بعد الانتصارات الساحقة للجيش السوداني على قوات الدعم السريع في ولايات السودان المختلفة وفي مناطق العمليات خلال الأيام الماضية، وبعدما تراءى للأعين انهيار التمرد وفشل مشروعه السياسي والعسكري، ووقوف الحرب على الحافة، تتمدد الآن حالة من القلق والخوف والهواجس، من تداعيات وآثار الحرب ونكالها على القبائل العربية التي تتواجد في الامتداد الجغرافي العريض من غرب السودان ما بين حدود نهر النيل شرقًا، حتى ساحل المحيط الأطلسي في غرب أفريقيا.

عُرف هذا الفضاء الجغرافي خلال القرون الماضية، التي شهدت الكشوف الجغرافية الأوروبية، ومن قبلها الرحالة العرب، بما اصطلح عليه الجغرافيون والمؤرخون حتى بداية العصر الحديث، وهو مسمى السودان الغربي والسودان الأوسط، الذي يشمل حاليًا دول أفريقيا جنوب الصحراء، وخاصة دول حوضي نهري النيجر والسنغال وبحيرة تشاد وما حولها، ما بات يعرف حديثًا بدول الساحل.

ولا يتجادل اثنان في أن حرب السودان زاد من تعقيدها إضرام الجهات الخارجية، النار في البيئة الاجتماعية شديدة التداخل والترابط، التي تتقاسمها تسع دول في المنطقة، ولم تكن هذه الجهات الخارجية تدرك خطورة الاختلال السياسي والاجتماعي الذي سيحدث، وأي عاصفة من الخبال تجتاح مع هذه الحرب مجتمعات ودول أفريقيا جنوب الصحراء.

إعلان

ظلت القبائل العربية في هذا الجزء العريض الطويل من القارة الأفريقية، تحمل همها التاريخي، وهي تعيش على هامش الحياة السياسية وبعيدة عن مركز السلطة كغيرها من القبائل الصحراوية، يراودها حلمها بسبب تفاعلات السياسة الجارية منذ ستينيات القرن الماضي.

تعاظم ذلك مع بروز قوات الدعم السريع في السودان، وظن بعض أبناء القبائل العربية في هذه المنطقة الشاسعة أنهم وجدوا ضالتهم فيها للسيطرة على الدولة السودانية ثم الانطلاق غربًا، وأدرك بعض العاقلين منهم أن الدعم السريع، مشروع سياسي عسكري طائش، خائب المسعى، مهيض الجناح، لا يمتلك مقومات البقاء.

لكن مع ذلك ساندته بعض الأصوات من النخب والقيادات القبلية، ونهضت هذه المجموعات يحركها التاريخ، وتدفعها بقوة عوامل الجغرافيا، مناصرة للتمرد في السودان، على مظنة أن مسار التاريخ سيتغير، دون أن يخضع ذلك لمعادلات حركة التاريخ الطبيعية.

بعض العاقلين من متعلمي القبائل العربية في غرب السودان؛ والسودانين: الغربي والأوسط، يعلمون أن مشروع الدعم السريع وحربها الحالية، لا يمت بصلة عضوية متطابقة بالكامل مع تطلعات القبائل عقب حصول بلدان المنطقة على الاستقلال، لكنه ربما أثار ثائرة العاطفة وأوقد نارًا في النفوس وفق المعطيات الظرفية لكل دولة في الإقليم.

وظلت هذه الأطياف المتنوعة من المثقفين والسياسيين والقيادات ذوي الأصول العربية يخطون خطوات جادة وحثيثة للتعبير عن دور يتناغم مع تفاعلاتهم السياسية في السياقات المتطورة في بلدانهم، من أجل المشاركة السياسية التي تليق بهم، وتحويل مجتمعاتهم الرعوية إلى مجتمعات مستقرة وآمنة، والمساهمة بجهد فاعل في بناء أوطانهم، وهم بلا شك كانوا جزءًا من الحركات التحررية وروّاد الاستقلال، وفي قلب حركة النضال المدني والعسكري خلال ستة عقود منصرمة في أقطارهم.

