رابطة الكُتاب الأردنيين في يوبيلها الذهبي.. ذاكرة موشومة بالصبر وجمر الكلمات
تاريخ النشر: 31st, January 2025 GMT
قطعت رابطة الكُتاب الأردنيين، أهم الهيئات الثقافية الأردنية على مدار عقود، شوطا بعيدا متعدّد المراحل، متنوع المحتوى، من الإنجاز الثقافي والفكري منذ تأسيسها رسميا بتاريخ 1974/5/19، مرورا بالهيئات الإدارية المتعاقبة التي تولت إدارتها حتى اليوم.
وقد ظلت الرابطة طوال هذه السنوات الـ50 الضمير الحي المعبّر عن كتّاب الأردن ومثقّفيه، وظلت محافظة على استقلالها وعلى انحيازها للإبداع المستقل في عصر مثقفي "التبعية" الملحقين بالسلطات من كل نوع.
ولقد تميزت الرابطة بعطاء غير منقطع إبداعيا ووطنيا، محليا وعربيا ودوليا، وكان لها دور كبير في المحافظة على موقع الثقافة والكتابة، وفي تشكيل أجيال متتابعة من المبدعين ورعايتهم في مناخها وظلالها حتى غدوا في طليعة الكُتاب والمثقفين والمبدعين العرب.
وهو دور نحسب أن الأوان قد حان لمراجعته ودراسته وتنظيم حلقات بحث حوله، بعدما صار للرابطة تاريخ ثقافي حري بالاهتمام والدراسة والتأمل، وهو أمر نقترحه أمام الدارسين والجامعات المعنية بدراسة دور المؤسسات الثقافية ذات الأثر والتاريخ.
تواصل الرابطة مشوارها الثقافي الممتد، وهي تستند إلى ذاكرة موشومة بالصبر وجمر الكلمات، فلقد انطلقت فكرة تأسيسها الجادة والعملية متأثرة بانتحار واحد من أبرز مثقفي الأردن وأدبائه هو تيسير السبول (مواليد الطفيلة 1939) في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني عام 1973، عندما أطلق النار على رأسه في منزله، تاركا رواية وحيدة مؤثرة فازت بجائزة النهار للرواية العربية، هي (أنت منذ اليوم)، وديوان شعر بعنوان (أحزان صحراوية).
إعلانويمكن أن نعدّ روح تيسير السبول المتألّمة أبرز مؤسسي الرابطة -على المستوى الرمزي- وإن لم يسجّل اسمه في سجل الأعضاء، فلقد كانت طلقة المسدس التي أودت بحياته طلقة مدوية دفعت زملاءه للمّ شتات الأدباء والدعوة القاطعة لتأسيس رابطة أو هيئة تعنى عناية حقيقية بالأدب والكتابة وبشؤون الأدباء ومشاغلهم.
وهناك عدة روايات وكتابات تحدّثنا عن مرحلة التأسيس، وقد استقر عندي أن هناك جهودا متداخلة أسهمت في إنجاح الفكرة وتحقيق الهدف. فلقد اجتمع نحو (20) كاتبا في منزل الأديب الراحل عدي مدانات بتاريخ 1973/11/22، إثر انتحار تيسير السبول، ووفق وصف الراحل عز الدين المناصرة لهذا اللقاء، "فقد فجّرت مأساة سبول مشاعر أصدقائه، فأرادوا تحويل هذا الحدث المأساوي إلى قيمة إيجابية، فاقترح عدد من الحضور مناقشة موضوع (تأسيس رابطة للكُتاب في الأردن)، وفعلا تمت المناقشة لساعات طويلة".
ولقد سبقت هذه المرحلة دعوات كثيرة لتأسيس رابطة أو اتحاد أو هيئة للكتاب، ففكرة وجود رابطة أدبية تجمع الأدباء وتعبر عن قوة حضورهم في مجتمعهم موجودة في التاريخ الثقافي الأردني منذ خمسينيات القرن الماضي، كما تأسست في بعض الأقطار العربية الشقيقة هيئات أدبية معروفة، ولذلك كتب كثيرون وحاول كثيرون تأسيس الهيئة المأمولة، من مثل محاولات: حسني فريز، وأمين شنار، وعيسى الناعوري، وغيرهم.
وعندما تأسس اتحاد الأدباء العرب كان الأدباء الأردنيون يشاركون بصفتهم الفردية ويعجبون من عدم نجاحهم في تأسيس رابطتهم كما هو حال زملائهم من الأدباء العرب، إلى أن نجحت المحاولة الأخيرة بُعيد انتحار تيسير السبول.
الاجتماع الفاصل في نادي خريجي الجامعة الأردنيةواستئنافا لما تم الاتفاق عليه في هذه الجلسة انعقدت ندوة للجنة التحضيرية التأسيسية في نادي خريجي الجامعة الأردنية مساء يوم 1973/12/23، وتحدث فيها: محمود السمرة، وعيسى الناعوري، ومحمود سيف الدين الإيراني، وعز الدين المناصرة إلى جانب عصام زواوي رئيس نادي خريجي الجامعة الأردنية آنذاك، وحضر الندوة نحو 40 كاتبا.
إعلانوفي هذا الاجتماع المصيري اتفق المجتمعون على تسمية هذه الهيئة (رابطة الكتاب الأردنيين) وأقروا أسماء الأعضاء المؤسسيين لغاية ترخيص الرابطة رسميا، ووضع النظام الداخلي للرابطة، وغير ذلك من خطوات تنظيمية وإدارية مهمة. أما نص (النظام الداخلي) فقد صاغه عز الدين المناصرة وراجعه الأديب المحامي عدي مدانات، وأقره الآخرون بعد المناقشة والتعديل، بحسب رواية المناصرة.
