عربي21:
2025-04-30@03:13:18 GMT

هل ترامب صانع سلام أم مسعِّر حروب؟

تاريخ النشر: 28th, January 2025 GMT

عبَّر ترامب بشكل واضح خلال حفل تنصيبه عن رغبته في أن يذكره التاريخ "كصانع سلام"، على خلاف إرث سلفه الذي سعر الحروب في العالم. وأعلن عن فخره بالضغوط التي مارسها وأدت إلى التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين الفلسطينيين والإسرائيليين قبل حفل تنصيبه بيوم واحد، مشيرًا إلى أنه نجح خلال فترة قصيرة بتحقيق ما فشل فيه بايدن خلال أشهر الحرب الطويلة.



تحدث ترامب في مؤتمرات صحفية مختلفة عن قطاع غزة المدمَّر، وأنه سيعمل على إعادة إعماره بمساعدة الشركاء في المنطقة، ولضمان استمرار وقف إطلاق النار، يشرف مبعوثه الخاص السيد ويتكوف بشكل مباشر على تطبيق التفاهمات التي تم التوصل إليها على الأرض، حيث أعلن عن عزمه زيارة قطاع غزة للاطلاع بنفسه على الأوضاع هناك، ومعاينة آثار الدمار التي خلفتها الحرب.

استبشرنا خيرًا بموقف ترامب ومبعوثه الخاص، إذ أظهرا أنهما لا يرغبان في استمرار سفك دماء الأبرياء وعمليات التدمير العشوائية والتهجير والتجويع، على الرغم من أنهما، خلال لقاءاتهما الصحفية، لم يتطرقا إلى معاناة الناس خلال حرب الإبادة التي امتدت إلى 15 شهرًا، في حين أن ترامب كان يتعرض لتفاصيل بسيطة ليبرز معاناة الإسرائيليين، منها أنه شاهد صورة لإحدى الأسيرات المفرج عنهن وقد فقدت أحد أصابعها!

ترامب ومبعوثه الخاص، كما وصفتهما تقارير إعلامية، يتعاملان مع مثل هذه القضايا الخطيرة بعقلية تجارية عدوانية، مارسا الضغط بشكل علني على الطرف الفلسطيني عبر التهديد والوعيد، بينما مارسا الضغط على نتنياهو عبر التلميح في التصريحات الصحفية وبشكل صريح خلف الأبواب المغلقة، وهو ما أدى إلى قبول نتنياهو باتفاق وقف إطلاق النار.

خلال حرب الإبادة على قطاع غزة، لم تتوقف شحنات الأسلحة القادمة من الغرب، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. فبدونها، ما كان لنتنياهو أن يواصل جرائمه. لكن، مع تزايد الضغوط، اتخذت بعض الدول، منها بريطانيا، موقفًا رمزيًا بمنع تصدير بعض أنواع الأسلحة، كما قرر بايدن تعليق تصدير 1800 قنبلة تزن الواحدة 2000 رطل من نوع MK-84، لأنها تتسبب بخسائر بشرية واسعة.وفي استشراف تفاصيل الاتفاق، يبدو أن قبول نتنياهو للصفقة لم يكن دون مقابل. فمع استلام ترامب مهام منصبه، أصدر أمرًا تنفيذيًا بإلغاء كافة العقوبات التي فرضتها الإدارة السابقة على مستوطنين وكيانات استيطانية متهمة بممارسة العنف ضد الفلسطينيين، وتعمل على السيطرة على أراضيهم من أجل تهجيرهم. كما يظهر بشكل جلي كمقابل أطلق يد نتنياهو للعمل بحرية في الضفة الغربية، بشن حرب واسعة أسماها “السيوف الحديدية”، لا تزال مستمرة، وأهدافها المعلنة القضاء على ما يسمونهم "الخارجين عن القانون".

وخلال حرب الإبادة على قطاع غزة، لم تتوقف شحنات الأسلحة القادمة من الغرب، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. فبدونها، ما كان لنتنياهو أن يواصل جرائمه. لكن، مع تزايد الضغوط، اتخذت بعض الدول، منها بريطانيا، موقفًا رمزيًا بمنع تصدير بعض أنواع الأسلحة، كما قرر بايدن تعليق تصدير 1800 قنبلة تزن الواحدة 2000 رطل من نوع MK-84، لأنها تتسبب بخسائر بشرية واسعة.