إعلان

وعلى ضوء التطورات الاجتماعية والسياسية، ومنتج التنمية الاجتماعية ومعدلاتها، نما حلم القبائل العربية في هذا الفضاء الواسع، لكنها لم تخطط لمشروع سياسي أو تسعى لصراع سلطوي مسلح، وهي موحدة أو متعاونة أو وهي منفردة، وذلك عدا تجارب الحركات المسلحة في تشاد منذ العام 1965، عندما ثار الشعب ضد حكم الرئيس فرانسوا تمبلباي وتم تكوين حركة فرولينا، وكان عرب تشاد في الواجهة ومن الآباء المؤسسين، ويومها سارعت القبائل العربية إلى الاندماج مع غيرها من القبائل، وعملت على تأسيس حركات وتنظيمات سياسية مسلحة، يسري عليها ما يصيب الجميع دون الاستفراد بمشروع أحادي العرق.

عندما صعد نجم الدعم السريع عقب مشاركتها في حرب اليمن وعاصفة الحزم، بالتحديد في 2017، وبدعم من دولة إقليمية، حدث أول لقاء سري لقيادتها مع الموساد الإسرائيلي، تم فيه رسم مخطط كانت فيه المصالح الإسرائيلية واضحة وتمت مخاطبة أطماع ومصالح وتطلعات قيادة الدعم السريع.

في ذات الوقت، كانت مجموعات من عرب تشاد وقليل منهم من جنوب ليبيا وبعض أبناء القبائل العربية في شمال غرب أفريقيا الوسطى، قد تم تجنيدهم لصالح الدعم السريع، وتم نقلهم للمشاركة في حرب اليمن، وقدر عددهم في ذلك الوقت حتى العام 2019، ما يقارب أحد عشر ألفًا من المجندين، وزاد العدد بنسبة تجاوزت 400% بعد ذهاب نظام الرئيس عمر البشير، ووجدت قيادة الدعم السريع الطريق ممهدًا والأموال متدفقة لتتم أكبر عملية تجنيد في القارة الأفريقية من أجل صناعة جيش موازٍ للجيش السوداني، وتكوين النسخة الأفرو-عربية من شركة فاغنر الروسية.

غداة انطلاقة الحرب كانت لدى الدعم السريع ما يزيد عن (120.000) جندي شاركوا في محاولة الانقلاب والسيطرة على الدولة وبدأت بهم الحرب، يمثل الأجانب منهم (45%)، وهم مرتزقة من تشاد، والنيجر، ومالي، وجنوب ليبيا، وأطراف من أفريقيا الوسطى، وشرق نيجيريا، والكاميرون، وبوركينا فاسو، وجنوب الجزائر، بالإضافة إلى مرتزقة من جنسيات أخرى، ويمثل العرب 70% من هذا الوجود الأجنبي داخل قوات الدعم السريع.

إعلان

ونظرًا لوجود القبائل المشتركة بين السودان، وتشاد، والنيجر، ونيجيريا، ومالي، وليبيا، وجنوب الجزائر، والسنغال، وموريتانيا، التحقت مجموعات منها مع أبناء عمومتهم بالسودان في قبائلهم المشتركة، وهي: (الرزيقات، والمسيرية، والحوازمة، والتعايشة، والحيماد، والبني هلبة، والهبانية، والسلامات، وأولاد راشد، وخزام، والبراريش، وأولاد سليمان، والمحاميد، والحسانية، والجعفريين)، بجانب قبائل أخرى غير عربية تعيش نفس الأوضاع السياسية والاجتماعية: (الطوارق، الفولاني، التبو، القرعان، الزغاوة، والبديات).

تجنيد أبناء القبائل العربية في غرب السودان وجواره الأفريقي لصالح الدعم السريع، تم لفئات الشباب من الأعمار بين (14 سنة – 45 سنة) كمقاتلين، وشاركت الفئات الأكبر سنًا في مهام دعائية وفي عمليات التجنيد والاستقطاب، ونشط في ذلك زعماء القبائل ورموزها وقادتها، وتم توظيف عدد هائل من الناشطين والمتعلمين لصالح الدعاية السوداء التي اعتمدتها الدعم السريع في حربها.

مع توريط الدعم السريع لقبائل عرب غرب السودان ودول الساحل في الحرب، واستخدام أساليب الترغيب والترهيب في إغراء القيادات والزعامات القبلية وتوظيفها في عمليات الاستنفار والتجنيد وجرجرة شباب القبائل للانضمام لمشروع الدعم السريع، انساق البعض وراء ذلك، وعبر كثير منهم عن مخاوفهم من الارتدادات العكسية لهذا المشروع، وكانت لديهم تحفظات واضحة على هذا المشروع، ومنهم الرئيس النيجري السابق محمد بازوم، والسيد محمد صالح النظيف وزير خارجية تشاد السابق، وعدد من القيادات في دول الإقليم الملتهب.

