ديفيد هيرست: تغلب الفلسطينيون على حرب الإبادة الإسرائيلية وعادوا إلى الديار
تاريخ النشر: 31st, January 2025 GMT
تناول مقال للكاتب البريطاني ديفيد هيرست في موقع "ميدل إيست آي" عودة الفلسطينيين إلى شمال القطاع بعد 15 من حرب الإبادة الإسرائيلية.
وقال هيرست، إن "العودة التاريخية للفلسطينيين، بعد خمسة عشر شهراً من التدمير الإسرائيلي، مؤشر على انتصار الروح الإنسانية على القهر المنظم".
وأضاف، أن "صور الدمار في غزة سوف تحرق ثقبا تاريخيا في الرواية التأسيسية لإسرائيل كدولة ولدت من رحم المحرقة وقامت على أكتاف ضحاياها".
وتابع، "سوف يخلد رفع الحصار عن شمال غزة – مهما كان مؤقتاً – في التاريخ الفلسطيني كما خلد فك الحصار عن لينينغراد (والذي حصل أيضاً في السابع والعشرين من يناير) في التاريخ الروسي للحرب العالمية الثانية. إنه لا يقل أهمية عنه".
وفيما يلي نص المقال:
يمكن للمذيع الخارجي أن تحيق به الكثير من الفجائع – في هذه الحالة، أفضل مخططات البي بي سي لعمل برنامج "اليوم" من معسكر أوشفيتز، وتكريس اليوم بأكمله للبث عبر العديد من القنوات إحياء للذكرى السنوية الثمانين لتحرير المعتقلين في ذلك المعسكر.
قد ينقطع البث من بولندا، وهو انقطاع – في زمن البث عبر الإنترنيت والأقمار الصناعية في أيامنا هذه – قد لا يتجاوز بضع ثوان، والأسوأ من ذلك هو أن ينشغل الناس عن الحدث نفسه بحدث أكبر منه تشهده الساحة العالمية، وذلك كان هو حادث تصادم السيارات الذي وقع يوم الاثنين.
بينما كان رجالات الدولة يتجمعون من مختلف أرجاء العالم في معسكر الإبادة السابق، كان مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين عانوا خمسة عشر شهراً من القصف المدمر والتجويع والمرض على أيدي دولة ولدت بعد المحرقة يمشون إلى شمال غزة في مسيرة عودة استمرت عدة ساعات.
لوحظ غياب شخصين مهمين عن هذا التجمع في بولندا. أما الأول والأبرز فهو رئيس البلد الذي كانت قواته هي من قام بتحرير معسكر الموت النازي، أي رئيس روسيا فلاديمير بوتين.
وأما الغائب الثاني فهو رئيس وزراء البلد الذي بذل أقصى ما في وسعه خلال فترة احترافه للعمل السياسي من أجل أن يقبض ثمن الشعور الأوروبي بالذنب إزاء المحرقة، ومن أجل تبرير محاولات إسرائيل المتكررة لتطهير فلسطين عرقياً من الفلسطينيين.
ثمة أسباب عملية من وراء غياب بنيامين نتنياهو عن أوشفيتز. أما الأول فهو خشيته من أن يتم إلقاء القبض عليه بموجب المذكرة التي صدرت عن المحكمة الجنائية الدولية بحقه عن ارتكاب جرائم حرب في غزة.
وأما السبب الثاني فهو مثوله أمام محكمة إسرائيلية بتهم متعددة تتعلق بالفساد.
تناقض صارخ
انسجاماً مع تعامل إسرائيل الخسيس تاريخياً مع الناجين من المحرقة، لم تتحول قنواتها التلفزيونية الرئيسية إلى سمت "لقد ماتت الملكة" كما فعلت البي بي سي، بل استمرت تلك القنوات في بث برامجها الاعتيادية طوال اليوم.
لم يمض دون أن يلفت الأنظار نفاق إسرائيل في تعاملها مع واحدة من أهم الذكريات السنوية في التاريخ اليهودي، ولا التناقض الصارخ الذي يولده ذلك إذا ما أخذنا بالاعتبار ما تعودت عليه إسرائيل من اغتنام كل فرصة ممكنة لاتهام نقادها بمعاداة السامية وبإنكار المحرقة.
لم ينس أحد تلك الحركة الاستعراضية التي قام بها نتنياهو عندما ألبس أعضاء وفد إسرائيل إلى الأمم المتحدة نجوماً صفراء بعد هجوم حماس يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 – وهي الحركة الاستعراضية التي ندد بها رئيس النصب التذكاري للمحرقة المسمى ياد فاشيم، معتبراً إياها إهانة لضحايا الإبادة الجماعية ولدولة إسرائيل في آن واحد.