وعلى الرغم من هذا القرار الرمزي، الذي اتُّخذ في مايو الماضي، لم يكن له أثر في مجريات حرب الإبادة، فقد استمرت آلة الحرب الإسرائيلية برًا وبحرًا وجوًا بدك قطاع غزة بأطنان من القنابل المختلفة، مرتكبة مجازر ضاعفت أعداد الضحايا وألحقت دمارًا واسعًا في كافة أنحاء القطاع، حتى دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز النفاذ بتاريخ 19/01/2025، الذي كان أحد بنوده غير المعلنة، على ما يبدو، رفع الحظر عن القنابل الفتاكة MK-84.

مسؤولون إسرائيليون كشفوا لموقع “إكسبوس” يوم الجمعة الماضي أن إدارة ترامب ألغت قرار بايدن المذكور، وأن شحنة القنابل في طريقها إلى إسرائيل. كل هذه القرارات التي اتخذتها إدارة ترامب عقب اتفاق وقف إطلاق النار، مع تعيين مسؤولين معروفين بمواقفهم الداعمة لإسرائيل والمنكرة لحقوق الفلسطينيين في الإدارة، تؤكد أن ترامب شخص مخادع يتساوق مع مشاريع عتاة الصهاينة، وأنه لا يريد أن يذكره التاريخ كصانع سلام في الشرق الأوسط وفق ما ينص عليه القانون الدولي، وإنما وفق المعايير التي نصت عليها الكتب الدينية.

وليس أدل على ذلك تصريحات ترامب المفاجئه أنه تحدث مع ملك الأردن والرئيس السيسي حول نقل "عدد" من سكان قطاع غزة إلى الأردن ومصر لأن القطاع مدمر وغير صالح للسكن وأن السكان هناك عاشوا " الجحيم" طوال سنوات، وعبر عن اعتقاده أن ملك الأردن والسيسي سيوافقان على هذا المشروع، لا نعلم كيف خرج بهذا الانطباع بعد المحادثات وهل ملك الأردن والسيسي تعاطيا مع هذا المشروع بإيجابية على خلاف مواقف البلدين المعلنة والرافضة لخطط التهجير.

مشاريع و خطط التهجير العلنية والسرية ليست جديدة في تاريخ الصراع فقد طرحت مشاريع عديدة منذ عام 1948 نفذ بعضها بالقوة العسكرية وبعضها الآخر جرى تنفيذه بشكل هاديء عبر زيادة وتيرة الاستيطان والتضييق على حياة الفلسطينيين اليومية لدفعهم إلى الهجرة لكن كل هذه المشاريع فشلت وبقي الفلسطينيون متشبثون في وطنهم ومن نجحت اسرائيل في تهجيرهم عبر القوة العسكرية يرفضون التوطين في الدول التي تستضيفهم متمسكون بحق العودة.

الأردن الذي يستضيف أكبر كتلة من اللاجئين الفلسطينيين بعد نكبتي عام 1948 وعام 1967 ويطرحه الصهاينة دائما كوطن بديل للفلسطينيين  يرفض دائما مخططات التهجير ، وشدد على ذلك خلال حرب الإبادة، وكذلك موقف النظام المصري ، ففي تصريحات توصف بأنها لا مبالية ومستهتره تحدث السيسي عن رفضه لخطة نتنياهو لتهجير سكان القطاع بعد أحداث السابع من أكتوبر قال فيها  إذا أرادت إسرائيل أن تنقل سكان القطاع فلتنقلهم إلى منطقة داخل فلسطين ريثما تنتهي من القضاء على الفصائل الفلسطينية فتعيدهم!

تصريحات ترامب الواضحة والعلنية عن خطة التهجير  تقتضي موقفا مباشرا من الديوان الملكي والرئاسة  المصرية لإزالة أي لبس ، يبين أن كلا الزعيمين رفضا هذا المشروع  خلال المحادثة، فترك القضية دون توضيح مباشر يثير الكثير من اللغط كون ترامب ألمح في تصريحاته على موافقتهما ، حتى اللحظة لم يصدر مثل هذا البيان واكتفى البلدين بتصريحات عامة من وزارات الخارجية تؤكد على رفض خطط التهجير وحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره.

كذلك لم نسمع ردا من الفاعلين الدوليين أو الإقليميين على هذا المشروع، الكل من أمم متحدة واتحاد أوروبي وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي دفنوا رؤوسهم في التراب ولم يصدروا أي بيان أو تصريح بشكل مباشر  يعبر عن رفض مثل هذه المشاريع كونها تتناقض مع مشروع السلام في المنطقة وتخالف مبادئ القانون الدولي والقرارات الأممية التي تؤكد على حق الشعب الفلسطيني في أرضه وتقرير المصير.

طرح مثل هذه المشاريع الخطيرة من أقوى رئيس دولة في العالم بهذا الشكل الفج يعبر عن استهتار هذا الرئيس بأمن واستقرار الشرق الأوسط، متجاهلًا تاريخ الصراع الذي يسعره دائمًا أحلام حكومات الاحتلال في إفراغ الأرض من أهلها. فأي خطط تهجير جديدة من هذا النوع تعتبر وصفة لإشعال حرب أوسع من التي اندلعت في السابع من أكتوبر وما قبله.

هذا المستوى من التفكير الارتجالي العدواني تجاه مصالح الشعوب الأخرى، والجرأة في طرحه دون أدنى حساب لتداعياته الكارثية، يعبر عن تفكير شخص مهاجر لا يزال يعيش في زمن أجداده الذين أسسوا دولة قوامها من المهاجرين على جماجم سكانها الأصليين، ولا يقيم وزنًا لأنظمة ديكتاتورية في المنطقة، مدينة في وجودها للغرب الاستعماري، تخضع للابتزاز في كل وقت وحين.

الشعب الفلسطيني، الذي خرج لتوه من إبادة جماعية ويحاول جاهدًا العودة إلى حياته كما كانت قبل بدء الإبادة، يرفض كل مشاريع التهجير، وعقد العزم على إعمار ما دمره الاحتلال وتفويت الفرصة على حكومة نتنياهو التي عملت منذ اللحظة الأولى لدخول وقف إطلاق النار حيز النفاذ لإفشاله، وهي لا تزال تمنع النازحين من العودة إلى الشمال وفق ما اتفق عليه. وهذا يترجم النوايا السيئة لحكومة نتنياهو ورغبتها الجامحة في العودة إلى القتل والتدمير والتهجير.

قرارات ترامب ومشروع التهجير يتقاطعان مع مشروع نتنياهو في العودة إلى القتال في قطاع غزة، إذ لا يمكن لشخص يريد أن يكون صانع سلام في المنطقة أن يزود آلة الحرب التي ارتكبت أم الجرائم بقنابل فتاكة، ويطرح مشروع تهجير، ويطلق لها العنان في الضفة الغربية لتقتل وتدمر وتهجر لتنفيذ مشروعها القديم الجديد في ضم الضفة الغربية.

مشهد جموع عشرات الآلاف من المواطنين العائدين إلى ديارهم في شمال قطاع غزة وتحديهم لرصاص الاحتلال يمثل ردا مباشرا على مشروع ترامب فهؤلاء الناس الذين انتظروا خمسة عشر شهرا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء التي أمطرتهم بأطنان القنابل للعودة إلى منازلهم التي أصبحت ركاما لن يقبلوا باستبدال وطنهم بأي وطن آخر، بل إن اللاجئين منهم منذ عام 1948 أكّدوا على حقهم في العودة إلى مدنهم وقراهم التي هجروا منها في فلسطين.مشهد جموع عشرات الآلاف من المواطنين العائدين إلى ديارهم في شمال قطاع غزة وتحديهم لرصاص الاحتلال يمثل ردا مباشرا على مشروع ترامب فهؤلاء الناس الذين انتظروا خمسة عشر شهرا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء التي أمطرتهم بأطنان القنابل للعودة إلى منازلهم التي أصبحت ركاما لن يقبلوا باستبدال وطنهم بأي وطن آخر، بل إن اللاجئين منهم منذ عام 1948 أكّدوا على حقهم في العودة إلى مدنهم وقراهم التي هجروا منها في فلسطين.

أفضل رد عملي على مثل هذه المشاريع في ضوء هشاشة اتفاق وقف إطلاق النار أن يعمل الفاعلين الدوليين على تحصين هذا الاتفاق وتدعيمه عبر تكثيف عمليات الإغاثة الإنسانية بكافة أشكالها عبر إنشاء مساكن مؤقتة ومشافي متنقلة وبعض المرافق الهامة وإصلاح شبكات الكهرباء والمياه وإدخال الفرق الطبية المتخصصة وإخلاء الجرحى من أجل توفير مقومات الحدود الدنيا للحياة التي أبادتها آلة الحرب الإسرائيلية طوال 15 شهرا.

قطاع غزة بعد عمليات التقتيل والتدمير والتهجير يستحق من هؤلاء الفاعلين الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي أو إقليمي لإضفاء زخم عملي على عمليات الإغاثة الطارئة والإعمار  أسوة بمؤتمرات عقدت في حالات تعرضت فيه دول لأقل بكثير مما تعرض له قطاع غزة ولإرسال رسالة أمل لسكان قطاع غزة أنهم ليسوا وحدهم وحتى يفهم نتنياهو وداعميه أن العوده للقتال وفق ما يخطط له اصبح مستحيلا ومن الماضي.

إذا كانت الأنظمة في الشرق الأوسط ارتضت لنفسها أن تكون ذليلة مستكينة لجبروت ترامب وغيره، وقابلة لتنفيذ رغباته، وتدفع المليارات من الإتاوات ليرضى عنها، فإن شعوب المنطقة، وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني، يرفضون رفضًا قاطعًا تمرير مثل هذه المشاريع. فهم أهل البلاد وملاكها وعمارها، وليسوا مجموعة مهاجرين طارئة تسعى وراء الكلأ والمرعى.

الوطن في الموروث العربي ليس حقيبة مما خف حمله، وليس مجرد مكان، بل هو حالة وجدانية وروحية تعبر عن الانتماء والهوية، ولا يعادل البعد عنه سوى القتل. وما يثير العجب أن أصحاب مشاريع التهجير الحمقاء لم يلتقطوا الدروس والعبر من التقتيل والتدمير الذي عايشه الفلسطيني طوال 15 شهرًا لإفشال مشروع التهجير الذي أعلنت عنه حكومة نتنياهو، وقد فشل فشلًا ذريعًا.

على ترامب وأركان إدارته، إذا أرادوا فتح صفحة جديدة من الأمن والسلام في المنطقة، ألا ينجروا وراء أجندات أناس معتوهين يريدون إشعال حرب مدمرة في المنطقة، وأن يعطوا الأولوية لتنفيذ اتفاق إطلاق النار الذي وُلد ملغمًا، ويسعى نتنياهو جاهدًا للتنصل منه عبر وضع عراقيل لمنع تنفيذ ما تم التوصل إليه من اتفاق، كما يفعل اليوم في جنوب لبنان.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفلسطينيين التهجير الاحتلال امريكا احتلال فلسطين تهجير رأي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة اتفاق وقف إطلاق النار خلال حرب الإبادة الشعب الفلسطینی فی العودة إلى هذا المشروع فی المنطقة قطاع غزة سلام فی عام 1948

إقرأ أيضاً:

ما هي عقيدة القدر المتجلي الخطيرة التي يسعى ترامب إلى إحيائها؟

في مستهلّ ولايته الرئاسية الثانية، وأثناء خطاب تنصيبه في 20 يناير/كانون الثاني، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب: "من هذا اليوم فصاعدًا، ستزدهر بلادنا وتُحترم مجددًا في جميع أنحاء العالم. سنكون محط غيرة كل أمة، ولن نسمح لأنفسنا أن يستغلّنا أحد بعد اليوم. خلال كل يوم من أيام إدارة ترامب، سأضع ببساطة، أميركا أولًا".

وأضاف: "ستستعاد سيادتنا، وسيُعاد الأمن إلى ربوعنا، وموازين العدالة إلى نصابها. وأولويتنا القصوى ستكون بناء أمة فخورة، مزدهرة، وحرة. ستصبح أميركا قريبًا أعظم، وأقوى، وأكثر تفوقًا من أي وقت مضى".

وأردف قائلًا: "من هذه اللحظة فصاعدًا، انتهى انحدار أميركا". مؤكدًا: "لقد أنقذني الله لأجعل أميركا عظيمة مرة أخرى". كما عبّر عن رغبته في تغيير "اسم خليج المكسيك إلى خليج أميركا"، وأعلن عزمه على "إرسال رواد فضاء أميركيين لغرز العلم الأميركي على كوكب المريخ". وختم مؤكدًا: "نحن شعب واحد، وعائلة واحدة، وأمة مجيدة واحدة تحت قيادة الله".

