الجزيرة:
2025-01-28@21:52:04 GMT

تخوم النار.. صراع الهند والصين على النفوذ والسيطرة

تاريخ النشر: 27th, January 2025 GMT

تخوم النار.. صراع الهند والصين على النفوذ والسيطرة

"لقد زوَّدتنا جبال الهيمالايا منذ زمن طويل بخط حدودي بديع، ورُغم أنها لم تَعُد سدا منيعا كما كانت دوما، فإنها تظل فعَّالة بصورة لا بأس بها، ومن ثم يجب ألا نسمح باختراق ذلك الحاجز".

جواهرلال نهرو، أول رئيس وزراء للهند

على ارتفاع أكثر من أربعة آلاف متر فوق سطح البحر، وفي ظل وحشة الجبال المحيطة بالوادي، يسود صمت تام ومُعتاد لا يكسره سوى صوت مياه نهر "كلوان" الجارية في الأسفل.

يكسر النهر قيود الجليد هُنا بدءا من مايو/أيار، حيث ترتفع درجات الحرارة إلى الصفر، وتعبره ببضع درجات في النهار، لتجري مياه النهر سريعا وتدُب معها الحركة في وادي "كلوان".

ليس النهر وحده مَن ينتظر قدوم الصيف ليكسر صمت الوادي، فالضباط والمهندسون يهرعون إلى تلك الأرض البعيدة والنائية العام تلو العام، في سباق بارد لبسط سيطرتهم الفعلية على المنطقة الواقعة قُرب الحدود بين الهند والصين: أبرز وأطول حدود دولية لم يُتَّفق على ترسيمها حتى اليوم، وهي حدود يحكمها ما يُعرف بخط السيطرة الفعلية الذي يمتد بطول 4000 كيلومتر بمحاذاة جبال الهيمالايا، بدءا من الشمال عند ولاية كشمير، وصولا إلى أقصى الجنوب الشرقي حيث تلتقي حدود البلدين مع دولة ميانمار.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2حلقات النار.. ماذا سيفعل أحمد الشرع ورفاقه أمام جغرافيا سوريا الملتهبة؟list 2 of 2هل تجتمع الصين والهند في قارب واحد ضد ترامب؟end of list إعلان

بينما خيَّم الظلام على الوادي في ليلة السادس عشر من يونيو/حزيران 2020، عثرت دورية للجيش الهندي على قوة صينية حدودية كان من المفترض أنها أتممت انسحابها من موقعها قبل أيام بعد أن ثبت وجودها بولاية لداخ الهندية لا منطقة التبت الصينية. كان ظهور القوة في موقعها نفسه من جديد مفاجأة تَوجَّه على إثرها عقيد هندي وجنوده لمطالبة القوة الصينية بالانسحاب، لكنَّ عراكا عنيفا بالأيدي سرعان ما اندلع وأحدث إصابات طفيفة، قبل أن تنجح القوة الهندية في تهدئة الأوضاع وتفكيك النقطة الصينية وإجبار الصينيين على العودة إلى موقعهم المُتَّفَق عليه.

بينما وقفت القوة الهندية تراقب المنطقة، لاحت في الأفق تعزيزات من الجنود الصينيين قادمة تجاههم، فتجمَّع على إثرها مئة جندي هندي واتجهوا للموقع الصيني لوقف تقدُّمِهم، لينشب عراك آخر أكثر دموية بالأحجار والأسلاك الشائكة والعصيان الحديدية سقط على إثره بعضهم في النهر، ولقي آخرون حتفهم تأثُّرا بجراحهم في ذلك البرد القارس. فقَد الجيش الهندي 20 من رجاله، وفقد الجيش الصيني أربعة جنود. كان ذلك أول اشتباك تنجُم عنه خسائر في الأرواح منذ عام 1975، وأكثر الاشتباكات دموية منذ عام 1967، لكنَّ أيًّا من تلك الاشتباكات المحدودة لم تكن كافية لإجبار البلدين على ترسيم الحدود بصورة نهائية.

