هل التقدم مفهوم معرفي أم تصور أيديولوجي؟
تاريخ النشر: 21st, August 2023 GMT
ليس هناك من ينكر أن الحياة البشرية وقائع من السيرورة التاريخية، والسيرورة التاريخية ما هي إلا أحوال التغير التي تحدث في المجتمع والمعرفة، لكن أحوال التغير متعددة الصور، فإذا انتقل مجتمع من حال فقر إلى حال ثراء بفعل عوامل الصناعة والزراعة والتجارة وتراكم الثروة من ريع المواد الخام، فهذا تغير لأنه انتقال إلى السعادة وتلبية الحاجات والرفاه، ولكن إذا حصل العكس فهو حالة تغير إلى ما هو أدنى.
مرت البشرية بأساليب إنتاج متعددة
صار مصطلح التقدم مصطلحاً أيديولوجياً لا علاقة له بالواقع
فيما مفهوم التطور الذي قدمه داروين يشير إلى الانتقال من البسيط إلى المعقد ومن الأدنى إلى الأعلى، وأخذت العلوم الاجتماعية عن الداروينية مفهوم التطور لتقيس فيه الاختلاف في تطور المجتمعات.
وعليه صار الحديث يجري عن الشعوب البدائية والشعوب المتطورة، وصار معيار التطور هو الأدنى والأعلى في كل مجالات الحياة، فارتبطت بمفهوم التطور العام جملة من المفاهيم الخاصة كالسعادة والمتعة وتلبية الحاجات والنظام السياسي والمؤسساتي وهكذا.
فكل تطور بهذا المعنى تغير نحو الأرقى وليس كل تغير تطوراً.
وفي القرن التاسع عشر ظهر فلاسفة التقدم سبنسر وأوغوست كونت وكوندريسه وماركس، واستمر هذا المفهوم سائداً حتى الآن رغم احتجاج الأنتروبولوجيا عليه والنظر إليه على أنه مفهوم أيديولوجي يجعل من الغرب معياراً للتقدم، وعليه فجميع الشعوب التي لا تمشي على خطى الغرب هي شعوب مختلفة أو متأخرة.
وصار مفهوم التقدم أحد أهم المفاهيم في الأيديولوجيا الشيوعية ـ الماركسية اللينينية.
ولقد سألت رئيس قسم الفلسفة المعاصرة مرة عام 1977 ما هو معيار التقدم؟ فأجاب إنه أسلوب الإنتاج الذي يحدد التشكيلة الاجتماعية.
بلغة مبسطة لقد مرت البشرية بأسلوب الإنتاج المشاعي ثم العبودي ثم الإقطاعي ثم الرأسمالي وأخيراً الاشتراكي.. وهكذا فالعبودية متقدمة على المشاعية، والإقطاعية متقدمة على العبودية، والرأسمالية متقدمة على الإقطاعية، وأخيراً الاشتراكية ومن ثم الشيوعية متقدمة على الرأسمالية.
وهنا سألته هذا يعني بأن اليمن الجنوبي ـوكان اشتراكياً آنذاكـ متقدم على فرنسا وألمانيا الغربية وبريطانيا، أجاب ضاحكاً: بمعيار التقدم هذا صحيح.
وهكذا صار مصطلح التقدم مصطلحاً أيديولوجياً لا علاقة له بالواقع، أي صار الحكم بالمتقدم حكماً قيمياً.
والأنكى من ذلك تحولت أيديولوجياً التقدم عربياً إلى أداة لتقسيم الدول إلى تقدمية ورجعية، بل وتقسيم البشر إلى تقدميين ورجعيين.
وتكمن خطورة مصطلح التقدم في أن كل صاحب أيديولوجيا أو مدافع عن نظام سياسي أو اقتصادي بإمكانه أن يجعل من واقعه معياراً للتقدم.
وليس هذا فحسب، فإذا ما جرى الحديث عن العقل والعقلانية فإنه سيجري خلط الحابل بالنابل حول الوعي فكل صاحب وعي، فرداً أو جماعة، سينظر إلى عقليته بوصفها معياراً للتقدم العقلي.
وإذا دخلنا عالم القيم، وأخضعناه لتقويم مصطلح التقدم فإننا سندخل حقل سجال لا يصل إلى نتيجة، سجال لا تحله إلا مفاهيم التغير والتحول والتطور، فالقيم تتغير بتغير البنى التي أنتجتها، وهذه عملية بطيئة.
فأيديولوجيا التقدم لا تسمح لنا بإصدار الأحكام الموضوعية على السيرورة التاريخية وتعقيداتها.
وحين يجري الحديث عن مسار المعرفة العلمية فإن المفاهيم الصالحة لفهمها هي الاستمرار والقطيعة، الاستمرار الذي يفسر مسار التجديد الدائم في الكشف العلمي، والقطيعة التي تفسر القطيعة المعرفية مع معرفة قديمة، كالقطيعة بين المصباح الزيتي والكهرباء.
