في كلمته بمناسبة ذكرى استشهاد شهيد القرآن السيد حسين بدر الدين عبرنا مراحل صعبة وأصبحنا في مستوى متقدم من القيام بدورنا في التصدي لقوى الشر والإجرام شــهــيد الـــقــرآن تـحــرك بالمشــروع القرآني إحساســاً بالمســؤولية الدينية تجاه الأمة الأمة بحاجة لإعادة الضبط في مواقفها.. والتحرك الواعي الحل الأمثل لمواجهة الظلم الذي يستهدفها

/ سبأ

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.


اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
أيُّهَا الإِخْوَةُ الأعزاء:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
قال الله تعالى فِي القرْآن الْكَرِيم: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}[الأعراف:170] ، صَدَقَ اللهُ العَلِيُّ العَظِيم.
في الذكرى السنوية لشهيد القرآن، السَّيِّد/ حسين بدر الدين الحوثي «رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ»، نقول من جديد: عَظَّمَ اللهُ أَجْرَنَا وَأَجْرَكُم.
ونتحدث عن شهادته كعنوانٍ للقضية وللمظلومية:
المظلومية؛ لأن ما قامت به السلطة آنذاك في العام 2004، ضد شهيد القرآن، مؤسس مسيرتنا القرآنية، وقائدنا الشهيد العظيم السَّيِّد/ حسين بدر الدين الحوثي «رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ»، كان ما قامت به عدواناً ظالماً لا مبرر له، ولا يستند إلى أي مستندٍ لا شرعيٍ ولا قانوني، فشهيد القرآن لم يصدر منه، ولا ممن انطلق معه في المشروع القرآني، أي اعتداءٍ ضد السلطة آنذاك، ولا أي تصرفٍ يبرر لها العدوان والاستهداف، والسعي لإبادة من تحركوا في إطار المشروع القرآني، فما قام به شهيد القرآن هو:
•التثقيف القرآني.
•والصرخة في وجه المستكبرين بشعار البراءة من أمريكا وإسرائيل، وهو شعار:
الله أكـــــــــــبر
الـموت لأمريكـــا
الـموت لإسرائيــل
اللعنة على اليهود
النصــــر للإســلام
•والدعوة إلى مقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية.
كان التحرك يتمثل بهذه العناصر الثلاثة: (التثقيف القرآني، والصرخة في وجه المستكبرين، والدعوة إلى مقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية)، في مقابل الهجمة الأمريكية والإسرائيلية والغربية غير المسبوقة على أمتنا الإسلامية في المنطقة العربية وغيرها، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، التي خططت لها الصهيونية؛ لتجعل منها ذريعةً لحملةٍ عدوانيةٍ شاملة، تهدف إلى:
•استحكام السيطرة الأمريكية والإسرائيلية والغربية على أمتنا.
•واجتياح أوطانها.
•وطمس هويتها.
•والسيطرة على ثرواتها.
لم تقف الأنظمة الرسمية آنذاك- في معظمها- موقف المتصدي لتلك الهجمة، بل المسارع لفتح المجال والخضوع لأمريكا، وفتح كل الأبواب أمامها في كل المجالات، وبما يمكِّنها من السيطرة التامة، والسلطة في اليمن آنذاك كانت من المسارعين إلى ذلك، سارعت تحت عنوان (التحالف مع أمريكا لمحاربة الإرهاب)، وفتحت للأمريكيين كل المجالات ليتدخلوا في كل شيء: فتحت المجال للقواعد العسكرية في البلد، للضربات الأمريكية في البلد، للتدخل في الشؤون التعليمية، للتدخل في الإعلام، للتدخل في الخطاب الديني والمساجد والأوقاف، للتدخل في الجانب العسكري، والتغلغل في السيطرة على المؤسسة العسكرية والأمنية كذلك، والشؤون الاقتصادية… وفي كل المجالات، بما يترتب على ذلك من مخاطر كبيرة ورهيبة، تُمَكِّن العدو من الاختراق لكل شيءٍ في البلد، حتى التَّوَجُّه إلى الساحة الشعبية واختراقها، وبالتالي السيطرة الكاملة.
