جاءت عودة النازحين إلى شمال قطاع غزة، الذي تتشكل معظم بنيته الديموغرافية من اللاجئين بشكل أساسي، لتعيد إحياء "ثابت العودة"، وهو أحد أبرز الثوابت الفلسطينية، وذلك تزامنا مع مناسبة الإسراء والمعراج المرتبطة دينيا بمدينة القدس، وذكرى تحريرها أيضا في زمن صلاح الدين، ضمن التقويم الهجري.

ويضم قطاع غزة نحو 1.

7 مليون لاجئ فلسطيني نتيجة أحداث النكبة عام 1948، ويعيش أكثر من 600 ألف منهم داخل ثمانية مخيمات معترف بها من قبل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا"، وهم الذين اضطروا للنزوح والدخول في حالة لجوء مزدوجة بسبب حرب الإبادة التي استمرت 471 يوما.

ومع دخول اتفاق تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي مرحلة السماح بعودة النازحين، بدأت مسيرة "العودة الصغرى" بالسير نحو الجزء الشمالي من القطاع، في مشهد قد يعتبر الأول من نوعه في تطبيق حق العودة إلى الأراضي التي أخرج الفلسطينيون منها.

"على عكس خطى جدي"
يقول سالم (34 عاما) إنه جده الذي توفي قبل سنوات طالما أخبرهم عن ظروف الخروج من مدينة يافا خلال أحداث النكبة، وأنه اضطر للسير حتى مدينة غزة على طول الخط الساحلي في مسافة تقدر حاليا بأكثر من 66 كيلومتر.


ويضيف سالم لـ"عربي21" أن جده واصل المسير حتى وجد شجرة يرتاح تحتها، في ظلها وجد صندوق زراعي فيه بقايا حصاد نبات الفجل، وأنه أسرع في تناوله من شدة الجوع دون أن يلتفت إلى طعمه الحار، موضحا "سيدي طالما كان يقول هذه القصة بطريقة مضحكة، واليوم طوال الوقت وأنا أفكر فيها".

View this post on Instagram A post shared by Arabi21 - عربي21 (@arabi21news)
ويؤكد "طوال عمري وأنا أحلم في العودة إلى مدينة يافا، وسيدي كان يحلم بذلك أيضا، على اعتبار أن بلدنا الأصلي ليست غزة، لكن اليوم طوال فترة مسيرتي من جنوب قطاع غزة إلى شماله وأنا أتذكره وأتذكر القصة وأقول لنفسي: أعود اليوم يا سيدي لكن إلى غزة وليس إلى يافا، ولم أتناول اللفت مثلك".

ويكشف سالم أنه عاد أخيرا إلى بيته في شمال غرب غزة وأنه طوال هذه السنوات احتفظ بلهجته اليافاوية التي اكتسبها عن والده وجده، قائلا: "اليوم أنا من غزة أكثر من أي وقت مضى، لكن مازلت أحلم بالعودة إلى يافا، وطالما تحققت العودة إلى غزة بعد حرب مجنونة وحالة يأس، فالحلم يمكن تحقيقه".

بدوره، يقول كامل إنه فقد بيته خلال شهور الحرب الأولى وحاليا لا يوجد مكان حقيقي يمكنه العودة إليه نظرا لأن بيته كان عبارة عن شقة ضمن عمارة سكنية كبيرة، موضحا "حتى خيار وضع خيمة على ركام العمارة قد لا يكون متاح، لذلك عمل على مغادرة القطاع نحو مصر، وهي فرصة تحققت قبل أيام من إغلاق وتدمير المعبر".

View this post on Instagram A post shared by Arabi21 - عربي21 (@arabi21news)
ويضيف كامل لـ"عربي21" أنه "في اللحظة التي غادرت فيها البوابة المصرية من معبر رفح شعرت بضيق شديد ورغبة في البكاء والعودة إلى غزة.. والله دون مبالغة، تمالكت نفسي ودعوت الله ألا يجل ما مضى أخر عهدي بغزة".

