ليس ثمَّة شك أنك تستطيع أن تكتب عن أي إنسان، دون أن تحتار، أو تخشى خذلان القلم، أو تلعثم اللسان، إلا سلمان؛ لأنك قطعاً ستجد نفسك أمام مجموعة من أناسٍ في إنسان واحد، وقادة في قائد، ورواد في رائد واحدٍ.. فساعتئذٍ حتماً تحتار، وتتوجس من خذلان القلم وتلعثم اللسان.
أجل، لأنك لن تدري عن أي سلمان يا ترى ستكتب، هل عن سلمان الإداري الفذّ، الذي تسنَّم إدارة منطقة الرياض لأكثر من نصف قرن من الزمان، فحوَّل حاضرتها الرياض، التي ملك عليه حبُّه لها شغاف قلبه، وتسرَّب عميقاً في أوردته وشرايينه، واستولى على كل تفكيره، فحوَّلها من قرية صغيرة متواضعة ترقد وسط الصحراء، لا تتجاوز مساحتها أثنا عشر كيلو متر في عهد المؤسس، الملك عبد العزيز آل سعود، والد الجميع، ولم يكن عدد سكانها يتجاوز الثمانية آلاف نسمة، إلى إحدى أسرع مدن العالم توسعاً، فتمددت في كل الاتجاهات، حتى تجاوزت مساحتها اليوم آلاف الكيلومترات، فيما تجاوز عدد سكانها السبعة ملايين نسمة؛ وما تزال تتمدد، لاسيَّما شمالاً، كما هو حال المدن في العالم كله.
وكان بدهياً أن يصاحب هذا التوسع المتلهف الزاحف، بعون الله وتوفيقه، ثم بعزيمة سلمان وحبِّه للعمل والإنجاز والإبداع، تحوّل في طرقاتها الضيِّقة أيضاً وأزقتها، إلى شوارع فسيحة مسفّلتة، تيسِّر حركة السير فيها جسور حديثة وأنفاق ممتدة. كما تحوَّلت مساكنها المتواضعة، التي كان قوامها اللبن وجريد النخل، إلى مبانٍ حديثة، وعمارات وأبراج شاهقة تناطح السماء. وتحوَّلت شنطة الطبيبين رشاد فرعون ومحمد خالد خاشقجي، التي ما تزال حتى اليوم معروضة في دارة الملك عبد العزيز، وكانت آنذاك بمثابة الإمدادات الطبية، إلى مدن طبية عملاقة، ومستشفيات متخصصة. وأصبحت كُتَّاب الرياض، التي كانت على تواضعها تعد على أصابع اليد الواحدة، بتوفيق الله عزَّ و جلَّ، ثم بجهد سلمان وعزيمته الماضية التي لا تعرف المستحيل، إلى آلاف المدارس في التعليم العام، بينها مدارس متخصِّصة كمدارس تحفيظ القرآن الكريم، هذا غير رياض الأطفال؛ إضافة إلى جامعات حكومية بينها أفضل جامعة على مستوى العالم العربي، وأخرى أهلية مرموقة، حققت مراكز متقدمة في التصنيفات العالمية. كما حوَّل سلمان دكاكين الرياض الصغيرة المتواضعة، التي كانت تعرض كل شيء، حتى الطعام، إلى أسواق عملاقة بمواصفات عالمية وفنادق سبعة نجوم، ومطاعم راقية تقدم مائدة العالم كله شرقيه وغربيه. كما تحوَّلت خلاوي الرياض، إلى آلاف المساجد التي يشق صوت الأذان فيها الفضاء، مقراً بوحدانية الله سبحانه وتعالى، ورسالة رسوله صلى الله عليه وسلم ونبوته، ومنادياً: أن حيَّ على الصلاة. كما تحوَّلت التجارة في الرياض، التي كان معظمها يتم على بسطات في الشارع، بما فيها الصرافات، إلى شركات عملاقة واستثمارات عالمية بمليارات الدولارات، ومئات البنوك والصرافات ومعرض إكسبو. كما تحوَّلت كرة الدافوري في الحارات، إلى كأس العالم.