إلا أن رد البي بي سي على هذه الأزمة من القيم الإخبارية كان بالفعل سوفياتياً: وهو أن تقوم بمحو الأخبار التي لا تتناسب مع توجه الحزب.
لا ريب أن ذلك كان بأوامر من الجهات العليا، وذلك أن كل واحد من معدي البرامج فعل نفس الشيء. بعد تدبر عميق طوال اليوم، منحت نشرة أخبار العاشرة مساء في تلفزيون البي بي سي 22 دقيقة لذكرى المحرقة وأربع دقائق لغزة.
وضعت تغطية الذكرى السنوية للمحرقة ضمن إطار توجيه رسالة إلى عالم اليوم. قال المتحدثون، الواحد تلو الآخر، إن الدروس المستوحاة من المحرقة لا ينبغي أن تموت مع آخر من تبقى من الناجين منها، على الأقل بسبب ما يجتاح العالم من مستويات غير مسبوقة من معاداة السامية.
لا يمكن للمرء معارضة هذا التصريح. إلا أن الفيل الذي في الحجرة كان التشابه بين ما فعله النازيون باليهود وما لم يزل يفعله الإسرائيليون بالفلسطينيين في غزة والضفة الغربية المحتلة على مدى خمسة عشر شهراً، ونحن هنا لا نتكلم عن التشابه خطابياً أو بلاغياً فحسب، بل من حيث أنه بات الأساس الذي انبني عليه إجراءان قضائيان في أرفع المحاكم الدولية.
ومع مرور اليوم نما أكبر فأكبر. في برنامج "اليوم" توجه فيليب ساندز، الخبير القانوني في جرائم الحرب، إلى المستمعين بشرح لتاريخ المحاولات التي بذلت تاريخياً من أجل تصنيف الإبادة الجماعية جريمة حرب.
ذكر ساندز كلمة "غزة" المحرمة، ولكنه سعى للقول إنه أياً كان ما توصف به ما تقوم به إسرائيل من أفعال في فلسطين وغزة، فما كان ينبغي له أن يحصل. رغم أن محكمة العدل الدولية تنظر حالياً في تهمة الإبادة الجماعية التي توجهت بها جنوب أفريقيا ومعها بلدان أخرى، إلا أن المذيع وساندز كلاهما التزما الصمت إزاء القضية رغم أنها ماتزال حية. لا يمكن لهما التأثير على المحلفين لأنه لا وجود لمحلفين. إذن، لابد من أن صمتهما وراءه سبب آخر.
تاريخ لا ينسى
ثمة جدل حول الأفعال الإسرائيلية في غزة حتى داخل إسرائيل.
أجرى اثنان من مؤرخي المحرقة، وهما دانيال بلاتمان وآموس غولدبيرغ، مقارنات مخيفة وخلصا منها إلى التالي: "مع أن ما يحدث في غزة ليس أوشفيتز، إلا أنه ينتمي إلى نفس العائلة – جريمة الإبادة الجماعية."
لنتنياهو نفسه ينسب الفضل في وقوع هذين الحدثين الدوليين الهائلين في نفس اليوم – أكبر عودة فلسطينية إلى الأرض التي طردوا منها في تاريخ الصراع والذكرى السنوية لتحرير أوشفيتز.
فقراره منع الفلسطينيين من العودة يوم السبت كما كان مقرراً لهم، بسبب خلاف حول من ينبغي أن يطلق سراحه من الرهائن الإسرائيليين، هو الذي أخر مسيرة العودة شمالاً يومين حتى الاثنين.
من خلال ذلك، أسس نتنياهو وزمرة المتعصبين الدينيين من حوله لمناسبة تضاف إلى التاريخ الإسلامي والعربي.
لم يكن يوم الاثنين، السابع من يناير (كانون الثاني) أي إثنين يُستهل به العام الجديد. صادف ذلك في التقويم الإسلامي يوم السابع والعشرين من رجب، والذي لم يزل حتى هذا الأسبوع يُحتفل به من قبل المسلمين في أنحاء العالم لحدثين آخرين تصادف وقوعهما فيه.
