وثائق للمخابرات السورية توثّق انهيار النظام ومحاولات لإنقاذه.. هذا ما نعرفه
تاريخ النشر: 31st, January 2025 GMT
نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، تقريرا، أعدته إيزابيل كولز وجاريد مالسين، قالا فيه إنّ: "الوثائق التي تركتها المخابرات السورية، على عجل، تُظهر كيف كافح جهاز الاستخبارات للحكومة المنهارة في فهم التقدم السريع لقوات المعارضة ومحاولة الحدّ من تقدمها".
وأوضح التقرير نفسه، أنه: "بعد أيام من دخول الثوار لمدينة مهمة في الشمال، وصل تقرير من خمس صفحات، إلى مكتب ضباط الاستخبارات العسكرية في دمشق بتفاصيل مثيرة للقلق".
وتابع: "فقد أجبرت قوات النخبة التي أُرسلت لتعزيز دفاعات حلب على التراجع مع انسحاب جيش النظام: بطريقة مجنونة وعفوية". مردفا: أنّ: "الجنود، بطريقة هستيرية، قد تركوا وراءهم الأسلحة والمركبات العسكرية، وفقا لتقرير من ضابط كبير في الاستخبارات العسكرية في المدينة بتاريخ 2 كانون الأول/ ديسمبر".
واسترسل: "بحلول ذلك الوقت، كان مقاتلو هيئة تحرير الشام، قد وضعوا بالفعل مدينة ثانية في مرمى بصرهم. ومع استيلائهم على المزيد من المناطق في الأيام التالية، تدفقت التقارير للمقر المكون من ثمانية طوابق للفرع 215، وهو جزء مثير للرعب من جهاز الأمن الضخم للديكتاتور بشار الأسد، في وسط دمشق".
"أوضحت التقارير سرعة واتجاه تقدم الثوار والخطط والأوامر المحمومة على نحو متزايد بهدف إبطاء تقدمهم" تابع التقرير مبرزا: "تكشف الآلاف من وثائق الاستخبارات السرية للغاية، الانهيار السريع للنظام الاستبدادي الذي حكم سوريا بالحديد والنار ولعقود من الزمان".
ومضى بالقول: "مع تقدم هيئة تحرير الشام بسرعة عبر سوريا، قللت الحكومة، في تصريحاتها العامة من مدى تقدم الثوار وسعت إلى إشاعة جو من الثقة. ومع ذلك، تميزت الاتصالات الداخلية بين القوات التي تحاول حماية النظام بقلق متزايد".
وأكد: "في النهاية، تخلّى ضباط ورجال الفرع 215 عن مواقعهم أيضا، تاركين وراءهم كومة من الملابس العسكرية والأسلحة والذخيرة إلى جانب زجاجات الويسكي الفارغة والسجائر المطفأة ورزم من التقارير الاستخباراتية، بعضها معلق في ملفات، وبعضها الآخر مكدس في أكوام".
ووفق الصحيفة، فإنّه في زيارتها لمكاتب الفرع 215، وجدت فسيفساء من صور الرئيس بشار الأسد وقد تم اقتلاع عينيه وفمه. فيما قال المحلل في مجموعة الأزمات الدولية، قال ننار حواش: "لقد استمروا في العمل حتى اللحظة الأخيرة، فهم الركيزة الأساسية للنظام السوري السابق".
وتابع: "أن النجاح المفاجئ لهجوم هيئة تحرير الشام، والانهيار المذهل لجيش النظام، كان بمثابة فشل استخباراتي ملحمي في سوريا وخارجها"، مردفا: "فحتى تلك اللحظة، كان يعتقد وعلى نطاق واسع أن الأسد قد ربح الحرب الأهلية التي استمرت 13 عاما. واستعادت القوات الحكومية وبدعم من روسيا وإيران، السيطرة على معظم أنحاء البلاد، وتم حصر الثوار إلى حد كبير في جيب في الشمال الغربي من البلاد".