أجل، هكذا كان حال سلمان مع الرياض التي تمثل عشقه الأول الأبدي، لقد منحها وقته وجهده وفكره وعقله، وضحى من أجلها بكل شيء، لأنه كان يؤمن يقيناً أنها صورة مصغَّرة لبلاده، وواجهتها الأساسية التي تطلّ منها على العالم، كما يراها العالم من خلالها. ولهذا ما زال اسم الرياض قرين اسم سلمان والعكس، بل ستبقى بصمة سلمان في الرياض راسخة إلى الأبد في وجداننا كلنا، مثلما هي بصمته في الوطن كله اليوم.
أقول، حقاً يحتار الفكر، وتخشى خذلان القلم، وتلعثم اللسان، عندما تهمّ بالكتابة عن سلمان، الإداري الفذّ، وزير الدفاع الذي كان يزور أسودنا البواسل في الثغور، فيتناول معهم الطعام، يداً بيد، على بساط متواضع على الأرض. ثم سلمان، ولي العهد الذي حمل العبء مع أخيه الملك عبد الله، فكان خير السند، ونعم العضد.
إي والله، لا تدري عن أن سلمان يمكنك أن تكتب، رائد العمل الخيري في بلادنا والعالم، الذي طالما ترأس كل لجان الدعم الخيري للآخرين من أشقاء وأصدقاء من منكوبي السويس عام 1956، إلى الجزائر، الأردن، الباكستان، مصر، سوريا، السودان، الكويت، البوسنة والهرسك، بنقلاديش. بل حتى إيران. أما حثّه لشعبه لدعم الأشقاء الفلسطينيين لمرات عديدة في ظروف مختلفة، فقد كان فعَّالاً لدرجة دفعت حتى النساء للتبرع بحليهن، كما تبرع الأطفال بمصروفهم المدرسي. وفضلاً عن هذا، كانت السعودية الدولة الرسمية، والحقيقة ما تزال، أكبر داعم عربي للأشقاء الفلسطينيين على الدوام، لكن للأسف الشديد، رأينا من يتنكر لجميلها من الإخوة الفلسطينيين، ويغدق الشكر والثناء لإيران وحواضنها في المنطقة. أقول، توَّج سلمان القائد الهمام هذا الجهد الخيري والعمل الإنساني اليوم بـ (مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية). هذا هو سلمان صاحب القلب الكبير، لن يقعده عن همته العالية ونفسه الكبيرة نكران جميل، أو ذم بخيل.
أجل، لا تدري عن أي سلمان تكتب، الحاكم العادل الذي ينتصر لعامل بسيط، فيوجه بأن تكون كفالته على الدولة، بعد أن فاجأه كفيله باستخراج تأشيرة خروج نهائي، على أن يكمل أطفاله عامهم الدراسي، وتستوفي له الجهات المعنية حقوقه كاملة حسب النظام.
حقاً، لا تدري عن أي سلمان تكتب، القائد المخلص الوفي، الذي لا يخشى الصعاب مهما ادلهمت الخطوب، فقد امتلأ قلبه الكبير بالرحمة على الكبير مثلما هي على الصغير حتى فاض؛ فقد رأيناه ملازماً شقيقه الفهد في المستشفى لعام كامل، يدير أعماله من سريره بجوار سرير أبو فيصل، لم يفارقه لحظة واحدة. وتكرر المشهد نفسه مع شقيقه الأمير سلطان، الذي صحبه في رحلته العلاجية خارج المملكة، وبقي إلى جواره لمدة عام أيضاً، متابعاً حالته مع الأطباء، مهتماً بتناول جرعاته العلاجية، ومواسياً له في مرضه، ومن سريره بجوار سرير أبو خالد كان يتابع أعماله في الوقت نفسه، حتى عاد معه برفقته إلى أرض الوطن. فبادله سلطان الخير وفاءً بوفاء، واصفاً إيَّاه بـ (سمو الوفاء، ووفاء السمو) كما قال في حقه أيضاً: (سلمان خير من حكم وجاهد وعمل في مدينة الرياض، لقد كان قوياً بحكمة، حازماً برحمة، وكان وفياً لخدمة دينه وولي أمره، وما وليَّ عليه من شعب، لذلك لا يستكثر عليه أي أعمال يقوم بها أو قام بها فعلاً). صحيح، لا يعرف قدر الرجال إلا الرجال.
