كيف رد الفلسطينيون في قطاع غزة على خطة ترامب لتهجيرهم؟
تاريخ النشر: 30th, January 2025 GMT
سلط تقرير نشره موقع "ميدل إيست آي" البريطاني على ردود أهالي قطاع غزة على دعوة ترامب إلى تهجيرهم من أرضهم إلى مصر والأردن، حيث جاء الرد الفلسطيني "متحديا" للخطة الأمريكية الساعية إلى تكرار نكبة عام 1948.
وجاءت تصريحات ترامب التي لاقت رفضا من مصر والأردن بالتزامن مع عودة مئات آلاف النازحين الفلسطينيين إلى منازلهم في شمال قطاع غزة، مؤكدين تمسكهم بأرضهم على الرغم من حرب الإبادة الجماعية التي شنها الاحتلال على مدى 15 شهرا.
وتاليا نص التقرير كاملا:
بينما كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعلن عن خطته المثيرة للجدل "لتنظيف" غزة، بدأ مئات الآلاف من الفلسطينيين النازحين في القطاع الجنوبي بالاحتفال بعودتهم إلى ديارهم – أو ما تبقى منها – في شمال قطاع غزة.
بالنسبة للكثيرين، لم تكن كلمات ترامب استخفافًا فحسب، بل كانت تذكيرًا صارخًا بالصراع الذي خاضه الفلسطينيون على مدى عقود للبقاء على أرضهم.
منذ إعلان وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس في 19 يناير/كانون الثاني، كان نزار نعمان، البالغ من العمر 64 عامًا، ينتظر عند أقرب نقطة إلى ممر نتساريم العسكري الإسرائيلي، الذي يقطع وسط غزة، متلهفًا للعودة إلى منزله في مدينة غزة.
وقال نعمان: “كما أنتمي إلى وطني، فإن وطني ينتمي إلي. لم أكن أرغب في إضاعة أي لحظة بعيدًا عن منزلي مرة أخرى”.
كان نعمان وعائلته قد نزحوا إلى الجنوب في ديسمبر/كانون الأول 2024 بعد أن حاصرت القوات الإسرائيلية حيهم. وعلى الرغم من العنف والحملات المتواصلة للتهجير خلال الهجوم الإسرائيلي الذي استمر 15 شهرًا، والذي دمر جزءًا كبيرًا من غزة، لم يفقد نعمان الأمل في العودة.
وأضاف: “أندم على اليوم الذي غادرت فيه منزلي وذهبت إلى الجنوب. أفضل الآن أن أموت تحت أنقاض منزلي على أن أغادره مرة أخرى، حتى إلى مدينة أخرى في فلسطين”.
قوبلت اقتراحات ترامب بأن تستقبل مصر والأردن الفلسطينيين من غزة و”مجرد التخلص من هذا الأمر برمته” بالذهول والتحدي في جميع أنحاء القطاع المحاصر.
وقال نعمان: “الرئيس ترامب واهم إذا كان يعتقد أن سكان غزة يمكنهم المغادرة، حتى لو كان الوضع فوضويًا كما وصفه”، مضيفًا: “هل يهتم الآن بسكان غزة ويفكر في مستقبلنا؟ أين كان عندما كنا نُقتل بصواريخ إسرائيلية ممولة من الضرائب الأمريكية؟”.
كان نعمان، وهو رجل أعمال معروف في غزة، يمتلك العديد من المتاجر في مدينة غزة، والتي دُمرت أو أُحرقت جميعها خلال التوغلات الإسرائيلية، كما تحولت منازل ابنيه إلى أنقاض جراء الغارات الجوية.
ومع ذلك، لم يفكر نعمان قط في مغادرة غزة، حتى لو قدمت دول أخرى حوافزرواختتم حديثه قائلاً: “هذا هو وطننا. لن أغادره أنا ولا أولادي ولا أحفادي أبدًا”.
“كلمات ترامب مجرد مزحة”
ويرى زيد علي، 42 عامًا، من شمال قطاع غزة، أن تصريحات ترامب جزء من أجندة خفية لنكبة أخرى، عندما أُجبر 750 ألف شخص على مغادرة ديارهم والنزوح إلى الدول المجاورة أثناء إنشاء دولة إسرائيل.
وقال علي: “لطالما بذلت أمريكا وإسرائيل قصارى جهدهما “لتطهير” الأراضي بالقوة أو المرافق، لكنهما تفشلان دائمًا لأن أرواحنا مرتبطة برمال هذه الأرض”.
منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عانى علي وعائلته من معارك متعددة، وفقدان، وجوع، ومرض، وخوف، وإذلال. ومع ذلك، لم تكن مغادرة غزة خيارًا مطروحًا على الإطلاق، وأضاف: “لقد صمدت أنا وعائلتي في شمال غزة. لم نفكر أبدًا في المغادرة”.
وتذكر علي كيف حاول هو وإخوته الخمسة إقناع والدهم البالغ من العمر 85 عامًا بالإجلاء إلى مصر قبل إغلاق الحدود في مايو/أيار 2024، خاصة بعد تدهور صحته إثر فقدان ثلاثة من أحفاده في الغارات الجوية الإسرائيلية، لكن والدهم رفض.
وقال علي: “لقد شهد النكبة وغادر منزله مرة واحدة عندما كان طفلاً عندما هُجّروا قسرًا من حيفا، ولن يكرر خطأ والده أبدًا. استغرق الأمر منا أيامًا لإقناعه بالإجلاء من حينا إلى آخر خلال فترة القصف الإسرائيلي المكثف. بالنسبة له، كلمات ترامب مجرد مزحة”.
نجونا من الموت المحقق آلاف المرات
يعتقد علي أن إسرائيل كانت قد حاولت بالفعل إفراغ شمال غزة تدريجيًا من خلال ما يسمى بـ “خطة الجنرالات”، لكنها فشلت بسبب صمود الفلسطينيين.
وقال: “لقد نجا مئات الآلاف من الناس مثلي من آلاف الموت المحقق”، مضيفًا: “إذا اندلعت الحرب مرة أخرى، فسوف نبقى على أرضنا. حتى النازحون الذين عادوا إلى ديارهم في الشمال اليوم لن يجلوا مرة أخرى”.
وقف علي في شارع الرشيد في غرب مدينة غزة، منتظرًا شقيقته، والتيكانت قد أجليت إلى الجنوب في أوائل يناير/كانون الثاني 2023 لتلتقي بزوجها، الذي احتجزته القوات الإسرائيلية وأفرجت عنه لاحقًا هناك.
ومثل مئات الآلاف من الآخرين، كان يملأه مزيج من الارتياح والامتنان لإعادة لم الشمل مع أحبائه بعد شهور من الانفصال.
واختتم حديثه قائلاً: “إذا كان ترامب هنا اليوم وشهد احتفال العائدين إلى ديارهم، فسوف يفهم العلاقة العميقة بين الفلسطينيين وأرضهم”.
مساحة للأمل
مثل علي، لم تغادر لمى أبو عاصي، 27 عامًا، شمال غزة، على الرغم من أن عائلتها أُجليت عدة مرات إلى ملاجئ مؤقتة بعد أن دُمر منزلهم جزئيًا في مدينة غزة جراء الهجمات الإسرائيلية في مايو الماضي.
وقالت لمى أبو عاصي إنه على الرغم من المعاناة التي لا يمكن تصورها، لا يزال لدى الناس في غزة أمل في مستقبل أفضل، متابعة بقولها: “على الرغم من أننا فقدنا منازلنا والعديد من أحبائنا، إلا أننا ممتنون لإعادة بناء حياتنا، حتى لو كان ذلك يعني نصب خيمة على أرضنا”.
بينما ربما يكون ترامب قد أشار إلى غزة باعتبارها “موقع هدم” بسبب الدمار الواسع النطاق الناجم عن القصف الإسرائيلي، تعتقد أبو عاصي أن “أملنا، الذي أبقانا صامدين طوال أكثر من عام من المصاعب، سيدفعنا إلى إعادة بناء بلدنا بأيدينا، بشكل أجمل من ذي قبل”.
غير أن عودة الفلسطينيين النازحين من جنوب غزة إلى الشمال تجعل لمى متفائلة بأن الفلسطينيين النازحين الذين يعيشون في المنفى سيعودون يومًا ما.
وقالت: “نحن في غزة لا نتوقع أي شيء من العالم بعد المعايير المزدوجة والتخلي الذي عانيناه، كل ما أتمناه هو أن يحترم العالم حقوق الإنسان، ويمنح الناس كرامتهم، ويساعدهم على العودة إلى وطنهم – لا أن يغادروه”.