View this post on Instagram A post shared by Arabi21 - عربي21 (@arabi21news)
ويوضح "حاليا أنا أنتظر اللحظة التي أعود فيها إلى غزة وأنا غير مصدق إمكانية حدوث ذلك فعلا، طول شهور تواجدي خارج غزة ربما فقدت قدرتي الدائمة على التحمل والمواصلة، ربنا المشهد من خارج غزة يجعلك غير مصدق أن ذلك يحدث فعلا في مكان ما في هذا العالم، ولو أنني لم أعيش شهور طويلة من الحرب لما صدقت أهوالها ومدى قوة وصمود أهلها".



ويؤكد كامل "أشاهد اليوم جموع العائدين وكم أتمنى أن أكون وسطتهم وأنا حريص على قرب زوجتي وأولادي مني حتى لا نفترض بين الأعداد الكبيرة، وأنا أحمل الأمتعة البسيطة التي بحوزتنا تجهيزا لمرحلة جديدة في غزة".



ويختم أنه "ساعمل على العودة إلى غزة بشكل سريع عندما تتضح الآلية لذلك، أريد رؤية المدينة وأقاربي وأصدقائي، وصراحة كان نفسي أعيش هذه اللحظات في أول يوم من العودة".

"عودة العودة"
عملت قضية قطاع غزة وأزمة النازحين التي استمرت أكثر من 15 شهرا على تصاعد التضامن العالمي مع القضية الفلسطينية وإعادة تصعيد مسألة حق عودة اللاجئين إلى أراضيهم التي أخرجوا منها بالقوة.


وشهدت مدينة مانشستر البريطانية البارزة مسيرة تضمنت حمل مجسم كبير لمفتاح خشبي، وهو ما يرمز إلى مفاتيح البيوت الفلسطينية القديمة التي هُجر أهاليها منها في أحداث النكبة عام 1948.
وردد المشاركون في المسيرة شعارات "الحرية لفلسطين" وحملوا الأعلام الفلسطينية واللافتات التي تطالب بعودة اللاجئين إلى أراضيهم وبيوتهم.



والمفتاح هو أحد أهم الرموز التي يعبر الفلسطينيون بها عن تمسكهم بحق العودة إلى الأراضي المحتلة عام 1948 بعد النكبة، عندما تمّ تهجير أكثر من نصف سكان فلسطين الانتدابية، بعد مرور 77 عاما و15 شهرا من حرب الإبادة، يظل المفتاح رمزا قويا وتذكيرا بحق الفلسطينيين في العودة إلى بيوتهم.

ويأتي إعادة التركيز على قضية العودة واللاجئين وسط هجوم واسع ضد وكالة "الأونروا" وعملها في إغاثة وتمكين اللاجئين والنازحين، وأحدث مستجدات ذلك تلقي الوكالة أمرا من حكومة الاحتلال بإخلاء مقراتها وإيقاف كل عملياتها في شرق القدس المحتلة.

وأيد الكنيست الإسرائيلي في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي قانونا يحظر عمل "الأونروا" ويمنع التواصل معها.

وقالت الأونروا إن أمر إيقاف العمليات يتعارض مع التزامات "إسرائيل" الدولية بصفتها من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.

وكان المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” فيليب لازاريني، قال في تصريحات قبل نحو أسبوع، إن الوكالة عازمة على مواصلة العمل في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة بعد دخول حظر الاحتلال على عملياتها حيز التنفيذ في 30 يناير/ كانون الثاني.

توافق المناسبات
بدأت الحرب في قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لتشابه حرب 1973 التي انطلقت في السادس من شهر تشرين الأول/ أكتوبر أيضا، إلا أن عودة النازحين التي قد تعتبر الناهية الحقيقية للحرب جاءت في 27 كانون الأول/ يناير 2025، الموافق 27 من شهر رجب 1447 هجرية.

وشهد تاريخ 27 رجب أحداثا تاريخية ودينية بارزة متعلقة بفلسطين، وأولها مناسبة الإسراء والمعراج، التي حدثت قبل التاريخ الهجري ما بين السنة الحادية عشرة إلى السنة الثانية عشرة من البعثة النبوية، وهي من معجزات النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ومن الأحداث البارزة في تاريخ الدعوة الإسلامية. 

وخلال هذه الليلة الله أسرى نبيه محمد على البراق مع جبريل ليلا من المسجد الحرام بمكة، إلى بيت المقدس، وهي رحلة استهجنت قبيلة قريش حدوثها لدرجة أن بعضهم صار يصفق ويصفر مستهزئا، ولكن النبي محمد أصر على تأكيدها وأنه انتقل بعد ذلك من القدس في رحلة سماوية بصحبة جبريل على دابة تسمى البراق أو حسب التعبير الإسلامي عرج به إلى الملأ الأعلى عند سدرة المنتهى أي إلى أقصى مكان يمكن الوصول إليه في السماء وعاد بعد ذلك في نفس الليلة، وسُميت سورة الإسراء على اسم الحدث.


وفي نفس التاريخ العربي من عام 583 هجرية، تمَّ الاتفاق بين القائد الإسلامي صلاح الدين، وباليان وهو قائد آخر قوات صليبية كانت في القدس، على تسليم المدينة وفقاً لبعض الشروط، وجرة التحرير يوم الجمعة في 27 رجب.

وبتحرير القدس انهارت أمام صلاح الدين معظم المدن والقلاع الأخرى، والمواقع التي كانت لا تزال تحت سيطرة الصَّليبيين في معظم أنحاء بلاد الشام، ودخل صلاح الدين القدس في 27 رجب وكانت ليلة الإسراء، فأمر بأن يوضع على كلِّ بابٍ من أبواب المدينة أمير من أمراء الجيش لكي يتسلَّم الفدية من الصليبيين الخارجين من المدينة، ويحتسبها. 

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية عودة النازحين غزة العودة غزة العودة مفتاح العودة عودة النازحين المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة صلاح الدین العودة إلى قطاع غزة أکثر من إلى غزة

إقرأ أيضاً:

كيف نزع ترامب القناع عن عملية التغليف التي يقوم بها الغرب في غزة؟

عندما تقرِّر الأنظمة "الديمقراطية الحرّة" المكلّلة بالشعارات القيمية المجيدة أن تدعم سياسات جائرة أو وحشية تُمارَس بحقّ آخرين في مكان ما؛ فإنها تتخيّر تغليف مسلكها الشائن هذا قيميًا وأخلاقيًا إنْ عجزت عن توريته عن أنظار شعوبها والعالم.

هذا ما جرى على وجه التعيين مع حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي استهدفت الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. أعلنت عواصم غربية مع بدء الحرب دعمها الاستباقي الصريح لحملة الاحتلال الإسرائيلي على القطاع؛ رغم نوايا قادة الاحتلال المعلنة لممارسة إبادة جماعية وتهجير قسري واقتراف جرائم حرب.

لم تتورّع بعض تلك العواصم عن تقديم إسناد سياسي ودبلوماسي وعسكري واقتصادي ودعائي جادت به بسخاء على قيادة الاحتلال الفاشية في حربها تلك، المبثوثة مباشرة إلى العالم أجمع.

تبيّن في الشقّ الدعائي تحديدًا أنّ الخطابات الرسمية الغربية إيّاها اغترفت من مراوغات صريحة وإيحائية تصم الضحية الفلسطيني باللؤم وتحمله مسؤولية ما يُصبّ عليه من ألوان العذاب، وتصور المحتلّ المعتدي في رداء الحِملان وتستدر بكائية مديدة عليه تسوِّغ له ضمنًا الإتيان بموبقات العصر دون مساءلة أو تأنيب، وتوفير ذرائع نمطية لجرائم الحرب التي يقترفها جيشه، وإن تراجعت وتيرة ذلك نسبيًا مع تدفقات الإحصائيات الصادمة والمشاهد المروِّعة من الميدان الغزِّي.

إعلان

ليس خافيًا أنّ المنصّات السياسية الرسمية في عواصم النفوذ الغربي تداولت مقولات نمطية محبوكة، موظّفة أساسًا لشرعنة الإبادة الجماعية ومن شأنها تسويغ كلّ الأساليب الوحشية التي تشتمل عليها؛ قصفًا وقتلًا وتدميرًا وترويعًا وتشريدًا وتجويعًا وإفقارًا.