أجل، لا تدري عن أي سلمان تكتب، المواطن الأول بمرتبة الشرف الأولى، الذي لم نفتقده يوماً في أفراحنا وأتراحنا، يشد على أيدينا مهنئاً، ويربت على أكتافنا بحنانه الأبوي مواسياً، ويمازحنا على السرير الأبيض في المستشفيات مسلِّياً، ومخفِّفاً عنَّا وطأة الألم، وشدة المرض، غارساً في قلوبنا التفاؤل، زارعاً الأمل بغدٍ أفضل.
حتماً، عندما تخاطر بالكتابة عن قائد همام بمقام سلمان، لا بد أن تحتار، ويخذلك القلم، ويتلعثم منك اللسان. هل تكتب عن سلمان الصحفي، الذي يتابع الصحافة مع ما يضطلع به من مسؤوليات عظيمة، فيتصل بالصحفيين مشيداً، وموجِّهاً، ومصوِّباً إن لزم الأمر. أم يا ترى تكتب عن سلمان المؤرخ، الذي يعدّ بحق أحد المؤرخين المتميزين اطلاعاً، إلماماً، فهماً عميقاً، نقداً وتحليلاً. ومن شدة شغفه بالتاريخ، نجده كثيراً ما يستشهد في أحاديثه ببيت الشعر التالي لعباس محمود العقاد:
ومن وعى التاريخ في صدره
أضاف عمراً إلى عمره
والحقيقة، لا يوجد اليوم بيننا من هو أعلم بتاريخنا من سلمان، ولا من هو أكثر اهتماماً بتاريخ هذه الأسرة الحاكمة المباركة، ولا بإرث هذا الشعب السعودي العريق، الذي هو فعلاً أسرة واحدة، من سلمان. ولأن هذا هو فهمي لهذا القائد الكبير الهمام بيننا اليوم، ولا بدّ أنكم تشاطرونني الرأي، أعتدت أن أصف مقامه السامي الكريم كلما تشرَّفت بالكتابة عنه بـ (ذاكرة الوطن التي لا تشيخ، ومستودع إرثنا الحضاري والتاريخي والثقافي).
أقول، لا تدري عن أي سلمان تكتب، النَّسَّابة، المرجع الثقة، أمين سرِّ العائلة، الذي اعتمد عليه عبد الرحمن الرويشد في كتابه (الجداول الأسرية لسلالات العائلة المالكية السعودية) إذ يقول بعد مقدمة طويلة استعرض فيها آراء مجموعة من النَّسَّابة المعروفين: (وعلى كل حال، أكد نسب هذه الأسرة – يعني أسرة آل سعود – إلى قبيلة حنيفة نسابو العائلة ومراجعها الثقات من آل سعود، من بينهم الأمير عبد الله بن عبد الرحمن، الذي كان الملك عبد العزيز يشير إليه عندما يجري الحديث حول هذا الموضوع بقوله: أسألوا أخي عبد الله. والأمير سلمان بن عبد العزيز.. إلخ). وأود أن أضيف هنا بهذه المناسبة، أن الملك عبد العزيز كان يصف أخيه الأمير عبد الله بن عبد الرحمن بـ (عالم آل سعود وفقيههم)، مثلما هو سلمان اليوم.
أجل، قطعاً ستحتار عن أي سلمان يمكنك أن تكتب، المثقف الأديب الأريب، الرجل الموسوعي، الذي أخذ بحظ وافر من كل العلوم والمعارف، القارئ النهم الشغوف بالمعرفة، مع ما يقوم به من أعباء إدارة الدولة وغيرها من مسؤوليات جسام، الذي يمتلك مكتبة خاصة تشتمل على أكثر من عشرين ألف عنوان، بينها أمهات المصادر والمراجع في مختلف العلوم والمعارف.