ليلة الإسراء والمعراج هي الليلة التي حملت الملائكة فيها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى المسجد الأقصى قبل أن تعرج به إلى السماوات العلى ثم تعود به إلى مكة. تلك الرحلة، التي اجتمع فيها النبي بموسى وإبراهيم وآدم وعيسى، وتلقى من الله التعليمات، هي جزء مهم في الدين. فهي تربط المسلمين بالمسجد الأقصى، وخلدت ذكرها آيات في القرآن الكريم.
هذا من مبادئ العقيدة. ولكن تصادف نفس اليوم مع مناسبة أخرى وقعت في التاريخ العربي، وهي أيضاً حدث يربط العرب بالقدس، كان ذلك في عام 1187 عندما حرر صلاح الدين مدينة القدس من لورد باليان أوف إبيلين، منهياً بذلك قرناً من الاحتلال الصليبي.
والآن أضاف نتنياهو مناسبة ثالثة إلى السابع والعشرين من رجب.
سعادة وتحدي
هذا هو اليوم الأول في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي يمارس فيه الفلسطينيون حق العودة إلى أراض لم تدخر إسرائيل وسعاً في محاولة إخراجهم منها عنوة. كل الأحداث الثلاثة ترسخ وتعزز إيمان الفلسطينيين بأن القدس هي عاصمتهم الوطنية، وكذلك إيمان المسلمين بأن القدس جزء لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية.
ما شهدناه هذا الأسبوع من مسيرة طويلة لمئات الآلاف من الفلسطينيين وهم يعودون إلى ديارهم لهو حدث ملحمي وتاريخي – ليس فقط بسبب ما في المشهد من صور، وإنما لما سيكون لهذا الحدث من أثر عميق على الأجيال القادمة.
لقد أثبتت غزة لكل فلسطيني ولكل العالم أن حقهم في العودة ليس ممكناً فحسب، بل وقريب المنال كذلك.
ما يقرب من نصف مليون فلسطيني عادوا إلى الشمال، وذلك رغم علمهم التام بأن منازلهم أصبحت ركاماً وأنهم قد لا يرون أفراداً من عائلاتهم تركوهم خلفهم عندما خرجوا.
يعبّرون في طريق عودتهم عن السعادة، وكلهم عزم، وتصميم، وتحد. في تصريح لموقع ميدل إيست آي، قالت كبير روسومي، وهي من بيت لاهيا، إنها تتجه نحو الشمال لتبحث عن أحبتها، سواء من كانوا على قيد الحياة أو من كانوا في عداد الأموات.
وقالت: "الشمال هو القلب والروح، الشمال هو الأرض التي فقدناها. نأمل أن نلتحف بهذه الأرض، أرض ديارنا، وأرض شعبنا، التي فقدناها."
رسومي محقة. فقد عانى شمال غزة من أطول وأصعب فترة احتلال لقطاع غزة طوال أيام الحرب التي بلغت 471 يوماً. فقد كان المكان الذي حاولت إسرائيل مراراً وتكراراً إخلاءه من مقاتلي حماس، ثم من كل المواطنين، من خلال فرض التجويع.
يمكننا أن نعبر عن ذلك بالأرقام. فقد نقلت قناة الجزيرة عن مصدر طبي القول إن ما لا يقل عن خمسة آلاف إنسان قتلوا أو فقدوا، وأن 9500 جرحوا، بسبب حملة التطهير العرقي التي أطلق عليها خطة الجنرالات، والتي بدأت في وقت مبكر من شهر أكتوبر (تشرين الأول).
رغم ذلك، خرج من تحت الركام مقاتلو حماس ومن بحوزتهم من رهائن. يمكن لملايين الإسرائيليين الذين أيدوا الحرب أن يروا الآن بأعينهم عبثية ما جنتهم أياديهم وما تسببوا به من دمار.
هنا ليبقوا
سوف تحرق صور الدمار في غزة ثقباً تاريخياً في الرواية التأسيسية لإسرائيل كدولة ولدت من رحم المحرقة وقامت على أكتاف ضحاياها.
سوف يخلد رفع الحصار عن شمال غزة – مهما كان مؤقتاً – في التاريخ الفلسطيني كما خلد فك الحصار عن لينينغراد (والذي حصل أيضاً في السابع والعشرين من يناير) في التاريخ الروسي للحرب العالمية الثانية. إنه لا يقل أهمية عنه.
