التغيير والتدافع وحركة السنن.. مشاتل التغيير (3)
تاريخ النشر: 29th, January 2025 GMT
التغيير انتقال وتحول من وضع إلى وضع آخر، ومن حال إلى حال آخر؛ وسنة الله في التغيير هي الطريقة المتبعة في معاملة الله تعالى لعباده، بناء على سلوكهم وأفعالهم سلبا أو إيجابا، وما يترتب على ذلك من نتائج.
يقول ابن تيمية رحمه الله: "إن لفظ التغير لفظ مجمل، فالتغير في اللغة المعروفة لا يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث، فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب إذا تحركت: إنها قد تغيرت، ولا يقولون للإنسان إذا تكلم ومشى إنه تغير، ولا يقولون إذا طاف وصلى وأمر ونهى وركب إنه تغير؛ وإذا جرى على عادته في أقواله وأفعاله فلا يقال إنه قد تغير".
فما نريد أن نؤكد عليه أن سنة التغيير معادلة ثابتة مفادها أن الله لن يغير حال قوم من وضع مرضٍ مريح إلى وضع ضنك مذموم أو العكس إلا إذا غير هؤلاء القوم ما في قلوبهم، فإذا وجهوا قلوبهم إلى مولاهم وامتثلوا أوامره وابتعدوا عن نواهيه غيّر الله حالهم إلى أحسن حال، وإذا توجهت قلوبهم إلى الشهوات وارتكست أنفسهم في حمأة الرذيلة غيّر الله حالهم إلى أسوأ حال". يقول سبحانه: "فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ۞ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَة ضَنكا" (طه: 123-124).
مفهوم التدافع يستهدف ردع الظلم والطغيان والفساد والعدوان ومنع انتشار كل ذلك في الأرض، حماية لها من الوصول إلى نقطة الخراب والاندثار وخراب أو فساد العمران، ولأهلها من الوقوع في أغلال الذل والاستعباد، بغض النظر عن مصادر الظلم أو الطغيان أو الفساد
ويؤكد القرآن الكريم على مسألة التغيير بقوله سبحانه وتعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ: (الرعد:11). ومن المهم أن نؤكد أن الآية تشتمل على أربعة مستويات من التغيير لا كما يشيع أنها تشتمل على نوعين فقط؛ فتغيير الله يقع في صدر الآية، ثم يأتي تغيير ما بالقوم ليشير إلى الحالة الجمعية والجماعية وهو التغيير الثاني، أما التغييران الثالث والرابع فيقعان من الإشارة "ما بأنفسهم"؛ أي التغيير على المستوى الجماعي (الجمع) الذي يشير إلى العبور من النفس إلى الأنفس؛ والنفس الفردية الواحدة التي تتفاعل مع محضنها كحالة فردية ضمن أصول تفاعل تتكامل وتتبادل التأثير بين حالة الأنفس الجمعية وحالة النفس الفردية.
كما أن استخدام حرف الجر "حتى" يعني قيام القوم والنفوس والنفس الفردية بحركة تغيير من الإيجابي للسلبي ومن السلبي للإيجابي؛ إنها حال إرادة وقرار؛ ومسار واختيار؛ ما يشكل حال التغيير ومساره ومسيرة التغيير ومآلاته. ثم يأتي تغيير الله جزاء وفاقا؛ بشرطه المعلوم "إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" (محمد: 7). والنصر ليس منحة بل هو الجامع بين حالة الاختبار وحالة الاختيار؛ تشكل فيه إرادة التغيير معاملا حيويا في معادلة التغيير؛ ويتساند معه معامل العدة والإدارة لعمليات التغيير المتتابعة "وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة" (التوبة: 46).
يرى ابن عاشور أن سنة المدافعة وتجلياتها عبر التاريخ البشري شاهد على الحكمة الإلهية البالغة التي تجرى على وفقها حياة البشر، وعلى النظام المحكم المنضبط الذي ينتظم شئونهم وأحوالهم، وعلى قواعد العمران البشري التي لا يقوم بغيرها. يقول تعالى: "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ" (البقرة: 251)؛ ذيلت هذه الآية العظيمة كل الوقائع العجيبة التي أشارت بها الآيات السالفة لتدفع عن السامع المتبصر ما يخامره من تطلب الحكمة في حدوث هذه الوقائع وأمثالها في هذا العالم، ولكون مضمون هذه الآية عبرة من عبر الأكوان وحكمة من حكم التاريخ، ونظم العمران التي لم يهتد إليها أحد قبل نزول هذه الآية.