الأوساط الشعبية في بلدنا كان حالها كحال معظم الشعوب، التي كانت متأثرةً بالموقف الرسمي، ومكبلةً ومقيدةً بالموقف الرسمي، النخبُ والأحزاب- في معظمها- كانت في موقفٍ ضعيف، مع إقرارها بسوء ما يحدث، ومخاطر السياسة الرسمية، التي تعتمدها السلطة في فتح المجال للأمريكي ليفعل ما يشاء ويريد، ولم يكن ذلك يمثل حلاً لمصلحة شعبنا، ولا خياراً منجياً يُنَجِّي شعبنا من الخطر الأمريكي والتهديد الأمريكي، بل كان يساعد الأمريكي على السيطرة التامة بدون أي كلفة، بدون أعباء، فهو وسيلةٌ للتمكين الأمريكي والإسرائيلي.
تحرَّك شهيد القرآن بالمشروع القرآني إحساساً بالمسؤولية الدينية، وإدراكاً واعياً لخطورة ما يحدث، وللعواقب السيئة لذلك، حتى من باب العقوبة الإلهية؛ لأنَّ تَقَبُّل الأمة للأمريكي ليسيطر عليها، ويطمس هويتها، ويصادر حُرِّيتها واستقلالها، ويُفَرِّقها ويبعثرها بأكثر مما هي مفرقة ومبعثرة، لن يُنَجِّيها من شرِّه أبداً، هو آتٍ بِشرّ عليها، بل مع ذلك ستكون العقوبة الإلهية على التفريط؛ لأن على هذه الأمة مسؤولية حتى في الدفاع عن نفسها، عن هويتها، عن أوطانها، عن كرامتها، أن تواجه الظلم الذي يستهدفها، هذه مسؤولية دينية، ووعياً منه بأهمية وقيمة التحرك، التحرك الواعي، التحرك الصحيح، وأنه الذي يمثل حلاً للأمة، ليس الاستسلام هو الذي يُمثِّل الحل للأمة، أمام تلك الهجمة الشاملة، التي تستهدف الأمة في كل شيء، وليس الجمود والتنصل عن المسؤولية هو الذي يدفع الشر عن الأمة، أو يمثل حلاً وخياراً صحيحاً تعتمد عليه الأمة.
كانت المواقف العملية في إطار المشروع القرآني تُركِّز على:
•التثقيف القرآني:
•لتوعية الأمة؛ لأنها بحاجة إلى الوعي، أول ما تحتاج إليه هو الوعي.
•ولتقديم الحلول القرآنية؛ لأن الأمة تواجه مشكلات كبيرة، تمثِّل خطورةً بالغةً عليها، تحتاج إلى رؤية: (ما هو الحل؟).
•ولتحصين الأمة من الاختراق الكبير للحملة الأمريكية الإسرائيلية الغربية، التي تستهدف هذه الأمة في كل شعوبها، ثقافياً، وفكرياً، تستهدف حتى تغيير المناهج الدراسية، من خلال إملاءات بما يحذف وما تُضَمَّنه، ما تُضَمَّن به تلك المناهج… وهكذا بقية الأنشطة التثقيفية والفكرية، هناك تدخل أمريكي وإسرائيلي؛ للتأثير من خلالها على هوية هذه الأمة، وعلى فكرها وثقافتها، وإعلامياً، وكذلك عملٌ مكثفٌ، يسعى من خلاله الأعداء إلى تغيير فكر هذه الأمة، وإلى التأثير على الرأي العام، وعلى التوجهات، والولاءات، والمواقف، فهم يهدفون إلى إضلال الأمة، وإلى تضييعها، وإلى إفسادها.
فالتثقيف القرآني كان عملاً في مقابل تلك الهجمة: التثقيفية، الفكرية، الإعلامية، الدعائية، التي لها خطورة كبيرة جداً في التأثير على الأمة، على مستوى الفكر، والثقافة، والوعي، والولاءات… وغير ذلك، يعني: عملٌ حكيم، يقابل شيئاً مما هو في جانب الأعداء، وما يُقدِّمه الأعداء.
العمل اليهودي، والعمل الأمريكي والإسرائيلي، هو يُركِّز بشكل كبير جداً على الإضلال: الإضلال الفكري الثقافي، الإضلال على مستوى الرؤية، والتصور، والفكر، والموقف، وكذلك على مستوى الولاء والتَّوجُّه، والإفساد: الإفساد للنفوس، المحاربة للفضائل والقيم، القيم العظيمة، القيم الإلهية، والسعي للإفساد للمجتمعات، وإيقاعها في الرذائل بكل أشكال الفساد: الفساد الأخلاقي… وغيره، وهم يعملون وفق مشروعٍ تدميريٍ، هو: المشروع الصهيوني، وليس لمجرد ردة فعل آنية لحظية محدودة.