أهداف الرابطةنصّت (المادة الثالثة) من أول نظام داخلي للرابطة على الأهداف التي تعمل على تحقيقها، وهي الأهداف الطموحة الآتية:
تنشيط الحركة الفكرية والأدبية في الأردن وتوسيع قاعدتها، والعمل على توسيع دائرة القارئ الأردني، وتعميق ثقافته الفكرية. العمل على توفير الظروف الملائمة، لنمو وتطور الطاقات الإبداعية لدى الكُتاب في الأردن في مجالات الخلق والتعبير الفكري، في جو من الحرية والانطلاق. استلهام الجوانب الإنسانية والوطنية في التراث القومي والأدب الشعبي، من أجل وضعه في تيار الأدب العالمي. رصد الواقع العربي، والبيئة الأردنية، فيما يبدعه الكاتب الأردني، والعمل على جعل الأدب مرآة صادقة للواقع الحياتي، ومعبرا عن طموحات وآمال الإنسان الأردني والعربي. تشجيع ورعاية وتنظيم الندوات والمؤتمرات الأدبية والفكرية، وتقديم العون الممكن للكُتّاب الأردنيين، الذين يقومون بأبحاث ودراسات في المجالات الفكرية والأدبية، بما يتفق وأهداف الجمعية. الانفتاح على الثقافة الإنسانية في الوطن العربي والعالم. تعزيز الصلات بين الأدباء الأردنيين (من خلال الرابطة)، وبين المؤسسات الأدبية والثقافية في الوطن العربي والعالم، خصوصا اتحاد الكتّاب العرب، والاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين. إصدار المطبوعات والمجلاّت الأدبية والثقافية، التي تكون منبرا للكاتب العربي في الأردن ونشر إنتاجه، لتكون صلة الوصل بين ما ينتجه الكاتب في الأردن، والفكر العربي والعالمي. استكشاف وتشجيع المواهب الفتية وإبرازها، والعمل بكل الوسائل على رعايتها، وإتاحة الفرص أمامها، لتتطور وتأخذ مكانها المناسب في الحركة الأدبية والفكرية الأردنية. العمل على تأمين مستوى حياة لائق للكاتب العربي في الأردن، بحيث يتمكن من الإبداع في جو من الاستقرار المادي والمعنوي، في ظل ديمقراطية (مسؤولة). العمل على وضع أسس كفيلة بأن تجعل الكتابة، (مهنة)، تُؤَمن للكتَّاب، فرص الإبداع والعيش الكريم. العمل على وضع الأسس والتشريعات، التي تكفل للكتّاب حماية آثارهم وحقوقهم الأدبية وحريتهم. العمل على تأمين نشر الإنتاج الأدبي والفكري في الأردن، والسعي لتأمين المصادر المالية اللازمة لذلك، دون أن يترتب على ذلك أي شروط من قبل الجهات الداعمة. تنظيم ندوات ومؤتمرات تنسجم وأهداف الجمعية أو الرابطة. إعلانأما الهيئة التأسيسية الرسمية التي تقدمت بطلب الترخيص وقيدت أسماء أعضائها في وثائق الرابطة فتضم أسماء 13 أديبا وكاتبا هم:
(محمود السمرة، عبد الرحيم عمر، خليل السواحري، سالم النحّاس، جمال أبو حمدان، فواز طوقان، أمينة العدوان، هاشم ياغي، هاني العمد، سليمان عرار، روكس بن زائد العزيزي، عبد الرحمن ياغي، مفيد نحلة).
ونضيف إلى هؤلاء جهود الأدباء والمثقفين الذين أسهموا في التأسيس ولم تقيد أسماؤهم في طلب الترخيص الرسمي من مثل: محمود سيف الدين الإيراني، عيسى الناعوري، عدي مدانات، عز الدين المناصرة، عوني فاخر، راكان المجالي، عصام العجلوني، إحسان رمزي وغيرهم من أبناء تلك المرحلة التأسيسية العريقة.
وبعد الحصول على موافقة الحكومة الأردنية على التأسيس بتاريخ 1974/5/19 جرت أول انتخابات للرابطة وتسمية الهيئة الإدارية الأولى في تاريخها يوم 1974/6/2 وتشكلت على النحو الآتي: (عبد الرحيم عمر (رئيسا)، وعضوية: خليل السواحري، وسالم النحاس، وروكس العزيزي، وهاني العمد، وسليمان عرار، وهاشم ياغي).
وقد غاب عن الخطوات الفعلية والعملية الأولى للرابطة عدد من الأدباء ممن كان لهم دور فاعل في تأسيسها، مثل: الأديب القاص محمود سيف الدين الإيراني بعدما رحل عن الدنيا يوم 31 مايو/أيار 1974، بعد أيام قليلة من الحصول على الترخيص الرسمي للرابطة.
كما غاب الشاعر عز الدين المناصرة فغادر عمّان إلى بيروت بتاريخ 14 يناير/كانون الثاني 1974 ملتحقا بالثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير في المرحلة اللبنانية. وعند عودته إلى عمان بداية تسعينيات القرن العشرين منحته الهيئة الإدارية برئاسة الأديب الراحل فخري قعوار عام 1992 بطاقة عضوية (تحمل صفة: مقرر الهيئة التأسيسية)، ذلك أنه غادر الأردن قبل تأسيس الرابطة بشهور، ولم يتقدم بطلب عضوية في أي مرحلة من تاريخ الرابطة.
لقد وضع المؤسسون الأوائل أهدافا رفيعة لرابطتهم وعملت الرابطة طوال تاريخها الممتد لـ50 عاما على تحقيقها وتوسيعها، ولكنها لم تبعد عنها في معظم الأحوال، وما من شك في أن مسيرة الرابطة تترجم هذه الأهداف الطموحة.
