شهادة حول عصر مضطرب من تاريخ تونس المعاصر.. كتاب جديد
تاريخ النشر: 27th, January 2025 GMT
صدر مؤخرا عن الدار المتوسطية للنشر بتونس كتاب من الحجم الكبير، من 550 صفحة، يحمل عنوان: "أقواس من حياتي" للكاتب والاعلامي والناشط السياسي والحقوقي التونسي المستقل صلاح الدين الجورشي. وقد برز الجورشي منذ عقود بحضوره الفكري والإعلامي العربي وبمساهماته في القنوات التلفزية والمجلات والصحف التونسية والعربية عديدة بينها مجلة 15*21، التي أسسها مع المفكر احميدة النيفر ورفاقه من مجموعة "الإسلاميون التقدميون في تونس" في الثمانينات، وصحيفة "الرأي" المعارضة وجريدة الصباح اليومية ثم مجلتي حقائق والمغرب الأسبوعيتين.
هذا الكتاب اختار له مؤلفه أسلوب "كتاب المذكرات والشهادات"، وهو يقدم سردية شخصية عن أكثر من نصف قرن من الحراك الفكري والثقافي والحقوقي والسياسي في تونس وفي كامل المنطقة العربية الإسلامية .
وبحكم خصوصية التجارب الفكرية والسياسية والإعلامية التي مر بها الجورشي خلال الخمسين عاما الماضية، قدم الكتاب قراءة نقدية وتأليفية للأدوار التي لعبها مع عدد من رموز النخب التونسية من عدة تيارات وانتماءات في قطاعات الإعلام والنضال من أجل الحريات وحقوق الإنسان والتعددية الفكرية والسياسية .
كما قدم الكتاب شهادات مكتوبة شخصية نادرة عن دوره وعدد من رفاقه مرحلتي التأسيس والتفعيل لـ "التيار الإسلامي التونسي الحركي الجديد" ثم تيار "الإسلاميين التقدميين" و"اليسار التونسي والعربي الحقوقي المعتدل" وجمعيات ثقافية وحقوقية محلية وإقليمية ودولية كان من بينها جمعية منتدى الجاحظ والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وشبكات للديمقراطيين في العالم العربي والفضاء الأورومتوسطي.
رسائل إلى النشطاء الإسلاميين والعلمانيين
وإذا كان كتاب الجورشي حاول أن يقترب أكثر من القارئ بأسلوبه الجميل والخفيف وتجنب تعقيدات الدراسات الفكرية المعمقة، فقد بدأ واضحا أنه حرص على أن يبلغ رسائل ثقافية وسياسية بالجملة أغلبها موجه إلى النخب التي كان قريبا جدا منها أو خاض معها معارك فكرية وإعلامية وسياسية أي النخب الإسلامية وخاصة "الاخوانية" و"السلفية" من جهة، والنخب والماركسية اللينينية والتيارات "الحداثية الاستئصالية" التونسية والعربية من جهة ثانية.
كان كتاب "أقواس من حياتي" للجورشي وثيقة فكرية سياسية تأريخية تأليفية حاولت "توظيف الشهادات الشخصية ذات الصبغة التاريخية" لتقديم قراءة لتطورات تونس والمنطقة بعد انتفاضة شبابها في العقد الأول من القرن الحالي وخاصة أواخر 2010 ومطلع 2011 ضمن ما عرف بـ "ثورات الربيع العربي".ولعل من أهم ما قد يفيد الباحثين والأجيال القادمة في هذا الكاتب خصص فقرات عديدة لتقديم "سردية نقدية" لتجاربه وعدد من الزعماء "المؤسسين" للحركات الإسلامية التونسية من جماعة الدعوة والتبليغ إلى الجماعة الإسلامية ("الإخوانية") وحركات الاتجاه الإسلامي والنهضة و"اليسار الإسلامي" و"التيار الإسلامي التقدمي" في تونس ومصر والمنطقة منذ تأسيس مجلتي "المسلم المعاصر" ثم "اليسار الإسلامي" في مصر وبروز كتابات ومفكرين مثيرن للجدل بينهم فتحي عثمان وجمال الدين عطية وحسن حنفي ومحمد عمارة وغيرهم من المتحفظين على "القراءات المحافظة والماضوية والسلفية المتشددة للاسلام دينا وتراثا وفكرا"..
