكرية، والاقتصادية، والاجتماعية!. وبعد ثلاثين عاماً من التجريب السياسي القائم على الأدلوجة الدينية للحكم الإسلاموي تضاعفت أزمات السودان التي حاولت النخب السياسية في إبريل حلها، وفي قمتها حسم ملف السلام.
واضح أن العالم الآن بعد إصابته بالفتور من الصراع السوداني - السوداني العقيم تدخل بذيوله الإقليمية والدولية لتبقى البلاد متورطة في حرب الوكالة التي لم تكن ماثلة قبل أربعين عاماً. ولهذا تعقدت الحرب، وجلبت أطرافاً خارجية للاستثمار في موارد البلاد التي عجزنا عن التحكم فيها، وتوظيفها لصالح تقدم، ورفاهية أهلنا في كل مناطقهم.
وبرغم بعد المسافة الزمنية بين ثورة أبريل وبين ثورة ديسمبر مقارنة بين الثورة الأولى والثانية، فإن التركة السياسية الضخمة تضاعفت مرة أخرى بعد سقوط نظام الجبهة الإسلامية القومية. ولعل أخطر ما في هذه التركة التشرذم وسط القوى السياسية بعد انقلاب البرهان - حميدتي، وكذلك انسداد الأفق بعد الحرب التي أشعلها الإسلاميون.
الأمل الوحيد الذي يتزامن مع مرور الذكرى الأربعين لثورة أبريل 1985 هو الرهان على الجبهة الوطنية المدنية الواسعة للضغط على الطرفين لإيقاف الحرب، واستئناف المسار الانتقالي لثورة ديسمبر. صحيح أن التحدي كبير، ولكن لا سياسة بلا تحدٍ، مهما تعاظم حجمه.
suanajok@gmail.com