في 21 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقبل لقاء بين زعيمي البلدين، أعلنت الصين والهند توصلهما إلى اتفاق بشأن الحدود المتنازع عليها يتضمن تسيير دوريات مراقبة، فيما بدا أنه مقدمة لترسيم الحدود بين البلدين في المستقبل. على طول الحدود غير المُرسَّمة، التي تبادل عبرها الطرفان المناوشات طيلة الأعوام الماضية، تبادل الجنود الصينيون والهنود الحلوى بعد أسبوع تقريبا بمناسبة عيد ديوالي الهندوسي، فيما عُدَّ بادرة طيبة لإنجاح الاتفاق الموقَّع، الذي لم يتطرق لأي تفاصيل صريحة، ولا يُنظر له على أنه تهدئة سياسية أكثر منه بادرة لحل الصراع التاريخي العالق منذ استقلال البلديْن.

إعلان

من جانبها، ترغب الصين أن يمهد الاتفاق الطريق لتحسين العلاقات مع الهند، وتسهيل اختراق السوق الهندي الضخم استعدادا لحرب ترامب التجارية المنتظرة ضد بكين، خاصة أن الخلافات السياسية لم تمنع الأخيرة من الاحتفاظ بموقعها بوصفها أكبر شريك تجاري للهند بإجمالي تجارة ثنائية بلغت 118.4 مليار دولار عام 2023.

سياسيا، لا يشعر الصينيون بقلق كبير ناحية جيرانهم، وهم يرون أنفسهم قوة كُبرى على الصعيد العالمي، لا مجرد قوة إقليمية آسيوية شأن الهند، لكن في المقابل، فإن الهند هي مَن تشعر بالضغط نتيجة للنفوذ الصيني المتزايد في جنوب وشرق آسيا، وتحركات بكين غير المتوقعة لتأكيد نفوذها في محيطها الإقليمي، وهو ما يجعل مسألة ترسيم الحدود الهندية الصينية أكثر إلحاحا في نيودلهي مقارنة ببكين. المؤكد أن الطرفين لديهما توقعات مختلفة بشأن مسألة الحدود، وأن طريقا طويلا لا يزال ينتظرهما قبل الوصول إلى حل نهائي.

مقدمة الصراع (الخريطة التأسيسية)

كما يشي اسمه، تحرَّك خط السيطرة الفعلية باستمرار وفقا لسيطرة البلدين الفعلية على الأرض، وهي سيطرة كانت ولا تزال مرهونة بالتحركات العسكرية البطيئة من كل طرف لحيازة الأرض المرتفعة والوعرة، وإخضاعها للرقابة والدوريات العسكرية دون أن يلحظ الطرف الآخر، وكذلك بمشاريع البنية التحتية كالطرق والجسور التي أعاقتها الطبيعة القاسية والكثافة السكانية المنخفضة للمنطقة. وفي المُجمل، لا يزال كلٌّ من الجيشين يُبقي نحو مئة ألف جندي عند نقاط مختلفة على طول خط السيطرة حتى اللحظة.

ويدور النزاع بالأساس حول مساحتيْن كبيرتين نسبيا وعدد أصغر من الأراضي ذات الأهمية الإستراتيجية للبلدين. أولاهما مقاطعة أكساي تشين، التي تديرها الصين بوصفها جزءا من مقاطعتَيْ شينجيانغ والتبت ذاتيتَيْ الحكم وتطالب بها الهند بوصفها جزءا من إقليم لداخ الاتحادي. المنطقة الأخرى المتنازع عليها تقع جنوب خط مَكماهون، وهي الآن ولاية أروناتشال براديش في الهند. وخط مكماهون هو جزء من اتفاقية سيملا لعام 1914 الموقعة بين الهند البريطانية والتبت، دون موافقة الصين، ولا تعترف الصين بالاتفاقية، وتقول إن التبت لم تكن مستقلة أبدا عندما حضرت مؤتمر سيملا.

 

 

تاريخ الصراع: "من الأخوة إلى العداء"

لسنوات، كان شعار "هندي تشيني بهاي بهاي" أو "الهنود والصينيون إخوة" هو المُعبِّر الأبرز عن العلاقات الصينية الهندية منذ إعلان نشوء الجمهوريتين، عقب استقلال الهند عن بريطانيا عام 1947، وانتصار ماو تسي تونغ ورفاقه من الشيوعيين على القوميين في الصين عام 1949. وقتها، طغت حماسة التخلُّص من الاستعمار وقيام الشعوب الآسيوية من سُباتها على أي اعتبارات واقعية أمكن معها قيام صراع بين البلدين، أو هكذا ظن الهنود على الأقل، فقد حفلت لقاءات نهرو، رئيس وزراء الهند الأول بعد الاستقلال، وتشو إن لاي، رئيس وزراء الصين في ذلك الوقت، بزخم الاعتراف المتبادل في المحافل الدولية والوحدة الآسيوية دون أن تتطرَّق جديًّا للمسائل الحدودية.

إعلان

لكن فيما يبدو، كان نهرو وحده مَن امتلك ذلك الإيمان الرومانسي الراسخ بالوحدة الآسيوية بوصفه قائدا شكّلته معركته السياسية مع الاستعمار البريطاني، في حين ارتكزت رؤية القادة الصينيين، ماو تسي تونغ وتشو إن لاي، على رؤية أكثر واقعية للقوة الصينية، شكّلتها حرب أهلية طويلة مع إخوة لهم من البلد نفسه، انغمسوا خلالها في جغرافيا الصين السياسية والمحددات العسكرية لحمايتها وبسط الحُكم عليها. بينما شُغِل نهرو بالترويج لتلك الصداقة في مطلع الخمسينيات، كانت الصين منشغلة بملف هضبة التبت وترسيخ سيطرتها هناك بعد أن استحوذت عليها عام 1951، ومن ثمَّ شرعت سلطات الدولة الصينية بالعمل في صمت لتمد شبكة الطرق إلى تلك الهضبة الوعرة.

لسنوات طويلة تمدَّدت السيطرة الصينية داخل منطقة "أكساي تشين"، الواقعة في شمال الهند حتى ذلك الوقت طبقا لـ"خط جونسون" البريطاني الذي رفضت الصين الاعتراف به، بل ولم تتمسك به الهند نفسها لصعوبة الوصول إليه، فلم يُرفَع فيه علم الهند قط. بدأت الصين بتدشين طريق سريع يمر عبر "أكساي تشين" ليربط بين شينجيانغ (تركستان الشرقية) وولاية التبت في تلك الفترة، دون أن تلحظ السلطات الهندية في زمن لم يكن يعرف بعد الأقمار الصناعية والرصد عن بُعد.

لم تكن ثمة طرق معبَّدة تقريبا تربط بين الصين والتبت عام 1951، بل كانت الطرق القديمة بينهما ثلاثة فقط منحتها الطبيعة لمَن يرغب بصعود الهضبة من الأراضي الصينية؛ من الشمال الشرقي عبر ولاية تشينغهاي (استخدمه المغول وقت غزواتهم)، ومن الشرق عبر سيتشوان، ومن الشمال الغربي عبر مدينة قشغر التركستانية مرورا بصحراء "أكساي تشين" الباردة والمرتفعة وشبه الخالية من السكَّان. افتُتِح طريقان سريعان -بين تشينغهاي والتبت، وبين سيتشوان والتبت- عام 1954، ويظل الأول حتى اليوم شريان الحياة الرئيسي الأكثر استخداما للدخول والخروج من التبت.

إعلان

رغم نجاح هذين الطريقين، تمتَّع الطريق الطبيعي المار عبر أكساي تشين بمزايا عديدة، أهمها صعوده التدريجي وصولا لارتفاع الهضبة (نحو 4600 متر) وثباته من بعد ذلك بشكل مستوٍ، على العكس من طريق سيتشوان-التبت مثلا، المليء بالانعطافات حول الجبال وبين الوديان، والذي يصعد ويهبط مرات عديدة حتى يصل إلى العاصمة التبتية لاسا. علاوة على ذلك، تعاني الطرق الشرقية من هبوط كثيف للأمطار والثلوج سنويا، مما يعقِّد مهمة صيانتها وإبقائها مفتوحة طوال العام، في حين تتسم "أقساي تشين" بمعدل هبوط ضئيل للمطر والثلج رغم شتائها القارس.

مع الوقت، أصبحت صحراء "أكساي تشين" نقطة جغرافية مهمة لقبضة الصين في التبت بالنظر إلى سهولة نقل القوات عبر مدن التبت الحدودية طوال العام، ومن ثم ضمان إمداد لا ينقطع للجيش الصيني في الهضبة، وكذلك حماية منطقة الحدود مع الهند حال نشوب صراع معها، صراع لم تتصوَّره الهند أبدا، لكن الصين كانت تسير نحوه ببطء.

خريطة للحدود المشتركة بين الهند والصين (الجزيرة)

على الجانب المقابل، علمت الهند باختراق الصين لخط جونسون مرارا وتكرارا بدورياتها العسكرية منذ مطلع الخمسينيات، لكنها اختارت تجاهل الأمر، لا سيَّما أنها لم تمتلك آنذاك إمكانية بسط سيطرتها على تلك الأرض البعيدة. ولا نعرف حتى اليوم ما إن كان ذلك جزءا من ترجيح أهمية العلاقات مع الصين على حيازة تلك الصحراء من جانب الهند، أم تقليلا من شأن الاختراقات الصينية المؤقتة كما رآها الهنود لتعزيز حكم الصين في التبت، لكن الافتتاح الرسمي لطريق قشغر-لاسا الثالث الذي ربط الصين بالتبت عام 1957 أحدث صدمة في دلهي بدأت معها بوادر تغيُّر في السياسة الهندية؛ تغيُّر أتى متأخرا على ما يبدو.

فطنت الهند أخيرا إلى خطورة سياسات الحزب الشيوعي وحقيقة نِيَّاته تجاه التبت والحُكم الذاتي الذي مُنِحَت إياه المنطقة بالنظر إلى تقاليدها البوذية. لذلك، في عام 1959، بينما اشتعلت انتفاضة لسكان التبت ضد السلطات الصينية، اتخذت الهند خطوة رمزية وجريئة في آنٍ واحد باستضافتها لزعيم التبت الروحي الدالاي لاما، ليصبح لاجئا في مدينة دارمسالا شمالي الهند حتى يومنا هذا. منذ تلك اللحظة غضّت الهند الطرف عن المساعدات السرية التي أرسلتها الولايات المتحدة إلى سكان التبت، لتبدأ فعليا سياسة هندية جديدة في الظهور من تحت مظلة مثاليةِ عدم الانحياز والصداقة الآسيوية.

إعلان

في العام نفسه، بدأت الاحتكاكات على الحدود غير الواضحة، فاصطدمت قوتان هندية وصينية بقرية "لونغجو" في الجنوب الشرقي للهيمالايا، وبعد شهرين اصطدمت قوتان مجددا عند نقطة "كونغكا لا" جنوب "أكساي تشين" مرت بها دورية شرطة هندية قبل أن يُطلق الصينيون النار عليها مخلفين تسعة قتلى.

تباعا، تبنَّى نهرو ما عُرِفَ بـ"سياسة التقدُّم"، أي بناء نقاط حدودية هندية في كل الجيوب الصغيرة المتنازع عليها بوصفها نوعا من إعلان تمسُّك الهند بمواقعها على خط السيطرة الفعلية. لكن على الأرض، كانت سياسة كتلك بحاجة إلى قوة عسكرية صلبة تقف وراءها، قوة لم تمتلكها الهند التي ورثت جيشا لم تصقله حروب كبرى بالصورة نفسها التي صقلت بها نظيره الصيني. ومع تقدُّم الهند عبر نقاطها وتقدُّم الصين بمواجهتها، بالتوازي مع انخراط الهند في قضية التبت، استشعرت بكين أنها باتت في خطر، وفي وقت كانت تتعرَّض فيه للضغوط الأميركية في كوريا وفيتنام، قرّرت أن ترُد بحسم على أي طرف أراد فتح جبهة ثالثة.

في عام 1962، أتى الرد قاسيا بحرب لم يتوقعها الهنود شنّها الجيش الصيني شمالا وجنوبا، وتلقّت فيها الهند الهزيمة الأسوأ منذ استقلالها، وفقدت فيها "أكساي تشين" بكاملها وولاية أروناتشال في الشمال الشرقي، قبل أن ينسحب الصينيون من الأخيرة بعد نهاية الحرب. منذ تلك اللحظة وخط السيطرة الفعلية هو تقريبا خط 1962، وقد جرت المفاوضات باستمرار حوله بدءا من الثمانينيات، وحظي بنوع من الاعتراف القانوني حين ذُكِر في اتفاقات بين الطرفين أُبرمت عامي 1993-1996، لكن هذا الاعتراف لم يرق أبدا لمرتبة الترسيم الرسمي للحدود، كما لم ينجح في إيقاف المناوشات الحدودية بين البلدين، فضلا عن سباق البنية التحتية على المناطق الحدودية.