سوف يفشلون مرة أخرى
يرى حسني مصطفى، 68 عامًا، من مدينة غزة، ويقيم حاليًا في مصر، حيث تم إجلاؤه في مايو/أيار 2024 لتلقي العلاج الطبي لزوجته المصابة بالسرطان، أن تصريحات ترامب جزء من جهد طويل الأمد لإفراغ فلسطين، وخاصة غزة.
وقال حسني: “منذ السبعينيات، حاولت إسرائيل ودول أخرى تسهيل هجرة الفلسطينيين من خلال تغطية تكاليف السفر وتوفير فرص عمل في الخارج”، وأضاف: “لقد فشلوا آنذاك، وسوف يفشلون مرة أخرى”.
وتابع: “قد يعتقد ترامب أن الناس في غزة يمكنهم المغادرة ثم يمكنه الاستثمار في الأرض، لكنه لا يدرك أن ذلك مستحيل حتى مع الحوافز المالية والهجرة المنظمة”.
وأشار مصطفى إلى عودة الناس مؤخرًا إلى ديارهم في الشمال كدليل على ارتباطهم الوثيق بالأرض.
وأضاف: “نام الناس في الشوارع، في انتظار لحظة العودة إلى ديارهم – أو أنقاض ديارهم – حتى لو كانت على بعد بضعة كيلومترات فقط.
فلسطين هي وطننا، ولا يمكن لأحد على وجه الأرض أن يقتلعنا منها”.
الاستعمار الاستيطاني
وقال حيدر عيد، الأستاذ المشارك في جامعة الأقصى في غزة والباحث المشارك في مركز الدراسات الآسيوية في إفريقيا بجامعة بريتوريا، لموقع “ميدل إيست آي” إن اقتراح ترامب يعكس الأيديولوجية اليمينية المتطرفة التي تهيمن أيضًا على السياسة الإسرائيلية.
وأوضح أن ما يسمى بجهود ترامب للتوسط في وقف إطلاق النار كانت مرتبطة فقط بدوره في ذلك الوقت، وأن تصريحاته الأخيرة تكشف عن أجندة أعمق.
وقال عيد: “إن تصريح ترامب الأول هو في جوهره دعوة للتطهير العرقي. إنه يتماشى مع نفس الأيديولوجية التي تسيطر على إسرائيل وتديم أسطورة الحل السلمي مع المضي قدمًا في سياسات التهجير”.
ويعتقد عيد أن العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل متجذرة في “الأيديولوجية المشتركة” للاستعمار الاستيطاني. فخلال الحرب، دعا المستوطنون الإسرائيليون والمسؤولون الإسرائيليون اليمينيون المتطرفون مرارًا وتكرارًا إلى خطط لتهجير الفلسطينيين قسرًا من مساحات واسعة من غزة واستبدالهم بمستوطنين إسرائيليين.
وأضاف: “إن الدول الاستعمارية الاستيطانية مثل أستراليا والقوى الاستعمارية السابقة تدعم أيضًا إسرائيل، لأنها تشترك في مصلحة استبدال السكان الأصليين بالمجتمعات الاستيطانية”.
ويؤكد تحليل عيد السياق الأوسع لتصريحات ترامب المثيرة للجدل، ويربطها بتاريخ طويل من التشريد والاضطهاد الذي يواجهه الفلسطينيون.
وقال: “ما نشهده ليس حادثًا معزولًا، بل جزء من جهد منهجي لمحو الوجود الفلسطيني من أرضهم”، مضيفًا: “ومع ذلك، فمثلما قاوم أجدادنا، سنستمر في المقاومة ونظل ثابتين على أرضنا”.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية غزة ترامب الفلسطيني الاحتلال فلسطين غزة الاحتلال ترامب صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة على الرغم من إلى دیارهم مدینة غزة قطاع غزة مرة أخرى حتى لو فی غزة
إقرأ أيضاً:
سمية الغنوشي: الفلسطينيون يخوضون معركة ضد قوى هيمنة عالمية
قالت الكاتبة والباحثة التونسية، سمية الغنوشي، إن المعركة من أجل فلسطين، هي معركة من أجل الإنسانية جمعاء، وليست نضال شعب واحد، رغم أن الفلسطينيين يخوضونها، ضد نخبة عالمية قوية ومتمرسة ومتصلبة.
وشددت بمقال في موقع ميدل إيست آي البريطاني، أن فلسطين تكمن في قلب النضال ضد الهيمنة العالمية، وما يجري مواجهة بين قوى الكرامة والعدالة والحرية أمام قوى الظلم والاستعمار من جهة أخرى.