أكثر من أي شيء آخر، يعتبر هذا الصمود الجماعي في وجه كل العوامل الطاغية، ووسط دمار لا يقل عما لحق بهيروشيما من دمار، أفضل رد على نتنياهو وعلى المجتمع الدولي، الذي ظل يتفرج سامحاً للكارثة أن تحصل – ثم على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
لم يكن من باب الصدفة، عشية ذلك الحدث التاريخي، أن يقول ترامب بعفوية خادعة تصدر عنه كلما أراد الحديث عن تحركات محسوبة بعمق إنه ينبغي أن تُنظف غزة من مليون ونصف المليون فلسطيني، بحيث يتم نقلهم إلى الأردن ومصر لإتاحة المجال لإعادة تعمير القطاع. ينسجم ذلك تماماً مع طلب نتنياهو في الأيام الأولى من الحرب من ذراعه الأيمن، رون ديرمر، البحث عن طرق لتقليل عدد السكان في غزة.
فقط بيرني ساندرز، السيناتور المستقل من فيرمونت، أطلق على هذه الخطة ما ينطبق عليها تماماً، حيث قال: "هناك اسم لهذا – تطهير عرقي – وهو جريمة حرب."
لحسن الحظ، لا توجد فرصة لتطبيق خطط ترامب ونتنياهو في التطهير العرقي – والتي أعيدت تسميتها الآن لتصبح "الهجرة الطوعية". فخلال ساعات، أعلن كل من الأردن ومصر عن رفضهما لأي تهجير للسكان – ليس من باب التعاطف مع الفلسطينيين، ولكن بشكل أساسي لأن الدولتين تعلمان بأن تدفق أعداد كبيرة من الفلسطينيين إليهما يمكن أن تشكل مزيجاً متفجراً.
يعتبر الأردن ومصر ذلك مشكلة وجودية تهدد نظاميهما. ثم ورد اسم ألبانيا، ولكن ما لبثت تيرانا أن رفضت ذلك بعد ساعات.
في فترته الرئاسية الأولى، أخفق ترامب في بيع "صفقة القرن" للمنطقة، والتي كانت محاولة لدفن الحقوق الفلسطينية في قبر شيد بالصفقات التجارية وبكثير من الخرسانة. وفي فترته الثانية، أخفقت حتى قبل أن تبدأ خطته لبيع التطهير العرقي للفلسطينيين إلى جيرانهم. وهذا أمر أكثر أهمية.
هذا يعني أن الفلسطينيين هنا ليبقوا، وبأعداد أكبر من اليهود، داخل فلسطين التاريخية. تحقق ذلك في خضم معاناة شخصية غير مسبوقة، ورغم ذلك أثبت الفلسطينيون تمسكهم بهذه الأرض.
هذا هو انتصار الروح الإنسانية على القهر المنظم. وهذا هو أيضاً الدرس المستفاد من المحرقة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية ديفيد هيرست غزة الاحتلال غزة الاحتلال ديفيد هيرست العدوان صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة السابع والعشرین من الإبادة الجماعیة من الفلسطینیین فی التاریخ البی بی سی الحصار عن شمال غزة إلا أن لا یقل فی غزة
إقرأ أيضاً:
الشاب الذي اغتالته إسرائيل.. لكنه فضحهم إلى الأبد
قُتل الصحفي الشابّ في قناة الجزيرة، حسام شبات، يوم الرابع والعشرين من مارس/ آذار، حين استهدفته طائرة مُسيّرة إسرائيلية بصاروخ واحد أثناء وجوده داخل سيارته.
وقد أفاد صحفي آخر قام بتوثيق آثار الجريمة أن حسام كان قد أنهى للتوّ مقابلة صحفية، وكان متوجهًا إلى المستشفى الإندونيسي في شمال غزة من أجل بث حي على قناة الجزيرة مباشر.
وقد اعتبرت لجنة حماية الصحفيين عملية قتله جريمة قتل متعمدة. وكان حسام يساهم أيضًا في موقع "دروب سايت نيوز" الأميركي، حيث استخدم الصحفي جيفري سانت كلير تقاريره الميدانية الحية ضمن "يوميات غزة" التي نشرها.
ترك حسام رسالة قبل استشهاده جاء فيها:
"إذا كنتم تقرؤون هذه الكلمات، فهذا يعني أنني قد قُتلت – على الأرجح استُهدفت – من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي.. لقد كرست الثمانية عشر شهرًا الماضية من حياتي كاملةً لخدمة شعبي.
وثقتُ أهوال شمال غزة دقيقةً بدقيقة، مصممًا على كشف الحقيقة التي حاولوا طمسها.. وأقسم بالله إنني قد أديتُ واجبي كصحفي. خاطرتُ بكل شيء لنقل الحقيقة، والآن، أرقد بسلام…".