وهذه حقيقة مهمة للغاية؛ لأن الكثير من أبناء الأمة لا تزال نظرتهم إلى ما يفعله الأمريكي والإسرائيلي، ومن يدور في فلكهم، في مراحل متعددة، وكأنه مجرد مواقف لحظية، آنية، وردود فعل محدودة، هم يعملون ضمن مشروع اسمه [المشروع الصهيوني]، هو مشروع تدميري لهذه الأمة، المشروع الصهيوني مشروع خطير على هذه الأمة.
•ثم مع التثقيف القرآني، الشعار: الشعار كموقف:
•يُعبِّر عن حالة السخط، وهذه مسألة مهمة جداً، يجب أن تترجم الأمة سخطها تجاه هجمة أعدائها عليها، بما فيها من إجرام وطغيان، وبما تمثله من خطورة كبيرة في أهدافها التي تسعى إلى تحقيقها، أن يترجم هذا السخط إلى موقف، وإلى تعبير، في الحد الأدنى وفي البداية: التعبير عن ذلك، وعن الرفض للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، أن يكون هناك موقف يُعبِّر عن رفض هذه الأمة.
•ويُحصِّن الوضع الداخلي للأمة من مساعي الأعداء لتحويل هذه الأمة إلى أمة مواليةً لهم؛ لأن الأعداء يشتغلون بشكل واسع للاستقطاب والاختراق في داخل هذه الأمة؛ لتوجيه حالة السخط إلى غير أمريكا وإسرائيل، إلى من يعادي أمريكا وإسرائيل، ولتوجيه حالة الولاء للأمريكي والإسرائيلي، بما يترتب على ذلك من تمكينهم من السيطرة بكل سهولة.
•وأيضاً لكسر مساعي تكميم الأفواه، من أهداف الشعار؛ لأن الأمريكي يدفع بالأنظمة إلى تكميم الأفواه، ومنع أي صوت يناهض الهيمنة الأمريكية، والسيطرة الأمريكية والإسرائيلية.
•ثم المقاطعة للبضائع الأمريكية والإسرائيلية كسلاح مهم؛ لأن الأعداء يستفيدون بشكل كبير جداً:
•أولاً: من نهب ثروات بلداننا.
•وثانياً: الاستفادة من بلداننا بشعوبها الكبيرة كأسواق لمنتجاتهم، تُدِرّ دخلاً مالياً كبيراً جداً لهم.
فيستفيدون في الحالتين: في حالة النهب، وتذهب أموال وإمكانات ضخمة جداً لصالحهم، وفي حالة الأسواق التي تعود بالدخل عليهم، ثم يُوَظِّفون تلك الأموال لمحاربة هذه الأمة.
وفي نفس الوقت المقاطعة سلاح، وهم يستخدمونه- بالنسبة لهم- في العقوبات الاقتصادية في كل مرحلة ضد هذا البلد أو ذاك.
وأيضاً المقاطعة هي حافز مهم، للتوجه للبناء الاقتصادي، والإنتاج المحلي، والسعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
هذه الخطوات الثلاث التي تحرك بها شهيد القرآن، هي خطواتٌ حكيمة، ومشروعةٌ، وليس هناك أي مبرر للاستهداف لمن يتحرك فيها، وهي تستند إلى القرآن الكريم، وكان من المفروض أن يلقى ذلك ترحيباً في بلدٍ هويته إيمانية، ودستوره يعترف بالشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً للتشريع، ويتغنى النظام في بالديمقراطية وحُرِّيَّة الكلمة، وحُرِّيَّة التعبير، ومن ورائه الأمريكي يحمل شعارات الحُرِّيَّة والديمقراطية؛ لكن عندما انزعج الأمريكي وغضب، ورأى أن هذا المشروع الحكيم، الذي هو بخطوات عملية صحيحة، هادفة، مفيدة، ونافعة، ومؤثِّرة، ويخرج بالأمة من حالة الصمت، والجمود، والسكوت، والقعود، والاستسلام؛ إلى حالة الموقف، الموقف الذي يمكن أن يتنامى بقدر ما تتطلبه الظروف والمراحل، رأى أن هذا المشروع يعيقه في الساحة، فاتَّجه الأمريكي- كما هي عادته وأسلوبه- في توريط السلطة، والدفع بها لمحاربة المشروع القرآني تحت الإشراف الأمريكي.