ولفتت إلى أن المعركة في فلسطين لم تنته بعد، لكنها ستتوج بالنصر حتما، في رفض الهياكل التي تمد الأمبريالية بمقومات السيطرة والاستمرار.
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
عاد الأسبوع الماضي، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى مبنى الكابيتول رئيسا، في مشهد بدا استعراضا للتحدي والقوة، بتألق مسرحي مبالغ، تحدث ترامب عن “قدر أمريكي محتوم” ومتجدد.
هذه المرة، امتدّ الوعد التبشيري إلى ما هو أبعد من حدود الأرض، ليصل إلى النجوم، حيث أعلن ترامب أن استعمار كوكب المريخ يمثل الفصل العظيم القادم في أسطورة الغزو الأمريكية.
غير أن طموحات ترامب التوسعية لم تكن محصورة بالفضاء فحسب؛ بل ظهرت بوضوح أكثر على الأرض، حيث تحدث عن فكرة شراء غرينلاند، وضم كندا، ووضع اليد على قناة بنما باعتبارها رمزاً للهيمنة الأمريكية. وسواء تعلق الهدف هنا بالاستحواذ على الأرض، أو طرق التجارة، أو حتى الكواكب، فإن رؤية ترامب الإمبريالية تكشف عن هوس بالسيطرة، مغلّف بلغة التفوق و”الاستثنائية” الأمريكية.
بيد أن وراء هذا العرض المشهدي البراق والتصريحات الرنانة، تاريخًا يلقي بظلاله على خطاب ترامب وتوجهاته. “القدر المحتوم” الذي تحدث عنه ترامب هنا يعكس عقيدة سياسية كُتبت بالدماء، عقيدة بررت إبادة الملايين من الأمريكيين الأصليين، وسرقة أراضيهم، ومحو ثقافاتهم، عقيدة تغلف الدمار بشعارات التقدم، أداةً للقمع متنكرة خلف قناع الحتمية التاريخية.
والآن، يسعى ترامب لإحياء هذه الفلسفة، مرسلا موجة هيمنة جديدة ليس نحو النجوم فحسب، بل إلى كل حدود يراها جاهزة للاستحواذ.
حمل مشهد التنصيب رمزية واضحة لا تخطئها العين؛ حيث مُنحت المقاعد الأمامية لأباطرة التكنولوجيا، أصحاب المليارات الذين يمتد نفوذهم عبر وادي السيليكون إلى كل زاوية من العالم الحديث. إيلون ماسك، وجيف بيزوس، ومارك زوكربيرغ ليسوا مجرد متفرجين على القوة العالمية؛ بل هم من مهندسيها الرئيسيين. تضخمت ثرواتهم بوتيرة غير مسبوقة، بما يعكس قسوة الرأسمالية التكنولوجية المنفلتة من عقالها.
في عام 2012، بلغت ثروة ماسك 2 مليار دولار فقط، لكنها اليوم قفزت إلى 449 مليار دولار. أما بيزوس، فقد نمت ثروته من 18 مليار دولار إلى 249 مليار دولار، في حين ارتفعت ثروة زوكربيرغ من 44 مليار دولار إلى 224 مليار دولار.
هذه الأرقام لا تعكس فقط ثروات شخصية، بل تجسد نظاماً عالمياً تجتمع فيه الثروة بأيدي قلة قليلة، بينما يدفع الملايين الثمن القاسي. في الأثناء يبقى الحد الأدنى للأجور الفيدرالية في الولايات المتحدة 7.25 دولارات للساعة من دون تغيير ثابتا منذ عام 2009.
هي إذن “الولايات المقسمة للأوليغارشية”، عالم يُمول فيه أصحاب المليارات الحروب ويُسهلون السيطرة، بينما تُترك الطبقة العاملة تصارع قسوة الحياة مع أجور متجمدة وأمن اقتصادي متدهور.
وجود هؤلاء المليارديرات في مراسم التنصيب تذكير صارخ بمدى تشابك التكنولوجيا والمراقبة والثروة مع العنف الذي تمارسه الدولة. فهؤلاء الأثرياء المنخرطون في أنظمة القمع، يوفرون أدوات الحرب والسيطرة، فشركات غوغل، وأمازون، ومايكروسوفت قدمت أدوات الذكاء الاصطناعي ومخزون البيانات لتعزيز القدرات العسكرية الإسرائيلية. وقمعت شركة ميتا بشكل منهجي الأصوات الفلسطينية، بينما تساهم منصة ماسك “إكس” (تويتر سابقاً) في ترويج التبريرات الإسرائيلية للحرب.