في وقت سابق من يوم استشهاده، استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي الصحفي محمد منصور، العامل لدى قناة فلسطين اليوم، مع زوجته وابنه، عبر قصف مباشر لمنزله في خان يونس.
إعلانوبعد اغتيال شبات، احتفى الجيش الإسرائيلي بقتله علانيةً، إذ نشر عبر حسابه الرسمي على منصة "إكس" منشورًا تفاخر فيه بـ"تصفية" حسام، قائلًا: "لا تدعوا السترة الصحفية تخدعكم، حسام كان إرهابيًا". وكان الاحتلال قد زعم قبل ستة أشهر أن شبات وخمسة صحفيين آخرين – جميعهم يعملون لدى قناة الجزيرة – ينتمون إلى حركة حماس.
في ذلك الوقت، كان شبات يغطي الأحداث من شمال غزة، تلك المنطقة التي لم يتبقَّ فيها سوى قلة من الصحفيين، حيث كانت إسرائيل قد أطلقت حملة إبادة مركزة، وكان شبات وزملاؤه يرابطون هناك لتوثيق الجرائم الإسرائيلية وتقديم تغطية مستمرة.
كان حسام يدرك أن إعلان الاحتلال له كـ"عنصر من حماس" يعني نية مبيّتة لاستهدافه. لذلك دعا مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي إلى رفع أصواتهم مستخدمين وسم "#احموا_الصحفيين"، قائلًا:
"أناشد الجميع نشر الحقيقة حول ما يتعرض له الصحفيون، لفضح خطط الاحتلال الإسرائيلي الرامية إلى فرض تعتيم إعلامي. انشروا الوسم وتحدثوا عنا!".
وكانت آخر رسالة صحفية له، والتي أُرسلت قبل ساعات من مقتله، قد تُرجمت من العربية إلى الإنجليزية بواسطة شريف عبد القدوس، وافتتحت بهذه الكلمات:
"كانت الليلة حالكة السواد، يغمرها هدوء حذر. خلد الجميع إلى نومٍ قلق. لكن السكون سرعان ما تحطّم تحت وطأة صرخات مفزعة. وبينما كانت القنابل تمطر السماء، كانت صرخات الجيران تعلن اللحظات الأولى لاستئناف الحملة العسكرية الإسرائيلية. غرقت بيت حانون في الذعر والرعب".
إنه وصف مروع للواقع، يكشف بوضوح السبب الذي دفع إسرائيل إلى إسكات حسام شبات.
وصل عدد الصحفيين الفلسطينيين الذين قُتلوا منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى 236 شهيدًا، بانضمام حسام شبات إلى هذه القائمة الدامية. وفي السابع من أبريل/ نيسان، قصفت إسرائيل خيمة إعلامية في خان يونس، مما زاد من ارتفاع عدد الضحايا.
إعلانمنذ أن أنهى نتنياهو وقف إطلاق النار، انطلقت إسرائيل في موجة قتل عارمة، أسفرت خلال الأيام الثلاثة الأولى عن استشهاد 700 شخص وإصابة 900 آخرين، ولا تزال المجازر مستمرة.
يعلم دعاة الدعاية الحربيّة أنّ خططهم تنهار أمام الشهادات الصادقة والمعارضة الحرة. فالبروباغاندا الحربية تقتضي دومًا فرض الرقابة والصمت.
لم يكن حسام شبات الفلسطيني الوحيد الذي ترك خلفه توثيقًا لعملية قتله والمسؤولين عنها. فقد كان رفاعة رضوان من بين خمسة عشر مسعفًا تم إعدامهم على يد إسرائيل، قبل يوم من اغتيال شبات، وقد ترك تسجيلًا مصورًا لعملية قتله، مما أسقط روايات الاحتلال الكاذبة.
في صباح الثالث والعشرين من مارس/ آذار، قتلت قوات الاحتلال العاملين في الإغاثة الإنسانية برفح، وكانوا ثمانية من طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني، وستة من الدفاع المدني الفلسطيني، وموظفًا من وكالة الأونروا، أثناء تنفيذهم مهمة انتشال الجرحى والشهداء المدنيين.
وبعد انطلاقهم لتنفيذ مهمتهم، انقطعت أخبارهم لأيام. وأطلق الناطق باسم الدفاع المدني، محمود بصل، مناشدات يائسة إلى العالم للضغط على إسرائيل لكشف مصيرهم. حتى الثلاثين من مارس/ آذار، حين تم استخراج جثثهم من قبر جماعي ضحل، وهم لا يزالون يرتدون زيهم الرسمي المضيء.
