ثمة تناقض بين سلوك السلطات الروسية في مجال الاقتصاد والمكون العسكري-السياسي.
بالنظر إلى الاستراتيجية العامة، وتحديدا وقبل كل شيء، الاستراتيجية العسكرية لقيادة البلاد، والتي يمكن وصفها بأنها "حرب استنزاف طويلة الأمد"، فإن السياسة الاقتصادية لا تستند إلى حد كبير إلى قرارات منهجية طويلة الأجل، بل على تدابير لمرة واحدة، كتحصيل ضرائب إضافية لمرة واحدة من الشركات الكبيرة، وهي إجراءات تتناسب مع منطق النهاية المبكرة للحرب، وتطبيع العلاقات مع الغرب في المستقبل المنظور.
من ذلك، على سبيل المثال، استمرار مدفوعات الأرباح للمستثمرين الغربيين، وإن كان ذلك بالروبل، على الرغم من تجميد وحتى مصادرة الأصول الروسية الخاصة في الغرب. أو الحفاظ على نهج ليبرالي إلى حد ما لخروج العملة الصعبة من البلاد.
في العام الماضي، وعلى خلفية الأسعار المرتفعة للغاية للموارد الروسية، ومع توقف الواردات، كانت روسيا تغرق في الدولارات، وتعزز بذلك الروبل كثيرا، ما أضر بالاقتصاد. ولمكافحة ذلك، سمحت الحكومة للمصدرين بالإبقاء على عائداتهم في الخارج، كما تم إلغاء شرط قيام المصدرين ببيع جزء من العملة في بورصة العملة الروسية.
الآن، انعكس الوضع، وعادت الواردات إلى طبيعتها، وانخفضت أسعار السلع الأساسية، وانخفضت عائدات الصادرات بشكل عام. في الوقت نفسه، وبفضل ليبرالية الحكومة والبنك المركزي، زاد تدفق العملة إلى خارج البلاد، ما أدى في النهاية إلى سقوط الروبل. ولم يكن رد فعل السلطات الاقتصادية بالسرعة أو المرونة الكافية.
لكن روسيا حتى الآن تحافظ على توازن إيجابي في التجارة الخارجية والحساب الجاري، بمعنى أن الحكومة لا زالت تمتلك جميع الأدوات والقدرات اللازمة للحفاظ على استقرار سعر صرف الروبل عند مستويات مقبولة لفترة طويلة.
سيتم تعديل سعر صرف الروبل في نهاية المطاف، ولكن بعد تقلبات غير مسبوقة لها تأثير سلبي خطير على مزاج العملاء الاقتصاديين والمواطنين الروس. فكما يقول المثل الروسي: "قيمة الملعقة في وقت الغداء".
هناك مزيد من الأسئلة التي يمكن توجيهها للبنك المركزي الروسي. فوفقا لـ "بلومبرغ"، عارض البنك المركزي تشديد ضوابط الصرف الأجنبي على أساس أن الشركات الروسية ستلتف حول هذه الضوابط على أي حال.
تكمن المشكلة، كما أسلفت، ليس في عدم القدرة، ولا حتى في عدم الرغبة، بل في الاختلاف في آفاق التخطيط ورؤية توقيت ونتائج الحرب. ونتيجة التناقض المستمر بين المكون العسكري السياسي والسياسة الاقتصادية سيكون له حتما عواقب مماثلة للسقوط الحالي للروبل.
إقرأ المزيد تركيا لبنان أخرى وانهيارها حتميومع ذلك، فإن استمرار هذا التناقض هو الآخر أمر حتمي إلى حد كبير. فإحجام الحكومة بعند، وخاصة البنك المركزي، عن الانتقال من اقتصاد السوق إلى مزيد من التدخل الحكومي، لا يخلو من مزايا. بمعنى أن الوضع في الاقتصاد الروسي بعيد كل البعد عن الأزمة، وليست هناك أي حاجة لاتخاذ أي تدابير طارئة قصوى. علاوة على ذلك، فإن الاقتصاد الروسي ينمو. وبرغم إمكانية أن يؤدي انخفاض قيمة الروبل إلى زيادة التضخم بشكل طفيف، إلا أن هناك أيضا جوانب إيجابية تتمثل في تحفيز الواردات البديلة.
بدوره، يعقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اجتماعات بشأن السياحة، ويفتتح الطرق والمنشآت الصناعية الجديدة، ما يدل على أن البلاد تعيش حياة عادية طبيعية برغم الحرب. وهذا سلوك عقلاني تماما، لا سيما أثناء حرب الاستنزاف طويلة الأمد. الاستقرار الداخلي هو المورد الأكثر قيمة، والذي يجب الحفاظ عليه واستنزافه قطرة قطرة، أي يجب تجنب كل ما يزعج المواطنين، وأي تدابير طارئة مثل التعبئة أو تقييد العملة.
بشكل عام، تعيش البلاد حياة طبيعية، والحرب ليست محسوسة بقوة، وهو الإنجاز الرئيسي خلال عام ونصف من الحرب.
علينا أن نعترف بأن ما يسمى بـ "التحكم اليدوي" في الاقتصاد، أي إعطاء الأولوية للقرارات التكتيكية على القرارات الاستراتيجية في الوقت الراهن هو سياسة فعالة، ومن المنطقي تأجيل إدخال تدابير الطوارئ لأطول فترة ممكنة، وحال كان من المستحيل تجنبها، فيجب تقديمها على مراحل، وعلى جرعات.