وأبرز: "كل هذا تغيّر في تشرين الثاني/ نوفمبر، عندما لاحظ قادة هيئة تحرير الشام أن إيران وحزب الله وغيرهما من الجهات التي تساعد في الدفاع عن الأسد تواجه انتكاسات، وأن روسيا كانت منشغلة بشكل متزايد بحربها في أوكرانيا. قد فشنت الهيئة هجوما مفاجئا، وتقدمت بسرعة نحو حلب".
إلى ذلك، مع اقتراب الثوار من المدينة في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر، أرسل أحد المقرات تعميما إلى جميع فروع أجهزة الاستخبارات هناك برفع الجاهزية القتالية إلى 100 في المئة، وتعليق العطلات حتى إشعار آخر. وبعد يومين، كان المقاتلون قد دخلوا المدينة.
ويبدأ التقرير، الذي يوثق انهيار الجيش بملاحظة وصول طائرة نقل عسكرية من طراز إليوشن من دمشق وعلى متنها 250 فردا من الاستخبارات العسكرية، بما في ذلك أعضاء الفرع 215، مسلحين بقذائف صاروخية ورشاشات ثقيلة في محاولة أخيرة للسيطرة على المدينة. وفي غضون ساعات من الانتشار في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر، تعرضوا لهجوم من مسيرات.
وقال ضابط الاستخبارات الذي كتب التقرير، نيكولاس موسى، إنّ: "الجهود المتكررة لحشد وحدات الجيش باءت بالفشل حيث فر الجنود، تاركين الأسلحة والمركبات العسكرية". مضيفا أنّ: "نقص الدعم الجوي والغطاء المدفعي زاد من حالة الذعر".
وتابع التقرير: "كان الجرحى ممددين على الأرض ولم يكن هناك من يعالجهم أو يجليهم". مشيرا في لغة صريحة غير معتادة، إلى الفساد داخل جيش الأسد. وقال إنّ فشل القيادة العسكرية أدى إلى "تراخي الصفوف وانتهاكات أمنية".
وأضاف أن معلومات بالغة الأهمية حول مواقع القوات تسربت أثناء الهجوم. وقال التقرير إن "الضباط والأفراد انشغلوا بالأمور المادية والملذات. بينما لجأ أفراد الجيش إلى أساليب غير قانونية؛ لإصلاح المعدات وتأمين سبل عيشهم"، مشيرين إلى: "نقص الموارد والاقتصاد المتدهور".
وأضاف التقرير، أنه في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر، تقدم الثوار من الشمال والجنوب والجنوب الشرقي، وسيطروا على حماة وحمص، وقطعوا الطرق لمعاقل النظام في الساحل، واستولوا في النهاية على دمشق.
كذلك، حذّر تقرير في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر: "لقد تلقينا معلومات عن اتصالات وتنسيق بين الجماعات الإرهابية في شمال سوريا وخلايا نائمة إرهابية في المنطقة الجنوبية ومحيط دمشق"، بينما دعا إلى: "تشديد المراقبة والتدابير الأمنية".
إلى ذلك، أكد التقرير، أنه: "في وسط المدينة، تم الإبلاغ عن -نشاط غير عادي- بين رجال ملتحين يرتدون سترات جلدية سوداء في شارع شعلان الراقي. وقد أشار عملاء كانوا يراقبون ساحة عامة إلى مجموعة من ماسحي الأحذية باعتبارها مشبوهة، فضلا عن امرأة غير مألوفة تبيع الخضراوات وكانت ترتدي مكياجا ثقيلا تحت حجابها وتتحدث بلهجة تشير إلى أنها من شرق سوريا".
وأوصت المذكرة بـ"طلب لقطات كاميرات المراقبة من أصحاب المحلات التجارية لمراجعة أي حركة مشبوهة"؛ فيما حاول البعض في النظام حشد القوات للدفاع عن العاصمة. وطلب أمر صدر في منتصف ليلة 5 كانون الأول/ ديسمبر باسم الرئيس من وحدة مدرعة بالعودة إلى دمشق من دير الزور في الشرق.