طبيعة الصراع وميزان القوى: "حرب البنية التحتية"

في أغسطس/آب عام 2013، حلَّقت طائرة النقل العسكرية "C130J" التابعة لسلاح الجو الهندي نحو "دولت بك أولدي" المرتفعة، والواقعة على مقرُبة من خط السيطرة الفعلية، لتلمس عجلاتها الأرض بسلام في أعلى مهبط للطائرات في العالم. "إنه استعراض متميِّز لقدراتنا.. سنكون في موقع أفضل لتلبية احتياجات القوات البرية المعتمدة على الجسر الجوي في تلك المناطق العالية والخالية من السكان"، هكذا أشار بيان القوات الجوية الهندية، مشيرا بوضوح إلى أن الهبوط تمَّ في منطقة "أقساي تشين".

إعلان

ما من أحد يقطن تلك النقطة، التي لا تحوي سوى مهبط الطائرات والمنشأة العسكرية المحيطة به، والسبب بالطبع جوُّها القارس الذي أردى أحد ملوك المغول قتيلا في عودته من إحدى الغزوات مانحا النقطة اسمها: "دولت بك أولدي"، وتعني بالتركية "مات أمير الدولة".

لم تنسَ الهند أبدا هزيمتها المذلة عام 1962، وخططت طويلا لتعزيز وجودها بمحاذاة الولاية التي تطمح يوما في استعادتها. أحد أبرز المشروعات الهندية في هذا النطاق هو مشروع طريق يربط نقطة "دولت بك أولدي" الواقعة قرب خط السيطرة الفعلية بمدينة "لِه" عاصمة لداخ. ويسير الطريق الجديد المُفتَتَح عام 2019 بالقُرب من خط السيطرة في معظم أجزائه، وبفضله باتت الرحلة من "لِه" إلى "دولت بك أولدي" تستغرق ست ساعات فقط بدلا من يومين.

لم تتوقف مشروعات الهند عند ذلك الطريق، بل امتدت مؤخرا إلى ربط المنطقة بوادي "كلوان" عبر جسر يعبر النهر، ويقف قبل خط السيطرة بسبعة كيلومترات ونصف؛ الأمر الذي دفع بالصينيين للاعتراض في جولات التفاهمات المعتادة بين البلدين. ويُعَدُّ وادي كلوان تحديدا مصدر قلق لبكين، لأنه النقطة الوحيدة التي تمنح وصولا مباشرا إلى "أكساي تشين" بالمقارنة مع بقية المحيط الوعِر لتلك الصحراء المرتفعة.

 

ردا على ذلك، قررت الصين عبور الخطوط المتَّفَق عليها، واحتلت عام 2020 منطقة تصل مساحتها إلى خمسين كيلومترا مربعا فيما يُعَدُّ جزءا من ولاية لداخ الهندية، كما زادت من أعداد القوات بشكل غير معتاد في الدوريات الحدودية، وشرعت في بناء طرق وثكنات جديدة تبين أنها لم تكن مؤقتة. بدأت الاحتكاكات بين الطرفين في مايو/أيار حين منعت دورية صينية نظيرتها الهندية من العبور قُرب بحيرة "بانغونغ" التي اعتاد الطرفان تبادل الأدوار حولها، قبل أن تقوم بالتصعيد المضاد بالتوازي مع إعلان سيادتها على وادي "كلوان" كاملا، بل وأشارت تقارير صحافية عدة إلى أنها تحاول تغيير مجرى نهر "كلوان" لحيازة المزيد من الأرض.