ومهما كان تهاوي الروبل بشكل سريع مؤذيا، إلا أنه على الأرجح أهون من خطر الانتقال المبكر إلى مستوى جديد من التعبئة الاقتصادية، وتدخل الحكومة في الاقتصاد.
ومع ذلك، فإن الاسترشاد بالمنطق القائل إن بعض الإجراءات ليست ضرورية، لأن الشركات ستلتف حولها، هو اعتراف ضمني بعدم الكفاءة المهنية، وهو أمر غير مقبول بالنسبة للبنك المركزي.
لحسن الحظ أن روسيا دولة تتمتع بموارد هائلة، وشعب صبور، وتتمتع الآن أيضا باقتصاد رأسمالي مرن وقادر على التكيف بمرونة تامة مع الظروف المتغيرة. ومع كل هذه الأوراق الرابحة، لن يكون حتى للأخطاء الجسيمة عواقب وخيمة لبعض الوقت. الوقت الكافي لتحقيق انتصار روسيا في حرب الاستنزاف مع الغرب. ومع ذلك، فلو كنت مكان الحكومة، لما كنت أتفاءل كثيرا فيما يتعلق بقدرات روسيا اللانهائية، ولكنت سأتبع سياسة أكثر فعالية.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف
رابط قناة "تليغرام" الخاصة بالكاتب
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب
المصدر: RT Arabic
كلمات دلالية: كورونا ألكسندر نازاروف ألكسندر نازاروف الأزمة الأوكرانية البنك المركزي الروسي الجيش الروسي الدولار الأمريكي العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا سعر صرف الروبل عقوبات اقتصادية عقوبات ضد روسيا وزارة الدفاع الروسية
إقرأ أيضاً:
أعلى مطار في العالم... الركاب يستخدمون أقنعة الأوكسجين
تحتضن الصين أعلى مطار في العالم يقع على ارتفاع 4411 متراً عن مستوى سطح البحر، حيث يضطر الركاب إلى استخدام أقنعة الأوكسجين بسبب ضيق التنفس على هذا الارتفاع.
يقع المطار داوتشنغ يادينغ على منحدر في مقاطعة سيتشوان الصينية، ورغم ارتفاعه المهول لا يحتوي إلا على مدرج واحد فقط، طوله 4200 متر وعرضه 45 متراً، كما يخلو من البهرجة مع أنّ هندسته لافتة، وفقاً لموقع "مترو" البريطاني.
تيك توكر يسلط الضوءشكّل افتتاح المطار في العام 2013 خبراً رائعاً للسكان المحليين، حيث أدى إلى خفض زمن الرحلة من داوتشنغ إلى تشنغدو، عاصمة المنطقة، إلى ساعة واحدة فقط، بعدما كانت تستغرق بالسيارة أو الحافلة، 11 ساعة أو يومين عبر وسائل النقل العام.
لكن الأسبوع الماضي أعاد تيك توكر صيني صاحب حساب @aligoodguy، تسليط الضوء على المطارـ حيث ظهر في فيديو عبر حسابه على تيك توك يرتدي قناع الأوكسجين خارج المطار.
وتوجه آلي إلى المتابعين بضرورة الاستعداد مسبقاً والانتباه إلى التداعيات الصحية الناجمة عن الارتفاع الشديد للغاية، والحرارة المنخفضة جداً.
وفقاً لخبراء الملاحة والطيران يعد مطار داوتشنغ يادينغ أرضاً مليئة بالتحديات نظراً إلى موقعه في هضبة التيبت، ما يجعله صعب الهبوط والإقلاع حتى بالنسبة للطيارين الأكثر خبرة، وتجربة مرعبة محتملة للركاب وطاقم الطائرة.
لكنه لا يُعتبر أخطر مسار طيران في العالم، حيث يوجد المدرج الأكثر خطورة في أمريكا اللاتينية.
وتنبع خطورة مطار داوتشنغ يادينغ من رقة الهواء التي تتسبب بتقلبات مناخية فجائية، فمن الضروري على ربان الطائرة الإقلاع والهبوط بسرعة أبطأ من المتعارف عليه تحسباً لأي طارئ.
كما تشكل طرق الجبال المسننة تحدياً كبيراً آخر لدرجة أن الطائرات عادة ما تحوم حولها، حتى تجد الجزء الأيسر للهبوط، مع العلم أن الجزء الأكثر خطورة من الهضبة يمتد على مساحة تتجاوز 5 أضعاف مساحة فرنسا.
وقعت عدة حوادث تحطم طائرات في المنطقة، آخرها في العام 2022، عندما انحرفت رحلة الخطوط الجوية التيبتية رقم 9833 عن المدرج بعد فشل إقلاعها، وانشطرت إلى قسمين.
وفي مايو (أيار) 2018، اضطرت رحلة طيران للهبوط اضطرارياً في تشنغدو بسبب كسر في الزجاج الأمامي لقمرة القيادة بعد حوالى 40 دقيقة من الرحلة، فأصيب الكابتن مساعده، لكن لحسن الحظ نجا جميع الركاب الذين كان عددهم 119 راكباً.