وذكر تقرير أرسل إلى: غرفة العمليات أن مجموعات صغيرة على متن دراجات نارية سيطرت على نقاط تفتيش عسكرية، واستولت على مركبة قتالية للمشاة ومركبتين محملتين برشاشات ثقيلة. وقال التقرير في 6 كانون الأول/ ديسمبر: "الوضع في محافظة درعا مضطرب".
وقال ضابط استخبارات متمركز في درعا، إن: "حالة من الفوضى تزايدت مع تدفق التقارير حول مكاسب الثوار. وقال إنه حتى قبل الهجوم، كانت سيطرة النظام على الجنوب هشة". فيما كانت نقاط التفتيش والمنافذ العسكرية لا تزيد عن كونها صورة رمزية لوجود النظام ومصدرا للدخل للأفراد الذين يمكنهم انتزاع الرشاوى لتكملة رواتبهم الضئيلة.
وقبل أيام قليلة من سقوط دمشق في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر، صدرت أوامر بنقل القوات والمعدات لمواصلة القتال. وكان من المقرر أن تنقل فرقة الدبابات الثالثة 400 بندقية آلية و800 مخزن ذخيرة و24,000 رصاصة إلى كتيبة في منطقة طرطوس على الساحل، موطن قاعدة بحرية روسية رئيسية ومعقل للطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد. وكان من المقرر أن تغادر التعزيزات لقاعدة الفرقة الرابعة عشرة للقوات الخاصة غربي دمشق في منتصف نهار 7 كانون الأول/ ديسمبر.
وعشية انهيار النظام، تناول تقرير مع إشارة إلى مصدره، ولكن تم التستر عليه، النهج المتوقع للمتمردين تجاه دمشق، وتوقع أن يصلوا إلى الضواحي في غضون يومين ويستولوا على سجن صيدنايا، حيث تم سجن وتعذيب المعارضين السياسيين. كان التوقيت خاطئا، لكن التنبؤ الأخير أثبت صحته. اقتحمت قوات الثوار السجن وأطلقت سراح المعتقلين بعد ساعات من فرار الأسد من البلاد.
وانتهت الوثيقة بتوقيع استخدمه ضباط الاستخبارات في رسائلهم الأخيرة، وهو ما أظهر تصميمهم على إبقاء النظام قائما: "للإطلاع والقيام باللازم".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية سياسة دولية المخابرات السورية بشار الأسد سوريا سوريا بشار الأسد المخابرات السورية المزيد في سياسة سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هیئة تحریر الشام تشرین الثانی کانون الأول
إقرأ أيضاً:
المخاطر المحيطة بالثورة السورية
سمعت من أستاذنا أحمد تهامي عبد الحي، المعتقل ظلما في سجون السيسي منذ حزيران/ يونيو 2020، لأول مرة مقولة "الفترات الانتقالية مقبرة الثورات". والتاريخ القريب لما تسمى ثورات الربيع العربي وكذا ما بعدها في الجزائر والسودان، خير شاهد على صدق الكلمة وواقعيتها، ولم يبق أمامنا نموذج في المنطقة سوى هذا النموذج الوليد في سوريا، ونرجو أن يتلافى أخطاء هذه الدول سريعا وأن يدرسها جيدا وهي نصب عينيه، لا دراسة هامشية، ونرجو ألا يتجاهل الدراسة اغترارا بفوارق التجارب بين المجتمعات، أو مسارات التغيير، أو طبيعة النُّظم التي سقطت.
كانت التجربة المصرية تمثِّل نموذجا شديد الوضوح لتسبب الفترة الانتقالية في تضييع مكاسب إسقاط نظام مبارك، فهناك طرفان عمِلا على إنهاء الثورة بسبق إصرار وترصّد، وهما قوى خارجية إقليمية ودولية، وقوى النظام الراحل. كما عمل أبناء الثورة من التيارات السياسية على إفشالها ربما دون قصد، لكن حساباتهم الذاتية لم تكن نقيَّة على الإطلاق.