لكن التصريح الأكثر إثارة للجدل جاء في نهاية يناير/ كانون الثاني 2025، حين كشف ترامب في مقابلة عزمه على استعادة قناة بنما، وقال صراحة: "لقد بنيناها، دفعنا ثمنها، ولن نتنازل عنها للأبد"(رويترز-2025).

كما ألمح إلى إمكانية ضم غرينلاند وكندا قائلًا: "غرينلاند أراضٍ بكر، غنية بالموارد، وهي أقرب إلينا من بعض ولاياتنا" (أسوشيتد برس 27 يناير/ كانون الثاني 2025).

إعلان

من خلال هذا الخطاب، أعاد ترامب إلى الواجهة مفهومًا أيديولوجيًا عميقًا من تاريخ أميركا السياسي، وهو مفهوم "القدر المتجلي" (Manifest Destiny)، الذي برز في أربعينيات القرن التاسع عشر، وتحوّل إلى عقيدة قومية تبرّر التوسع باسم "الإرادة الإلهية".

إعلان ترامب أن "الحقبة الذهبية لأميركا تبدأ الآن"، وغرز العلم الأميركي على المريخ، لم يكن مجرد دعاية انتخابية، بل إحياءً لواحدة من أخطر العقائد الأميركية: "القدر المتجلي"، التي تبرر التوسع الإمبراطوري باسم "الإرادة الإلهية".

جذور الفكرة: من الإبادة إلى الإمبراطورية

نشأت فكرة "القدر المتجلي" على يد الصحفي الأميركي جون أوسوليفان، في عام 1845، الذي دعا الأميركيين إلى اعتبار أنفسهم شعبًا مختارًا من قبل العناية الإلهية، ومكلَّفين بنشر الحضارة (وفق الرؤية الغربية البروتستانتية الأنجلوسكسونية) عبر القارة الأميركية، ومن ثم إلى العالم بأسره.

وفقًا لهذا التصور، فإن "القدر" قد حدد غايته واختار"البيض الأنجلوسكسون البروتستانت" كحاملي هذه الرسالة، ومكّنهم من الهيمنة على الأراضي الهندية أولًا، ثم التوسّع خارج الحدود الجغرافية الطبيعية. إن "القدر"، كما رآه أوسوليفان، يجب أن يُرسم بخط مستقيم يقود نحو مستقبل تتسيّده أميركا كقوة مُخلِّصة ومهيمِنة.

على الرغم من صياغتها بخطاب سياسي وعلماني، حملت هذه العقيدة جوهرًا استعلائيًا عرقيًا ودينيًا، إذ قدمت فكرة أن الرب فضَّل "البيض الأنجلوسكسون البروتستانت"، وجعلهم "شعبًا فوق كل الشعوب"، مما ساهم في تبرير الإبادة ضد السكان الأصليين، والتوسعات الأميركية مثل شراء لويزيانا (1803)، وضم تكساس (1845)، والحرب مع المكسيك (1846-1848)، وضم كاليفورنيا، وأريزونا، ونيو مكسيكو، وصولًا إلى غزو الفلبين، وهاواي، وبورتوريكو في أواخر القرن التاسع عشر.

هكذا أصبحت هذه الفكرة غطاءً أيديولوجيًا يخفي الطموحات التوسعية خلف ستار أخلاقي، يجمع بين التفوق العرقي والإرادة الإلهية.

إعلان على خطى أوسوليفان

ترامب، في إحيائه هذا المفهوم، لم يكتفِ بالرمزية، بل استخدم مفرداته بشكل مباشر: التوسع في الفضاء، إعادة تسمية جغرافيا الآخرين، وتجديد مفاهيم السيطرة القومية.

قد تبدو هذه التصريحات شعبوية، لكنها تُعيد إنتاج خطاب أميركي يرى في بلاده قوة استثنائية، لا تخضع للمعايير العالمية، بل تعيد تشكيلها.

ورغم أن تطبيق هذه الفكرة بدأ قبل تأسيس الدولة الأميركية نفسها، فإن إضفاء الطابع الفكري عليها عبر مبدأ "القدر المتجلي" منح السياسيين لاحقًا غطاءً لشرعنة سياسات الغزو والهيمنة، أو العزلة عند الحاجة.

