لجريدة عمان:
2025-01-30@05:24:15 GMT

افتتاحية: معارض الكتب وبناء الوعي

تاريخ النشر: 28th, January 2025 GMT

افتتاحية: معارض الكتب وبناء الوعي

في البدء، كانت الكلمة، والكلمة لم تكن يومًا مجرد صوت عابر في فراغ الزمن، بل كانت بذرة الحضارة، ومشعل الفكر، ونواة الوعي الإنساني المتجدد. ومنذ أن خط الإنسان أولى علاماته على الطين، بدأ مساره الطويل نحو تشييد عوالمه المعرفية، فتشكلت المكتبات، وارتفعت منارات العلوم، وازدهرت أسواق الفكر، حتى بلغنا في عصرنا الذي نعتبره حديثا ذروة التقدم الثقافي وبشكل خاص في معارض الكتب، حيث يلتقي الماضي بالحاضر، والعقل بالخيال، والمعلومة بالحكمة.

ولم تكن معارض الكتب في يوم من الأيام مجرد أسواق تُباع فيها الكتب وتُشترى لكنها منصات تلتقي فيها الأرواح الباحثة عن نور المعرفة، وهي أشبه ما تكون بفضاء مفتوح تتحاور فيه العقول دون قيود، وتتشكل فيه رؤى المستقبل على صفحات الماضي والحاضر. إن من يدرك قيمة معرض الكتاب لا يراه رفاهًا ثقافيًا، بل ضرورة وجودية لكل مجتمع يطمح إلى التحضر، فالأمم لا تُبنى إلا بوعي أفرادها، والوعي لا يُصقل إلا بالقراءة، والقراءة لا تزدهر إلا حين يصير الكتاب متاحًا لكل يد تمتد إليه.

لكن الخطر الحقيقي يكمن في أن تظل القراءة حبيسة نخب ثقافية محدودة، أو حتى حبيسة على الشعوب التي تملك قدرة مالية على اقتناء الكتب بينما تظل الأجيال الناشئة والفقراء بعيدة عن هذا النهر المتدفق من المعرفة. إن مسؤولية ترسيخ القراءة والقدرة على اقتناء الكتاب مسؤولية جماعية يجب أن تتشارك فيه الأسرة والمدرسة والمجتمع بأسره وتدعمه الدولة باعتباره أحد أهم مشاريعها لبناء الوعي وتقدم المجتمعات. إن جعل الكتاب في متناول الجميع يمكن النظر إليه بوصفه فعل مقاومة في وجه التجهيل والاستلاب، وهو الضمانة الوحيدة لبناء أجيال تمتلك أدوات التفكير النقدي، وتتحرر من أسر الجهل والتبعية.

إن الكتاب نافذة تُفتح على اتساعها نحو آفاق لا تنتهي.. وحين ندرك ذلك، ندرك أن بناء الحضارة يبدأ من حيث تُقرأ الكلمة الأولى، ومن حيث يُغرس في العقول شغف البحث عن الحقيقة.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

في متاهة السياسة: مسؤولية الكتابة في عالم منقسم

 

 

 

محمد أنور البلوشي

"لا أرى لك أي كتابة سياسية"، قال لي أحد أصدقائي. "إنِّه مجال جيِّد للكتابة عن السياسة العالمية وما يحدث في العالم على الصعيد السياسي"، أضاف. ظلت كلماته عالقة في ذهني، وأثارت نقاشًا داخليًا هادئًا. هل يجب أن أخوض غمار هذا المجال المليء بالتحديات؟ هل يمكنني فك تعقيدات الأيديولوجيات وصراعات القوى والتحولات المجتمعية باستخدام الكلمات فقط؟

الكتابة عن السياسة وإبداء الآراء فيها هي مُهمة معقدة. من أين يجب أن أبدأ؟ هل أبدأ بالحرب العالمية الأولى عام 1914، التي يُشار إليها غالبًا بأنَّها "الحرب لإنهاء كل الحروب"، مستعرضًا الخسائر المأساوية لملايين الأرواح؟ أم ربما يجب أن أتحدث عن الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945، وأعادت تشكيل النظام العالمي في أعقابها؟ كلا النزاعين تركا آثارًا لا تُمحى في التاريخ، وساهما في تشكيل الأنظمة السياسية التي نتعامل معها اليوم. ومع ذلك، فإنَّ الكتابة عن هذه الأحداث الضخمة تتطلب ليس فقط دقة تاريخية، بل فهمًا عميقًا لآثارها طويلة المدى.

السياسة تؤثر في كل جانب من جوانب الحياة البشرية، من الحكم إلى القيم المجتمعية وتوزيع الموارد بشكل عادل (أو غير عادل). عندما تُترك السياسة في أيدي سياسيين غير ناضجين أو قصيري النظر، تكون العواقب وخيمة. التاريخ مليء بأمثلة على سوء الإدارة السياسية الذي أدى إلى الحروب والأزمات الاقتصادية والمُعاناة الواسعة.

توماس هوبز، في كتابه الكلاسيكي "الليفياثان" (1651)، جادل بأن السلطة المركزية القوية هي الوحيدة القادرة على منع الفوضى والاضطراب، وهي حالة سماها "حرب الجميع ضد الجميع". في المقابل، دافع جون لوك عن الحرية الفردية والحكم من خلال الاتفاق المتبادل، مشددًا على أهمية تحقيق التوازن بين السلطة والحرية. عندما يختل هذا التوازن، تكون النتائج كارثية.

السياسة لا يمكنها ولا ينبغي لها أن تعمل فقط على أساس عاطفي. القادة الذين يستغلون مشاعر العامة لحشد الدعم غالبًا ما يتجاهلون الإصلاحات الهيكلية اللازمة للتقدم الحقيقي. نيكولو مكيافيلي، في كتابه "الأمير" (1513)، أشار بشكل مُثير للجدل إلى أنَّ النجاح في الحكم يتطلب في كثير من الأحيان البراغماتية بدلًا من الأخلاق.

وبينما تعتبر وجهة نظره مثيرة للانقسام، فإنها تسلط الضوء على مخاطر القيادة التي تركز على العواطف فقط. الكتابة عن السياسة تتطلب تمييزًا مشابهًا؛ يجب على الكاتب أن يتعامل مع الموضوع بوضوح بعيدًا عن التحيز الشخصي، وأن يركز على تعزيز الحوار البناء.

واحدة من أكبر التحديات في الكتابة السياسية هي ضمان دقة المعلومات. على سبيل المثال، انظر إلى النزاع الحالي بين روسيا وأوكرانيا الذي بدأ في فبراير 2022. تغطية وسائل الإعلام، المتأثرة بالتحيزات الوطنية والأيديولوجية، غالبًا ما تقدم روايات متضاربة. ككاتب، يجب أن يتصارع المرء مع هذه التناقضات، وأن يشكك في موثوقية المصادر، وأن يسعى لتقديم رؤية متوازنة.

وبالمثل، فإن حرب الخليج 1990-1991، التي بدأت بغزو العراق للكويت، تظل موضوعًا مثيرًا للجدل. وبينما تم تأطيرها كدفاع عن السيادة والنظام الدولي، أشار نقاد مثل نعوم تشومسكي إلى الدوافع الجيوسياسية والاقتصادية الكامنة، وخاصة حماية مصالح النفط. الكتابة عن مثل هذه الأحداث تتطلب ليس فقط معرفة تاريخية، بل أيضًا فهمًا لديناميكيات القوة المعقدة.

تقديم رأي سياسي يحمل مسؤولية كبيرة. الأمر لا يقتصر على مشاركة الأفكار، بل يشمل التفكير في تأثيرها المحتمل. الكلمات لديها القدرة على إلهام التغيير أو إشعال الصراع. يجب على الكاتب أن يتوقع تداعيات عمله، وأن يضمن أن يُسهم في حل القضايا بدلًا من تفاقمها.

نظرية العمل التواصلي ليورغن هابرماس تؤكد على أهمية الحوار الذي يهدف إلى الفهم المتبادل. هذا المبدأ ذو أهمية خاصة للكتاب السياسيين، الذين يجب أن يضمنوا أن عملهم يبني جسورًا بدلًا من توسيع الفجوات.

الكتابة عن السياسة تتطلب المُساءلة. يجب على الكاتب أن يرتفع فوق الإثارة، ويرفض إغراء تبسيط القضايا المعقدة. بدلًا من ذلك، يجب التركيز على تقديم تحليلات متوازنة تشجع القراء على التفكير النقدي. الهدف لا ينبغي أن يكون الإقناع، بل الإضاءة، وتزويد القراء بالأدوات اللازمة لتشكيل آرائهم المستنيرة.

السياسة العالمية هي موضوع واسع وصعب؛ سواء كنَّا نتحدث عن أحداث تاريخية مثل الحروب العالمية أو قضايا معاصرة مثل الصراع الروسي الأوكراني، فإنَّ الكاتب يتحمل عبء المسؤولية الثقيلة. الهدف يجب ألا يكون مجرد سرد الأحداث، بل الغوص في الأسباب والنتائج الكامنة، واستخلاص الدروس التي يمكن أن توجه العمل في المستقبل.

الفلاسفة السياسيون مثل هوبز ولوك ومكيافيلي وهابرماس يقدمون أطرًا قيمة لفهم الحكم والقيادة. أفكارهم تذكرنا بتعقيد السياسة والحاجة إلى مناهج متوازنة ومدروسة. الكتابة عن السياسة، إذن، ليست مجرد تفاعل مع الأحداث الجارية؛ إنها تتعلق بفهم الحالة الإنسانية والأنظمة التي ننشئها لحكم أنفسنا. إنها تتعلق بالسعي وراء الحقيقة، وتعزيز الحوار، والبحث عن حلول تؤدي إلى عالم أكثر عدلًا وإنصافًا.

في النهاية، الكتابة عن السياسة هي فعل مسؤولية وشجاعة. إنها التزام بالتنقل في المياه المظلمة للحكم والأيديولوجيا والسلوك البشري. إنها تتعلق بطرح الأسئلة، والبحث عن الإجابات، واستخدام قوة الكلمات للمُساهمة في مجتمع أفضل وأكثر وعيًا.

مقالات مشابهة

  • الإعلام التنموي وبناء الشخصية المصرية.. ندوة بمعرض الكتاب - صور
  • وكيل هيئة الرقابة الإدارية: نحرص على المشاركة في معرض الكتاب لنشر الوعي والتثقيف ضد الفساد
  • الداخلية تتولى اقتناء أزيد من 3000 طوبيس بـ11مليار درهم وفق لفتيت
  • مستشار رئيس البورصة لمصراوي: تنظيم فعاليات داخل معرض الكتاب لزيادة الوعي المالي
  • من أغلى الكتب.. تعرف على سعر فتح الباري وسير أعلام النبلاء بمعرض الكتاب
  • «قافلة الشباب».. مبادرة لزيادة الوعي بالتغيرات المناخية في معرض الكتاب
  • «السياحة» تشارك في معرض الكتاب لنشر الوعي الأثري بين الزائرين
  • السوداني: مكافحة الفساد مسؤولية مشتركة تتطلب التنسيق العالي بين السلطات
  • في متاهة السياسة: مسؤولية الكتابة في عالم منقسم