اتَّجهت السلطة في محاربتها للمشروع القرآني بدايةً بالقمع الأمني، من خلال السجون والاعتقالات، وبعنف، وبمعاملة قاسية، وتكرر ذلك: بدءاً بجامع الإمام الهادي، والجامع الكبير، ثم في مناطق أخرى وجوامع أخرى.
تزامنت حملات الاعتقالات والسجن مع إجراءات عقابية بالفصل من الوظائف المدنية، في التعليم وغيره، وتزامن مع ذلك حملات دعائية مشوهة ومحاربة للمشروع القرآني، وحملات تخويف وإرجاف وتهويل.
كان ذلك المسار الخاطئ للسلطة في محاربة المشروع القرآني، بإشرافٍ أمريكي، يتزامن مع كل ما تفعله أمريكا على مستوى المنطقة بشكلٍ عام، أمريكا مستمرة في هجمتها، اتَّجهت لاحتلال العراق بعد احتلالها لأفغانستان، العدو الإسرائيلي مرتكبٌ أبشع الجرائم ضد الشعب الفلسطيني، الأمريكي ضاغط على مختلف البلدان، ومُتَّجه للضغط عليها، وفرض أجندةٍ عليها وسياسات، وساعٍ لاختراقها، وهم يتَّجهون مع الأمريكي بحملات مسيئة لهذه الأمة، ومستفزة لهذه الأمة، تُعبِّر عن منتهى العداء لهذه الأمة، حملات الإساءة ضد رسول الله «صَلَوَاتُ اللِّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، وهي حملة صهيونية بكل ما تعنيه الكلمة، وحملة ضد القرآن الكريم.
مع كل المسار الذي استمرت فيه أمريكا وإسرائيل ومن يدور في فلكهم، السلطة منهمكة، وغارقة، ومنشغلة، في تلك الحملات القمعية لمحاربة المشروع القرآني، وكذلك ما يفعله الأمريكي في البلد، بعد أن فتحت له كل الأبواب، الأمريكي مستمر ضمن خطط وبرامج وأنشطة لاختراق كل مؤسسات الدولة: الجانب العسكري، والجانب الاقتصادي، والجانب التعليمي، والتثقيفي، والقضائي، وفي كل المجالات، الجانب الأمني… وغيره، وأيضاً يتَّجه إلى العمل في الساحة الشعبية للاستقطاب، وللاختراق للساحة الشعبية، هو مستمرٌ في ذلك، وهي لا شغل لها إلا العمل ضد المشروع القرآني.
واستمرت العمليات التي تقوم بها السلطة بشكلٍ قمعي، إلى أن امتلأت سجون الأمن السياسي- آنذاك- بالمكبرين، وهذا الاسم الذي عرفهم به الشعب اليمني، وأطلقه عليهم الشعب اليمني (المكبرين)، لماذا؟ لأن الشعب يعرف أن هؤلاء ليس لهم أي ذنب؛ وإنما اعتقلتهم السلطة لأنهم هتفوا بالتكبير لله، بهتاف البراءة من أعداء الله، الذي بدايته (الله أكبر)، وختامه (النصر للإسلام)، فعرفوا بـ (المكبرين).
الأمريكي انزعج لفشل عمليات القمع، وتلك الممارسات الظالمة والمضايقات؛ لعجزها عن إيقاف المشروع القرآني، فدفع بالسلطة في 2004 للعدوان العسكري؛ بهدف القضاء عسكرياً على المشروع القرآني، فاندفعت بكل تهور، وبدون تردد، وبكل عدوانية وحقدٍ عجيب، كُنَّا نستغرب من مدى الحقد الذي تحركت به السلطة، وأجهزتها وقادتها آنذاك، اتَّجهت لتفتح باباً عدوانياً هو: الحرب الأولى، باباً للحروب في هذا البلد، بدايتها الحرب الأولى.