إعلانفالحياة الأدبية والثقافية في الأردن منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم تدين في تطورها وتقدمها لتأثير الرابطة وحركتها الدائمة، فهي الحاضنة الأساسية لأبرز مفاصل تلك الحياة وملامحها الأساسية، ولقد ساهمت أجيال متتابعة في بناء ذلك "التاريخ" الثقافي المؤثر، وفي تكوين شخصية الرابطة، لتغدو تنظيما ثقافيا ديمقراطيا، يضم كُتابا وأدباء ومفكرين من مختلف الاتجاهات والاجتهادات، يتفقون على استقلالية الرابطة وشخصيتها الاعتبارية الحرة ويختلفون في التعبير عن ذلك.
ولم يشهد تاريخ الرابطة إقصاء لأي كاتب بسبب رأيه أو فكره، وباستثناء قلة قليلة أدينت في مجال "التطبيع" فليس في تاريخ الرابطة أي مؤشرات على قلة الصبر على المختلفين أو المعارضين.
ومن أقدار الرابطة اقتران العمل الثقافي والإبداعي بالموقف السياسي والاجتماعي، وجرت محاولات وعلت مطالبات لقصر دورها في المجال "الأدبي" و"الإبداعي" وحده، ولكن ذلك كله لم يفض إلى شيء ذي بال، بل ظلت الرابطة تجمع بين الأدب وامتداداته السياسية ودوره المأمول في المجتمع.
ولذلك يبدو النهج الديمقراطي الوطني نهجا أصيلا راسخا في وعي الرابطة وتاريخها الطويل، وهو أحد معالمها البارزة التي تعتز بها وتعمل على ترسيخها للأجيال المتتابعة من المنتسبين إليها.
ولقد أثبتت التحولات المتتابعة أن فكرة الكاتب "المهني" الذي يضع يده على خده ويكتب ما توحي به آلهة الإلهام فكرة بائسة بل لا وجود لها خصوصا في العالم العربي المشتعل، فالكاتب مثقف فاعل عضوي له دور وموقف، ولا بد أن تتأسس رسالة الجمال التي يحملها على عناصر الواقع الذي يعيشه، دون أن يعني ذلك أن يغدو الكاتب بوقا دعائيا لسلطة أو أيديولوجيا محددة، فالكاتب سلطته هي موقفه واستقلاله عن كل السلطات الأخرى.
لقد نهضت الرابطة بدور مؤثر في تطوير الحركة الثقافية وتوجيهها على مدى عقود، ملتزمة بنهجها الديمقراطي الحقيقي، فهي تفرز قياداتها في صورة هيئات إدارية منتخبة كل عامين، وهي لا تسمح بتكرار الانتخاب أكثر من دورتين متتابعتين لمقاومة ما قد ينشأ من أمراض السلطة حتى بالمعنى الثقافي، ومن يعرف تاريخ انتخاباتها يدرك أنها مثال للديمقراطية الحقيقية يتنافس المتنافسون أمام الهيئة العامة وعندما تنتهي الانتخابات تعود الرابطة لوحدتها رابطة واحدة موحدة بعيدا عن تأثيرات التيارات المتنافسة على قيادة الرابطة.
إعلانوللرابطة دور مبكر في نشر إنتاجات أعضائها، ولقد استمر نشاطها في مجال نشر الإنتاج الإبداعي والثقافي حتى اليوم، ومن بين منشوراتها أعمال متميزة في الشعر والسرد والنقد لا تزال من أبرز معالم المكتبة الأدبية والثقافية الأردنية والعربية.
وأصدرت الرابطة مجلة ثقافية معروفة باسم "أوراق" لا تزال تصدر حتى اليوم رغم تقطع نشرها في بعض المراحل، وهي من أبرز المجلات العربية التي تصدر عن الهيئات الثقافية، من ناحية تنوُّع محتواها ومستوى ما ينشر فيها، وإن أي عودة إلى أعدادها السابقة تشهد على أنها تعكس صورة الرابطة ومستوى استقلالها ووعيها الثقافي والإبداعي.
أول كتاب صدر عن الرابطة عام 1975، هو مختارات قصصية لعدد من الكُتاب يمثلون أجيالا متعددة ويلتقون في اهتمامهم بالإبداع القصصي، ونقرأ في هذه البداية عدة أمور، منها: مكانة الإبداع الأدبي في توجهات الرابطة ومواقفها واهتماماتها، فقد كان الأدب والأدباء العمود الأساس في نشأة الرابطة وتأسيسها، ذلك أنها ليست حزبا ولا هيئة سياسية أو فكرية في المقام الأول، وإنما هي هيئة أدبية ثقافية، تضع الأدب في مقدمة اهتمامها ثم تنتقل إلى ما يرفده ويقويه ويرتبط به، فالسياسة -على سبيل المثال- مهمة بوصفها خيطا أو مكونا أدبيا وثقافيا، لا بصفتها المستقلة العملية.
وقد حمل غلاف الإصدار عنوان "17 قصة قصيرة" وعلى الغلاف أسماء الكتّاب مؤلفي القصص: (إبراهيم العبسي، إبراهيم الخطيب، أحمد عبد الحق، أحمد عودة، أنور أبو مغلي، حسن أبو لبة، خليل السواحري، سالم النحاس، سعادة أبو عراق، عدنان علي خالد، محمد أبو صوفة، محمد صالح خروب، مصطفى صالح، وليم هلسة، يوسف الغزو، يوسف ضمرة، يوسف يوسف).
إعلانوقد حمل الإصدار على الجهة اليسرى رقما متسلسلا (1) ولكن الرابطة لم تواصل لاحقا ترقيم منشوراتها بعدما كثرت وتداخلت، ولا نعرف على نحو دقيق عدد منشوراتها، وللأسف ليس هناك سجل (ببليوغرافي) دقيق لمنشوراتها، ولا أرشيف موثق يضم نسخا من تلك المنشورات. وهو أمر ينبغي معالجته وتداركه في إطار شامل لمراجعة موقع الرابطة وتوثيق منجزاتها بشكل علمي دقيق.