تأسيس المعارضات في تونس والمنطقة
لكن الكتاب قدم في نفس السياق معلومات وشهادات مهمة عن جوانب عديدة في مسار تأسيس المعارضة التونسية والمغاربية والعربية الليبيرالية واليسارية والإسلامية المعتدلة خلال العقود الماضية، مع التوقف عند بعض مظاهر"الانغلاق الفكري والسياسي والحزبي" التي برزت في نفس الوقت داخل بعض الحركات والأحزاب الإسلامية واليسارية المتشددة والمجموعات "الحداثية الاستئصالية ".
وكانت هذه المجموعات بقية أسيرة "العقل الحزبي" و"القوالب الأيديولوجية الجاهزة". ولم ينجح بعضها في التحرر من عقدة "المدرسة اللائكية الفرنسية المتشددة" التي برزت مطلع القرن العشرين ولا في الانخراط في القيم التعددية الكونية التي تبنتها "العلمانية الديمقراطية الانقلوسكسونية".
طرائف.. واستنتاجات
ومن بين ما ميز الكتاب أن مؤلفه تعمد، على غرار ما عرف به في بعض كتاباته الصحفية ومداخلاته، أن يمزج الجد بشيء من الهزل وتقديم بعض "الطرائف والنوادر"، بدءا من حديثه عن "الفأر" الذي اكتشفه في مستودع للأرشيف في شركة النقل التي بدأ مساره المهني فيها شابا، قبل أن ينتقل إلى عالم الصحافة. وكان وقتها مكلفا بكتابه تقرير عن أوضاع الحافلات العمومية كان مطالبا بتسليمه لمسؤول الأرشيف .
فتساءل بينه وبين نفسه: هل قدر له أن يقضى حياته في تلك المهنة يوفر" للفأر" ما يحتاجه من ورق ليقضمه ويعيش؟
كما تعمد الكاتب نشر بعض "طرائف" الأستاذ عبد الفتاح مورو في مراحل عديدة من مشواره داخل الساحات الإسلامية والحقوقية والسياسية والبرلمانية، رغم الصبغة المثيرة للجدل لبعض تلك "الطرائف"، وبينها التمرة التي أهداه إياها آية الله الخميني، عندما التقاه في باريس مع بعض القيادات الإسلامية السنية، أو روايته عن "الرصاصة" التي أطلقت عليه في مستوى القلب يوم المواجهات الدامية بين قوات الأمن التونسي والعمال والعاطلين عن العمل يوم 26 يناير 1978، في سياق الصراعات العنيفة على خلافة "الرئيس المريض" الحبيب بورقيبة .
لقاءات مع مفكرين عالميين
وإذا كان القارئ المتابع لتطورات الحياة السياسية ومسارات حركات "الاحتجاج الشبابي" الإسلامية واليسارية في تونس والمنطقة يمكن ان يجد في شهادات صلاح الدين الجورشي ما يشفي غليله جزئيا من معلومات وأفكار، فإن من بين أبرز إضافات المؤلف أنه قدم "إضافات فكرية" مهمة، بعضها في شكل شهادات عن قراءاته ولقاءاته ومناظراته مع نخبة من المفكرين والكتاب والسياسيين العرب والتونسيين من مدارس مختلفة.
وهنا تبرز جوانب مهمة من الإشكاليات التي أثارها الكاتب والكتاب، لا سيما عندما عرض أو ناقش بعض أفكار وكتابات أعلام بارزين بينهم هشام جعيط والطيب التيزيني وحسن حنفي ومحمد أركون ومالك بن نبي ومحمد عمارة وسعد الدين العثماني وعصمت سيف الدولة ويوسف القرضاوي ومنير شفيق ومحمد الطالبي واحميدة النيفر ومصطفى النيفر وزياد كريشان فاطمة المرنيسي وبرهان غليون وطارق البشري ورضوان السيد وعدد من علماء الشيعة المعتدلين...
التيار الإسلامي "الثوري" والتيارات الإصلاحية
يضاف إلى هؤلاء عدد من كبار رموز الفكر والسياسة و"الإسلاميين الثوريين" وزعماء الحركات السياسية الإسلامية الشيعية والسنية بعد ثورتي إيران وأفغانستان أواخر سبعينات القرن الماضي ،بينهم محفوظ النحناح وقيادات جزائرية والشيخ محمد مهدي شمس الدين والشيخ محمد حسين فضل الله من لبنان وقياديين ومثقفين وسياسيين إيرانيين بينهم زوجة المفكر الإيراني والكاتب "الإسلامي التقدمي" الشهير علي شريعتي الذي اغتالته مخابرات الشاه الإيراني الإيرانية في بريطانيا، فساهم اغتياله في تفجير الثورة الكبرى التي أطاحت بحكمه.
قدم الجورشي سردية حول جلسات حوار ومناظرات جمعته بعدد كبير من السياسيين والمثقفين في تونس والمنطقة، بينهم الرئيسين المنصف المرزوقي والباجي قائد السبسي ورفاقهم وقيادات حزب النهضة بقيادة راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وحمادي الجبالي والمقربون منهم في الحكومة والبرلمان .في نفس الوقت قدم الكتاب عروضا عن حوارات فكرية سياسية خاضها مع عدد من الحكام والسياسيين التونسيين والعرب بينهم الرئيسان الباجي قائد السبسي والحبيب بورقيبة ومعمر القذافي ورئيس البرلمان التونسي السابق راشد الغنوشي ورئيس الحكومة التونسية الأسبق محمد الغنوشي.. كما شملت الحوارات أجيالا من رواد الحركات المعارضة الليبيرالية والإسلامية واليسارية في تونس بينه راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو والفاضل البلدي وصالح كركر ووزراء وبرلمانيون سابقون في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي بينهم رواد حركة الديمقراطيين الاشتراكيين ورابطة حقوق الانسان التونسية وصحف المعارضة الليبيرالية مثل احمد المستيري وحسيب بن عمار وخميس الشماري محمد الشرفي ..
شهادات عن "الاستثناء الديمقراطي التونسي"
في السياق نفسه كان كتاب "أقواس من حياتي" للجورشي وثيقة فكرية سياسية تأريخية تأليفية حاولت "توظيف الشهادات الشخصية ذات الصبغة التاريخية" لتقديم قراءة لتطورات تونس والمنطقة بعد انتفاضة شبابها في العقد الأول من القرن الحالي وخاصة أواخر 2010 ومطلع 2011 ضمن ما عرف بـ "ثورات الربيع العربي".
في هذه الشهادات قدم الجورشي سردية حول جلسات حوار ومناظرات جمعته بعدد كبير من السياسيين والمثقفين في تونس والمنطقة، بينهم الرئيسين المنصف المرزوقي والباجي قائد السبسي ورفاقهم وقيادات حزب النهضة بقيادة راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وحمادي الجبالي والمقربون منهم في الحكومة والبرلمان.
وكشف الجورشي في كتابه جوانب مما جرى في الكواليس في العشرية الماضية، التي يعتبر أنصار الديمقراطية التونسية بكونها قدمت " صة نجاح" وأنها "قدمت نموذجا عربيا وإسلاميا للتعددية والتعايش بين الفرقاء رغم ثغرات الدستور الجديدة والسياسات المتبعة والفشل في تحقيق استقرار سياسي امني يضمن حماية " الاستثناء الديمقراطي التونسي "..
مراجعات.. توسيع الآفاق
إجمالا يستحق الكتاب القراءة المتأنية والفهم ثم المناقشة والنقد، خاصة أن مؤلفه قدمه في شكل "شهادة" غضت الطرف عن حقائق كثيرة يمكن تناولها في دراسات معمقة، بما في ذلك فيما يتعلق بمسارات تجديد الفكر الديني والخطاب السياسي الإسلامي والحداثي في تونس والتجارب العديدة "للإسلاميين التقدميين" و"الإسلاميين المستقلين" و"التيار الإسلامي الديمقراطي المستنير" وحركات "الإصلاح" التي لا يجب أن تختزل في تجربة واحدة، على أهميتها ..
إذن فالكتاب قدم محاولة فكرية سياسية تأليفية مهمة جدا، لكنه يحتاج إلى متابعة القضايا التي أثارها في كتب ودراسات أخرى، تقرأ بدورها التاريخ المعاصر والواقع بنية البناء والإصلاح واستشراف مستقبل أفضل..
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب كتاب التونسي نشر عرض تونس كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة التیار الإسلامی فکریة سیاسیة راشد الغنوشی
إقرأ أيضاً:
وزير الأوقاف يكتب: الإمام الطيب قائد الأزهر في زمن التحديات وصوت الحكمة في عالم مضطرب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. الحمد لله الذي أفاض بنعمه على عباده، وهي نعم إنْ تُعدَّ لا تُحصى. ومنها أن قيّض سبحانه للأمة علماء ربانيين يضيئون دربها بالعلم والحكمة، ويبنون بالعلم والتحصين الفكري أسباب المنعة للدين وأتباعه، ويحملون بالفقه الواسع والعلم المتبحر راية الوسطية والاعتدال.