إنها مشاتل التغيير في المجالات والمستويات لتتحقق ثمرة التغيير إيجابية كانت أم سلبية؛ "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرا نِعْمَة أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (الأنفال: 53). تتكامل تلك العمليات في تساوق مع بعضها البعض وفي تواقف على بعضها البعض؛ تلك العمليات تتأكد ضمن مساحات وساحات التدافع كعمليات تتحرى وعيا رشيدا وسعيا سديدا. الحالة التدافعية إذا سنة ماضية؛ من السنن التأسيسية في التدافع والتغيير لتأتي كل السنن الأخرى لترتبط بأحد المسارين وتفعّل كل الطاقات الإنسانية في مجرى الالتزام بالسنن الإلهية.
مفهوم التدافع يستهدف ردع الظلم والطغيان والفساد والعدوان ومنع انتشار كل ذلك في الأرض، حماية لها من الوصول إلى نقطة الخراب والاندثار وخراب أو فساد العمران، ولأهلها من الوقوع في أغلال الذل والاستعباد، بغض النظر عن مصادر الظلم أو الطغيان أو الفساد، ولو كان صادرا من المسلمين أو النفس أو أقرب الأقربين. وقد تكرر التنبيه القرآني إلى منظومة السنن الحاكمة لحركة البشر في ستة عشر موضعا من القرآن الكريم ذُكر فيها مصطلح السنن صراحة، فضلا عن عشرات المواضع التي ذكر فيها معنى السنن ضمنا. وهذه المواضع تُظهر بوضوح أن هذا التدافع المستمر بين الحق والباطل جزء من النظام الذي أقام الله عليه هذه الحياة البشرية.
التدافع إذا عملية إصلاحية وعمرانية في مواجهة الصراع الذي من الممكن أن يكون حركة هيمنة وفساد وتخريب للعمران، والتغيير سنة قائمة ماضية تظلل حركة ونشاط التدافع وفق القاعدة الأساسية؛ الجزاء من جنس العمل، ومعادلات التدافع والتغيير. والتدافع قانون إلهي من جملة القوانين التي وضعها الله لحياة الخلائق، وهي قوانين ثابتة فاعلة مطردة إذا تحققت المقدمة بشروطها ترتبت النتيجة بتمامها، وإذا أهدرت المقدمة تخلفت النتيجة بغير شك ولا جدال. وأشار القشيري في لطائفه إلى أن التدافع يجري أول ما يجري داخل النفس المؤمنة فتتدافع فيها الإرادات المختلفة والنزعات المتباينة بين يقظة وغفلة، وإخلاد وعزمة، وقعود ونفرة.
لقد كانت الحياة كلها تتأسن وتتعفن وتفسد لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع، فتنفض عنها الكسل والخمول، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة، وتظل أبدا يقظة عاملة، مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة.. وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء.
التدافع الحضاري حركة فعل ممتد؛ مانعة لكل أنماط التخريب الكوني الجماعي والفردي، وهي رافعة لكلِّ عمل حضاريٍّ يشكِّل إضافة عمرانية إلى الكون ويكون فيه صلاحه وإصلاحه. والدفع عمل حضاري مقترن بالتغيير؛ مفتوح للعودة بأُطر التوازن الكوني والعدل في العمارة الكونية إلى حقيقته وجوهره: "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"؛ بحيث يجعل من حركة الدفع الحضارية غاية هادفة إلى الإحسان الحضاري بكلِّ تنوعاته ومجالاته. عمليات التدافع والتغيير في مشاتل الإصلاح والنهوض تتضمن جانبا سلبيا في مدافعة الفساد وخراب العمران؛ وجانبا بنائيا عمرانيا يحرك كل طاقات تـأسيس وإقامة البنيان. ولعل النظر في معامل ومختبرات السنن في الأنفس وفي الاجتماع وفي التاريخ، بل في الكون؛ هو العمل الأساس في الوعي بالسنن والسعي لهاومن هنا تبدو حركة الدفع الحافظة لجملة العَلاقات المتشابكة، وحركة ووقائع العلاقات المتفاعلة، هي الأساس في منع عناصر التخريب والخراب، وفي المقابل تعمل على تشييد العمارة الكونية الحضارية كفعل إيجابيٍّ من جانب آخر.
معادلة العمران في مواجهة معادلة الطغيان، ولا شكَّ أنَّ ترك معادلة الطغيان ضمن مجالات العلاقات الدولية والتعامل الدولي والعلاقات الخارجية تفعل فعلها وتراكم عملها من غير مجابهة يؤدي إلى نقيض العمران: "لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ" (الحج: 40)، "لفَسَدَتِ الأَرْضُ" (البقرة: 251)، ويحرك جملة الحركة في هذه المجالات المتنوعة للحركة الحضارية في طريق سلبي، يشوِّه أصولَ هذه العلاقات وفروعها؛ بحيث يكمن الظلم في أشكالها وأساليبها، ويحرك عناصر القوة الطاغية في الحركة والعلاقات.
وملاحظة معنى التدافع القويم يكمن في الفرق بين الوهن والضعف؛ ذلك أن الضعف نقص القوة، والوهن نقص الإرادة، والضعف لا حيلة للإنسان فيه كما قال تعالى: "وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفا" (النساء: 28)، لكن الوهن اختيار؛ لذا نهى الله عنه: "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا" (آل عمران: 139)، في حين أنه لم ينه عن الضعف الذي هو نقص قدري في الإمكانات لا حيلة للإنسان فيه! الوهْن إذن هو أن يفعل الأقوياء فعل الضعفاء، أو يسلك القادرون مسالك العجزة! إن الإشكال في العمل التدافعي يكمن في ادعاء الإنسان العجز وهو يمتلك مكامن ومكنونات القوة؛ هذا الادعاء هو الوهن بعينه. العمل التدافعي مكمنه الإرادة؛ وتزييف المدافعة بالتبرير أو بالتغرير والتزوير والتمرير لهو عمل يسوّغ القعود ويثبط الصعود.
إن عمليات التدافع والتغيير في مشاتل الإصلاح والنهوض تتضمن جانبا سلبيا في مدافعة الفساد وخراب العمران؛ وجانبا بنائيا عمرانيا يحرك كل طاقات تـأسيس وإقامة البنيان. ولعل النظر في معامل ومختبرات السنن في الأنفس وفي الاجتماع وفي التاريخ، بل في الكون؛ هو العمل الأساس في الوعي بالسنن والسعي لها وفيها بالرشد الواجب والعدل اللازم والعمل الفاعل.
x.com/Saif_abdelfatah
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التغيير التدافع السنن فساد الطغيان فساد تدافع تغيير سنن طغيان مقالات مقالات سياسة مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة ر الله
إقرأ أيضاً:
مقترح ترامب في غزّة هدفه التغيير الديمغرافي ولبنان والاردن الاكثر تضرراً!
رأت مصادر مطلعة ان موقف الرئيس الاميركي دونالد ترامب بترحيل الفلسطينيين من غزة هدفه احداث تغيير ديمغرافي يرافقه تغيير جغرافي. فاين سيذهب الفلسطينيون في حال تم طردهم من ارضهم؟واشارت هذه المصادر ل" الديار"انه في حال وافق العرب على الخطة الجهنمية التي وضعها ترامب وحصل التهجير فان المنطقة ستدخل في حروب مستمرة. بيد ان الديمغرافيا اذا تغيرت فالتقسيم سيكون العنوان التالي للمرحلة المقبلة. والحال ان الاردنيين الاصليين لن يقبلوا بوجود اعداد هائلة من الفلسطينيين في بلدهم كما ان اللبنانيين سيرفضون ايضا توافد فلسطينيين الى ارضهم وشعوب عربية اخرى ستتخذ الموقف ذاته. وبشكل اوضح، تقول المصادر المطلعة ان المعركة اليوم ليست غزة او الضفة الغربية بل هي معركة الغاء الهوية الفلسطينية كنقيض للهوية الاسرائيلية.
وهنا كشفت المصادر ان اميركا ستلجأ الى استخدام عصا الاقتصاد، سلاح السياسة والتهديد بالعقوبات لتنفيذ على الاقل قسم يتعلق الان بغزة. وخلال فترة تنفيذ المخطط الجهنمي «الترامبي» في غزة اذا سارت الامور كما يريد ترامب، فالعين ستكون على الضفة الغربية كمرحلة ثانية لتفريغها من الفلسطينيين ايضا بخاصة ان اسرائيل تدمر منذ سنة كل البنى التحتية في الضفة. ولا شك ان الاردن ولبنان سيدفعان ثمن المقترح الاميركي حيال غزة.
ومع دفع الرئيس الاميركي الى تهجير الشعب الفلسطيني من غزة اولا ولاحقا من الضفة الغربية، هناك دولتان ستدفعان ثمن هذا التهجير وهما لبنان والاردن للاسف.
على صعيد النسيج الاجتماعي اللبناني والاردني، هناك توزانات داخل المجتمع وليس اكثرية شمولية من طائفة واحدة او مكون واحد.
بداية، ولتوضيح الامور، قال باحث مخضرم في تاريخ المنطقة انه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، انشأت دول ذات وظيفة ومن بينهم الاردن ولبنان. فلبنان كانت وظيفته ان يكون دولة مسيحية في حين ان تكون وظيفة الاردن استيعاب الفلسطينيين.
اليوم، هناك شبه توازن بين الاردنيين وبين الادرنيين -الفلسطينيين ولكن في حال تهجير الفلسطينيين من غزة الى الدولة الاردنية فهذا الامر سيحدث خللا في الميزان الديمغرافي. وهذا الخلل له تداعيات اقتصادية، اجتماعية، معيشية والانكى من ذلك ان الاردن غير قادر على تحمل هذا الضغط بموارده البسيطة. وبذلك تكون وظيفة الاردن انتهت للاعتبارات التي ذكرناها.