إعلان

جاء رد الهند عن طريق مهندسيها لا جنودها، إذ أصدرت هيئة الطرق الحدودية أوامرها بإنهاء أعمال الجسر الدائم فوق نهر "كلوان"، معلنة تمسُّكها بالمشاريع التي لاقت اعتراض الصينيين، وحقها في تعبيد أي منطقة تقع في نطاق السيطرة الهندية. بعد ثلاثة أيام من الحادث الذي وقع في شهر مايو/أيار، افتُتِح الجسر بالفعل، الذي سيتيح نقلا أسرع للقوات بما في ذلك المركبات والدبابات، إلى عُمق الوادي، وسيُشكِّل خط حماية إضافيا لطريق "دولت بك أولدي" المعرَّض للخطر حال نجحت مساعي الصين للسيطرة على الوادي.

بيد أن وادي "كلوان" ليس نقطة الصراع الساخنة الوحيدة بين البلدين، بل ثمة نقطة أخرى تبعد نحو ألفي كيلومتر إلى الجنوب الشرقي بمحاذاة الهيمالايا أيضا، وهي تجلب مملكة بوتان الهادئة والصغيرة إلى ساحة الصراع بين العملاقين.

إنها هضبة دوكلام، الواقعة داخل بوتان والمتاخمة لحدودها مع الصين، والمُتنازع عليها هي الأخرى وفق الادعاءات الصينية، حيث ترغب الصين في الاستحواذ عليها مقابل التنازل عن بقية ادعاءاتها في شمال بوتان، في حين تُشكِّل الهند ضغطا كبيرا على بوتان لكيلا تفرِّط فيها. وبوتان بالطبع هي الدولة الأقرب للهند في المنطقة، وتحوي أراضيها المئات من ضباط الجيش الهندي لحمايتها، على العكس من نيبال صاحبة العلاقات المتأرجحة بين بكين ودلهي، التي توتَّرت علاقاتها مع الهند بسبب خلافات حدودية صغيرة.

تكمُن أهمية هضبة دوكلام في نُقطة تلِّ "زمفري" الذي سيسمح لمَن يسيطر عليه بالقدرة على التحرُّك العسكري اليسير نزولا من التل ونحو ممر سيليغوري المحوري للهند. وممر سيليغوري هو شريط ضيق يبلغ عرضه 22 كيلومترا داخل الأراضي الهندية، ويربط بينها وبين ولاياتها السبعة الصغيرة الواقعة في الشمال الشرقي، التي يرتبط بعض قاطنيها ثقافيا ولغويا بميانمار والتبت، لتصبح تلك المنطقة بمنزلة "التبت" الهندية من حيث حساسيتها الجغرافية والديمغرافية. ومن ثمَّ فإن سيطرة الصين على تلك النقطة كانت ولا تزال خطا أحمر في إستراتيجية الهند، إذ يستطيع الجيش الصيني بسهولة أن يسيطر على ممر سيليغوري إذا تمركز فيه عسكريا.

إعلان

مِن جهته، شرع الجيش الصيني بالتمدُّد الصامت كعادته عبر المناطق التي يدَّعي السيادة عليها دون سيطرة فعلية، وبدأ في يونيو/حزيران 2017 بمد شبكة الطرق الصينية داخل هضبة دوكلام مقتربا من تل زمفَري، مما دفع بالجيش الهندي لتحريك قواته ووقف أعمال البناء قبل أن تدخل إلى أراضي بوتان. تلت تلك الواقعة زيادة في التعبئة العسكرية على جانبي الحدود الصينية الهندية، فقد رصدَت الأقمار الصناعية نقل صواريخ الدفاع الجوي الصينية "HQ-9" قُرب المنطقة آنذاك، وتدشين ممر جديد لهبوط الطائرات وثمانية مهابط للمروحيات، وزيادة الحركة العسكرية في قاعدة لاسا.

أما الهند، فعزّزت حينها من تجهيزات قاعدتيها الجويتين الأقرب لدوكلام (هاسيمارا وسيليغوري)، ونقلت لهما طائرات سوخوي المقاتلة، والمزوَّدة بإمكانية إطلاق صواريخ "براهموس" المطوَّرة بالاشتراك مع القوات الروسية.

تقييم الصراع والاستشراف: "صراع بارد يشتعل على فترات"

على امتداد آلاف الكيلومترات، وبارتفاع آلاف الأمتار، يستمر الصراع البارد إذن بين الهند والصين من أجل السيطرة على ما أمكن السيطرة عليه من أودية وتلال في تخوم الهيمالايا.