والأزهر ليس كمثله مؤسسة، فهو أقدم جامعات الدنيا استمرارًا في أداء رسالته، وقد حباه الله بشيوخ أجلاء، وقدّر للعالمين خيرًا عميمًا من علمائه الأكفاء. وقد تسلم شيوخه الأكابر راية العلم وأمانة المسئولية عالمًا تلو عالم على مر نحو من 1085 عامًا، وصولًا إلى إمامنا وشيخنا فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الطيب. وها هي خمسة عشر عامًا تمر منذ تولي فضيلته مشيخة الأزهر الشريف.
وهي خمسة عشر عامًا من العطاء المستمر، والجهود الحثيثة في خدمة الإسلام والمسلمين، وتعزيز قيم السلام والتسامح، وحمل هموم الأمة والدفاع عن قضاياها العادلة، والصدوع بكلمة الحق في القضايا المصيرية على الساحة الدولية. وفي هذه المناسبة المباركة، أتشرف بأن أتقدم -بالأصالة عن نفسي ونيابة عن وزارة الأوقاف جمعاء- بأسمى معاني التقدير والإجلال لفضيلته، اعترافًا بدوره الرائد ومكانته السامية، وتقديرًا لما قدمه من جهود خالدة ستظل علامة مضيئة في تاريخ الأزهر والأمة الإسلامية.
لقد شهد الأزهر الأنور في عهد فضيلة الإمام الأكبر نهضةً متكاملةً امتدت إلى كل المجالات، فحرص على تطوير منظومة التعليم الأزهري بكل مراحلها، فجعلها تواكب العصر دون أن تحيد عن ثوابتها الراسخة، وسعى إلى الارتقاء بالمناهج العلمية، وتعزيز دور البحث العلمي، وربط العلوم الشرعية بالقضايا المعاصرة، فجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين آفاق التطور ومآرب المصلحة العامة، حتى يبقى الأزهر الشريف نبراسًا علميًّا يهدي البشرية إلى صراطٍ مستقيم.
أما على صعيد إعداد الدعاة وتأهيل الأئمة، فلم يدخر فضيلته جهدًا في تذليل الصعاب أمامهم وتأهيلهم بأحدث العلوم والمعارف، عبر برامج تدريبية مكثفة داخل مصر وخارجها، ليكونوا قادرين على التصدي للأفكار الهدامة، ونشر خطاب ديني مستنير، يُعلي من قيم التعايش السلمي، ويفند مزاعم الغلو والتطرف. واقترن ذلك بإيفاد الكفايات العلمية لنشر رسالة الأزهر بين العالمين في المواسم الدينية وخارجها.
وأما على الصعيد الإنساني والإغاثي، فلفضيلة الإمام الأكبر مواقف مشرفة خالدة، تجسد رسالة الأزهر العامر في نصرة المظلومين والمستضعفين، إذ أطلق حملات إغاثية شاملة لدعم اللاجئين والمنكوبين في فلسطين وسوريا واليمن وميانمار وإفريقيا، وغيرها من المناطق التي كابدت ويلات الحروب والصراعات والنزاعات.
ومما زاد تلك القوافل والحملات تميزًا أن ظهر فيها الزي الأزهري بين القائمين على توزيعها وإيصالها في بعض الأماكن، وازدانت كذلك بسيدات الأزهر الفضليات اللاتي حمّلهن فضيلة الإمام الأكبر المسئولية إلى جانب رجال الأزهر، فأضحى للأزهر في المحافل الدولية صوت من أجل نصرة المقهورين وإغاثة الملهوفين، ولم تكن مواقفه مجرد بيانات أو تصريحات، بل كانت خطوات عملية، تمثلت في دعم مباشر لمشاريع الإغاثة، ورعاية للأسر المتضررة، واستقبال الدارسين من أبناء تلك المناطق وممن تقطعت بهم سبل التعليم والعيش، وتقديم المساندة الإنسانية دون تمييز.