الحرب الأولى استهدفت بها السلطة آنذاك بشكلٍ أساسيٍ شهيد القرآن، قائدنا ومؤسس مسيرتنا، ومن معه في منطقة (مَرَّان) الريفية، في (مديرية حيدان – محافظة صعدة)، والمناطق المجاورة، واستهدفت أيضاً عسكرياً الحواضن الشعبية للمشروع القرآني في المناطق الأخرى من محافظة صعدة، مثل: آل الصيفي، وهمدان (همدان صعدة)، وحملات في مناطق متفرقة، يعني: في مناطق في محافظة صعدة وفي غيرها؛ لملاحقة المكبرين- بهذا الاسم- إلى قراهم من منازلهم.
كانت الحرب الأولى عدوانيةً ظالمة، وبكل وحشيةٍ وجبروت، وفق المدرسة الأمريكية، بالاستخدام من اليوم الأول لكل وسائل القتل، والدمار، والحصار، والتجويع، السلطة حشدت كل إمكاناتها العسكرية: من طائرات (طائرات حربية، ومروحية)، وفي القوات البرية من دبابات، ومجنزرات… ومختلف الآليات العسكرية، والآلاف من الجنود، ولم تكتفِ بذلك، جَيَّشت معهم أيضاً من المرتزقة الكثير الكثير، واستهدفت (مرَّان)، التي استهدفتها بشكلٍ أساسي بالتدمير الشامل، والقصف الجنوني الذي كان يستمر ليلاً ونهاراً، تستهدف الناس إلى منازلهم بدون أي مبرر، وأيضاً بالحصار والتجويع: منع دخول الغذاء، ودخول الدواء، إلى أنهى مستوى من الحصار، حصار شديد جداً، ودمَّرت (مرَّان)، حشدت قوةً عسكريةً كبيرة لذلك.
لم يكن لدى شهيد القرآن- قائدنا ومؤسس مسيرتنا السَّيِّد/ حسين بدر الدين الحوثي «رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ»- جيشاً ولا ميليشيات، ولا أي تشكيل عسكري مُنَظَّم، أو مُدَرَّب، للتصدي لذلك العدوان؛ وإنما تَحرَّك الأهالي، ومن وقف معهم، الذي تحرَّك هو المجتمع؛ ليدافع عن نفسه في مواجهة ذلك العدوان، الذي لا مبرر له إطلاقاً، ومن وقف معهم للتصدي، وجاهدوا في سبيل الله ببسالةٍ منقطعة النظير، بكل تفانٍ بما تعنيه الكلمة؛ ولــذلك استمرت المعركة قرابة ثلاثة أشهر، مع أنه لم يكن لديهم عُدَّة عسكرية، سوى الأسلحة الشخصية العادية، التي هي متوفرة مع أي مواطن يمني، ومع ذلك كان هناك شُحّ كبير جداً في الذخائر والمتطلبات اللازمة، وبدون أي تدريب عسكري ولا نحوه.
استمرت المعركة قرابة ثلاثة أشهر، (مَرَّان) التي هي مساحة تقدر بـ (خمسة كيلو مربع)، حتى أعلنت السلطة آنذاك قتل شهيد القرآن، ومن تصدى لعدوانها من الأهالي، واعتقال الكثير من الأهالي والجرحى؛ لِتُقدِّم ذلك قُرباناً للأمريكي، وكانت مرتاحةً تعتبر ذلك إنجازاً تُقدِّمه إلى الأمريكي في توددها له وسعيها لاسترضائه، وتصورت السلطة آنذاك، ومعها الأمريكي، أنها قد قضت على المشروع القرآني.
الممارسات خلال فترة الحرب كانت إجرامية بكل ما تعنيه الكلمة:
•الاستهداف لمنازل المواطنين.
•القتل للأطفال والنساء، والكبار والصغار.
•الحرمان من الطعام.
•استخدام وسائل إجرامية في الاستهداف للجرحى.
•الإبادة بدمٍ بارد لبعض الجرحى وبعض الأهالي.
•كل أنواع الممارسات الإجرامية، محاولات الحرق بالنار للجرحى… وغير ذلك.
السلطة تفاجأت ما بعد ذلك، هي والأمريكي:
•أولاً: بثبات السجناء في السجون، من كانت قد اعتقلتهم على خلفية الهتاف بالشعار والصرخة في وجه المستكبرين، ومن اعتقلتهم مع حملاتها العدوانية، كانوا ثابتين، لم يتراجعوا عن هذا النهج، وعن هذا المشروع وهذا الموقف، ثبتوا وهم في السجون، ولم يقبلوا أبداً بالتراجع عن موقفهم، وعن هذا المشروع العظيم.