حقاً، لا تدري عن أي سلمان تكتب، خادم الحرمين الشريفين، سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، قائد قافلة خيرنا القاصدة إلى الأبد إن شاء الله، الذي حقق لبلادنا الطيبة المباركة، التي ليس مثلها في الدنيا وطن، خلال هذه العشر سنبلات الخضر الزاهيات المشرقات، ما عجز قادة غيره كثر في بلدان أخرى، عن تحقيقه لشعوبهم في عقود عديدة. ليس هذا فحسب، بل حافظ سلمان على تنمية بلاده وتطورها في المجالات كلها، في حين تسبَّب أولئك القادة الآخرون في تمزيق بلدانهم ونسيجها الاجتماعي من خلال إشعال حروب أهليه، كان وقودها الأبرياء والمساكين، وبنية بلدانهم التحتية على تواضعها، نتيجة اقتتالهم على السلطة.
أقول، مع ما يشهده العالم من تراجع في كل شيء، حقق سلمان لبلاده نقلة نوعية تنموية في المجالات كلها؛ فأصبحت رمانة الميزان في السياسة والاقتصاد والمال والأعمال والاستثمار، تشد إليها الرحال من كل فجّ عميق، بل أصبحت وجهة أساسية حتى لزعماء (العالم الأول) طلباً للدعم والمساعدة والرأي السديد. ولهذا لا غرو إن أصبحنا اليوم في ظل قيادة سلمان خلال هذه العشر سنبلات الخضر الزاهيات المباركات، أعلى دولة في العالم من حيث النمو، إضافة إلى ما تحقق لنا من نقلة نوعية في التعليم والمواصلات والصحة، التي احتلينا فيها صدارة العالم فيما يتعلق بتقدير الجوائح والأوبئة، وطب الحشود الذي شهد لنا به طبيب العالم (منظمة الصحة العالمية).
بالطبع، فضلاً عمَّا تم في الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة من توسعة وتطوير، ممّا جعل رحلة الحج والعمرة، سياحة سبعة نجوم؛ بجانب الرياضة بأنواعها كلها، لاسيَّما سباق الخيل ومهرجان الإبل وكرة القدم، إذ تستضيف بلادنا كأس آسيا (2027) وكأس العالم (2034).
والحقيقة، مهما تكتب عن سلمان، تجد نفسك حتماً محتاراً، ويخذلك القلم، ويتلعثم منك اللسان، فما هذا إلا نزرٌ يسيرٌ من كثير ما حققه لنا قائد ركبنا البطل الفذ الهمام، ولأُمَّة العرب والمسلمين وللعالمين أجمعين. وقطعاً: القادم أكثر روعة وإبداعاً ودهشة.
ومع هذا، يقول الرجل في تواضع العلماء دوماً عند الحديث عن جهده وإنجازاته ودوره في المجتمع، متمثلاً قول دريد بن الصمة:
وهل أنا إلا من غزيَّة، إن غوت
غويت، وإن ترشد غزيَّة أرشد
يقصد أن كل ما تحقق فشعبه شريك أصيل فيه، وينبغي ألا ينسب إليه وحده، مستدركاً: وغزيَّة لن تغوي أبداً إن شاء الله، كناية عن ثقته في شعبه.
فاللهم أجزِ عنَّا قائدنا إلى المسرات والخيرات، خادم الحرمين الشريفين، سيدي الوالد المكرم، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، كل خير، لا أقول بقدر ما قدم لنا ويقدم، بل بقدر كرمك وعطائك، يا من لا تنفد خزائنه. ومتِّعه بالصحة والعافية، وبارك لنا في عمره وعمله من أجلنا وخير العالمين أجمعين.