وليس من باب التهويل، أن تيارًا في منطقة الساحل ودوائر رسمية واستخبارية غربية، لم تزل تنظر إلى النتائج والمحصلة الإستراتيجية لحرب السودان، وأهمها التوازنات السياسية والسكانية في هذه البلدان، لا سيما تشاد، والنيجر المرتبطتين بالسودان، وليبيا وهي منطقة هادرة الثقافة العربية والإسلامية ومصدرة لهما إلى أفريقيا جنوب الصحراء.

إعلان
فإن كانت هناك مصلحة في استنزاف المورد البشري لعرب المنطقة وتقليل فاعليتهم بسبب الحرب المجنونة التي شنتها الدعم السريع في السودان واستقطبت لها جل العناصر المقاتلة في هذه الدول، فإن هذا المشروع الاستنزافي قد نجح.

في السودان وحده بلغت خسائر قبيلة الرزيقات التي ينتمي لها قادة الدعم السريع عشرات الألوف من الشباب قد تصل إلى 45 ألفًا في ولايات دارفور الخمس، بينما خسرت قبيلتا المسيرية والحوازمة وهما من أكبر قبائل كردفان ودارفور العربية ما يقارب العشرين ألفًا من شبابها، بينما خسرت قبائل البني هلبة والتعايشة والهبانية والفلاتة والسلامات والزيادية وقبائل أخرى بضعة آلاف في معارك الخرطوم وولاية الجزيرة ومعارك كردفان ودارفور وخاصة مدينة الفاشر.

وتقول حركات معارضة تشادية ينتمي جلها للعنصر العربي إن عددًا من قياداتها ورموزها وشبابها قد قتلوا في حرب السودان، عندما تدافعوا بالآلاف للالتحاق بقوات الدعم السريع، كذلك الحال لقبائل عربية في النيجر وجنوب ليبيا وأفريقيا الوسطى.

الصحيح دائمًا أن القبائل لا تتحمل جريرة ما قامت به مليشيا الدعم السريع، لكن مع ذلك تواجه هذه القبائل في السودان، أو دول السودانَين الغربي والأوسط، تهمًا قاسية بولوغ أبنائها في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع، فضلًا عن عمليات النهب والسرقة لممتلكات السودانيين من سيارات وأموال ومصوغات ذهبية ومعدات وأثاث وأجهزة وأدوات مختلفة، وكل هذه المنهوبات تتواجد في أسواق غرب السودان ودول المنطقة المختلفة.

لكن الأثر الأبرز هو حالة العداء والضغائن والإحن التي تعتصر القلوب في داخل السودان، وعودة النعرات القبلية والرغبة في التشفي لدى شرائح مختلفة في المجتمع السوداني، وربما تكون هناك مخاوف وحذر بالغ لدى دول الساحل التي ترى في القبائل العربية خطرًا ماحقًا لا بد من لجمه، خاصة إذا امتلكت هذه القبائل السلاح والمال والدربة على القتال، وسرت فيها عدوى الدعم السريع، ورغبت في الاستيلاء على السلطة في بلدانها.

إعلان

في حالة السودان تحتاج القبائل العربية بغرب السودان بعد نهاية هذه الحرب أو قبلها، إلى الشروع في حوارات تصالحية عميقة مع قبائل السودان المختلفة، لكبح جماح ما يعتمل في النفوس من غل وغضب، وهي اليوم أحوج ما تكون لبناء الثقة من جديد، وأن تنفي عن نفسها ما جرى باسمها، وتتبرأ من جرائم الدعم السريع، وتنبذ الشعارات وخطاب الكراهية المتشح بالهمجية والغلو والتطرف، وتحركه سموم النظرة العرقية الضيقة والغبن الاجتماعي، ويستهدف قبائل بعينها في مناطق السودان المختلفة، ويدعو لتدمير وتخريب السودان وأعمدة بنائه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وتمزيق نسيجه القائم وتجربته التاريخية وتدمير البنية التحتية للدولة.