عالم ترامب
ومع ذلك، لم تكن أصداء الغزو محصورة في الاستعارات فحسب، فالرمزية المدروسة بعناية في خطاب ترامب تفصح عن نواياه السياسية بشكل لا لبس فيه. خلفه وقفت عائلات الرهائن الإسرائيليين، وقد ارتسم البؤس على وجوههم. التفت ترامب إلى أم إسرائيلية فقدت ابنها في غزة، قائلاً: “لو كنت في السلطة قبل ثلاثة أشهر، لما كان مات ابنك. فقد كان لدينا اتفاق في تموز/ يوليو”.
تعالت هتافات الجمهور محتفية مؤيدة، دون اعتبار للحلقة المفقودة على الركح المسرحي: لا أم فلسطينية هناك على المنصة، ولا صوت حزين يمثل أكثر من 10,000 فلسطيني قُتلوا منذ تموز/ يوليو، وأزيد من 50,000 ذُبّحوا في 15 شهراً. هؤلاء غير معترف بهم ببساطة، لا أسماء لهم، ولا قصص تروي إنسانيتهم المهدرة.
هذا الصمت لم يكن صدفة، ففي عالم ترامب، لا وجود للفلسطينيين، حياتهم بلا قيمة، بنفس منطق نظرية “القدر المحتوم” التي تسلب الصفة الإنسانية من أولئك الذين يُعتبر وجودهم غير ضروري في هذا العالم. معاناتهم تُحجب، وموتهم يُجرد من المعنى.
هذا التجاهل ليس خاصًا بترامب، بل نظامي، متأصل في نسيج الهيمنة العالمية.
ليس مفاجئًا إذن أن يقترح ترامب الآن تطهير غزة لتمهيد الطريق لمشاريع عقارية فاخرة بإطلالات بحرية براقة. ترامب صرح للصحفيين على متن الطائرة الرئاسية: “أود أن تأخذ مصر الناس. أود أن تأخذ الأردن الناس. نحن نتحدث عن حوالي مليون ونصف شخص، فقط ننظف كل هذا ونقول:، انتهى الأمر".
هذا الاستخفاف التام بحياة الفلسطينيين ليس خاصًّا بترامب. في مقابلة له مع “إم إس إن بي سي”، اعترف بايدن مؤخرا بأنه حذر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من “القصف العشوائي” للمدنيين في غزة.
كيف رد نتنياهو؟ “حسناً، أنتم فعلتم ذلك”، مذكرا بحرق درسدن وإلقاء القنبلة النووية على هيروشيما. ورغم علم بايدن التام بنوايا نتنياهو، وافق على إرسال أكثر من 50,000 طن من القنابل إليه، ترسانة ضخمة نسفت البنية التحتية لغزة وأبادت الآلاف من شعبها.
الهيمنة الغربية
هنا تبرز آلة الهيمنة الغربية التي لا تتوقف. القنابل التي تتساقط على غزة تُصنع في الولايات المتحدة وألمانيا، والمعلومات الاستخباراتية التي توجهها تأتي من المملكة المتحدة. أما الغطاء السياسي الذي يبرر كل هذه الفظائع، فيُصاغ بعناية فائقة في واشنطن ولندن وبرلين.
رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر دعم سياسة العقاب الجماعي التي تنفذها إسرائيل، واصفا قطع الطعام والماء والوقود عن شعب محاصر بأنه أمر “مشروع”. أما وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك فدافعت بلا حياء عن قصف المستشفيات وحرق الأطفال والنساء فيها أحياء.
ويلعب الإعلام الغربي دورًا رئيسيًّا في تعزيز التواطؤ المنهجي. يضخم الروايات الإسرائيلية ويتعمد تهميش الأصوات الفلسطينية. فعلى سبيل المثال، صحيفة “نيويورك تايمز” نشرت تقارير ملفقة حول فظائع جنسية منسوبة لحماس، كان مصدرها مجندة تتقمص دور صحفية لديها. “سي إن إن”، رغم الاحتجاجات الداخلية لموظفيها حجبت التقارير التي تنتقد إسرائيل، أما تغطية “بي بي سي” للشرق الأوسط، فقد واجهت انتقادات واسعة بسبب ارتباط عدد من المشرفين عليها بالاستخبارات الإسرائيلية.