تبدو هذه المقولات، كما يتبيّن عند تمحيصها، مؤهّلة لتبرير سياسات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب في أي مكان على ظهر الكوكب، لكنّ التقاليد الرسمية الغربية في هذا الشأن حافظت على ديباجات إنسانوية وأخلاقوية ظلّت تأتي بها لتغليف سياساتها ومواقفها الراعية للوحشية أو الداعمة لها.

من حِيَل التغليف الإنساني إظهار الانشغال المتواصل بالأوضاع الإنسانية في قطاع غزة مع الامتناع عن تحميل الاحتلال الإسرائيلي أيّ مسؤولية صريحة عن سياسة القتل الجماعي والحصار الخانق التي يتّبعها.

علاوة على إبداء حرص شكلي على "ضمان دخول المساعدات الإنسانية" وتمكين المؤسسات الإغاثية الدولية من العمل، وربّما افتعال مشاهد مصوّرة مع شحنات إنسانية يُفترض أنها تستعدّ لدخول القطاع المُحاصر، كما فعل وزير الخارجية الأميركي حينها أنتوني بلينكن أو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أو مثل الحال التي ظهر فيها مسؤولون غربيون لدى إعلانهم في مارس/ آذار 2024 من قبرص عن مشروعهم الواعد المتمثِّل بالممرّ البحري إلى غزة، الذي تبيّن لاحقًا أنه كان فقاعة دعائية لا أكثر.

كان حديث العواصم الداعمة للإبادة عن الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة وإبداء الحرص على إدخال المساعدات تغليفًا مثاليًا لسياساتهم الداعمة في جوهرها لفظائع الإبادة والحصار الوحشي، فقد ابتغت من هذه الحيلة التنصّل من صورة الضلوع في جرائم حرب مشهودة، وإظهار رفعة أخلاقية مزيّفة يطلبها سياسيون وسياسيات حرصوا على الظهور الأنيق على منصّات الحديث في هيئة إنسانية مُرهَفة الحسّ تلائم السردية القيمية التي تعتمدها أممهم بصفة مجرّدة عن الواقع أحيانًا.

إعلان

جرى ذلك خلال موسم الإبادة المديد في عواصم واقعة على جانبَي الأطلسي، عندما كان جو بايدن هو رئيس الولايات المتحدة. ثمّ خرج بايدن في نهاية ولايته من البيت الأبيض ولعنات المتظاهرين تطارده بصفة "جو الإبادة" التي ظلّ في مقدِّمة رعاتها ولم يَقُم بكبْحها رغم مراوغات إدارته اللفظية.

ثمّ برز دونالد ترامب في المشهد من جديد ليطيح بتقاليد المواقف والخطابات المعتمدة حتى مع حلفاء الولايات المتحدة المقرَّبين.

تقوم إطلالات ترامب على منطق آخر تمامًا، فالرئيس الآتي من خارج الجوقة السياسية التقليدية يطيب له الحديث المباشر المسدّد نحو وجهته دون مراوغات لفظية، ويتصرّف كحامل هراوة غليظة يهدِّد بها الخصوم والحلفاء، وينجح في إثارة ذهول العالم ودهشته خلال إطلالاته الإعلامية اليومية.

قد لا يبدو لبعضهم أنّ ترامب يكترث بانتقاء مفرداته، رغم أنّه يحرص كلّ الحرص على الظهور في هيئة خشنة شكلًا ومضمونًا لأجل ترهيب الأصدقاء قبل الأعداء وكي "يجعل أميركا عظيمة مجدّدًا"!.

مع إدارة دونالد ترامب، تراجع الالتزام بالأعراف الدبلوماسية والاتفاقات الدولية، إذ فضّلت الإدارة الأميركية آنذاك اعتماد خطاب مباشر وصدامي، واتباع نهج يتجاوز التقاليد السياسية المتّبعة حتى مع الحلفاء المقرّبين. وقد تجلّى هذا التحوّل في التعامل مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي كان حتى وقت قريب يحظى بدعم واسع في واشنطن والعواصم الغربية، قبل أن تنقلب المعادلة، ويظهر خروجه من البيت الأبيض في مشهد حمل دلالات رمزية على تغيّر السياسة الأميركية تجاه شركائها.

