أوروبا ودونالد ترامب وشركات التقنية الكبرى
تاريخ النشر: 29th, January 2025 GMT
ترجمة - قاسم مكي -
في خطابه الوداعي يوم 15 يناير حذر الرئيس جو بايدن من أن أوليجارشية بالغة الثراء والقوة والنفوذ تهدد الديمقراطية الأمريكية. (حسب تعريف قاموس كمبردج الأوليجارشية مجموعة صغيرة من الأشخاص الأقوياء جدا الذين يسيطرون على الحكومة والمجتمع- المترجم).
أشار تحذير بايدن إلى رواد أعمال التقنية الذين يحيطون بالرئيس المنتخب دونالد ترامب وتحديدا إيلون ماسك (شركة إكس) ومارك زوكربيرج (شركة بيتا)، لكن التهديد لا يقتصر على الولايات المتحدة بل يشمل الاتحاد الأوروبي أيضا.
ويؤمن ترامب وماسك والجمهوريون أصحاب شعار ماغا (لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى) أن ماسك بشرائه تويتر التي عدّل اسمها إلى إكس استعاد حرية التعبير وأنقذ الديمقراطية الأمريكية.
يريد ماسك استنساخ ما فعله في الولايات المتحدة على نطاق العالم وشرع في التدخل في السياسة الأوروبية ممهدا بذلك لمواجهة حتمية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وعزَّز زوكربيرج هذا التحدي، فقد انضم إلى ماسك في حث ترامب على حماية شركات التقنية الأمريكية من الإجراءات التنظيمية الأوروبية واتهام الاتحاد الأوروبي بممارسة الرقابة المؤسسية على نحو مماثل لما تفعله الصين.
ويتمتع الأوليجارشيون التقنيون بدعم الجمهوريين أنصار ترامب، فأثناء الحملة الانتخابية الأمريكية حذَّر جيه دي فانس المرشح لمنصب نائب الرئيس الاتحادَ الأوروبي من أن فرض ضوابط تنظيمية على منصة إكس سيُعتبر هجوما على حرية التعبير ولا يتوافق مع القيم الديمقراطية لحلف الأطلسي، وأضاف أن مثل هذه التصرفات ستقود الولايات المتحدة إلى التخلي عن دعمها للناتو.
هذا الوضع يرقى إلى الابتزاز، فخيار الاتحاد الأوروبي واضح، إنه تجاهل قوانين الخدمة الرقمية والسماح لمنصات ماسك وزوكربيرج بحرية مطلقة لنشر التضليل الإعلامي وخطاب الكراهية والتدخل السياسي أو مواجهة عواقب اقتصادية كبيرة ومخاطر أمنية.
وردُّ الأوروبيين كان خافتا على خطط ماسك وزوكربيرج التي تستهدف الحصول على عون ترامب وتخطي اللوائح التنظيمية الأوروبية مما يوحي باستعداد مثير للقلق من جانبهم للاستسلام. المفوضية الأوروبية المسؤولة عن تطبيق قانون الخدمات الرقمية لعام 2022 الذي تعارضه شركتا إكس وميتا التزمت الصمت أو فضلت تهدئة النزاع. وانتقد القادة الأوروبيون ترامب لكنهم مترددون كما يبدو في المواجهة العلنية مع العملاقين التقنيين الأمريكيين، إنهم يخشون ليس فقط التداعيات الاقتصادية والأمنية ولكن أيضا انتقام منصات وسائل الإعلام الأمريكية، فقد سبق لماسك استخدام منصة إكس لانتقاد الجمهوريين المنشقين.
يتزايد هذا القلق لأن القوة السياسية المهيمنة في البرلمان الأوروبي وهي مجموعة حزب الشعب الأوروبي التي تضم أحزاب يمين الوسط تتبني جزئيا سردية ترامب- ماسك- زوكربيرج بأن التقدميين يحدُّون من حرية التعبير. وذهب قادة أقصى اليمين إلى أبعد من ذلك. جورجيا ميلوني وفيكتور أوربان اصطفا إلى جانب ماسك وزوكربيرج وأكدا أن إكس وميتا أفضل في التمسك بحرية التعبير من المفوضية الأوروبية.
من المفهوم أن ينتاب القادة الأوروبيون القلق من الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة خشيةً من أن تكون التكاليف أكثر من الفوائد. تحديد مقدار هذا التدخل الذي يتحول في الواقع إلى أصوات انتخابية لأقصى اليمين ليس مهمة يسيرة، قد يفترض بعض واضعي السياسات أن أثره الانتخابي سيكون ضئيلا ويظنُّ آخرون أنه سيترتب عنه رد فعل عكسي إذا تم حشد الناخبين المعادين لأقصى اليمين على أساس أن الديمقراطية في خطر.
لكن إرضاء ترامب يمكن أن يكلف الكثير، عندما تخسر حركات أقصى اليمين الانتخابات كثيرا ما تتحدى نتائجها. وهذا يمكن أن يتصاعد إلى احتجاجات عنيفة كما حدث في يناير2021 في واشنطن ويناير 2023 في البرازيل. ويمكن أن يحدث في ألمانيا في فبراير. حتى بدون مثل هذه الأحداث يمكن للتدخل المنفلت أن يقود إلى استقطاب سياسي ويسمِّم الخطاب العام.
عدم فعل أي شيء سيؤسس لسابقة خطيرة، فإذا قدَّمت حكومة الولايات المتحدة الحماية لشركاتها أو شجعتها على عدم الانصياع لقانون الاتحاد الأوروبي ستنتهك بذلك سيادة الكتلة الأوروبية وتخاطر بتحويل الاتحاد الأوروبي إلى مستعمرة رقمية تحكمها الولايات المتحدة وتُملِي عليها إرادتها.
على أوروبا فصل النقاش حول تنظيم المنصات الرقمية عن السياسة التجارية والمخاوف الأمنية، وإذا فرضت الولايات المتحدة رسوما جمركية ستكون لدى الاتحاد الأوروبي أدوات الدفاع عن نفسه ويجب عليه استخدامها دون تردد، وإذا ربطت الولايات المتحدة دعمها لأوكرانيا بسياسات المنصات الرقمية يجب على أوروبا التأكيد على المخاطر الاستراتيجية المشتركة لإضعاف أوكرانيا، فضعف أوكرانيا سيقوِّي روسيا ويعزز وضع الصين ويهدد الاستقرار العالمي.
صادق ائتلافٌ عريض من 539 برلمانيا من مختلف الأحزاب على لائحة الاتحاد الأوروبي لتنظيم الخدمات الرقمية (صوت ضدها 65 برلمانيا فقط)، فهذا ليس نزاعا بين التقدميين الأوروبيين والجمهوريين الأمريكيين أنصار شعار «ماغا» ولكنه مسألة تتعلق بالحفاظ على حكم القانون، وعلى المفوضية الأوروبية تطبيق هذه القوانين في كل الأحوال وضمان التقيد بها من جانب كل الشركات بما في ذلك المنصات الأمريكية من شاكلة إكس وميتا أو المنصات الصينية مثل تيك توك والتي هي الآن قيد التحقيق لدورها في الانتخابات الرومانية الأخيرة.
على أوروبا توضيح أن هذه ليست مواجهة بين الولايات المتحدة وأوروبا ولكن بين أوليجارشيين تقنيين محددين وبين الحوكمة الديمقراطية، ويجب أن يظل التركيز على تطبيق الإجراءات ضد أولئك الذين يستغلون الهيمنة على السوق من أجل مكاسب اقتصادية وتكديس نفوذ سياسي للحفاظ على تلك المكاسب.
أوروبا ليست لديها مشكلة تتعلق بحرية التعبير تستدعي تدخل ماسك أو زوكربيرج. القضية ليست حرية التعبير ولكن أن يقود النفوذ السياسي غير المقيد لبليونيرات التقنية إلى تقويض الأنظمة الديمقراطية، ودعم ماسك لحزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف على منصة إكس يشكل عمليا تمويلا انتخابيا غير مباشر، فالأحزاب الألمانية الأخرى سيلزمها دفع مبالغ كبيرة للإعلان على منصة إكس لكي تحصل على نفس مستوى التغطية، وعلى مشرفي قوانين الانتخابات الأوروبية اعتبار التضخيم الخوارزمي شكلا من أشكال النشاط السياسي والعمل على ضمان نزاهة التنافس الانتخابي (التضخيم الخوارزمي يُقصَد به التركيز على محتوى رقمي معين في منشورات أو مقاطع فيديو أو حسابات محددة على منصات التواصل الاجتماعي- المترجم).
البلدان الأوروبية ليست وحدها في هذا الصراع، فهناك دول أخرى من بينها البرازيل وبريطانيا تقاوم أيضا محاولات شركات التقنية إبطال السيادة الوطنية، وتتيح هذه الأزمة للاتحاد الأوروبي فرصة لإيجاد تحالف للسيادة الرقمية والتكنولوجية وتوحيد الأنظمة الديمقراطية ضد التدخل الذي يقوض التماسك الاجتماعي ويضخم السرديات التي تحرِّكها الكراهية.
لا يملك الاتحاد الأوروبي تجاهل التهديدات التي تشبه الابتزاز من ترامب وماسك وزوكربيرج. الاستسلام لن يكون فقط سابقة خطيرة ولكنه يؤشر أيضا لخضوع الاتحاد الأوروبي كتابع رقمي للولايات المتحدة.
على الاتحاد بدلا عن ذلك اتخاذ موقف حازم واستخدام الأدوات القانونية والاقتصادية والدبلوماسية للكتلة الأوروبية لحماية القيم الديمقراطية والسيادة التكنولوجية، بقيامه بذلك يمكنه ضمان بيئة رقمية عادلة تستطيع الصمود أمام الإكراه الخارجي ومواتية لازدهار واستقلال الاتحاد الأوروبي.
خوسيه اجناسيو تورِّيبلانكا زميل أول سياسات بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.
الترجمة خاصة لـ عمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاتحاد الأوروبی الولایات المتحدة ماسک وزوکربیرج حریة التعبیر منصة إکس
إقرأ أيضاً:
لكي تقود العالم..على أوروبا التخلي عن تفكيرها الاستعماري
ثمة شبكة هائلة من اتفاقات التبادل التجاري والمعونات تربط الاتحاد الأوروبي بأكثر من سبعين بلدا. فبوسع الاتحاد أن يصبح لاعبا عالميا مستقلا مهما، بل إن بوسعه أن يزدهر في عالم متعدد الأقطاب. لكن عليه أولا أن ينبذ رؤى العالم ذات المركزية الأوروبية، وينبذ سياسات التساهل، والمعايير المزدوجة.
ثمة نذر مختلطة. لقد أعلنت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، خططا لإقامة «اتحاد أوروبي جديد» قادر على صياغة فعالة لنظام عالمي مختلف. واعترفت بأن «الغرب مثلما عرفناه لم يعد له وجود» وبأنه لا بد للاتحاد الأوروبيين من أن يعتاد على نظام عالمي أشد تعقيدا.
يناصر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «الاستقلال الاستراتيجي» لأوروبا، ويقول المستشار الألماني الجديد فريدريتش ميرتز ـ برغم تصلبه في الإيمان بالسياسات الأطلنطية ـ: أوروبا لا بد أن تستعيد استقلالها عن الولايات المتحدة. وفي خضم هذه الفوضى الجيوسياسية، فإن من الأنباء السارة تزايد الدعم الشعبي للاتحاد الأوروبي حيث يرى فيه الكثيرون من الجنوب العالمي لاعبا جيوسياسيا مهما.
لكن بعض البلاد، من قبيل إيطاليا والمجر وبولندا ودول البلطيق الثلاث لا تزال تتوق إلى الحياة في ظل حماية من الولايات المتحدة. فضلا عن أن بروكسل لم تفند بعد ما قاله وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار متذمرا من ذهنية الاتحاد الأوروبي. فقد قال بعد غزو روسيا لأوكرانيا سنة 2022 إن أوروبا تظن أن «مشاكلها هي مشاكل العالم، ولكن مشاكل العالم ليست مشاكل أوروبا».
يشعر كثيرون في جنوب العالم بالغضب الشديد من عدم إدانة الاتحاد الأوروبي ـ على سبيل المثال ـ للإبادة الجماعية في غزة حتى وهو يشيد بالالتزام بحقوق الإنسان في أوكرانيا. ومثلما قال لي الأكاديمي كارلوس لوبس المقيم في جنوب إفريقيا، وهو مؤلف كتاب صدر أخيرا عن العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وإفريقيا، فإن الاتحاد الأوروبي يتمسك بـ«موقف تفوق استعماري» عميق الجذور «يظهر في نوع من فوقية العطف والإيثار».
غير أن الاتحاد الأوروبي يبقى مرتبطا بقواعد التبادل التجاري العالمي، ولديه اقتصاد يسجل نموا متواضعا، ولديه سوق داخلي موحد يتسم بالجاذبية والحيوية. ولقد حان الوقت لترقية علاقات الاتحاد الأوروبي بالجنوب العالمي، ولكن قواعد الاشتباك القديمة بحاجة إلى تغيير عاجل.