وواضح وفقًا لمجريات الحرب أنها ستنتهي بهزيمة قوات الدعم السريع، وخروج قيادتها من المشهد العام، ومطاردة قادتها ورموزها والمتعاونين معها. ينبغي مع نشوء حالة من التوجس والحساسية البالغة تجاه حواضنها الاجتماعية، أن تُطرح أفكار وخطوات تقود لمصالحة وطنية شاملة، وذلك إن توفر الرشد السياسي والاجتماعي لدى الجميع، لأن الأثمان المنتظرة لا بد باهظة وواجبة السداد، بحجم ما ارتُكب من جرم في حق السودانيين جميعًا.

لذلك كله، فإن مستقبل هذه القبائل على المحك، إذا انتهت الحرب دون رؤية متكاملة للدولة والمجتمع، فالفرص التي كانت متاحة للاندماج الاجتماعي وتذويب القبليات والعرقيات تلاشت نوعًا ما، وباتت بعيدة المنال، وتحصد الدعم السريع الهشيم لأنها لطخت سمعة هذه القبائل، ودمرت مستقبلها عندما حصدت حربها عشرات الآلاف من شبابها، وجعلتها في قفص الاتهام.

الصادق الرزيقي

نقلا عن الجزيرة نت

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: القبائل العربیة فی قوات الدعم السریع الدعم السریع فی هذه القبائل غرب السودان فی السودان فی حرب

إقرأ أيضاً:

مقتل النور: عندما تخلى العالم عن السودان للإبادة الجماعية لمدة عامين كاملين

نعت لجان مقاومة شمال دارفور زميلتهم وبطلتنا، الدكتورة هنادي النور، التي أسلمت روحها لباريها بعد أن اخترقت رصاصات ميليشيا قوات الدعم السريع جسدها الغض، عند اقتحامهم مخيم زمزم للنازحين، الواقع على بُعد 15 كيلومترًا من مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور. كانت هنادي، ابنة أوائل العشرينات، قد تخرجت حديثًا من كلية الطب قبيل اندلاع الحرب، لكنها اختارت البقاء في معية النازحين في زمزم، واختارت أن تصمد وتخدم، بدلاً من البحث عن سُبل الخلاص الفردي. اختارت هنادي أن تكون (جميلة بوحيرد السودان) لتعمل بين أهلنا الذين افترشوا مضارب النزوح في المخيم، تُطبب الجرحى، وتُداوي المرضى، وتذود بجسدها الغض عمن طحنتهم آلة الحرب، وتدفع ما استطاعت من عمرها فداءً لأبناء وبنات شعبنا الذين هجّرتهم جحافل الدعم السريع، وشرّدتهم من ديارهم.

رحلت هنادي عن عالمنا قبل يومين من دخول حرب السودان الملعونة إلى عامها الثالث، عندما اجتاحت جحافل ميليشيا قوات الدعم السريع مخيم زمزم للنازحين في يوم 13 أبريل 2025. صمد مخيم زمزم لأكثر من عام، في وجه الحصار الوحشي الذي فرضته ميليشيا قوات الدعم السريع، ولاحقًا انضم إليها حلفاؤها في تحالف تأسيس على الفاشر ومخيمات النازحين المحيطة به، ومن ضمنها زمزم وأبو شوك. أدى ذلك الحصار الخانق إلى مأساة إنسانية غير مسبوقة. تم إعلان المجاعة من المستوى الخامس (المستوى الكارثي) في مخيم زمزم في أغسطس 2024، وأفادت تقارير المنظمات الدولية، ومن بينها أطباء بلا حدود، أن طفلًا واحدًا على الأقل يقضي نحبه جراء الجوع والمرض كل ساعتين نتيجة لنقص الغذاء والدواء.

بعد الخسائر المتتالية التي أصابت ميليشيا قوات الدعم السريع، ونجاح الجيش السوداني في تحرير العاصمة الخرطوم، كثّفت الميليشيا وحلفاؤها هجماتهم على الفاشر وزمزم وأبو شوك وبقية المناطق التي ظلّت صامدة خارج سيطرتها. أدى ذلك إلى إعلان منظمة “أطباء بلا حدود” تعليق جميع أنشطتها في مخيم زمزم في 24 فبراير 2025، بسبب تصاعد العنف والهجمات المتكررة، حفاظًا على سلامة طواقمها. وبعد يومين، في 26 فبراير 2025، أعلن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة تعليق أعماله في مخيم زمزم، نتيجة لتدهور الوضع الأمني وتصاعد القتال، وقام بإجلاء الموظفين من أجل سلامتهم. لم يبق من عمال الإغاثة الإنسانية في زمزم – والذي يأوي حوالي مليون نازح من المدنيين الذين هجّرتهم الحرب – غير منظمة ريليف إنترناشيونال Relief International وثلة من المؤمنين بشعبهم وبقدسية الحياة مثل هنادي ورفاقها.