اختار ترامب خطاب القوة الصريحة، مع إظهار التفوّق الأميركي بوصفه أداة ضغط على الخصوم والحلفاء على حد سواء، ما عكس توجّهًا جديدًا في السياسة الخارجية يقوم على فرض الإملاءات بدل التفاهمات، وإعادة تعريف العلاقات الدولية من منظور أحادي الجانب.

إعلان

إنّها قيادة جديدة للولايات المتحدة، قائدة القاطرة الغربية، تحرص كلّ الحرص على إظهار السطوة ولا تُلقي بالًا للقوّة الناعمة ومسعى "كسب العقول والقلوب" الذي استثمرت فيه واشنطن أموالًا طائلة وجهودًا مضنية وكرّست له مشروعات وبرامج ومبادرات وخبرات وحملات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

انتفت الحاجة مع النهج الأميركي الجديد إلى ذلك التغليف الإنساني النمطي للسياسات الجائرة والوحشية، حتى إنّ متحدِّثي المنصّات الرسمية الجُدُد في واشنطن العاصمة ما عادوا يتكلّفون مثل سابقيهم إقحام قيَم نبيلة ومبادئ سامية في مرافعات دعم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في قطاع غزة. وبرز من الصياغات الجديدة المعتمدة، مثلًا، ذلك التهديد العلني المُتكرِّر بـ"فتح أبواب الجحيم".

على عكس الحذر البالغ الذي أبدته إدارة بايدن في أن تظهر في هيئة داعمة علنًا لنوايا تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة خلال حملة التطهير العرقي التي مارسها الاحتلال في سياق حرب الإبادة؛ فإنّ ترامب عَقَد ألسنة العالم دهشة وعجبًا وهو يروِّج لذلك التطهير العرقي ويزيد عليه من رشفة الأحلام الاستعمارية البائدة؛ بأن يصير قطاع غزة ملكية أميركية مكرّسة لمشروعات عقارية وسياحية أخّاذة ستجعل منه ريفيرا مجرّدة من الشعب الفلسطيني، و"كَمْ يبدو ذلك رائعًا" كما كان يقول!.

لم تتغيّر السياسة الأميركية تقريبًا في فحواها المجرّد رغم بعض الفوارق الملحوظة التي يمكن رصدها، فما تغيّر أساسًا هو التغليف الذي نزعته إدارة ترامب لأنّها تفضِّل إظهار سياساتها ومواقفها ونواياها في هيئة خشنة.

ما حاجة القيادة الأميركية الجديدة بأن تتذرّع بقيم ومبادئ ومواثيق وهي التي تتباهى بإسقاط القانون الدولي حرفيًا والإجهاز على تقاليد العلاقات بين الأمم وتتبنّى نهجًا توسعيًا غريباً مع الحلفاء المقرّبين في الجغرافيا بإعلان الرغبة في ضمّ بلادهم إلى الولايات المتحدة طوعًا أو كرهًا أو الاستحواذ على ثرواتهم الدفينة ومعادنهم النادرة؟!

إعلان

أسقطت إدارة ترامب في زمن قياسي التزام واشنطن بمعاهدات ومواثيق دولية وإقليمية، وأعلنت حربًا على هيئات ووكالات تابعة لها، وخنقت هيئة المعونة الأميركية "يو إس إيد" التي تُعدّ من أذرع نفوذها وحضورها في العالم، ودأبت على الإيحاء بأنّها قد تلجأ إلى خيارات تصعيدية لم يتخيّلها أصدقاء أميركا قبل أعدائها.

