ناقشت في مقال سابق على الجزيرة نت بعنوان عقدة الذنب والتفوق النوعي.. كيف نفسر هذا الدعم الغربي الهائل لإسرائيل؟، فكان من أهم تلك الأسباب أن الغرب أراد لإسرائيل أن تكون طليعة مشروعه الحضاري في الشرق، إلا أن هذه الدولة تحولت إلى عبء ثقيل على الحضارة الغربية ومشروعه الحضاري والقيّمي الذي كانت تبغي تصديره للمنطقة العربية لتكون منسجمة مع تلك الحضارة ومنتجاتها بما يحقق مصالح الإنسانية نتيجة هذا التزاوج الحضاري ما بين أصالة الشرق وحاضر الغرب.

لكن ما حدث هو العكس فقد تحولت إسرائيل من طليعة للمشروع الغربي إلى كيان لا أخلاقي يفصل بين الشرق والغرب ويمنع تزاوج الحضارات بما يخدم الإنسانية ويسرّع نهضتها.

الحضارة الإسلامية بما تملكه من رصيد أخلاقي ومعرفي قديم، هي صاحبة الاستعداد الفطري لاحتضان الحضارة الغربية الصاعدة وتطويرها والبناء عليها، فالحضارة الإسلامية في فلسفتها القيميّة في المجال السياسي والاقتصادي والأخلاقي أقرب ما تكون إلى الحضارة الغربية وقيمها.

فالحضارة الإسلامية قدمت في الماضي القريب مساهمة كبيرة في تراكم العلوم الإنسانية ونقلها للحضارة الغربية، ولولا المشروع الإسرائيلي لوجدت الحضارة الغربية الحديثة – التي حولت القيم الشرقية إلى نظم – في الحضن الشرقي البيئة الدافئة التي تنمو وتترعرع فيها، لكن المشروع الإسرائيلي بأيديولوجيته الدينية القائمة على الكراهية ورفض الآخر ومعاداة كل جديد، أقام حالة من العدائية وحاجزًا نفسيًا ما بين الحضارة الشرقية والحضارة الغربية، ومنع انتقال الحضارات وتزاوجها.

إعلان

لكن كيف تحوّلت إسرائيل إلى عبء أخلاقي على الحضارة الغربية؟

سعت الدول الغربية المحمّلة بعقدة الذنب تجاه أتباع الديانة اليهودية لما عانوه من تنكيل، لدعم هذا الكيان وإمداده بكل عناصر القوة والذي حوّلته إسرائيل إلى آلة بطش عمياء، ترتكب كل الجرائم حتى بلغت مرحلة الإبادة الجماعية في حرب غزة الأخيرة، وهي جرائم يتمّ التغاضي عنها، والتعامل معها باللامبالاة.

فالغرب بعد الحرب العالمية الثانية أصبح شديد الحساسية تجاه أي عمل من أعمال الإبادة الجماعية، ورأينا كيف تحرك في حرب البلقان ضد الإبادة الجماعية في نهاية القرن الماضي. بيدَ أن الأمر يختلف لدى الغرب إذا كان يتعلق بإسرائيل، فعندئذ تبدأ ماكينته الإعلامية بالتبرير، واعتبار ما تقوم به ممارسات في مواجهة الإرهاب الإسلامي.

هذا السلوك التبريري الذي لم يزد في أحسن حالاته عن التبرؤ الخجول من تلك الممارسات، خدش الحضارة الغربية في بعدها الأخلاقي، وجعل أبناء الحضارات الشرقية يتوجّسون خيفة منها، ويشككون في صدق توجهها وصدق ما تحاول رسمه من صورة مشرقة حول احترامها لحقوق الإنسان، وحقوق المرأة والطفل، والشعوب الفقيرة والمستضعفة.

عندما أنتجت الحضارة الغربية العلوم السياسية المتعلقة بالتداول السلميّ للسلطة والديمقراطية والاحتكام للصندوق في تصعيد القيادات وإدارة الدول، كانت هذه الحضارة تدعم جميع الأنظمة الديمقراطيّة التي تولد عبر الصندوق ومن رحم الإرادة الشعبية، وتضيّق الخناق على كل الأنظمة الشمولية المستبدة، إلا أن المسألة في العالم العربي كانت مختلفة تمامًا.

الحضارة الغربية تعلم تمامًا أن الكيان الصهيوني غير مرغوب به في المنطقة، وأن جميع شعوب الدول العربية ترفض التعامل معه، وترفض وجوده الذي قام على اغتصاب الأرض وقهر الشعب الأصلي لفلسطين، وأن نتيجة أي عملية سياسية ديمقراطية ستفرز قادة أعداء لدولة إسرائيل.

لذلك كانت الدول الغربية تغضّ الطرف عن الأنظمة المستبدة، على اعتبار أن البديل هو قيادات ديمقراطية تعادي دولة إسرائيل مما جعلها حضارة تكيل بأكثر من مكيال في دعم الديمقراطية.

إعلان

لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن بعض تلك الدول الغربية قامت بأعمال مناوئة لمحاولات الشعوب العربية في البحث عن الديمقراطية خلال الربيع العربي. فرأينا كيف صمتوا – بضغط إسرائيلي – عن كل المجازر التي كان نظام الأسد يمارسها. فقد كانت إسرائيل ترى أن البديل عن نظام الأسد المتعايش مع الكيان الصهيوني، سيكون نظامًا ديمقراطيًا يناوئها فتم غضّ الطرف عن الجرائم في سوريا، وقطع خطوط الإمداد عن كل من يناوئ هذا النظام النازي.

كان الضرر الأكبر والعبء الأكبر الذي ألحقته إسرائيل بالحضارة الغربية هو الدعم اللامتناهي الذي قدمته لها أميركا – وهي رأس الحضارة الغربية – في حربها الأخيرة الظالمة على غزة والتي ارتكبت فيها أعمال الإبادة الجماعية.

ودفع هذا السلوك دول العالم المتحضر (من غير الغرب) لأن تقف ضد هذا الانحياز الصارخ فحركت جنوب أفريقيا دعوى قضائية في المحكمة الجنائية الدولية ضد الكيان الصهيوني وضد قياداته العسكرية والسياسية، الذين طالب بعضهم باستخدام القنبلة النووية ضد الشعب الفلسطيني في غزة.

لم تكتفِ أميركا بالامتناع عن القيام بأي عمل إيجابي لمحاربة تلك الإبادة الجماعية، بل وصل الأمر أن سنّت قانونًا يفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، أقره مجلس النواب الأميركي بعد مذكرتَي اعتقال ضد نتنياهو وغالانت. وبذلك أصبحت أميركا تعمل على تفكيك مؤسسات القانون الدولي التي أنتجتها الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية للحفاظ على السلم والاستقرار العالمي.

وهكذا، بسبب انحياز الحضارة الغربية لإسرائيل تحولت هذه الحضارة من مؤسس للقانون الدولي إلى ساعٍ لتفكيك مؤسساته، وتعريض الأمن والسلم العالمي للخطر؛ من أجل حماية إسرائيل وقادة جرائم الإبادة الجماعية فيها.

ناضل الغرب ومثقفوه بعد الثورة الفرنسية من أجل تغليب العقل على الروايات الدينية المتطرفة المحمّلة بالخرافة، لكن الحضارة الغربية اليوم تتخلّى عن العقل السليم ومفاهيم العمل السياسي المثمر القائم على المصلحة واحترام الإنسان وحقوقه من أجل دعم الرواية السياسية الدينية اليهودية المحمّلة بالخرافة والكراهية والاستعلاء.

إعلان

الحضارة الغربية اليوم تمارس تناقضًا صارخًا وهي تقدم الدعم لليمين الديني المتطرف في دولة إسرائيل، بينما تناضل في بلادها من أجل الحيلولة دون صعود أي تيار ديني يعود بالحضارة الغربية للخلف، ويعيدها للعصور الوسطى.

الحضارة الغربية بهذا التناقض سلّطت نفسها على نفسها، وتعمل بشكل حثيث من أجل تفكيك ما بنته من نظرية سياسية متماسكة استطاعت أن تساهم في بناء حالة من النهوض والتقدم في مجموعة الدول التي أخذت بها.

الحضارة الغربية تفكك نفسها وتدعم كل ما يناقض مبادئها من أجل دعم دولة إسرائيل التي تسير عكس اتجاه الحضارة الغربية والتطور الإنساني، وتضطر الحضارة الغربية للتضحية بنفسها من أجل إسرائيل.

اليوم إسرائيل تحولت إلى عبء أخلاقي يهدد الحضارة الغربية في صدقيتها، كما تحولت إلى عبء يهدد السلم العالمي والأمن المجتمعي، فما تولدت وتناسلت الجماعات المتطرفة في المنطقة إلا نتيجة لهذا التناقض في الحضارة الغربية بين التطبيق الداخلي وبين التعامل الخارجي، وبين جمال النظرية الغربية وواقعها السيئ في المنطقة العربية.

هذا التناقض دفع الشعوب العربية إلى البحث عن الخلاص من خلال دعم المشاريع الأخرى التي تحاول أن تكون بديلًا عن المشروع الحضاري الغربي، فنشأ المشروع الإيراني الطائفي الذي أشعل الحرائق، وأشاع انعدام الاستقرار في كل دول المنطقة.

هذا التناقض أسهم أيضًا في جعل النخب العربية تتشكك في غاية تلك الحضارة الغربية وصلاحيتها للمنطقة بما رأته من افتقادها لِصدقية التطبيق خارج أرضها، واستخدامها قيم الديمقراطية والحرية كأداة للغزو الثقافي، أو كحصان طروادة الذي يتيح لها التسلل إلى المنطقة، فيما تتنكر لتلك القيم عندما تتعارض مع مصالح إسرائيل.

كان يمكن للحضارة الغربية ألا تتورط في محاولة تصدير منتجها الحضاري إلى الأمم الأخرى، وتكتفي بأن تنعم بما أنتجته من علوم إنسانيّة وتستمر بالتفوق من خلالها، ولكان هذا أقل ضررًا من مصابها إذ خسرت اليوم صورتها المشرقة التي أرادت رسمها في أذهان الشعوب الأخرى.

إعلان

أراد الغرب أن تكون إسرائيل طليعة مشروعه الحضاري والقيمي في منطقة الشرق، لكن سرعان ما تحولت إسرائيل من حامل للحضارة الغربية إلى بؤرة كراهية وبغضاء تثير القلاقل والشكوك بين الحضارات، وتنشر في المنطقة والعالم الاضطراب وعدم الاستقرار.

يمكن للحضارة الغربية أن تصحح هذا الخطأ التاريخي، فترفع يدها عن هذا الكيان الذي أصبح عبئًا ثقيلًا عليها، وتشارك في حلّ هذه الأزمة التي قارب عمرها قرنًا من الزمان بما يعيد الحقوق لأصحابها الأصليين، وتمد يدها إلى الحضارة الإسلامية لبناء ما يفيد الإنسانية، وتفسح المجال أمام الشعوب العربية لتساهم في البناء والتقدّم والنهوض بما يخدم الإنسانية جمعاء.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الحضارة الإسلامیة الإبادة الجماعیة الحضارة الغربیة فی المنطقة إلى عبء من أجل

إقرأ أيضاً:

القاضية الأوغندية التي رفضت إدانة إسرائيل بالإبادة بغزة متهمة بالانتحال

تواجه نائبة رئيس محكمة العدل الدولية جوليا سيبوتيندي، تهمة القيام بانتحال في تحفظها يوم 19 تموز/ يوليو 2024، حول الآثار القانونية لممارسات "إسرائيل" في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وفي منشور على منصة "إكس"، قال الباحث زاكاري فوستر، الحاصل على درجة الدكتوراه في تاريخ دراسات الشرق الأدنى من جامعة برينستون الأمريكية، إن سيبوتيندي اقتبست مباشرةً أجزاء من مقال دوغلاس جي فايث، الصادر عن معهد هدسون عام 2021، دون الإشارة إلى المصدر.

وادّعى فوستر أن سيبوتيندي (القاضية الأوغندية التي تبرأت بلادها من موقفها) قامت بنسخ عدة جمل من مقال فايث مع إدخال تغييرات طفيفة، وذلك في الأقسام التي تناولت الاستخدام التاريخي لمصطلح "فلسطين".



كما أكد أن مقال فايث لم يُشر إليه كمصدر في تحفّظ سيبوتيندي، داعياً إلى عزلها من منصبها في محكمة العدل الدولية بسبب هذا الانتحال.

سابقة في تاريخ محكمة العدل الدولية
من جانبه وصف أستاذ القانون الجنائي الدولي في الجامعة المفتوحة بهولندا، سيرغي فاسيلييف، هذه الواقعة بأنها "سابقة في تاريخ محكمة العدل الدولية".

وأضاف: "لو تم اكتشاف مثل هذا الانتحال في أطروحة طالب، لكانت نتائج الامتحانات قد أُلغيت وتم منع الطالب من التقدم للامتحانات مرة أخرى".

وتشغل سيبوتيندي حالياً منصباً حساساً في محكمة العدل الدولية، إثر استقالة رئيسها نواف سلام، الذي تم تكليفه بتشكيل حكومة جديدة في لبنان.

موقف سيبوتيندي من قضية الإبادة الجماعية
وفي قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل"، صوتت القاضية سيبوتيندي في 26 كانون الثاني/ يناير 2024 ضد جميع النقاط الست في قرارات التدابير المؤقتة.

وما أثار الانتباه أن القاضي الإسرائيلي أهارون باراك صوت لصالح جنوب أفريقيا في نقطتين من القضية، بينما عارضت سيبوتيندي جميع النقاط.

كما رفضت القاضية جميع النقاط الثلاث في قرارات التدابير المؤقتة الإضافية الصادرة عن المحكمة في 24 أيار/ مايو 2024.

يشار إلى أن أوغندا تبرأت من موقف القاضية جوليا سيبوتيندي التي اعترضت على جميع الإجراءات المؤقتة التي طلبتها جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية "لمنع الإبادة الجماعية" في غزة، واعتبرت أن ذلك الموقف "لا يمثل البلاد".



وأصدرت محكمة العدل الدولية، تدابير مؤقتة في 26 كانون الثاني/ يناير 2024، أمرت فيها "إسرائيل" باتخاذ "تدابير لمنع وقوع أعمال إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، وتحسين الوضع الإنساني في قطاع غزة"، الذي تحاصره "إسرائيل" منذ أكثر من 17 عاما، لكن تل أبيب لم تف بما طلبته المحكمة.

وجاءت هذه التدابير من المحكمة، التي تعد أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة، استجابة لطلب من جنوب أفريقيا ضمن دعوى شاملة رفعتها بريتوريا نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2023، وتتهم فيها تل أبيب بـ"ارتكاب جرائم إبادة جماعية" في قطاع غزة، ولاحقا تقدمت دول، بينها تركيا ونيكاراغوا وكولومبيا، بطلبات للانضمام إلى القضية.

مقالات مشابهة

  • شيخ العربية الذي حذر من تغييب الفصحى وسجن لمعارضته إعدام سيد قطب
  • إسرائيل تهدم 10 منازل ومصلى في الضفة الغربية والقدس
  • فرنسا.. نزع وسم “صنع بالمغرب” من منتجات الخضر والفواكه التي مصدرها الصحراء الغربية
  • إسرائيل تعتقل 8 من مواطني الضفة الغربية
  • إسرائيل تتحدث عن التسوية التي أدت إلى الإفراج المبكر عن ثلاثة أسرى
  • وسام العباسي زعيم خلية سلوان الذي حاكمته إسرائيل بـ26 مؤبدا
  • تقرير إماراتي: إسرائيل تسعى لابتلاع مناطق جديدة في الضفة الغربية
  • إسرائيل: قائمة الأسرى التي قدمتها حماس تتضمن 8 أشخاص متوفين
  • القاضية الأوغندية التي رفضت إدانة إسرائيل بالإبادة بغزة متهمة بالانتحال