لكن لم يسلم أحدهم من بطش آلة العنف الهمجية التي أطلقتها ميليشيا الدعم السريع وحلفاؤها. أعلنت ريليف إنترناشيونال أن الميليشيا قتلت تسعة من كوادر العناية الطبية بعد الاجتياح الدموي، في العيادة الأخيرة في المخيم، والتي كانت تديرها المنظمة، ثم أعلنت جمعية الأطباء السودانيين الأمريكيين عن مقتل الأستاذ أحمد محمد صالح سيدنا، والذي كان يدير مركز الأطفال الذي ترعاه الجمعية في المخيم، على يد جحافل التتر الجنجويدية التي اجتاحت المخيم. لم تكن هنادي وحدها إذن، بل كان الموت بكل عنفوانه الوحشي يحصد بمنجله الدموي رُسل الحياة والإنسانية. أو كما قالت نقابة أطباء السودان في نعيها لهنادي: “يد الغدر المتوحشة لم تفرّق بين من يقتل ومن ينقذ، فاغتالت النور”.

أعادت الصور والفيديوهات التي تسربت من الهجوم ذكريات ما حدث في الإقليم في أوائل الألفية. مشاهد جنود الدعم السريع على ظهور جيادهم وهم يطاردون النازحين الذين يحاولون الفرار من هذا الجحيم، مشاهد حرق المخيم وشهادات القتل والاستهداف الإثني، كلها تكررت لتقول للعالم بأقسى طريقة ممكنة إن تفاحة الدعم السريع وحلفاءها لم تسقط بعيدًا عن شجرة الجنجويد.

مع دخول الحرب في السودان عامها الثالث، يتجلى عجز العالم أمام المأساة في أبهى صوره: تواطؤ تزينه لغة دبلوماسية متخشبة، ومجاملات جوفاء لا تقوى على ملامسة الحقيقة المروعة لهذه الحرب – الحقيقة التي تقول إننا نشاهد واحدة من أفظع الكوارث الإنسانية التي صنعها الإنسان في القرن الحادي والعشرين، لا بفعل الكوارث الطبيعية، بل بإرادة القتل والعنف والفناء.

تحوّل شعار “إيقاف الحرب” إلى لافتة باهتة يرفعها بعض الساسة الذين يتوسلون شرعية من الخارج الدولي على ركام الوطن. راية مهترئة يحملها من يسعون لتجميل وجه الفاشية، والبحث عن معادلات لتقاسم السلطة عبر إضفاء الشرعية على آلة الاستبداد والنهب والاغتصاب والقتل الجماعي، فقط لأنهم يتطلعون إلى نصيب من سلطة عرجاء، أو خدمةً لمصالح إقليمية ودولية لا ترى في السودان سوى رقعة نفوذ وأداة صراع.

في ذروة هذا النزيف، عقدت بريطانيا مؤتمرًا وزاريًا لمناقشة الأزمة السودانية في يوم الذكرى الثانية لانفجارها – مؤتمر بدا كعرض مسرحي ناقص، غاب عنه السودانيون أنفسهم: لا حضور رسمي يمثل الدولة، ولا صوت شعبي يعكس صرخة الشعب الموجوع. لم تكترث الحكومة البريطانية للآلاف من أبناء وبنات السودان الذين احتشدوا غاضبين أمام مقر المؤتمر في لندن، رافعين أصواتهم بالرفض والاحتجاج. احتجوا على حضور دول ما تزال – حتى اللحظة – تموّل وتسند حملة الإرهاب الدموي التي تشنها ميليشيا الدعم السريع على أهلهم العزّل في بلادهم، حملة تغرق المدن والقرى في الدم والرماد، بينما العالم يختبئ خلف التجاهل المتغطرس عن مواجهة الحقيقة.