هذه المؤسسات تحولت إلى أدوات نافذة في منظومة محكمة تهدف إلى تشكيل الرأي العام، وتصوير إسرائيل كضحية، وسلب الفلسطينيين إنسانيتهم. النتيجة هي واقع مشوه، يُصوَّر فيه المعتدي على أنه الضحية، ويُبرر العنف المنهجي ضد الفلسطينيين تحت ستار “الدفاع عن النفس”.
كفاح الفلسطينيين من أجل الحرية لا يقتصر على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي فحسب، فهو مواجهة شاملة ضد هيكل الإمبريالية الغربية بأكمله.
ضمن هذه المعادلة بالغة الاختلال يقف الاحتلال الإسرائيلي، مدعومًا بقوة الغرب الكاملة، من حكوماته، وإعلامه، ومؤسساته. إسرائيل ليست مجرد دولة عادية؛ بل امتداد مباشر للهيمنة الغربية في الشرق الأوسط، مشروع استعماري يحظى برعاية وحماية من أقوى دول العالم.
إسرائيل تستفيد من الأسلحة، أنظمة المراقبة، الغطاء السياسي، الشركات متعددة الجنسيات، والآن الذكاء الاصطناعي -أدوات تُستخدم لتثبيت سيطرتها الاستعمارية على الأرض الفلسطينية.
على الجهة المقابلة، يقف الفلسطينيون، معزولين ومحاصرين، مكشوفي الظهر أمام النظام الدولي. لا قوة عظمى تدعمهم، ولا إعلام يناصر قضيتهم، ولا مؤسسات تحميهم. نضالهم من أجل تحرير أرضهم تحد للهياكل الكاملة للإمبريالية الغربية التي تدعم الاحتلال الإسرائيلي.
ورغم الفوارق الهائلة في القوة، تبقى مقاومتهم شهادة حية على صمود الروح الإنسانية ورفضها الانكسار.
مقاومة عالمية
في مختلف أنحاء العالم، تتزايد موجة المقاومة التي تقف الى جانب فلسطين، فقد امتلأت شوارع لندن وباريس ونيويورك بالمحتجين الذين يطالبون بإنهاء الحرب على غزة. وأصبحت الجامعات بؤراً للاحتجاجات؛ ينظم طلبتها الاعتصامات، والإضرابات، رغم القمع المؤسسي. يواجه النشطاء الاعتقالات، والطرد، والتجريم، إلا أن تصميمهم على المقاومة يبقى ثابتاً.
وتستمر حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) في اكتساب زخم مطرد، مجبرة الشركات والحكومات على قطع علاقاتها مع إسرائيل. وتتواصل الجهود القانونية للتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية، إذ تعمل المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية ومنظمات حقوق الإنسان الكبرى على تحقيق المساءلة، رغم مساعي الحكومات الغربية لعرقلتها.
هذه الجبهة العالمية ليست مجرد تعبير عن التضامن، بل شريان الحياة للنضال من أجل التحرير، وقوة لا غنى عنها لتعديل الفوارق الهائلة في ميزان القوى. من دونها تظل العدالة الحقيقية حلماً بعيد المنال.
فكما أن المشروع الإسرائيلي يمثل حجر الزاوية للهيمنة العالمية – عقدة لا غنى عنها في آلة الإمبراطورية – فلا يمكن مواجهته إلا بشبكة ضخمة وثابتة من المقاومة السلمية.
وهي مقاومة يجب أن تكون عابرة للحدود، والقارات، والثقافات، والأيديولوجيات، لتشكل جبهة موحدة لا تقل شمولية وإصراراً عن القمع الذي تسعى لتفكيكه.
هذا ليس نضالاً من أجل شعب واحد، بل معركة من أجل روح الإنسانية، يخوضها مواطنون في مواجهة نخبة عالمية قوية ومتمرسة ومتصلبة. هي مواجهة بين قوى الكرامة والعدالة والحرية من جهة، وقوى الهيمنة والظلم والاستعمار من جهة أخرى.
في قلب هذا النضال تكمن فلسطين؛ رمزًا للمقاومة، والتحدي، والكفاح العالمي من أجل التحرر. الوقوف مع فلسطين يعني الوقوف ضد آلة القمع الدولية، ورفض الهياكل التي تمد الإمبريالية بمقومات السيطرة والاستمرار، والتمسك بالقيم المقدسة للإنسانية.
المعركة من أجل فلسطين معركة من أجلنا جميعاً. معركة لم تنتهِ بعد، ولكنها ستتوج بالنصر حتما.