وقد كشفت الفحوصات الجنائية التي أجراها طبيب تعاقد مع مستشفى في خان يونس عن علامات تشير إلى "عمليات إعدام ميداني" بناءً على أماكن الإصابة القريبة والمقصودة.
وقد عُثر على الضحايا وهم لا يزالون يحملون أجهزة الاتصال، والقفازات، والحقائب الطبية. ونشرت صحيفة الغارديان البريطانية شهادات الطبيب، وأشارت إلى أن إسرائيل قد دمرت النظام الصحي في غزة وقتلت ألفًا من العاملين في القطاع الطبي، وهو ما يرقى إلى جرائم حرب.
وفي الأول من أبريل/ نيسان، غطت صحيفة "نيويورك تايمز" المجزرة، واضعة في عنوانها اقتباسًا على لسان الأمم المتحدة يتهم إسرائيل بقتل عمال الإنقاذ. لكنها افتتحت التقرير بإبراز نفي الاحتلال، حيث ادّعت إسرائيل أن تسعة من القتلى كانوا "مقاتلين فلسطينيين".
إعلانواتّبعت الصحيفة أسلوبها المعتاد في تقديم الروايتين (رغم الفارق بينهما)، مستعرضةً بشاعة المشهد وشهادات وكالات غزة والأمم المتحدة، ثم منح المساحة مجددًا لدفاعات الجيش الإسرائيلي غير القابلة للتصديق، بزعم أن "عددًا من المركبات كانت تتقدم نحو الجنود الإسرائيليين بطريقة مريبة ومن دون إشارات طوارئ".
وزعمت إسرائيل أن من بين القتلى محمد أمين إبراهيم شوبكي، الذي شارك في هجمات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، رغم استحالة تصديق هذه الرواية في ظل الكم الهائل من القنابل التي أسقطت على غزة – بكمية تفوق ما أُلقي خلال الحرب العالمية الثانية – بزعم استهداف حركة حماس فقط، لا عشرين ألف طفل فلسطيني قتلوا جراء ذلك.
غير أن العثور على الهاتف المحمول الذي سجل ما حدث قلب الرواية الإسرائيلية رأسًا على عقب. فقد التقط رفاعة رضوان هاتفه المحمول أثناء تعرض قافلتهم للنيران، وسجل رسالة مؤثرة وهو يركض باتجاه النيران الإسرائيلية محاولًا إنقاذ المصابين. خاطب والدته قائلًا:
"أمي، سامحيني… أقسم بالله إنني اخترت هذا الطريق فقط لأساعد الناس".
وأظهرت اللقطات أن أضواء سيارات الإسعاف كانت تعمل بوضوح، ومع ذلك لم توفر لهم أي حماية.
أكد الشريط المصور ما كان العالم يعرفه بالفعل، وكشف عن شجاعة إنسانية نادرة لشاب فلسطيني واصل إنقاذ الأرواح وسط إبادة جماعية لا توصف.
لقد كان شريط رفاعة رضوان مؤثرًا إلى درجة أن صحيفة "نيويورك تايمز" اضطرت، في السادس من أبريل/ نيسان، إلى نشر عنوان صريح يشير إلى أن "عمال الإغاثة في غزة قُتلوا برصاص إسرائيلي". ومع ذلك، منح التقرير، الذي كتبته إيزابيل كيرشنر، مساحة واسعة لمسؤولي الاحتلال لتقديم دفاعاتهم مجددًا، متجاهلًا المنهجية الإسرائيلية في استهداف القطاع الصحي في غزة.
إن المؤرخين الفلسطينيين يتحدثون بلغة الإنسانية. فهم يروون ما يجري بحقهم كما كتب حسام شبات:
إعلان"كنت أنام على الأرصفة، في المدارس، في الخيام – في أي مكان أجده. كانت كل يوم معركة من أجل البقاء. تحملت الجوع لأشهر، ومع ذلك لم أتخلَّ يومًا عن شعبي".
كما ترك كلمات خالدة:
"لا تتوقفوا عن الحديث عن غزة. لا تسمحوا للعالم أن يغض الطرف. استمروا في النضال، وواصلوا رواية قصصنا – حتى تتحرر فلسطين".
إنها كلمات حكيمة ومؤثرة، ورسالة بالغة الأهمية لشعب يتعرض لإبادة جماعية. وهي تمامًا الكلمات التي يحتاج العالم إلى سماعها اليوم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline