باريس- للمرة الثانية، قرر قضاة التحقيق في دائرة مكافحة الجرائم ضد الإنسانية في المحكمة الجنائية في العاصمة الفرنسية باريس إصدار مذكرة توقيف دولية بحق الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، الاثنين 21 يناير/كانون الثاني الجاري، بتهمة التواطؤ في جريمة حرب.

وجاء هذا القرار بناء على طلب النيابة العامة لمكافحة الإرهاب في فرنسا على خلفية مقتل المواطن الفرنسي السوري صلاح أبو نبوت في السابع من يونيو/حزيران 2017 عقب قصف منزله في مدينة درعا بمروحيات تابعة لقوات الأسد.

ولأنه كان مقتنعا بأن المحاسبة أمام القضاء ستكون المنفذ والأمل الوحيد لتحقيق العدالة، حمل عمر، نجل صلاح أبو نبوت، على عاتقه مسؤولية إيصال تفاصيل هذه القضية للجهات المعنية طوال 8 سنوات تقريبا تتبع خلالها خيوط الأدلة والشهود والمعلومات، بعيدا عن مسرح الجريمة الذي كان شاهدا على فظاعة ما حدث.

وفي تصريحات خاصة للجزيرة نت، قال عمر "الآن يمكنني أن أقول لوالدي: نم بسلام يا أبي، ولكل من يقرأ هذه الكلمات: قضيتنا تتويج لطريق طويل نحو العدالة التي آمنت وعائلتي بها منذ البداية، وجزء من مسار العدالة الانتقالية في سوريا ومنع مجرمي الحرب من الإفلات من العقاب. محاسبة بشار الأسد ستبعث آمالا كبيرة لجميع الضحايا السوريين".

عمر أبو نبوت نجل المواطن الفرنسي السوري صلاح أبو نبوت تتبع قضية والده أمام المحاكم بفرنسا (الجزيرة) طريق نحو العدالة

تأتي هذه المذكرة بعد تحقيق قضائي طويل بدأ مع تقديم عمر أبو نبوت، نجل الضحية، شكوى إلى القضاء الفرنسي نيابة عن والده، حيث وافق المدعي العام على فتح تحقيق مستند على مبدأ الولاية القضائية في فرنسا، لأن والده كان يحمل الجنسية الفرنسية، وتم إرسال طلب التحقيق ضد مجهول في قسم الجرائم الإنسانية وجرائم الحرب بمحكمة باريس القضائية.

إعلان

وأوضح عمر للجزيرة نت "كانت مرحلة صعبة للغاية، وخاصة في البداية، حيث كنت أبلغ من العمر 21 عاما ولم أكن أجيد التحدث باللغة الفرنسية ووجدت نفسي في مجتمع وثقافة جديدة. وفعليا، قمت لوحدي بدور المحامي والمدعي في الوقت نفسه لأن المحامي الذي كنت أتعامل معه آنذاك لم يكن نشيطا، وأتذكر أنني كنت بحاجة لوجود مترجم معي في أول موعد لي مع قاضي التحقيق".

وتابع "كانت المهمة صعبة ومعقدة لكنني عملت بصمت شديد وتصميم قوي لإدانة مجرمي الحرب، خاصة في مرحلة جمع المعلومات والاتصال بالشهود من سوريا والأردن ودول أخرى".

وبعد سنوات، تعرف عمر على المركز السوري للإعلام وحرية التعبير ـ وكان مختصا وقتها في مساعدة فريق التحقيق بالمعلومات ـ ووافق نجل الضحية على تعيين المركز كطرف مدني مشارك في القضية، مما أضاف ثقلا مهما ومثمرا للملف من خلال جمع الأدلة والمعلومات والتواصل مع الشهود.

وعن الصعوبات القانونية التي واجهت المحامية الفرنسية المكلفة بالقضية، أشارت كليمانس بيكتارت إلى إمكانية الوصول إلى الميدان والذهاب إلى درعا لجمع الأدلة المادية بشكل مباشر والمتعلقة بالتفجير الذي تسبب بمقتل والد موكلي عمر أبو نبوت لم تكن متوفرة، كما هو الحال مع كل التحقيقات في جرائم النظام السوري قبل سقوط بشار الأسد.

وأضافت بيكتارت في حديثها للجزيرة نت "لم يكن لدينا خيار آخر سوى التحقيق عن بعد، ولا يتعلق الأمر بالوحدة المتخصصة أي القضاة فقط، بل أيضا بالمركز السوري للإعلام وحرية التعبير الذي أسسه مازن درويش، والذي قدم كمية كبيرة من الأدلة والعناصر التي جعلت من الممكن تحريك الملف بشكل فعال للغاية".

سقوط الحصانة

ويتحمل بشار الأسد المسؤولية المباشرة عن كل الجرائم التي ارتكبتها قواته بصفته رئيس الدولة والقائد العام للقوات المسلحة السورية أثناء وقوع الجريمة في 7 يونيو/حزيران 2017، وفقا للقانون الدولي الإنساني الذي ينص على أن "القائد يعتبر مسؤولا عن الجرائم التي تقع تحت قيادته إذا كان على علم بها ولم يتخذ أي خطوات لمنعها أو محاسبة مرتكبيها".

إعلان

وفي هذا السياق، قالت بيكتارت "واجهنا ترددا من جانب السلطات القضائية الفرنسية ومكتب المدعي العام في الاعتراف بعدم وجود حصانة لكبار المسؤولين العسكريين الذين كانوا مستهدفين في هذه القضية، وكانت هناك 6 مذكرات اعتقال دولية صدرت قبل صدور مذكرة التوقيف التي استهدفت بشار الأسد نفسه".

وتابعت المحامية المتخصصة في القانون الجنائي والقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي "فيما يتعلق بالمذكرات الستة الأوائل، وجدنا أن النيابة العامة لم تكن ـ في البداية على الأقل ـ موافقة على الاعتراف برفع الحصانة عن مسؤوليها لأننا كنا في خضم أزمة حرب. وفي نهاية المطاف، كان هذا خطأ منطقيا أقنعهم وقبلوا أن المتهمين لا يتمتعون بأي حصانة".

كما أكدت أن سقوط النظام السوري والتغيير السياسي الذي شهدته البلاد أسهما في تسريع صدور مذكرة التوقيف في فرنسا لأن النيابة العامة التي أصدرت القرار تابعت الوضع السياسي في سوريا وطلبت إصدار المذكرة بحق الأسد لأنه لم يعد يتمتع بمنصب رئيس الدولة.

من جانبه، يعتقد عمر أبو نبوت أن سقوط نظام الأسد ساعد في التعجيل بإصدار المذكرة وأن اتهامه بالتواطؤ في جرائم حرب ومسؤوليته القيادية، جرّدته من المطالبة بحصانة شخصية، وأن حصانته الوظيفية لا يمكن اعتبارها قابلة للتطبيق في قضية تتعلق بجرائم دولية تتضمن جرائم حرب.

المعركة مستمرة

وتأتي مذكرة التوقيف الجديدة بعد سلسلة من الإجراءات القضائية التي اتخذها القضاء الفرنسي بحق مسؤولين سوريين. فبين عامي 2023 و2024، أصدِرت مذكرات توقيف دولية بحق 6 من كبار الضباط في سوريا على خلفية هذه الدعوى.

وفي 18 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أصدر قضاة التحقيق 4 مذكرات توقيف دولية بحق ضباط رفيعي المستوى في قوات الأسد، تركزت الاتهامات فيها حول التواطؤ وارتكاب جرائم حرب. كما تضمنت الاستهداف المتعمد للمدنيين والمواقع المدنية التي لا تشكل أهدافا عسكرية باستخدام البراميل المتفجرة.

إعلان

وقد أثبت التحقيق أن هذا الهجوم كان جزءا من إستراتيجية ممنهجة استهدفت المدارس والمستشفيات والبنية التحتية المدنية، حيث قُتل أكثر من ألفي مدني خلال الغارات الجوية والبرية التي استهدفت درعا بين 3 و17 يونيو/حزيران 2017.

وعند سؤال المحامية المكلفة بالملف عن احتمالية إصدار مذكرات توقيف جديدة، أوضحت كليمانس بيكتارت "نحن في انتظار مذكرات اعتقال في قضايا أخرى لا تزال مستمرة. واليوم، لا نستطيع معرفة ما إذا كانت ملفات أخرى ستُرفع أمام القضاء الفرنسي لأن الرغبة الأساسية لدى السوريين هي أن تتحقق العدالة الآن في سوريا".

كما سلطت الضوء على وجود حالات أخرى جارية، وخاصة في فرنسا عندما يتعلق الأمر بضحايا فرنسيين سوريين، والتي قد تكون موضوع أوامر اعتقال جديدة ستصدر في المستقبل القريب.

وعن ذكرياته مع والده وآخر مكالمة هاتفية معه، قال عمر "أوصاني بمتابعة دراستي وزرع بداخلي حب العلم قبل أن يتركني وحيدا في هذا العالم الممزق، لكن ما حدث زادني إصرارا على الاهتمام بمسار العدالة والمحاسبة، لذلك درست العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة السوربون بباريس لكي أكون مفيدا في هذا المجال يوما ما".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات مذکرة التوقیف بشار الأسد للجزیرة نت فی فرنسا فی سوریا

إقرأ أيضاً:

غياب مؤسسات التعليم يعيق عودة السوريين إلى إدلب

إدلب- "انتباه.. خطر ذخائر غير منفجرة"، تستقبلك هذه العبارة التي كُتبت على جدران المدارس فور المرور بالقرب منها، والتي حوّلها النظام السوري المخلوع إلى مستودعات أسلحة وذخيرة في المناطق التي كان يسيطر عليها قبل سقوطه في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024.

في بلدة معصران جنوب شرقي إدلب، حولت قوات النظام المخلوع المدرسة الثانوية إلى مستودع لذخائر المدفعية وراجمات الصواريخ، وفور انسحابها منها قصفتها الطائرات الروسية فدمرت مبانيها المؤلفة من طوابق عدة والتي كانت تستقبل أكثر من ألف طالب.

محمد خير عساف عاد إلى بلدته بعد 5 سنوات من التهجير ليجدها مدمرة، ولكن العائق الأكبر له هو المدارس التي تحولت إلى ركام جراء القصف ولا يمكن أن تستقبل طلابها إذا عادوا إليها، كما قال للجزيرة نت.

الجرك يقطع مسافة 20 كيلومترا يوميا لنقل أطفاله إلى مدرسة معرة النعمان (الجزيرة) تشجيع العودة

وأضاف عساف أن لديه 4 أطفال مسجلين في المدارس، و"اليوم إذا فكرت بالعودة إلى منزلي سأحرمهم من التعليم، وهذا ما يستوجب سرعة إعادة ترميمها وتأهيلها لتكون الخطوة الأولى التي تشجع الأهالي على العودة إلى قراهم".

بدوره، يقطع محمد الجرك، وهو من بلدة معرشورين جنوبي إدلب، يوميا مسافة 20 كيلومترا إلى مدينة معرة النعمان التي افتُتحت بها مدرسة حاملا معه أطفاله الأربعة على دراجته النارية لتلقي تعليمهم بسبب عدم إنشاء واحدة في قريته.

وأكد ضرورة افتتاح مدرسة في كل قرية أو بلدة حتى تكون الركيزة الأساسية لعودة أبنائها إليها، "فكثير ممن عادوا يتعطلون عن عملهم من أجل نقل أطفالهم إلى مدرسة معرة النعمان، وهذا يسبب متاعب جمة للأطفال وأهلهم".

ثانوية بلدة معصران دمرها قصف الطائرات الروسية (الجزيرة) خطط بديلة

من جانبه، أفاد يوسف عنان مدير التخطيط والتعاون الدولي في وزارة التربية والتعليم السورية -للجزيرة نت- بأنه وفق الإحصائيات الأولية التي أجرتها الوزارة، بلغ عدد المنشآت التعليمية المدمرة حوالي 8 آلاف تم تقسيمها إلى 3 أقسام كالتالي:

إعلان الأول: يحتاج إلى إعادة تأهيل بالكامل ويبلغ عددها قرابة 500 بناء مدرسي. الثاني: يحتاج إلى صيانة ثقيلة ويبلغ عددها نحو ألفي بناء مدرسي. الثالث: يحتاج إلى صيانة متوسطة ويناهز عددها 5500 بناء مدرسي. مدرسة تعرضت للقصف المدفعي في بلدة تل مرديخ جنوبي إدلب (الجزيرة)

وأضاف عنان أن عدد المنشآت التربوية التي تحتاج إلى صيانة تصل إلى 19 ألفا، ومعظمها بحاجة إلى صيانة دورية لافتقارها إلى ذلك خلال السنوات الماضية.

ووفقا له، فإن لدى وزارة التربية خططا بديلة من خلال العمل -بالشراكة مع الجهات الفاعلة والمنظمات- على تفعيل مدرسة في كل مركز حضري لاستيعاب الأطفال القادمين من المخيمات وبلدان الاغتراب، في مناطق شمالي حماة وجنوبي إدلب وغربي حلب وشرقي اللاذقية، المدمرة والمهجر أهلها منذ أعوام.

ولفت المسؤول السوري إلى أن الوزارة فعّلت 7 مدارس في ريف إدلب الجنوبي بعد تأهيلها وتأمين البنية التحتية والأثاث المدرسي، لتستقبل الطلاب في بعض المدن والبلدات ذات التجمع السكاني الكثيف والتي عاد إليها الأهالي بعد سقوط النظام السابق.

عدد المنشآت التربوية التي تحتاج إلى صيانة يصل إلى 19 ألفا (الجزيرة) تكاليف باهظة

وحسب عنان، سيكون مع بداية العام القادم أعداد أكبر من المدراس التي ستفتح أبوابها أمام الطلاب العائدين، و"هذا سيكون دافعا أيضا للأهالي من أجل العودة إلى منازلهم فور علمهم بتفعيل المدارس في مناطقهم".

وقال إن أعداد الطلاب كبيرة وخاصة بعد عودة كثير من المهجرين في دول الجوار مثل تركيا ولبنان والأردن، بالإضافة إلى المهجرين داخل سوريا وهم ما زالوا حتى الآن في خيام النزوح، وأحد أهم العوائق التي تمنعهم من الرجوع هي عدم وجود مدارس تستقبل أبناءهم.

ويتابع أنه فور سقوط النظام السابق بدأت وزارة التربية بعمليات مسح وتقييم لاحتياجات المدارس والبنية التحتية الموجودة في المحافظات السورية، وتم عقد جلسات مع العديد من الجهات المانحة والمنظمات الإنسانية من أجل تفعيل مدرسة كحد أدنى في كل مركز حضري.

عنان قال إن عمليات إعادة إعمار المدارس مكلفة جدا (الجزيرة)

ونوّه مدير التخطيط والتعاون الدولي في الوزارة إلى أن الخطى في إعادة تأهيل وإعمار المدارس تسير "ببطء وخاصة في المناطق المدمرة بالكامل والتي تحتاج إلى تكاليف باهظة جدا". وأضاف أنهم فعّلوا بعض المدارس بريفي إدلب الجنوبي والشرقي، ونقلوا معدات هذه المدارس وكوادرها من مخيمات النزوح إلى بعض القرى والبلدات التي عاد سكانها إلى منازلهم بعد سقوط النظام المخلوع.

إعلان

وحسب عنان، فإنه مع بداية العام القادم سيفتتح عدد أكبر من المدارس بعد إتمام إعادة تأهيلها وترميمها وتأمين الكادر الإداري والتعليمي اللازم، مما سيشجع الأهالي المهجرين على العودة بالتزامن مع إنجازات أخرى من بقية القطاعات مثل الصحة والماء والكهرباء.

مقالات مشابهة

  • فتى فلسطيني محرر يروى للجزيرة تفاصيل تعذيبه بسجون الاحتلال
  • غياب مؤسسات التعليم يعيق عودة السوريين إلى إدلب
  • 352 مليون دولار متطلبات اللاجئين السوريين في الاردن
  • موجة برد تعمّق معاناة النازحين واللاجئين السوريين عند الحدود التركية
  • مسيحيو سوريا.. حق فرنسا الذي تريد به باطل
  • إدلب المدينة التي يقدمها حكام سوريا الجدد نموذجا لمستقبل البلاد.. ما السبب؟
  • وزير خارجية تركيا يتحدث للجزيرة عن الشرع وسقوط الأسد و7 أكتوبر
  • هيئة الطيران المدني السوري ومنظمة الطيران المدني الدولي توقعان مذكرة ‏تفاهم لتطوير قطاع الطيران في سوريا ‏
  • المدير الإقليمي لمنظمة الطيران المدني الدولي في الشرق الأوسط محمد أبو بكر فارع: تم توقيع مذكرة تفاهم بين المنظمة وهيئة الطيران المدني السوري بهدف وضع أسس التعاون المشترك
  • عاجل | مصادر محلية للجزيرة: المتظاهرون في القرداحة بريف اللاذقية يطالبون بانسحاب قوات الأمن العام من المدينة