إنه صراع يعكس سباقا جيوسياسيا بين قوتين صاعدتين، ليُعيد إلى الأذهان صراعات القوى الأوروبية قبل الحرب العالمية، وثيقة الارتباط بالأرض عموما والبنية التحتية خصوصا، وهو صراع يشي كذلك بمكامن الهشاشة المستمرة لدى الدولتين في ترسيخ حُكمهما على مناطق وعرة جغرافيا، لا يزال سلطان الدولة الحديثة -الصينية كانت أم الهندية- عاجزا عن الهيمنة الشاملة عليها، ومناطق منفصلة ديمغرافيا أيضا بأعراقها ومذاهبها المتنوِّعة، والمختلفة عن الكُتل السكانية الرئيسية للصين والهند.

يتراقص خط السيطرة الفعلية في مساحة تبدو عالقة إستراتيجيا في القرن العشرين، وستظل عالقة فيه وفي حساباته الباردة واشتباكاته العسكرية الكلاسيكية لوقت طويل. لا مكان هُنا بالطبع إلى السلاح النووي، ليس فقط لأن كلتيهما تملكه وبالتالي تسري عليهما قاعدة الردع المتبادل، بل لأن استخدامه في تلك المرتفعات النائية عديم الجدوى؛ فلا أحد يريد ضجيجا أو تدميرا ليُجبر الآخر على الخضوع، بل إن البناء في صمت وتعزيز المواصلات والاتصالات لُب الصراع في تلك المنطقة.

إعلان

الصراع هُنا أشبه بسباق سيارات لا بمباراة ملاكمة، فالمطلوب صناعة سيارة كفء وعبور خط النهاية أولا، لا خسارة الخصم بضربة موجعة، وإن كان الضرب أثناء السباق مشروعا كما أثبتت حرب 1962.

يظل احتمال الحرب المفتوحة ضعيفا، ولكن يظل ترسيم الحدود في إطار تسوية شاملة احتمالا أضعف رغم الاتفاق الأخير بين الطرفين الذي يشي غياب التفاصيل حوله بحجم الخلاف بينهما. لوقت طويل، سيمضي البلدان في صراعهما البارد والمحدود لأنه ببساطة يواكب رغبة كلٍّ منهما في التشكيل المستمر لبنية المناطق الخاضعة لسيطرته الحديثة، وربما الرغبة في حيازة أراضٍ جديدة كما تكشف التحرُّكات الصينية في السنوات الأخيرة.

في يونيو/حزيران 2020 كانت الأحجار وعصي الحديد سلاحا كافيا لتشتعل اشتباكات وادي كلوان، وتودي بحياة عشرات من جنود البلدين، في رمزية تشي بمدى "كلاسيكية" الصراع المستمر حول الهيمالايا: المنطقة الوحيدة في العالم اليوم التي يمكن أن يبدأ فيها اشتباك عسكري باللكمات.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات أبعاد الهند والصین الجیش الصینی بین البلدین بین الهند الصین فی هندیة فی جزءا من ت الهند ومن ثم فی تلک قبل أن لم تکن

إقرأ أيضاً:

قصة «DeepSeek» الصينية التي هزت عرش عمالقة التكنولوجيا


أبوظبي (الاتحاد)
بكين (أ ف ب) تربع «ديبسيك» DeepSeek، وهو تطبيق دردشة يعمل بالذكاء الاصطناعي تطوره شركة صينية ناشئة، على قمة قوائم التنزيلات على متجر التطبيقات «آب ستور»، مثيراً دهشة المحللين بقدرته على مضاهاة أداء منافسيه الرئيسيين في الولايات المتحدة. يُحدث «روبوت الدردشة» هذا حالياً ضجة كبيرة في قطاع التكنولوجيا الفائقة، خصوصاً لدى الشركات الأميركية العملاقة، مثل «إنفيديا» و«ميتا»، والتي أنفقت مبالغ ضخمة للهيمنة على قطاع الذكاء الاصطناعي المزدهر. صُمّم برنامج «ديبسيك» بوساطة شركة ناشئة مقرها في هانغتشو (شرق الصين)، وهي مدينة معروفة بأنها تضم عدداً كبيراً من شركات التكنولوجيا. وهو متاح للاستخدام كتطبيق هاتفي أو على أجهزة الكمبيوتر، ويوفر الكثير من الميزات المشابهة لتلك التي تقدمها تطبيقات المنافسين الغربيين: ككتابة كلمات الأغاني، والمساعدة في التعامل مع المواقف اليومية أو حتى اقتراح وصفة طعام تتناسب مع محتويات الثلاجة. يمكن لروبوت الدردشة «ديبسيك» التواصل بلغات عدة، لكنه أوضح لوكالة فرانس برس أنه أكثر كفاءة في اللغتين الإنجليزية والصينية. ورغم أنه يتشارك القيود نفسها مع الكثير من برامج الدردشة الآلية الصينية، فإن أداءه، سواء في كتابة شيفرات معقدة أو حل مسائل رياضية صعبة، قد فاجأ الخبراء. وقال الرئيس التنفيذي لشركة «سكيل إيه آي» الأميركية ألكسندر وانغ لشبكة «سي إن بي سي» التلفزيونية «ما لاحظناه هو أن ديبسيك كان أفضل أو قدّم أداءً متساوياً مع أفضل النماذج الأميركية». وبحسب ورقة بحثية تشرح بالتفصيل عملية تطوير النموذج، جرى تدريب «ديبسيك» باستخدام جزء بسيط فقط من الرقائق التي يستخدمها منافسوها الغربيون. وقالت شركة ديبسيك إنها أنفقت 5.6 مليون دولار فقط لتطوير نموذجها، وهو مبلغ زهيد مقارنة بالمليارات التي استثمرتها شركات التكنولوجيا العملاقة في الولايات المتحدة. وتراجعت أسهم شركات التكنولوجيا الكبرى في الولايات المتحدة واليابان وسط التحدي الذي فرضته شركة «ديبسيك». مفتوح المصدر تعتمد «ديبسيك»، مثل منافسيها الغربيين «تشات جي بي تي» أو «لاما» أو «كلود»، على نموذج لغوي كبير (LLM)، تم تدريبه من كميات هائلة من النصوص، لإتقان التفاصيل الدقيقة للغة الطبيعية. لكن على عكس منافسيه الذين يطورون نماذج خاصة بهم، فإن «ديبسيك» مفتوح المصدر، وهذا يعني أن شيفرة التطبيق متاحة للجميع، ما يسمح لهم بفهم كيفية عمله وتعديله. وكتب رئيس الأبحاث في شركة إنفيديا جيم فان عبر منصة إكس «تواصل شركة غير أميركية تنفيذ مهمة أوبن إيه آي الأصلية - البحث المفتوح المتطور الذي يعود بالنفع على الجميع». وتقول «ديبسيك» إنها «رائدة في مجال نماذج المصدر المفتوح» وتتنافس مع «أكثر نماذج الملكية تقدماً في العالم».

أخبار ذات صلة الشارقة يُكمل «مربع الذهب» في كأس رئيس الدولة عبدالله بن زايد: "عام المجتمع" دعوة للجميع لترسيخ القيم المصدر: آ ف ب

مقالات مشابهة

  • خبير أمن معلومات: المنافسة بين "ديب سيك" و"ChatGPT" صراع سياسي بين الصين وأمريكا
  • السفارة الهندية تحتفل باليوم الجمهوري السادس والسبعين
  • سعود بن صقر: تعاوننا مع الشركات الهندية يفتح آفاقاً جديدة للاستثمار
  • سعود بن صقر يشهد ملتقى الشراكة الإماراتية الهندية في رأس الخيمة
  • كيف يؤثر طرح «ديب سيك» على صراع أمريكا والصين في مجال الذكاء الاصطناعي؟
  • الهند والصين تستأنفان الرحلات الجوية المباشرة بعد توقفها 5 سنوات
  • قصة «DeepSeek» الصينية التي هزت عرش عمالقة التكنولوجيا
  • بعد توقفها 5 أعوام..الهند والصين تستأنفان الرحلات الجوية المباشرة
  • بعد 5 سنوات توقف .. الهند والصين تتفقان على استئناف الرحلات المباشرة