المصدر: صحيفة البلاد
كلمات دلالية: الملک عبد العزیز عن سلمان عبد الله التی کان تکتب عن کما تحو آل سعود بن عبد
إقرأ أيضاً:
مونيكا وليم تكتب: روسيا والاتفاق النووي الإيراني بين الحسابات الإستراتيجية وأوراق التفاوض الدولية
في لحظة تتسم بكثافة التحولات الجيوسياسية، تعود روسيا إلى الواجهة في ملف المباحثات النووية بين إيران والولايات المتحدة، ليس من موقع المعزول كما بدا منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، بل كلاعب متوازن وبراغماتي يسعى لتوظيف التناقضات، والتقارب الظرفي مع الولايات المتحدة، الذي يعد دعامة في التغير النسبي في نبرة العلاقات منذ بداية 2025، لإعادة تموضعه في النظام الدولي. فوسط حرب غزة المتصاعدة، والمأزق الأميركي في الشرق الأوسط، تجد موسكو فرصة جديدة لتعزيز دورها في ملف لطالما تعاملت معه كمنصة استراتيجية لفرض نفسها كقوة لا يمكن تجاوزها.
وتأسيسا علي ذلك، تلعب روسيا دوراً رئيسياً في إحياء الاتفاق النووي الإيراني وذلك وفقا لما أشارت إليه عدد من الصحف والتقديرات الدولية علي غرار الجارديان لاسيما أن روسيا تطرح كوجهة محتملة لتخزين مخزون ايران من اليورانيوم وأيضا كوسيط يُحتكم إليه في حال أية خروقات محتملة من جانب ايران، وعليه فان التحليلات الدولية ترجح أن السيناريو المفترض الوصول إليه حتى يتم تلافي الوصول إلى نقطة المواجهة المسلحة خاصة في ضوء تنامي الضغط الإسرائيلي علي ترامب لضرب المنشآت النووية في إيران
لا يزال دعم روسيا لبرنامج إيران النووي مثار جدل وتساؤلات، سواء ببنائها لمفاعل بوشهر النووي، أو بتبادل اليورانيوم الخام والمخصب بين الجانبين مع التعاون ونقل الخبرة في مجال الأبحاث وتزويدها بالوقود النووي اللازم لتشغيل المفاعل فضلا عن الدعم الدبلوماسي لبرنامج إيران النووي في المحافل الدولية.
وعلي هذا الأساس، سوف تركز فحوى هذه المقالة، علي تصاعد الدور الروسي في ملف الاتفاق النووي، وكيفية استفادة موسكو من التقارب النسبي مع الولايات المتحدة لتعزيز حضورها في مسار المفاوضات، كما تتناول المقالة تحليل آليات التفاوض القائمة، واستنباط الملامح الأساسية للمسار المتوقع بناءً على التحركات الإقليمية والدولية.
قد جُددت روسيا جولات المشاورات النووية في مارس وأبريل 2025 كوسيط يمتلك أدوات التأثير على أيران، لكنه في الوقت نفسه لا يتبنى موقفًا معاديًا بالكامل للإدارة الأمريكية. فهي لا تمانع في نقل رسائل تفاوضية غير رسمية، أو اقتراح حلول فنية لكنها تربط هذا التعاون بتحقيق مكاسب مقابلة في ملفات استراتيجية أخرى.
إلا انه في خضم هذه الجهود، تبرز عقبتان رئيسيتان تعرقلان مسار التفاهم تتمثل في مسألة لابد من التوصل إلي حل بشأنها وهي مخزون اليورانيوم الإيراني المخصب وآليات التنفيذ في حال إعادة فرض الولايات المتحدة للعقوبات، ومن ثم تبرز 2 سيناريوهات محتملة، أولا أعادة توطين اليورانيوم المخصب الإيراني وإرساله إلي الخارج إذ تفضّل وتصر الأدارة الأمريكية إما تدمير اليورانيوم أو نقله إلى دولة ثالثة محايدة، وروسيا مرشح رئيسي وهنا يظهر الدور الفاعل لروسيا وهو ما يفسر زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي يوم 17 أبريل 2025 إلي روسيا، ومع استذكار التجارب السابقة في هذا الشأن فهذا السيناريو يتوافق مع ما حدث مع اليابان وألمانيا حين تم تفريغ البلاد وتسليمهم مخزونات نووية سواء يورانيوم مخصب أو أسلحة إلي دول محايدة.