لم تختلف هذه التركيبة في جميع تجارب التغيير في المنطقة، فهناك أطراف إقليمية ودولية ومحلية ترفض هذا التغيير لاعتبارات ترجع إلى مصالح كل طرف منها، وهناك تجاذبات سياسية بين القوى التي قادت الحراك، انتهت إلى وجود ثغرات في الرافعة التي انتصرت بها مطالب التغيير، وولجت منها الأطراف المعادية، لتهدم كل شيء.
ستتعرض الثورة السورية إلى هجمات من هذه الأطراف الإقليمية والدولية والمحلية، كسائر أخواتها، بل ستكون الهجمة أكثر شراسة لاعتبارات مجاورة كيان الاحتلال، والخوف من أفكار الحكام الجدد، وأيضا من تكوينهم العقدي تجاه الكيان الصهيوني، كما أن الأطراف الإقليمية المعادية لعمليات التغيير في أقوى حالتها، خلافا للوضع المفاجئ عام 2011
ستتعرض الثورة السورية إلى هجمات من هذه الأطراف الإقليمية والدولية والمحلية، كسائر أخواتها، بل ستكون الهجمة أكثر شراسة لاعتبارات مجاورة كيان الاحتلال، والخوف من أفكار الحكام الجدد، وأيضا من تكوينهم العقدي تجاه الكيان الصهيوني، كما أن الأطراف الإقليمية المعادية لعمليات التغيير في أقوى حالتها، خلافا للوضع المفاجئ عام 2011، والارتباك الذي تبعه والتستُّر في مجابهة حراك الشعوب. أما الوضع الحالي فتُهاجَم فيه بوضوح الثورة السورية من الأطراف الإقليمية الاستبدادية، ولعل أحد أبرز تجلياتها حديث نديم قطيش، مدير قناة سكاي نيوز العربية التي تبث من الإمارات، وقال إن الدول العربية لن تسمح بوجود مصر ثانية، وأن هناك استعدادا لدفع أعلى الأثمان لأجل ذلك.
هذا الخطاب؛ "دفع أعلى الأثمان"، لا ينبغي على السوريين أن يتجاهلوه ويتعاملوا معه باعتباره تهديدا لكسب مساحات، أو أن النجاح العسكري لهم لن يسمح بإفشال ثورتهم، فالسلاح يمكن أن يُقابَل بالسلاح، والتشكيلات المضادة يمكن إنشاؤها أو تقويتها في مناطق كثيرة، ويكفي بضعة مئات من المسلحين لزعزعة استقرار النظام السياسي بشدة والمطالبة بإسقاطه. وهذا التهديد ليس لانتزاع مواقف، أو كبح جماح الحكام الجدد، بل هو تعبيرُ عداءٍ صريح، ومسار لن يتوقف بغرض تدمير الدولة، وتعميق كراهية وخوف المجتمعات من عملية التغيير السياسي للأنظمة الحاكمة.
عندما هُزمنا في مصر وانتكس مسار الديمقراطية، ساهم ذلك في هزيمة باقي قوى الثورات، إذ أصبح القرار المصري مرتهنا لدى من دعموا الانقلاب وأوصلوا المنقلِب إلى سدة الحكم، وهذا الترابط بين مصائر الدول يجعلنا نخشى على مصير ثورة سوريا، فنجاحها نجاح لنا، وهزيمتها هزيمة لنا، من هنا نجد الجرأة على التحدث في شؤون بعضنا بعضا، لوَحدة المصير، ولاشتراك الغاية في التخلص من الأنظمة المستبدة.