وما فتئ فضيلة الإمام الأكبر يبث رسالة الأزهر في الخارج كما في الداخل، ففي رحلاته الخارجية كان صوت الأزهر حاضرًا في المحافل الدولية، إذ حمل قضايا الأمة إلى كل مكان، وانبرى مدافعًا عن حقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، محذرًا من محاولات تهويد المقدسات الإسلامية والمسيحية، ومؤكدًا أن القدس ستظل عربية إسلامية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
كما نهض فضيلته بدور بارز في مكافحة ظاهرة العداء للإسلام والمسلمين، فكان خطاب فضيلته واضحًا في تفنيد المزاعم التي تربط الإسلام بالعنف والتطرف، بل خاطب قادة العالم بلغتهم، كاشفًا زيف الاتهامات وتهافتها، ومفندًا الاتهامات الباطلة، ومقدمًا الصورة الحقيقية للإسلام بوصفه دين رحمة وسلام، وساق في سبيل ذلك التعاليم النبوية الإنسانية الخالدة، وبسط معاني القرآن الكريم، واستدل بالتراث المضيء للمسلمين، بما يؤكد أن الإسلام جاء ليقيم العدل ويحفظ كرامة الإنسان في كل زمان ومكان.
وعلى الصعيد الوطني، لم يدخر فضيلة الإمام الأكبر جهدًا في تعزيز الوحدة الوطنية، فظل امتدادًا لنهج الأزهر الأصيل في مواجهة دعاة الفُرقة والانقسام، داعيًا إلى التماسك المجتمعي، ومؤكدًا أن التنوع سنة الله في كونه، وأن قوة الوطن في وحدة أبنائه، وأن الإسلام يحض على التآخي والتلاحم بين أبناء الوطن الواحد، لا فرق بينهم على أساس من الدين أو العرق أو اللون أو الغنى؛ فضلًا عن إذكاء دور "بيت العائلة المصرية" الذي يتناوب فضيلته على رئاسته مع قداسة بابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المصرية.
وللأزهر في عهد فضيلة الإمام دور فاعل في مواجهة التطرف الفكري ودعاته، ومواجهة حبائلهم الشيطانية، وتجلى ذلك في جهود جبارة من بينها إطلاق عدد من البرامج والمبادرات الفكرية والثقافية التي تصدت للفكر المنحرف، وواجهت خطاب الكراهية بالبيان والحجة والبرهان، مقدمةً خطابًا دينيًّا يقوم على العلم الراسخ والتحليل الموضوعي، مترفعًا عن آفات الجمود والتعصب، ومستعينًا بأكابر العلماء والأساتذة والباحثين لتأصيل الخطاب العلمي وبثه عبر قنوات الإعلام التقليدي والجديد. وليس ببعيد عن ذلك إحياء هيئات علمية وإنشاء مراكز ومراصد متخصصة في درء التطرف وخطابه في الداخل والخارج.
وبالحديث عن المجال الاجتماعي والتنموي، فالواقع شاهد على حرص فضيلة الإمام الأكبر على أن يكون للأزهر دور بارز في دعم المستحقين، فوجه بإطلاق جمهرة من المبادرات الخيرية، من بينها تقديم الدعم إلى القرى الفقيرة، وتوفير منح تعليمية للطلاب غير القادرين، والمساهمة في علاج المرضى، وتعظيم دور بيت الزكاة والصدقات المصري الواقع تحت إشراف فضيلته، إيمانًا بأن رسالة الأزهر لا تقتصر على التعليم والدعوة، بل تمتد إلى خدمة المجتمع والمساهمة في تنميته بكل جهد ممكن.
لقد تجلى -بشواهد الواقع- أن مسيرة الإمام الأكبر خلال هذه السنوات الخمس عشرة جديرة بأن تكون نموذجًا يُحتذى في مجال القيادة الدينية الحكيمة، ذلك بأنه جمع بين الأصالة والمعاصرة، وأثبت قدرة الأزهر على التجدد والانطلاق في كل عصر، دون أن يتخلى عن الثوابت أو أن يفرط في مبدأ، أو أن يحيد عن النهج القويم.
إن هذه الذكرى العطرة إذ تظلنا بكريم ظلها فإننا نستقبلها بأسمى آيات التقدير والإجلال إلى فضيلة الإمام الأكبر، قولًا وعملًا، معنى ومبنى، لفظًا وشعورًا؛ سائلين المولى عز وجل أن يمد في عمره، وأن يبارك جهوده ويجزيه خير الجزاء على ما قدم، وأن يحفظه ذخرًا للأمة الإسلامية، ليظل الأزهر الشريف قلعةً للوسطية، ومنارةً للعلم، وحصنًا منيعًا في وجه التحديات.
حفظ الله شيخنا الأجلّ فضيلة الإمام الأكبر، وأدام الأزهر الشريف سامقًا ساميًا، ووفقنا جميعًا إلى خدمة الوطن والدين والأزهر والإنسانية بصدق وإخلاص.
د. أسامة الأزهري وزير الأوقاف