ويتزامن كل ذلك مع استمرار التجريدة المتوحشة للهجمات التي تشنها – في نفس الأيام – قوات الدعم السريع على الفاشر والمخيمات المحيطة بها، بين القصف المتواصل على المناطق المدنية، ومنع الإغاثة الإنسانية والغذاء والدواء من الوصول إلى أكثر من مليونين من المواطنين المدنيين المحاصرين لقرابة العام.

ولكن أمام إشراقة ثغرِ هنادي الوضّاء، يقف الوجودُ كلّه متواضعًا ليسائله ضميرَهُ المستتر…
ما الطغيان؟
إن لم يكن أن يرسل أميرٌ من أمراء الخراب، جحافل بطشه وسلاحه المسنون، لتغتال شابة أو زهرة يانعة لم تعرف من الدنيا إلا نشوة الفرح حين تضمّد جراح طفلٍ نازف، أو تزرع الدفء في قلب أمّ مكلومة، وتخفف عن ذويها وجع التشريد ومرارة النزوح.
وما التدليس؟
إن لم يكن أن يصطف نفرٌ من المتأنقين، أرباب الكلام المنمّق وربطات العنق الحريرية ومرتدي السترات المبطّنة كضمائرهم، ليداروا نزيف جراح أوطانهم خلف حذلقة السياسة، ويغزلوا للمجرمين أقمشة من التعقيد تستر عورات جرمهم، هربًا من مواجهة الشمس الساطعة للحقيقة.

وما التواطؤ والخيانة؟
إن لم تكن أن يُغلق البعض أعينهم عن رؤية دموع الأمهات، ويصمّوا آذانهم عن صراخ الأطفال، بينما يبيعون صمتهم الجبان وكلماتهم الكاذبة للجلاد بثمن بخسٍ من مكاسب السياسة أو وهم السلطة أو دراهم يهوذا؟
وما الاستبسال والشهادة؟

إن لم تكن أن تُزهَر مثل هذه الأرواح الباسلة على عتبة الصدق، في وجه رصاص الظلم، لتهزّ عروش الجبابرة الطغاة وتصدح بالنشيد، أن الحق لا يُهزم، وإن قُتل عشّاقه؟
وأما الوطنية، والإقدام، والشجاعة،

فما عادت اليوم رايات تُرفع في خطب البلاغة، ولا أناشيد تُردَّد في دهاليز الساسة، بل صارت وجهًا واحدًا لا يُشبهه أي وجه، واسمًا واحدًا لا يخطئه القلب: اسم هنادي ورسمها، هي ورفاقها الراحلين. هي رايتها وعنوانها في كل أرضٍ تنبت فيها الكرامة من دم الشهداء، هي سيرة من لا يتراجعون، ولا يساومون، ويهبون الحياة لمعنى الوطن، ثم يرحلون عنه… واقفين.

أمجد فريد الطيب

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • أفراد شرطة في السودان يعملون مع الدعم السريع.. الشرطة تعترف وتتخذ خطوة حاسمة تجاه “الاثيوبيين والاريتريين والجنوب سودانيين”
  • الجيش السوداني يعلن مقتل 47 مدنيا في قصف للدعم السريع استهدف الفاشر‎
  • السودان: استشهاد 47 مدنيا وإصابة العشرات جراء قصف لمليشيا الدعم السريع على الفاشر
  • “كمين المندرابة”.. الجيش السوداني يلقي القبض على قائد بقوات الدعم السريع وضباطه وجميع قواته
  • دارفور.. مقتل أكثر من 30 في هجوم جديد للدعم السريع على الفاشر
  • يجب منح الجهاز صلاحيات جديدة تتناسب مع حالة الحرب وتتلاءم مع طبيعة المهددات الأمنية التي تهدد السودان
  • بالفيديو.. ملامح الغدر كانت واضحة.. شاهد ماذا كان يدور داخل منزل قائد ثاني قوات الدعم السريع عبد الرحيم دقلو بالخرطوم قبل يوم واحد من الحرب
  • مقتل النور: عندما تخلى العالم عن السودان للإبادة الجماعية لمدة عامين كاملين
  • السودان… حرب تُدار بالذهب والولاءات لا بالبنادق
  • السودان.. «الدعم السريع» يصعّد الهجوم على الفاشر وسط أزمة إنسانية حادة