وهكذا نجد بأن مصطلح التقدم قد تلوث بالوعي الأيديولوجي ولم يعد مفهوماً مفسّراً للسيرورة المعرفية والاجتماعية والقيمية، وبخاصة إذا راح هذا المصطلح يقرر التصنيف الذي يذم الاختلاف.
إن قولنا هذا لا يلغي التناقض بين الجهل والخرافة من جهة، والمعرفة العلمية والموضوعية من جهة ثانية، تأسيساً على فكرة تغير الأحوال وتطورها.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان النيجر مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة الملف النووي الإيراني متقدمة على
إقرأ أيضاً:
كيف تغير الأقمار الصناعية طريقة رصد الغابات؟
تعد الغابات من أهم الوسائل لمكافحة تغير المناخ، فهي تمتص ثاني أكسيد الكربون وتنظم هطول الأمطار، بالإضافة إلى كونها موطنا لجزء كبير من التنوع البيولوجي. رغم ذلك، لا يزال رصد وفهم عدد كبير من غابات العالم مهمة صعبة حتى باستخدام تقنيات الفضاء المتقدمة. لكن ثمة مشروع جديد قد يُمثّل بداية ما يطلق عليه العلماء "عصر فضاء الغابات".
وعادة ما كان رصد الغابات يعتمد بشكل رئيسي على الفرق الميدانية التي تقوم بقياس الأشجار يدويا، ورسم خرائط التنوع البيولوجي، وتقدير كميات الكربون المخزنة في النظم البيئية، وفق موقع "إيرث".
ورغم أهمية هذه الجهود، كانت العمليات بطيئة وتتطلب جهدا بشريا مكثفا، كما كانت تواجه صعوبة في التضاريس الوعرة أو القيود التمويلية.
وحاليا تُوجّه أدوات علوم الفضاء الحديثة نحو غابات الأرض، وهو جهد عالمي لتغيير فهمنا للغابات عبر النظر إليها من الأعلى.
وفي 29 أبريل/نيسان الجاري، من المخطط أن تطلق وكالة الفضاء الأوروبية مهمة "الكتلة الحيوية"، التي تشمل إطلاق أول رادار يعمل بالنطاق "بي" (P) إلى الفضاء، بحسب المصدر السابق.
إعلانونطاق "بي" هو نوع من الموجات الراديوية التي تُستخدم في تقنيات الرادار، وتحديدا في رصد الغابات باستخدام الأقمار الصناعية.
وتعمل الموجات الراديوية في هذا النطاق على التفاعل مع الأسطح المختلفة في الغابات، مثل جذوع الأشجار والفروع. وبالتالي توفر تفاصيل دقيقة حول بنية الغابات، بما في ذلك حجم الكتل الحيوية والكربون المخزّن في الأشجار.
وتساعد هذه الميزة على تحسين فهم كيفية تخزين الكربون في الغابات، وهو أمر مهم جدا في سياق مراقبة التغيرات المناخية.
ولن تقتصر مهمة "الكتلة الحيوية" على هذه التقنية المتقدمة فقط، إذ سيلتحق بها قريبا القمر الصناعي "نيسار" (NISAR)، وهو مشروع مشترك بين الولايات المتحدة والهند.
ومن المتوقع أن يمكن المشروع العلماء من الحصول على صورة متعددة الطبقات للغابات، بالاستعانة بتقنيات أخرى مثل رادار "جي إي دي آي" (GEDI) التابع لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، وهذا يساعد على رصد الأنماط والاتجاهات المتعلقة بصحة الغابات ونموها وفقدانها.
ضرورة للميدانورغم التقدم الكبير في تكنولوجيا الفضاء، فإن الأقمار الصناعية لا تستطيع القيام بكل شيء. فعلى سبيل المثال، لا يمكن للأقمار الصناعية قياس الكتلة الحيوية بشكل مباشر أو التعرف على أنواع الأشجار من الفضاء، خاصة في الغابات الاستوائية التي تضم آلاف الأنواع المختلفة.
ولذلك من الضروري أن تتكامل بيانات الأقمار الصناعية مع العمل الميداني الدقيق. فالبحث في الغابات الاستوائية، مثل تلك الموجودة في الأمازون، يتطلب جهدا مستمرا من العلماء الميدانيين الذين يقومون بقياس الأشجار، وتحديد أنواعها، وقياس كثافة الكربون في مختلف أجزاء الغابة.
وبسبب هذا التعقيد البيولوجي، لا يمكن للأقمار الصناعية التمييز بين أنواع الأشجار المختلفة من دون مساعدة من العلماء الميدانيين. كما أن بعض الأنواع تتطلب فحصا مباشرا على الأرض لكي يتم تحديدها بدقة.
إعلان