إذا تحدَّثَتْ الثورةُ المهزومة إلى الثورة المنتصرة، فأول نصائحها ستكون التنبيه إلى رعاية المجتمع وظروف معيشته، وإذا كان هناك مقياس مُرَقَّم فستكون أولوية ذلك على المقياس من الأول إلى التاسع، وعاشرا تأتي السياسة والأيديولوجية والأفكار وأي شيء آخر. فالمجتمع يحتاج إلى ضمان مأكله ومشربه ومعيشته وأَمْنِه، وضعْ ألف خط تحت أمنه، كما أن المجتمع هو الحاضنة الشعبية للأنظمة المستجيبة لتطلعات الشعب بمختلف تكويناته، والمجتمع دائما وأبدا هو الرِّدْء من الانقلابات، ولا يمكن الالتفاف على رغبته إذا كان متمسكا بنظام ما، مهما كانت الضغوط تجاه هذا النظام. ويتزامن توفير الاحتياجات مع مسار فضح الترتيبات التي تُحاك ضد عملية التغيير، مع مراعاة ألا يكون فضح الترتيبات بمجرد الحديث دون إيقاف لها أو لبعضها، فهذا سيُظهر النظام الجديد ضعيفا لا يستطيع أن يمنع المشكلات ويكتفي بالشكاية.
كذا، يمكن القول إنَّ الحكام الجدد أحسنوا بخطابهم التصالحي، لكن هناك فرق بين العفو عقب نجاح الثورة مباشرة، وبين التغافل عن عمليات وَأْدِ الثورة، فيما بعد العفو، بفعل هؤلاء المعفُوِّ عنهم أو غيرهم، وتَرْكُ مثيري الفتن سيؤدي إلى إيقاع الدولة في فتنة أكبر ستحرق الدولة والمجتمع. ومعالجة هذا الوضع يستلزم إدراكا لوجود خيط رفيع بين القمع وضبط النظام عقب الثورات، بخلاف فترات الاستقرار، والانتباه لهذا الخيط مهم، فالقسوة تجاه من يريد تدمير الدولة وفق مخطط وترتيب، لا تعني قمع المتحمسين لنظام حر وديمقراطي لدولتهم، وقطعا لن يرضى السوريون جميعهم بالحكام الجدد، وهذه طبيعة المجتمعات، فالاحتجاج ضد نظام الحكم لا مفر منه، إلا أنه شتان بين من يحتج بغرض الإفساد ومن يحتج بغرض تحسين وضع الدولة.
يمكن القول إنَّ الحكام الجدد أحسنوا بخطابهم التصالحي، لكن هناك فرق بين العفو عقب نجاح الثورة مباشرة، وبين التغافل عن عمليات وَأْدِ الثورة، فيما بعد العفو، بفعل هؤلاء المعفُوِّ عنهم أو غيرهم، وتَرْكُ مثيري الفتن سيؤدي إلى إيقاع الدولة في فتنة أكبر ستحرق الدولة والمجتمع. ومعالجة هذا الوضع يستلزم إدراكا لوجود خيط رفيع بين القمع وضبط النظام عقب الثورات، بخلاف فترات الاستقرار
هذا الفارق لا يكون بتفتيش الضمائر، بل بيقظة أجهزة الدولة، وتكون القسوة في هذه الفترة فقط مبرَّرَة كالطبيب الذي يعالِج مدمن المخدرات، فالطبيب يعطي في البداية جرعات محدودة من هذه المخدرات بغرض منعها في النهاية. وقد شهدنا في مصر مناخا من التظاهر الفوضوي الذي تخللتْه اشتباكات مسلحة، وهجمات في مناسبات متعددة على رئيس الدولة ورئيس الوزراء ووزراء آخرين، وغير ذلك من أشكال الفوضى المتعمدة، وتعمُّد ترسيخ فكرة ضعف الحاكم الجديد، وأن الشعب همجي لا يصلح له إلا حاكم عسكري. وهذه الرخاوة ساهمت في إفشال الثورة المصرية، لكن مرة أخرى، إذا كان القمع سمة عامة للنظام، ومحاولة فرض توجه واحد، فإن مآل النظام السقوط كسابقه، وبسرعة لن تتجاوز بضعة أشهر مقابل نظام استمر عقودا.