أما السيناريو الثاني هو بقاء اليورانيوم داخل إيران مع محاولة تخفيفه، او مراقبته من قبل وكالة الطاقة الذرية من دون مفتشين أمميين وبالتالي أي حل للملف النووي في الشق المتعلق بتخصيب اليورانيوم يجب أن يتم من قبل مفتشين للوكالة الذرية
ومع تفحص الدور الروسي في ملف الاتفاق النووي الإيراني، يمكن الإشارة الي الدور الروسي في التعاون مع إيران كونها البنية الأساسية لجوهر البرنامج النووي الإيراني إذ استندت علي خبرات العلماء من الاتحاد السوفيتي بعد انهياره عام 1990 وهناك تعاون مشترك في إدارة محطة بوشهر النووية في جنوب إيران بين روسيا والجانب الإيراني ، فهي تُعد طرفًا فاعلًا في الملف منذ انطلاق مفاوضاته الأولى في عام 2003 ضمن إطار مجموعة “الثلاثي الأوروبي” (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا) قبل أن تتوسع إلى صيغة “5+1” (الولايات المتحدة، روسيا، الصين، بالإضافة إلى الثلاثي الأوروبي). ومنذ ذلك الحين، حافظت روسيا على دور مركزي، لا بوصفها مجرد وسيط تقليدي، بل كطرف استراتيجي يسعى إلى هندسة توازن دقيق بين مصالحه مع طهران من جهة، ومع القوى الغربية من جهة أخرى.
واستكمالا لذلك، لعبت روسيا دورًا حاسمًا في التوصل إلى اتفاق 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة)، حيث ساهمت في تهدئة بعض من مطالب الغرب الأكثر تشددًا، وضمنت في الوقت ذاته أن تحافظ إيران على حقها في تطوير برنامج نووي مدني. كما شاركت في ترتيبات عملية، كتحويل منشأة فوردو إلى مركز بحثي للتكنولوجيا والعلوم النووية والفيزيائية تستخدم فيه 1044 جهازاً للطرد المركزي في أغراض غير التخصيب، مثل إنتاج النظائر المستقرة التي لها العديد من الاستخدامات السلمية، ومن ثم تم نقل فائض اليورانيوم منخفض التخصيب إلى أراضيها، ما عزز موقعها كضامن فني وسياسي للاتفاق.
مع انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق عام 2018، وجدت روسيا نفسها في موقع محوري ضمن جسر تفاوضي لمحاولة الحفاظ على الاتفاق ومنع انهياره الكامل. وعملت موسكو، إلى جانب الأوروبيين والصين، على إبقاء إيران ضمن الالتزامات الأساسية، وإن جزئيًا، كما استثمرت ذلك الانسحاب الأميركي لتصوير نفسها كقوة أكثر موثوقية في النظام الدولي، مقارنة بالولايات المتحدة التي لم تلتزم بتعهداتها.
وفي ظل المباحثات التي جرت في فيينا منذ 2021 لإحياء الاتفاق، برزت روسيا كوسيط غير مباشر بين طهران وواشنطن، خاصة أن الأخيرة رفضت الدخول في مفاوضات مباشرة في البداية. وشاركت موسكو في صياغة حلول وسط للملفات العالقة، مثل رفع العقوبات عن الحرس الثوري، ومسائل الضمانات المستقبلية، بل وحرصت على أن تحافظ على قنوات اتصال نشطة مع الطرفين رغم التصعيد بينهما.
غير أن الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022 فرض معطيات جديدة. فقد تراجعت ثقة الغرب بدور روسيا كوسيط نزيه، وبدأت تظهر مخاوف من استخدام روسيا للملف النووي كورقة تفاوضية للضغط على الولايات المتحدة وأوروبا. بل إن بعض التحليلات رأت في تعطيل روسيا لمراحل متقدمة من المفاوضات - كما حدث في مارس 2022 عندما طالبت بضمانات أميركية لتعاونها مع إيران رغم العقوبات - محاولة لتحويل الاتفاق إلى رهينة في سياق التوترات الأوسع مع الغرب.
