إبراهيم برسي

٢٦ يناير ٢٠٢٥

تدعونا مجموعة «حديث الرياح» لسعاد محمود الأمين إلى رحلة وجودية تأخذنا إلى أعماق المعاناة الإنسانية في زمن الحروب. وتدفعنا إلى الدخول في قلب العاصفة، حيث تتلاطم الذات بين أوجاع الحرب وغموض الهوية، وتصبح الرياح أكثر من مجرد عنصر طبيعي؛ بل هي شخصية رمزية تشهد على هشاشة الإنسان وصراعاته المستمرة.



في هذه المجموعة، تُستخدم الرياح كرمز محوري للفوضى والخراب الذي تسببه الحروب، حيث تتحرك بين النصوص كشاهد على الألم الإنساني وكقوة خارجة عن السيطرة.

تقول إحدى الشخصيات:
«كانت الرياح توقظ أكثر النائمين تفانيًا، تمزق ستائر الليل وتعيد تشكيل المسافات، كأنها تستفزنا لنتذكر أين نقف ومن نحن».

الرياح هنا ليست مجرد حركة طبيعية، بل صوت الحروب الذي يوقظ ذاكرة الفرد من سباتها. إنها تعيد تشكيل الزمان والمكان، وتمزج بين الحاضر والماضي في محاولة لإجبار الشخصيات على مواجهة أوجاعها.

في نص آخر، نقرأ مشهدًا مؤثرًا حيث تهطل الأمطار بغزارة، مصحوبة برياح ذات صفير يقرع النوافذ. يقول السارد:
«يا إلهي، لقد تجرأت الرياح وكشفت عنها الغطاء».

في هذا المشهد، تندمج الرياح مع الأمطار لتكشف عري الحقيقة وتواجه الإنسان بحقيقته المجردة. كأنها صوت داخلي يجبر الفرد على مواجهة ذاته العارية، تلك الذات التي تتأرجح بين الخوف والرغبة في الخلاص.

من اللحظة الأولى، ندرك أن هذه المجموعة القصصية لا تقدم فقط شخصيات تبحث عن الخلاص؛ بل هي نصوص تبحث عن إجابات وجودية من خلال أسئلة كبرى حول الحرب، الموت، والانتماء.

كل قصة تبدو كأنها انعكاس لمواجهة فردية للألم الجماعي، حيث تروي الشخصيات معاناتها مع الأسر، القصف، والنزوح.

إحدى أبرز اللحظات في المجموعة تأتي عندما تصف الكاتبة الرياح وهي تهب على امرأة تقف على الشاطئ، تصرخ بصوت مرتفع:
«أين أنت يا سعدي… حورية البحر؟»

هنا، يتحول الشاطئ إلى فضاء رمزي، حيث الأمواج والرياح تصبحان شريكين في مأساة المرأة. صراخها ليس نداءً لشخص بقدر ما هو استدعاء لذاكرة قديمة أو حياة مفقودة. الرياح في هذه اللحظة لا تعصف بعالمها فقط، بل تعصف بذاتها، مما يجعلنا نعيش قلقها الوجودي.

الكاتبة، بأسلوبها الرمزي والتفصيلي، تضيف إلى قصصها حسًا فلسفيًا عميقًا يتجلى في تساؤل إحدى شخصياتها:
«أنا موجود… ولكن مَن الذي يناديني؟»

إن هذا السؤال يعكس الحيرة العميقة للإنسان أمام عالم مليء بالتناقضات. هل الوجود هو مجرد شعور ذاتي، أم أنه يحتاج إلى إثبات خارجي؟ هل تُعرف الذات بالآخرين أم بانعكاسها في مرآة الرياح؟

ما يجعل هذه المجموعة فريدة هو قدرتها على جعل الرياح عنصرًا حيًا، ليس فقط فيزيائيًا، بل سرديًا. فهي تتدخل في الأحداث لتكشف، تهدم، وتعيد البناء. الرياح تصبح شريكة الشخصيات، شاهدة على معاناتها، وناقلة لرائحة الموت والصراخ.

إلى جانب الرياح، يبرز في المجموعة تأثير الحرب على الحياة اليومية. يظهر ذلك في مشاهد الأسرى الذين يعيدون اكتشاف ذواتهم في الزنازين المظلمة.

هذا المشهد يظهر الرياح كعامل يربط السجين بعالم خارجي أكبر، لكنه في الوقت نفسه يجبره على إعادة النظر في معنى وجوده. الرياح تتحول هنا إلى نافذة تفتح على الواقع دون أن تمنح الخلاص.

يظهر ذلك أيضًا في الأمهات اللواتي ينتظرن أبناءً قد لا يعودون أبدًا، وفي الأطفال الذين يعيشون تحت وطأة القصف.

تستحق مجموعة «حديث الرياح» أن توصف بأنها مرآة للألم الإنساني، حيث يتم سرد معاناة الفرد ضمن سياق حرب لا تنتهي، تتلاعب بمصير الجميع.

الكاتبة، بأسلوبها الرمزي والتفصيلي، استطاعت أن تجعل من الرياح شاهدًا على عبثية الوجود.

هذه المجموعة ليست مجرد دعوة للتأمل؛ بل هي تذكرة بأن الحرب لا تدمر الأوطان فقط، بل تعصف بالإنسان وذاكرته.

الرياح هنا ليست عابرة، بل هي حقيقة تهب على أرواحنا جميعًا.

zoolsaay@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: هذه المجموعة

إقرأ أيضاً:

الأمين العام لحزب الله: نشكر العراق على الدعم الذي قدمه إلى لبنان

بغداد اليوم -  

الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم: نشكر العراق ومرجعيته وشعبه الكريم على الدعم الذي قدمه إلى لبنان

مقالات مشابهة

  • اعتقال مواطن بسبب مداخلة على فضائية الجزيرة
  • الهدنة المشروطة: الفصائل ترفض نزع السلاح في ظل الوجود الأميركي
  • الأمين العام لحزب الله: نشكر العراق على الدعم الذي قدمه إلى لبنان
  • الأديب الغزي محمود عساف يوثق أهوال الحرب في كم موتًا يريدنا
  • الحرب ومستقبل السياسة في السودان
  • قطر: الادعاء بأننا وسيط غير منصف مجرد بروباغندا
  • مزارع الرياح السعودية.. "تيار طموح" لإنتاج الطاقة النظيفة
  • أمل الحناوي: تأتي الرياح الإسرائيلية بما لا تشتهي سفن السلام بالمنطقة
  • الضراط: طاقة الرياح ستكون محل تعاون مع تركيا قريباً