كذلك ستعمل دولة الاحتلال بكل السبل لهزيمة هذه الثورة، كما فعلوا في مصر، وتكررت الشهادات عن قيام الاحتلال بدور شركة علاقات عامة للترويج للانقلاب المصري، خاصة لدى إدارة أوباما، وبالتالي تكونت شراكة استراتيجية بين السيسي والاحتلال، وجاء رد الجميل في مواقف متكررة، وآخرها الموقف المصري المخزي والمتواطئ في العدوان على قطاع غزة وسائر الأراضي الفلسطينية والعربية.
إن التوغل الصهيوني في الأراضي الصهيونية بمثابة عملية تقويض للثورة، وأخذ مكاسب جغرافية-عسكرية، وجس نبض للحكام الجدد، ومع الإدراك الواضح لعدم إمكانية الدخول في مواجهة مع الاحتلال الصهيوني في تلك المرحلة، فلا أقل من خوض مواجهة سياسية شرسة أمام الانتهاكات المتكررة، والاحتلال الجديد، في جميع المناسبات، وتفعيل أجهزة الدفاع الجوي المتبقية امام الانتهاكات الجوية، إذ قد يمثل هذا الاحتلال سببا من أسباب السخط المؤدي إلى إسقاط النظام، وعدم خوض مواجهة مسلحة لا يعني الصمت المطبق للنظام أمام هذه الانتهاكات.
الإشكال الآخر الذي قد يواجه الحكام الجدد، هو الفصائل المسلحة، ومدى التزامها بتسليم السلاح، وبقبول الاختيار الشعبي عند الاحتكام للصندوق. ولعل الحلَّ الوحيد هو حلُّ الفصائل جميعها، والإسراع بدمج من سيظَلُّ مسلحا من أفرادها في الجيش السوري الوطني، مع تشتيت قوات كل فصيل داخل المؤسسة، وعدم استبعاد المعارضين من العسكريين السابقين من إدارة الجيش، بل وضعهم على رأسه، باعتبارهم أكثر دراية بطبيعة إدارة المؤسسة.
كذا سيمثِّل التنوع السوري تحديّا هائلا للحكام الجدد الذي ينتمي معظمهم لتيار سلفي لديه تفسيرات دينية توصف بأنها متشددة، والحق أن المدرسة الدينية السورية التقليدية شديدة الرقي والوعي، ولا تختلف عن مدرسة الأزهر في مصر والزيتونة في تونس، والاستفادة منها في الأمور الاجتماعية ستحل كثيرا من الإشكاليات، وستزيل كثيرا من المخاوف لدى الطوائف الأخرى، وأيضا لدى السوريين العاديين الذين اعتادوا التعايش مع أفكار مؤسسات دينية كمعهد الفتح في دمشق.
لقد كانت ثورات عام 2011 مفاجئة للعالم، وأدت المفاجأة إلى ارتباك الأطراف قبل اتخاذ موقف متكامل ومتبلور تجاه عملية التغيير، أما الحالة السورية، فقد تضافرت عوامل عدة أدت إلى وجود اتفاق برفع الحماية عن الأسد، وبالتالي وُضِعتْ الاستعدادات لترتيب إفشال الحراك قبل نجاحه. وهذا الكلام ليس اتهاما لهؤلاء القادمين الجدد، ولا تقليلا من تضحيات السوريين، بل هو توصيف للواقع الذي تشير كل علاماته إلى أن ترتيبا إقليميّا ودوليّا اضطرت معه إيران وروسيا أيضا للاشتراك فيه وعدم مد يد العون للأسد، والغرض من ذِكْر ذلك؛ تأكيد أن هذه الترتيبات تعني الاستعداد لإفشال المسار الديمقراطي قبل محاولة وضع أي أساس له، ما يستدعي التنويه والتنبيه.