تزعم فون دير لاين أن العالم «يتأهب» للعثور على فرص عمل آمنة مع أوروبا تلتزم بسيادة القانون في الوقت الذي ينثر فيه ترامب بذور الفوضى في الأسواق العالمية. ولكنني بتركز عملي الصحفي طوال أغلب حياتي المهنية على علاقات الاتحاد الأوروبي، يتضح لي أن صناع السياسات في الاتحاد لا بد أن يتوقفوا عن الوعظ ويبدأوا في الإنصات. وإلى جانب حماية التبادل التجاري، فإن لدى الاتحاد الأوروبي فرصة لا تسنح إلا مرة في العمر لإعادة تقييم ما لديه من أوراق اعتماد القوة الناعمة، وإن تكن الآن ملوثة بالعنصرية ورهاب الإسلام ومعاداة السامية والهجمات على حقوق النساء.
بعد سنوات من التفاوض، تبدو اتفاقيات التجارة الحرة المحتملة بين الاتحاد الأوروبي وإندونسيا وماليزيا وتايلند والهند مبشرة. ولكن فقط إذا ما سعى المفاوضون الأوروبيون إلى شخصيات من قبيل الرئيس الإندونيسي السابق جوكو ويدودو وهم يواجهون ما يقال إنه قهر من الاتحاد الأوروبي وافتراض من بروكسل بأن «معاييري أفضل من معاييركم». فلقد أبرم الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال أو هو يسعى إلى إبرام اتفاقيات مواد خام مهمة مع بلاد غنية بالموارد من قبيل رواندا وناميبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وأوروبا بحاجة إلى حماية تحولها الأخضر والرقمي، لكن هذه الاتفاقيات تنطوي على خطر التحول إلى محض استيلاء استعماري جديد على الموارد: فلا عجب في أن إندونيسيا وبعض البلاد الإفريقية تقاومها.
منذ أن قام ترامب بتفكيك هيئة المعونة الأمريكية، يناضل ناشطون أوروبيون أيضا للحفاظ على تمويل الاتحاد الأوروبي لأضعف بلاد العالم. ولكن ما الأمل الباقي حينما تقوم حكومات الاتحاد الأوروبي ـ ومنها فرنسا وألمانيا ـ بتخفيض ميزانياتها التنموية؟
وفي حين تستمر الجهود للحد من الهجرة إلى قلعة أوروبا بكل تجلياتها القاسية، فإن استراتيجية الاتحاد الأوروبي تثير صراعا عنصريا خطيرا بسبب الاعتماد على طغاة البلاد المجاورة الذين يتلقون أموالا لمنع عبور المهاجرين. تقول لي ياسمين العكرمي خبيرة العلاقات بين أوروبا وشمال إفريقيا إن «الرئيس التونسي اتهم المهاجرين الأفارقة بأنهم جزء من مخطط لتغيير التركيب الديموغرافي لتونس. وحجة الاستبدال الشامل هذه لم تسمع من قبل في شمال إفريقيا».
يمكن أن يبدي الاتحاد الأوروبي أيضا مزيدا من الحزم مع توجيه ترامب ضربات عنيفة لمبادرات التنوع والمساواة والاحتواء. ولكن في حين تسعى حاجة لحبيب، مفوضة المساواة في الاتحاد الأوروبي، إلى تعزيز حقوق المرأة، لم يتم اتخاذ أي إجراء حتى الآن لإحياء قانون مهم لمكافحة التمييز بعد سحبه فجأة في وقت سابق من هذا العام. كما أن سلطة الاتحاد الأوروبي المعنوية تقوضت بقيام ألمانيا ودول أخرى بقمع المتظاهرين المؤيدين لفلسطين.
من نواحٍ عديدة، يتيح ترامب فرصة لصانعي السياسات الأوروبيين. فلديهم الآن فرصة لمراجعة بعض سياسات الاتحاد الأوروبي الأكثر فظاعة، ولإعادة صياغة الاتحاد بشكل حقيقي بوصفه كيانا ذا مصداقية وفاعلية على الساحة العالمية.
وإنني على ثقة من أن تعزيز انخراط الاتحاد الأوروبي مع دول جنوب العالم كفيل بالإسهام في تحقيق استقرار جيوسياسي في عالمنا المضطرب. كما أنه سوف يوفر بديلا مقنعا لدستوبيا ترامب لكن الأمر يتطلب أكثر من محض خطبة تلقيها فون دير لاين أو بعض التفكير التفاؤلي.