اليوم، لا يُنظر إلى "القدر المتجلي" كذكرى تاريخية، بل كنهج حي يعود بصيغة جديدة في الإدارة الأميركية. ويتجلى هذا الحضور بوضوح في كتاب (American Crusade: Our Fight to Stay Free ) لوزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث، حيث يظهر الامتداد الأيديولوجي الواضح للفكرة، وإن لم تُذكر بالاسم.

الهيمنة، السيطرة، واستعادة مؤسسات الدولة (كالتعليم، القضاء، الإعلام…) من "اليسار العدو"، كلها تتجسد في مضمون الكتاب، لتصبح العقيدة القديمة أداة حديثة لإعادة "أمركة أميركا"، وتطهيرها من كل ما لا ينسجم مع النموذج المحافظ والإنجيلي الذي يتبنّاه.

النسخة الترامبية

غير أن النسخة الترامبية من هذه الفكرة تبتعد عن الغطاء الأخلاقي التقليدي الذي استخدمته الإدارات السابقة كذرائع لتدخلاتها. فبدلًا من الشعارات حول "حقوق الإنسان" أو "نشر الديمقراطية"، يصرح ترامب بأن الغاية هي المصلحة القومية، والقوة، والهيمنة.

في هذا السياق، يرى بعض الباحثين أن هذا التحول يُعيد الولايات المتحدة إلى منطق الإمبراطوريات القديمة، حين كان التوسع غاية في حد ذاته، وليس وسيلة لتحقيق مبادئ عُليا.

ويقول المؤرخ الأميركي هاورد زين إن: "القدر المتجلي لم يكن أبدًا بريئًا، بل أداة إمبريالية مغطاة بأخلاق مصطنعة"، ويبدو أن ترامب قد قرر إزالة هذا الغطاء نهائيًا.

إعلان

تبعًا لذلك، فإن "القدر المتجلي" في نسخته الترامبية لا يتوقف عند الحدود الجغرافية، بل يتعداها إلى الفضاء، والتكنولوجيا، وربما الاقتصاد العالمي.

فالدعوة إلى "استعادة" مناطق مثل كندا، وغرينلاند، تعكس تصورًا للقوة ليس قائمًا فقط على النفوذ، بل على الملكية المباشرة. كذلك، فإن تصريحه بأن على أميركا أن تكون "سيدة الفضاء"، يعكس توجهًا نحو عسكرة الفضاء، في تحدٍّ واضح للاتفاقات الدولية التي تمنع تحويل الفضاء إلى ساحة صراع عسكري.

إن هذا التوجه الأميركي الجديد قد يُنتج عواقب دولية خطيرة، من بينها تصاعد النزعة القومية في مناطق أخرى، وسباق تسلّح في الفضاء، وعودة خطاب الاستعمار والضم إلى واجهة العلاقات الدولية.

خلاصة القول: إحياء ترامب مفهوم "القدر المتجلي" ليس مجرد خطاب بلاغي، بل أداة سياسية تعكس فلسفة حُكم قائمة على السيطرة والتفوق، تُعيد صياغة الهيمنة الأميركية بأساليب معاصرة تتجاوز حدود الزمان والمكان.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • البيت الأبيض: فرص التوصل إلى اتفاق سلام في أوكرانيا أقرب مما كانت عند تولي ترامب منصبه
  • البيت الأبيض: فرص التوصل إلى اتفاق سلام في أوكرانيا أصبحت أقرب
  • نتنياهو يخطط لإنهاء حرب غزة بحلول أكتوبر المقبل.. فما الحقيقة؟
  • ما هو صاروخ “بار” الذي استخدمه الاحتلال لأول مرة في غزة؟
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • ماذا تعرف عن صاروخ بار الذي استخدمه الاحتلال لأول مرة بغزة؟
  • ممثلة مصر أمام العدل الدولية: إسرائيل تخير سكان غزة بين القصف أو التهجير
  • نهاية أم مخرج سياسي.. ماذا حول صفقة "إقرار بالذنب" التي اقترحها الرئيس الإسرائيلي بشان نتنياهو؟ "تفاصيل"
  • روبيو يدعو إلى اتفاق سلام في أزمة أوكرانيا
  • ما هي عقيدة القدر المتجلي الخطيرة التي يسعى ترامب إلى إحيائها؟