القصة القصيرة.. أول نوع أدبي في تاريخ الرابطةالبداية دائما لها قيمة وأهمية، ومن حظ هذه القصص أن تُفتتح بها منشورات الرابطة، بل من حظ "القصة القصيرة" أن تكون أول نوع أدبي تعنى الرابطة به، ولعل في ذلك مؤشرا على النشاط السردي والقصصي عند عدد من مؤسسي الرابطة وكُتابها وأعضائها الأوائل، فإذا أرادت إيضاح صورتها أول مرة اعتمدت بثقة على المخزون القصصي عند مبدعيها قبل الشعر وقبل النقد وغير ذلك من ضروب الكتابة.
وقد يكون في هذا الاختيار السردي بعض أثر من تيسير سبول الذي تأسست الرابطة بعد مناقشات تبعت انتحاره المدوي، وكأن فكرة الرابطة تريد ضمنا وصراحة أن تكفل الحياة للمبدعين ولما يحملون من ثقافة جديرة بالحياة، ومنها هذه القصص المبكرة التي تمثل فيما تمثل أبرز اتجاهات كتابة القصة وميولها الإبداعية في النصف الأول من عقد السبعينيات من القرن الماضي.
ويمكن أن نتبين في تلك الأسماء تداخل الأجيال وتجاورها وتواصلها في إطار التراحم الإبداعي، فخليل السواحري وسالم النحاس مثلا من جيل الستينيات وهما يتجاوران ويتحاوران مع جيل جديد وجد في الرابطة ومناخها النضالي والثقافي ضالته المنشودة وتطور لاحقا في ظلالها، بل وأسهم في رحلة الرابطة وفي تطورها على مر السنوات، وهذا ينطبق على أسماء جديدة آنذاك؛ كيوسف ضمرة وأحمد عودة ويوسف يوسف وغيرهم.
وهذه العلاقة التواصلية بين الأجيال ظلت تميز مسيرة الرابطة حتى اليوم بعيدا عن صدام الأجيال وتناحرها، فنبرة "قتل الأب" و"صراع الأجيال" وما يفضي إليه ذلك من معارك أدبية نبرة غائبة أو خافتة في مسيرة الرابطة ومسيرة الكتابة الأردنية بشكل عام.
إعلانواليوم حين نعود لأسماء القصاصين الذين أسهموا في هذا الكتاب نتذكر مع كل منهم طرفا من تاريخ الرابطة، كما نتأمل فعل التاريخ ومسار الزمن، فلقد توزعت السبل بهؤلاء الكتاب، فبعضهم واصل طريق الكتابة القصصية وأسهم إسهاما حاسما في تطويرها، وبعضهم انصرف عنها إلى غيرها من مجالات الكتابة الأدبية أو غير الأدبية. ويحس المرء بالحزن والأسف لفقد عدد من هؤلاء الكُتّاب، بعدما غادروا كتاب الدنيا إلى كتاب الآخرة.
لقد رحل عدنان علي خالد، الذي كوّن ما يشبه الصالون الأدبي في صالون الحلاقة الذي يديره في مدينة الزرقاء ويعرفه جيدا أبناء تلك المدينة أو زوارها من أعضاء الرابطة، ورحل خليل السواحري وسالم النحاس وإبراهيم العبسي، وهم من الرواد الذين لا تنسى بصماتهم النقابية إلى جانب تميزهم الإبداعي المعروف. ورحل غير هؤلاء أيضا، وظل غيرهم أحياء يواصلون إبداعهم، أو أنهم صمتوا وغابوا في زحمة الحياة.
هذا إذن أول كتاب تنشره رابطة الكتاب الأردنيين نستذكر معه روح الرابطة ومكانتها العالية، ونعلم أن المسيرة لم تكن كلها سهلة، ولكن الأمور بخواتيمها وبمآلاتها، والرابطة اليوم بيت متسع تتعايش فيه اتجاهات وتيارات أدبية وفكرية، وتتنافس الكتل والتجمعات في مواسمه الانتخابية، والكل حريص على النهوض بدور يليق به في الرابطة.
والمأمول أن تظل روح الرابطة الديمقراطية موجهة للجميع، يسندها تاريخ طويل من العمل والنضال كتابة وسياسة، وصلت إلى حدود التصادم مع السلطة إلى حد إغلاق الرابطة وشمعها بالشمع الأحمر، وذلك عندما حُلّتْ بقرار عرفي صادر من الحاكم العسكري، بتاريخ 1987/6/17، وقد قوبل هذا القرار بالرفض من أعضاء الرابطة وهيئتها الإدارية، ومن الاتحاد العام للأدباء والكُتاب العرب، الذي استمر في اعتبارها عضوا فيه، وأعيد فتحها بتاريخ 1989/12/15 بعد انفراج الأحوال السياسية نحو المرحلة الديمقراطية في الأردن.
إعلاننستذكر-أخيرا- بهذا الكتاب جانبا مضيئا من تراث الرابطة، يستذكر فيه قدامى الكُتاب شبابهم وشباب زملائهم في تلك المرحلة، ويطلع كتاب المرحلة الراهنة على اهتمامات الكتابة ونبراتها السردية قبل نحو 50 عاما، تقلبت خلالها الاتجاهات وتغيرت النبرات، لكن نبرة المقاومة وطنيا واجتماعيا ظلت على حالها تبدل أشكالها وتقنياتها ولا تبدل جوهرها الإنساني المدافع عن فلسطين وعن كل شبر عربي محتل، مثلما تدافع عن حقوق الفقراء الذين أرهقتهم نظم الاقتصاد المعولم وما يتداخل معها من استبداد الشركات العابرة للحدود.