قد يكون العالم مدينًا لترامب بأنّه تحديدًا من أقدم على إنهاء الحفل الخيري المزعوم ونزَع الغلاف الإنسانوي والأخلاقوي الزاهي عن سياسات جائرة ووحشية وغير إنسانية؛ يتجلّى مثالها الأوضح للعيان في حملة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وسياسات التجويع والتعطيش الفظيعة التي تستهدف الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

ذلك أنّ حبكة ترامب في فرض الإملاءات تقتضي الظهور في هيئة مستعدّة للضغط السياسي على مَن لا يرضخون له، بصرف النظر عن نيّته الحقيقية المُضمَرة، على نحو يقتضي التخلِّي عن كلّ أشكال اللباقة والتذاكي التي التزمها القادة والمتحدثون الرسميون في الولايات المتحدة ودول غربية دعمت الاحتلال والإبادة وجرائم الحرب.

أقضّت أميركا الجديدة مضاجع حلفائها وشركائها الغربيين وأربكت خطاباتهم، ولا يبدو أنّ معظم العواصم الأوروبية والغربية مستعدّة للتخلِّي عن الهيئة القيمية التي حرصت عليها في تسويق سياساتها وترويج مواقفها.

يحاول عدد من العواصم الأوروبية إظهار التمايُز عن مسلك أميركا الجديد المُحرِج لسياسات دعم الاحتلال والاستيطان والإبادة والتجويع والتهجير والتوسّع، ما اقتضى إطلاق تصريحات وبلاغات متعدِّدة تبدو حتى حينه أكثر جرأة في نقد سياسات الاحتلال في القتل الجماعي للمدنيين وتشديد الحصار الخانق على قطاع غزة، واستهداف المخيمات في الضفة الغربية وفي توسّع الاحتلال في الجنوب السوري؛ حتى من جانب لندن وبرلين اللتيْن برزتا في صدارة داعمي الإبادة وتبريرها خلال عهد بايدن.

إعلان

لعلّ أحد الاختبارات التي تواجه عواصم القرار الغربي الأخرى هو مدى الجدِّية في مواقفها تلك، المتمايزة عن واشنطن، وهل يتعلّق الأمر بالحرص المعهود على التغليف الذي نزعه ترامب؛ أم أنّ ثمة فحوى جديدة حقًّا قابلة لأن تُحدث فارقًا في السياسات ذات الصلة على المسرح الدولي؟

من المؤكّد على أي حال أنّ غزة التي تكتوي بفظائع الإبادة الوحشية وتتهدّدها نوايا قيادة الاحتلال الفاشية ستكون اختبارًا مرئيًا لتمحيص السياسات ومدى التزامها بالديباجات الأخلاقية والإنسانية التي تتكلّل بها، وأنّ السياسات الجائرة والعدوانية والوحشية صارت مؤهّلة لأن تظهر للعيان في هيئتها الصريحة كما لم يحدث مِن قبْل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • مظاهرات حاشدة في مصر عقب صلاة العيد رفضا لتهجير الفلسطينيين من غزة (شاهد)
  • مظاهرات حاشدة في مصر عقب صلاة العيد رفضا تهجير الفلسطينيين من غزة (شاهد)
  • ماكرون يدعو نتنياهو إلى العودة لاتفاق وقف إطلاق النار بغزة
  • باسل خياط يتصدر بوستر آسر.. هذا موعد عرض “إيزيل” بنسخته العربية
  • عودة: مؤسف أن الشياطين التي أفسدت النفوس وخربت البلد ما زالت متغلغلة وتحول دون الإصلاح
  • بشأن عودة اللاجئين السوريين.. وزير المهجرين يُعلن موقف لبنان الرسمي
  • بعد أن تعرض لخراب ودمار كامل.. شاهد أحدث صور لمطار الخرطوم بعد أن قام الجيش باستلامه
  • جنود احتياط إسرائيليون يوقعون على عريضة لرفض العودة للخدمة في غزة
  • كيف نزع ترامب القناع عن عملية التغليف التي يقوم بها الغرب في غزة؟
  • شاهد بالصورة والفيديو.. طفلة سودانية تبكي فرحة وتفشل في إكمال حديثها بعد اخبارها باقتراب العودة إلى أرض الوطن (الله أكبر أنا مبسوطة حنرجع السودان)