في المقابل، لم تتخلَّ إيران عن التنسيق مع موسكو، بل عمّقت شراكتها العسكرية والاقتصادية معها، خاصة في ظل العقوبات المفروضة على الجانبين. ومع اتساع التعاون في ملفات مثل الطائرات المسيّرة، بات من الصعب الفصل بين المسارات النووية والسياسية والاستراتيجية في العلاقة بين روسيا وإيران.
عندما نتحدث عن العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران يمكن أن يتبلور السبب المستمر وراء الدور الروسي في أي توافق محتمل بينهما ومع قراءة معمقة لحيثيات ومعطيات التفاعلات السياسية بين طرفي الاتفاق، فالطرف الأمريكي منغمس في الوضع الداخلي الأمريكي، والذي يشير إلي تراجع شعبيته إلي أدني مستوي منذ عودته، حيث وافق 42% على أدائه كرئيس بانخفاض من 47% وذلك وفقاٌ لاستطلاع أجراه رويترز/ ابسوس إلي جانب انشغال ايران بمجريات أحداثها وتطورات محور الممانعة كمان ان هناك إدراك متزايد داخل أوساط الحكم الإيراني ينبع من خطورة الانهيار الاقتصادي في حال استمرار العقوبات، ومن الإجماع المتنامي بين النخبة على أن التفاوض مع الولايات المتحدة أصبح ضرورة لتخفيف العقوبات وفي الوقت نفسه يختلف الخطاب الرسمي الإيراني في الوقت الحالي عن الفترة التي سبقت الاتفاق النووي عام 2015، حيث كان المرشد الأعلى آنذاك يعارض التفاوض، ووصف الاتفاق بـ"ضرر محض". لكن رغم ذلك، انتهى به الأمر إلى الموافقة عليه.
في المقابل ومع استقراء حدود الدور الروسي وتحدياته فعلي رغم ما يبدو من نفوذ لروسيا في الملف النووي الإيراني، إلا أن هذا الدور يواجه تحديات عدة، أبرزها فقدان الثقة الغربية، كما أن استغلال روسيا للملف كورقة تفاوضية قد يضعف قدرتها على الحفاظ على توازن دقيق بين دعم إيران وعدم استفزاز الغرب إلى حد غير قابل للاحتواء
ختاماً، لا يمكن فهم الدور الروسي في المباحثات النووية إلا ضمن تصور أوسع لعقيدة موسكو الخارجية، التي تقوم على استثمار التناقضات الإقليمية والدولية، وتحويل الأزمات إلى فرص لتعزيز نفوذها بوصفها قوة لا غربية مستقلة، تسعى إلى هندسة النظام العالمي وفقًا لمصالحها وأدواتها. بناءً على المعطيات الراهنة، يُرجّح أن الاتفاق الحالي قيد التبلور سيتمكّن من تحقيق المصالح الأساسية لكافة الأطراف: ضمان عدم تحول البرنامج النووي الإيراني إلى مسار عسكري، رفع العقوبات الاقتصادية بشكل تدريجي، وإعادة ضبط التوازن الإقليمي بما يحدّ من التوترات. كما أن لروسيا مصلحة استراتيجية إضافية في نجاح الاتفاق، إذ يعزز دورها كوسيط محوري في الملفات الدولية الكبرى، ويمنحها أوراق تفاوضية أقوى في ملفات أخرى متشابكة كالحرب الروسية الأوكرانية ليس فقط مع واشنطن بل مع أوروبا أيضًا، خاصة فيما يتعلق بالعقوبات، واستئناف بعض الأنشطة الاقتصادية التي جُمّدت عقب الغزو الروسي لأوكرانيا. وفي هذا السياق، تشير مصادر غربية إلى أن الكرملين يقايض تعاونه في الملف الإيراني بتخفيف القيود على التبادلات المالية مع بعض الشركات الروسية، في هذا السياق، يبدو أن موسكو لا تسعى فقط إلى تحقيق مكاسب ظرفية، بل إلى ترسيخ موقعها كفاعل لا غنى عنه في إدارة الأزمات العالمية.