وليس الهم العام ببعيد عن مناخات القصص التي نشرتها الرابطة في كتابها الأول، فكلها انتصرت للإنسان وأبرزت الهم العام، وعلى رأسه همّ فلسطين وقضيتها التي لم تزل القضية العربية الأولى منها المنطلق وبها المسير وإليها المصير.
تاريخ عريق ومستقبل مفتوحوبمناسبة ذكرى تأسيسها يمكن أن نذكّر ببعض ما ينبغي القيام به:
فالتاريخ العريق الممتد يحتاج إلى توثيق لمختلف نشاطاتها ومنشوراتها ووثائقها وبياناتها منذ التأسيس وحتى عهدها الراهن، وهو عمل يمكن أن يقوم به متطوعون من أعضائها بإشراف الهيئات الإدارية.
الأمر الثاني أننا نلاحظ غلبة الفعاليات اليومية أو الاحتفالية وهي فعاليات ضرورية لكنها لا بد أن تستكمل بنشاطات وفعاليات دورية مدروسة على هيئة ملتقيات ومؤتمرات تتسع لخبرات أعضاء الرابطة ولاختصاصاتهم المختلفة، ويقتضي هذا مواصلة عقد "ملتقى السرد العربي" الذي شرعت الرابطة في تنظيمه ابتداء من عام 2008.
كما ينبغي تأسيس ملتقى لشؤون الشعر وقضاياه، وملتقى ثالث يختص بمجالات الفكر والدراسات الثقافية لتتكامل هذه الملتقيات معا ومع الفعاليات اليومية في تطوير الحركة الأدبية والثقافية خصوصا مع ما يشهده العالم من تطورات في مختلف المجالات الثقافية.
والدعوة الثالثة تتصل بمزيد من الاهتمام بالأصوات الجديدة في المجالات الأدبية المختلفة كيلا تشيخ الرابطة وتقتصر على الأجيال السابقة، ويقتضي هذا تفعيل مسابقة الرابطة للأدباء الجدد والاهتمام بهذه الفئة من الكُتّاب اهتماما حقيقيا، لأنها تمثل مستقبل الرابطة وضمان استمرارها.
إعلانالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الأدبیة والثقافیة تاریخ الرابطة تأسیس رابطة حتى الیوم اب الأردن فی الأردن العمل على ت الأدبیة رابطة أو الک تاب عدد من
إقرأ أيضاً:
أدب الأسرى بمؤتمر لرابطة الكتاب الأردنيين.. الرواية تقود المشهد وقصائد مسكونة بالهوية والحرية
عمّان- طالبت قامات أدبية وثقافية وفنية أردنية وفلسطينية وجزائرية ولبنانية وعراقية مشاركة في المؤتمر الأول لأدب الأسرى في سجون الاحتلال -الذي نظمته رابطة الكتاب الأردنيين- بإطلاق تسمية "أدب الحرية" بدلا من "أدب أسرى السجون الإسرائيلية".
وأيد الناقد رشيد النجاب مؤلف كتاب "فلسطين في النثر العربي الحديث" مقترح "أدب الحرية"، وقال إن الأسير كميل أبو حنيش ابتكر في روايته "الجهة السابعة" بأبوابها الثلاثة خروجا من نطاق الأسر وسعيا نحو الحرية وهو في الزنزانة، حيث عاش مع القارئ أيام الشباب والحب والدراسة والمقاومة خارج الأسر.
وقال النجاب للجزيرة نت إن "إخواننا الأسرى يسألون: رجاء، لا تعاملونا بعطف في توجيه النقد، بل بما من شأنه رفع قيمة ما يكتب في أدب الحرية، فروايتا باسم خندقجي السابقتان "مسك الكفاية" و"خسوف بدر الدين" تتسمان بالحداثة، فهما تتحدثان عن الإنترنت وما يحتويه، والأهم أنهما تتميزان بالمواجهة المباشرة بين السردية الفلسطينية والصهيونية".
ودعا النجاب إلى تدريس "أدب الحرية" في المدارس والجامعات كمادة أساسية في اللغة العربية.
ومن أبرز توصيات المؤتمر عقب 6 جلسات اختتمت الخميس وتناولت مواضيع الشهيد وليد دقة كرمز وأيقونة ودراسات في الأعمال الإبداعية والفنية ودور المؤسسات العربية والدولية في دعم الأسرى وتجليات السجن في أدب الأسيرات منح جائزة سنوية باسم "أدب الأسرى" تبرعا من الدكتور فتحي أبو عرجة، وتحديد يوم الأسير الفلسطيني "يوم الوفاء" في 17 أبريل/نيسان كموعد لعقد المؤتمر الثاني، واختيار اسم أسير عنوانا له، ومتابعة أعمال درامية من كتب الأسرى أو من وحيها، والتواصل مع اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية لتسليط الضوء على المنجز الإبداعي للأسرى، ومتابعة الجهود مع دول صديقة مثل فنزويلا وكوبا لتوفير منح دراسية لأبناء الأسرى.
إعلانمن جهته، أشار الأديب عفيف طاووق (لبنان) إلى خطأ شائع وقضية فكرية وسياسية لاقت استحسان المشاركين والضيوف مفادها "عندما نطلق على المعتقلين صفة الأسرى، فالأسير هو الذي يعتقل على أرض الغير، أما هؤلاء فالحقيقة أنهم ليسوا أسرى، بل مخطوفون على أرضهم ووطنهم، وقد احتجزت حريتهم وأودعوا المعتقلات".
حسن عبادي: لكل أسير كتابوأبلغ المحامي الحيفاوي حسن عبادي كما يحب أن ينسب إلى عروس البحر الأبيض المتوسط الجزيرة نت أنه بدأ التواصل مع "أسرى يكتبون" في نيسان (أبريل) 2019، وقد قام بـ400 زيارة تطوعية للأسرى الكتاب والأسيرات حتى 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وقال إنه لمس أن الكتابة بالنسبة للأسير تعد متنفسا والرئة التي يستنشق من خلالها الحرية، وقد وصفتها الأديبة المحررة عائشة عودة بأنها "فكرة ولادة".
وأضاف أنه استطاع أن يزودهم بآلاف الكتب تحت شعار "لكل أسير كتاب"، مشيرا إلى أن الأسرى كانوا يعتقدون أن الأدب توقف عند الراحل محمود درويش وغيره، نتيجة لانقطاع تواصلهم مع الكتاب خارج الوطن، ونتيجة لتعميم مبادرة "لكل أسير كتاب" بدأ كتاب من الوطن العربي يسألون عن كتابات الأسرى، مثل أحمد أبو سليم وصفاء أبو خضرة.
وأوضح عبادي أن فكرة "أسرى يكتبون" انطلقت من هنا بالتعاون مع رابطة الكتاب الأردنيين، ومن خلالها عقدت 29 ندوة تناولت كتابات الأسرى بمشاركة أحد أقارب الأسير، إلى جانب مساعدة أسرى ليس لهم حاضنة في إصدار كتبهم، إذ موّل عبادي وزوجته طباعة 40 كتابا.
وفي رده على سؤال، قال عبادي "أدب الحرية في تطور مستمر، فقد انتقلوا إلى الأدب الحداثي بعد مغادرتهم قضبان المحتل، ولم يكتبوا عن جدران السجن فحسب، بل تناولوا وضع السجن برؤية فكرية متقدمة ومنفتحة، الكتّاب أصبحوا أكثر ثقافة وانفتاحا على القضايا المطروحة، والبنية الفنية أصبحت أقوى من حيث الموضوع والأسلوب، إنهم يقولون -أي الأسرى- لا نريد منكم شفقة، احكموا على كتاباتنا كي نتعلم ونتطور، لا تطبطبوا علينا".
إعلانواعتبر المحامي الحيفاوي المؤتمر خطوة كبيرة ورافعة لأدب الحرية، داعيا الكتّاب والناشرين إلى الاهتمام بقراءة مؤلفات الأسرى والكتابة عنها والحديث عنهم.
وتحت عنوان "الشهيد دقة رمز وأيقونة" تحدث رئيس نادي الأسير السابق عيسى قراقع عن الأبعاد الفكرية والفلسفية في كتابات الشهيد وليد دقة، فأطلق عليه لقب "فيلسوف الحرية"، إذ خط مشروعا ثقافيا وفكريا وإنسانيا ونضاليا طوال 3 عقود، مما شكّل مفارقة في أدب وثقافة المقاومة عندما ناضل من داخل معتقله من أجل تحرير الأحرار، قائلا "نحن سُجنا لنحرر لا لنتحرر".
وخاطب قراقع القامات الثقافية والأدبية قائلا "وليد اتخذ السجن خندقا وميدانا للمقاومة الثقافية، حيث تمحورت كتاباته حول السجن والوطن والحياة والمستقبل، وليد يبقى عصيا على التصنيف منظرا وباحثا سياسيا وروائيا رساما ومسرحيا"، وكما وصفه أحدهم "هنا جامعة اسمها وليد دقة".
ووصف قراقع الكتابة في السجن بأنها مقاومة قائلا "أكتب حتى أتحرر من السجن على أمل أن أحرره، إننا نكتب عن السجن لننفيه، نؤكده لننفيه، فتأكيده يظهر غياب الحرية، المعنى الجديد للسجن يمكن تلخيصه بالصمود في معركة: ثقف نفسك بنفسك لتصل إلى نتيجة: حرر نفسك بنفسك".
وعلى لسان الشهيد وليد يورد قراقع "إن التحرر هو السبيل الوحيد للحرية، وهو فعل خارجي (هدم)، في حين الحرية هي القيمة التي تسعى الشعوب لتحقيقها، وهي فعل داخلي، فإذا كان التحرر من الاحتلال شرطا ضروريا لتحقيق الحرية فإن الحرية هي الشرط الكافي للحفاظ على إنجازاته، فكم من بلد تحرر، لكن شعبه لم يحظ بالحرية بصفتها قيمة غير خاضعة لحسابات موازين القوى وغير قابلة للمساومة".
وتحدث وليد -وفق قراقع- عن مجتمع السجن، خاصة ظاهرة "الكابو" التي يدعمها المحتل، وهم الأسرى المتعاونون مع السجان ضد زملائهم، حيث نجحت سلطات السجون في صنع هذه الظاهرة وتحويل حياة الأسرى إلى إقطاعيات أو إمارات منفصلة تسودها الشللية والفردية والفساد وغياب النضال الجمعي والوحدوي، فالمفتاح الناظم بين الأسرى أصبح الجغرافيا والبلديات.
ويقول وليد "لا أريد العودة إلى فلسطين الماضي، فلسطين الانتدابية، أنا أريد فلسطين المستقبل التي لا بد أن تتطابق فيها الهوية الوطنية الجامعة مع جغرافيا الوطن الكامل، أوسلو تنازلت عن جزء من الوطن مقابل الدولة، واستعاض أصحابها عن العودة بحكاية العودة، وبهذا المعنى أصبحت العودة فلكلورية والدبكة الشعبية بديلا عن برنامج العودة، واختزل الوطن إلى ما يشبه الوطن".
وتطرق وليد في كتابه "حبر الوعي" إلى التعذيب الجسدي كما ورد في اتفاقية مناهضة التعذيب، فطالب مؤسسات حقوق الإنسان بتعريف جديد للتعذيب يشمل النظم غير الحسية وغير المباشرة التي تهدف إلى التدخل في تفكير الأفراد، في عملية "مسح دماغي زاحف ومتدرج"، في محاولة لما سماها "هندسة الجماعة والسيطرة عليها"، حيث يعيش الأسير حالة من الاغتراب تجاه الزمن الحقيقي، وتقاس الأشياء لا بعقارب الساعة، بل بالأحداث داخل جدران السجن، حيث يتعمد الاحتلال بناء ستار حديدي بين الأسير والزمن.
إعلانولم يغب الانقسام الفلسطيني عن نتاجات الشهيد وليد دقة، وفق ما طرحه قراقع "السجان إسرائيلي، ولكن من يصنع له المزيد من الأقفال هو الانقسام الفلسطيني، نقولها لمن ضلوا الطريق نحو الحرية: الحالة الفلسطينية المنقسمة سياسيا ألقت بظلالها الثقيلة على شقيقتها الأسيرة، الانقسام الذي طال أنتج اقتصاد الانقسام وثقافته، هناك تخوف حقيقي من أن تتحول هذه الثقافة إلى هوية".
صراع المفاهيم وتغيرهاوتحدث الأسير المحرر الدكتور عزمي منصور -الذي قضى 18 سنة في السجن بعد حكم بالمؤبد- عن إضرابات السجون وتغير المفاهيم بعد اتفاق أوسلو، متسائلا "ما هو الاحتلال؟ هل هو فلسطين التاريخية أم الضفة وغزة؟ ما هو التعذيب؟ ما هو الفصل العنصري؟"، مشيرا إلى المقولة "ما حصل في غزة لا نريده أن يحدث في الضفة الغربية" وإلى فتح مول في رام الله "والشعب يذبح في غزة"، معتبرا أن ما سماه "التنافر المعرفي" يقود إلى الفوضى في الأفكار والمفاهيم.
ووصف الشهيد وليد دقة بأنه من أبرز مفكري الحركة الأسيرة، وقال للجزيرة نت إن المحتل عمل من خلال نظرية "التنافر المعرفي" على نوع من غسل الدماغ وضرب الاتجاهات الفكرية وتفكيك مفاهيم الوطن والشعب والمقاومة والتضامن الاجتماعي وكسر عزة النفس، مما أوجد اتجاهين في الواقع الفلسطيني: الأول: لا يعترف بالعدو، ويعتبر فلسطين من البحر إلى النهر، ويرى الكفاح المسلح طريق التحرير.
والثاني -وفق منصور- يرى أن فلسطين هي "الضفة وغزة"، وبالتالي يعترف بالعدو ولا يقاومه إلا عبر المقاومة السلمية انطلاقا من تغيير بنود في الميثاق الوطني الفلسطيني، لذلك يميل إلى الاستكانة مع العدو تحت مسمى "إدامة التفاوض"، حسب تعبيره.
وفي قراءة لكتاب "صهر الوعي" لوليد دقة شهيد الوعي كما وصفه رامي ياسين في مداخلته قال "اعتبر شهيدنا الأسر فعلا ذاتيا داخل العقل، وتجرد من ظلال الأسر، وكتب بعين العارف بحثا علميا سياسيا فلسفيا يقدم فيه مفهوما جديدا لقضية الأسر وكيفية فهم الصورة الشمولية، ومهمته الأولى هي صهر الوعي الجمعي، وعي المقاومة، ليس فقط للأسرى، بل لنا جميعا كشعوب باعتبارنا جميعا أسرى".
إعلانولا يبحث وليد دقة عن الحرية كحالة رومانسية، بل كمعادلة شاقة ومعقدة، الحرية ليست فقط كسر القضبان، بل كسر الفكرة التي صنعت القضبان، لذلك، فليس أخطر أشكال الأسر تلك التي تمارس على المفاهيم والمواقف والرغبات، وليد لا يكتب من أجل الأسرى فقط، بل بهم، يكتب عن معنى أن تكون الذاكرة محاصرة، والمقاومة مصنفة على أنها خلل عقلي أو شذوذ أخلاقي أو مشروع انتحار جماعي.
ويقول الروائي رامي ياسين "وليد حوّل الزنزانة إلى مختبر فكري والتجربة القاسية إلى نص مقاوم، لا يتوسل العطف، بل يصفعنا بالفهم، ويقول للذين خارج القضبان إن حريتكم مشروطة بالوعي والقدرة على الرفض والنقد والفهم، المقاومة هنا ليست فقط بندقية، بل كلمة، فكرة، موقف، تنظيم، والأهم ألا نعتاد القمع، الإبادة، الاحتلال".
بدوره، يرى الروائي عبد السلام صالح أن كتابات الأسرى تنوعت، فمنهم من كتب عن تجربته الذاتية وظروف اعتقاله ومعاناته في التحقيق والسجن، ووصف بشكل تفصيلي ما يعيشه الأسرى، ومنهم من كتب الشعر والقصة، لكن الانفجار الإبداعي كان في الرواية، حيث اكتشف كروائي بين 8 و12 روائيا حقيقيا مبدعا يقدمون روايات ذات سوية عالية ومحققة لكافة الاشتراطات الفنية والإبداعية.
وقال صالح للجزيرة نت إن الرواية في كتابات زهدي شاهين وكميل أبو حنيش ووليد دقة وباسم خندقجي وعاهد نصاصرة وسائد سلامة تمتعت بلغة إبداعية عالية تنحو إلى السرد وتمتاز بالوصف الرائع والجميل وتقدم حوارات ذكية وبناء فنيا متينا ومتماسكا.
واستعرض مهدي نصير نماذج من قصائد الشاعرين ناصر الشاويش وأحمد عارضة، وقال إن الشعر هو القدرة على التعبير عن الأسير ومعاناته وهمومه وأحلامه وطموحه، وهو القوة السحرية التي تمنح الأسير قوة وعنفوانا وصمودا.
ومن قصيدة "أناشيد المعنى" لناصر الشاويش:
قذفت في وجه العدا أمعائي
حربا تقض مضاجع الأعداء
وجعلت أمعائي سلاح إرادتي
سيفا يعيد كرامتي وإبائي
ورفضت خبز الذل حتى أسترد
الحق بالأمعاء أو بالدماء
ومن قصيدة أحمد عارضة "الوردة البيضاء":
للوردة البيضاء جندي غريب
ولها من الحزن الكثير من النمو
ولها القليل من المياه المعدنية
ولها افتقار النازحين لبندقية
وحسب نصير، فإن القصائد عموما مسكونة بالهوية والتحدي والانتماء للأمة العربية التي وإن تخلت عن فلسطين لكنها هي وطن وانتماء.
إعلان أكتب كي أتحررمن جهته، أورد اللبناني عفيف طاووق ما قاله وليد دقة في روايته "سر الزيت" "أكتب كي أتحرر من السجن على أمل أن أحرره مني"، وفي هذا يلتقي مع الكاتب والأديب وليد الهودلي بقوله "إن أدب الحرية في السجون يرمي إلى تعزيز ثقافة الحرية"، في حين يقول الروائي رائد الشافعي "نحن نكتب حتى نتخلص من أعبائنا ما دمنا نعيش في حقل ألغام لا نعلم متى تصدر عنا كلمة تفجر لغما تحت أقدامنا، أو ننهي علاقتنا بالآخرين ممن يخشون الحرية والنقد والرأي الآخر".
وحسب رأيه، فإن بعض الكتّاب نجحوا في تقديم روايات مستوفية لشروطها الفنية، من حيث الحبكة أو تقنية الاسترجاع وتنوع أساليب السرد والشخصيات والموضوعات المثارة، مثل كميل أبو حنيش ووليد دقة وعائشة عودة.
وقد توج باسم خندقجي بجائزة البوكر العربية 2024 عن روايته "قناع بلون السماء"، كما تطرق إلى رواية "وهكذا أصبح جاسوسا" لوليد الهودلي، والتي تتناول انزلاق بعض الأسرى وسوء تقدير الثقة المفرطة بالآخر والإفصاح عن معلومات وطبيعة نشاطه.
وفي رواية "مريم.. مريام" لكميل أبو حنيش -التي تعالج إرباكات وطرحا فكريا وسياسيا- تتحول مريم الفلسطينية من مواطنة إلى لاجئة في بلدها، في حين تتحول مريام من شريدة أوروبية إلى مستوطنة ومغتصبة لبيت مريم الفلسطينية.
بدوره، ترى الأديبة ديمة جمعة السمان (فلسطين) أن الكتابة بالنسبة للأسرى ليست ترفا أو لتمضية الوقت، بل فعل مقاومة وشهادة وتمسك بالهوية والكرامة، وقد اتسمت كتاباتهم بالعمق والتنوع والرسالة الإنسانية والسياسية، كتب الأسرى عن الحب والأم والحنين والقهر، وحتى الحياة اليومية.
وقالت الروائية سامية عطعوط للجزيرة نت إن أدب الأسرى فعل مقاوم في مواجهة المحتل يمنح الأسير القوة والتواصل مع العالم لتخطي جدران السجن، داعية إلى نشره وترجمته، مضيفة "أقل ما يمكن تقديمه لمن ضحى بحريته وحياته من أجل وطنه".
إعلانوفي هذا الصدد، ترى الروائية صفاء أبو خضرة أنها استفادت من اطلاعها على أدب الأسرى ومكابدتهم أسوأ الظروف، ومع ذلك يصرون على صناعة نافذة في الظلام ليستنشقوا الحرية، وأن القضبان التي يحشرون خلفها هشة أمام حب الحياة والإرادة والحق.
وقالت للجزيرة نت "لمست من إبداعاتهم لغة جميلة خرجت بطريقة عجيبة كسرت أنف المحتل، إنه انتصار كبير"، معتبرة أن الكتابة هي متنفس وأكسجين، وتعلمت منهم أن الكتابات بمثابة تأريخ لما يحدث داخل السجون، وأن السجن مجرد وهم يكمن داخلنا، لذلك يكتبون لأن الكتابة حرية.
من جانبه، تحدث الدكتور علي أبو هلال عن دور التحالف الأوروبي في مساندة الأسرى الفلسطينيين، فقال "نعمل الآن على توسيع قاعدة التحالف ليضم دول أميركا اللاتينية والأفريقية، ونحضر لعقد المؤتمر التاسع في بروكسل في 3 أيار (مايو) المقبل بمشاركة جنوب أفريقيا ودول أفريقية"، مؤكدا أن "الحرية خير علاج للأسرى".
فنانون تحت الأرضأما نزار سرطاوي فتحدث نيابة عن صالح حمدوني تحت عنوان "فنانون تحت الأرض.. تجربة فنية من داخل الأسر" عن تجليات التحدي والصمود في أعمال زهدي العدوي، قائلا "لم يتمكن السجان من انتزاع إنسانيته، لذلك أصر على التعبير عن ذاته بالكتابة والفن والدراسة، إضافة إلى مواجهة السجان وسياسته القمعية وإهماله الطبي".
وأضاف "لقد أفرغ زهدي مشاعره وأحاسيسه على مناديل ورقية وتفل الشاي والقهوة ووجوه المخدات، تهرب خارج السجن وتروي حكاية السجن والحلم بالحرية، كما وقف أمام سؤال الحرية، وتقاطعت تجربته مع زميله محمد الركوعي ليشكلا تجربة فنية سمياها "فنانون تحت الأرض"، و"الرسم منفذ للتعبير والتحدي.. كنا نحيا ونحلم بالحرية".
وبشأن الفن التشكيلي، يرى الفنان غازي إنعيم أن "الأسير حاول الخروج من أسوار السجن، فكان الرسم المتنفس الذي يخلخل إيقاع الزمن، ويخرج للتأمل والبحث عن الذات في حركة تحرر من الزنزانة والسجان، الفن هو الحرية".
إعلان