•وثبات بقية المنطلقين في خارج السجون، الذين اِلْتَفُّوا حول الوالد العلَّامة الكبير، فقيه القرآن، السَّيِّد/ بدر الدين الحوثي «رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ»، الذي كان في تلك المرحلة مستقراً في (منطقة نشور – همدان صعدة)، باستضافة أخينا المجاهد العزيز/ عبد الله عيضة الرزامي، والأهالي هناك.
ولــذلك اتَّجهت السلطة بعد أشهر إلى حربٍ ثانية، تستهدف بها الوالد العلَّامة الكبير، فقيه القرآن، السَّيِّد/ بدر الدين الحوثي «رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ»، وفشلت في الحرب الثانية، واستمر مسلسل الفشل والخيبة، مع الإصرار على تكرار العدوان، وفي كل مرَّة بوحشية وهمجية، جرائم كبيرة جداً في تلك المراحل: جرائم قتل وسحل، وجرائم استهداف للكبار والصغار، ومساكن المواطنين… وغير ذلك، ودون اعتبار واستفادة من الدروس؛ ولـذلك وصلت سلسلة الحروب التي شنَّتها السلطة تحت إشرافٍ أمريكي، وبتحريضٍ أمريكي، وبغطاءٍ سياسيٍ أمريكي، إلى ستة حروب شاملة، وأكثر من عشرين حرباً جزئية.
في الحرب السادسة منها، تورَّط النظام السعودي آنذاك- وبالتأكيد بدفعٍ أمريكي- بالاشتراك في العدوان مع السلطة آنذاك، وفشل معها، ومع فشلهما معاً، لم يأخذ السعودي آنذاك العبرة؛ لينتبه في المستقبل.
ثم أتت المتغيرات الكبيرة في البلد، ببركة ذلك الصمود، وتلك التضحيات، واتَّسعت دائرة الوعي الشعبي؛ فكانت ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر، وتلاها هروب الأمريكي والمارينز من صنعاء، وقلِق الأمريكي والإسرائيلي؛ لأن معنى ذلك: نهاية سيطرته على هذا البلد، وفشل وسقوط المشروع الأمريكي في هذا البلد، ليس هذا فحسب، هو يدرك أهمية هذا المشروع، وتأثيره الكبير حتى في تقديم النموذج المفيد لبقية الأمة، وإسهامه فيما يتعلق بواقع الأمة بشكلٍ عام؛ لأنه مشروعاً ليس مؤطَّراً في مستوى هذا البلد، وكانت المواقف الإسرائيلية واضحة في حجم القلق الكبير، عَبَّر [المجرم نتنياهو] وغيره عن ذلك، كذلك الأمريكية.
ولكن الأمريكي- وكأسلوبه: يسعى دائماً لتوريط الآخرين- اتَّجه لتوريط السعودي، ومن معه في التحالف؛ ليتورطوا تحت إشراف أمريكي مباشر في عدوان شامل على بلدنا. بدأ العدوان السعودي الأمريكي، الذي مع تحالف آخرين، واستمر كل السنوات الماضية، وبكل وحشية وإجرام، مع الفشل أيضاً.
هذا فيما يتعلق بالمظلومية، كموجز عن مسار الأحداث، هناك الكثير من التفاصيل، إن شاء الله تصدر الكتب عن ذلك، تصدر كذلك المنتجات الإعلامية، التي توثق تلك المراحل وما جرى فيها.
نحن كُنَّا في هذه المسيرة القرآنية، كل المنطلقين في إطار هذا المشروع القرآني، خلال كل هذه المراحل مظلومين مظلوميةً كبيرةً جداً، وليس ظالمين، ومعتداً علينا، ولم نكن معتدين، كان أداؤنا في دفع العدوان، والتصدي للعدوان علينا، مرتبطاً ومنضبطاً وفق تعليمات الله، وفق القيم والأخلاق الإسلامية والقرآنية، وكان الأعداء والمعتدون يمارسون أبشع الجرائم بحقنا، الشواهد، والوثائق، والحقائق، هي كثيرةٌ جداً، تشهد لذلك، هذا على مستوى المظلومية.
أَمَّا الْقَضِيَّةُ، وَهِيَ: الْمَشْرُوعُ الْقُرْآنِيُّ، وَالْمَوْقِفُ الْقرْآني من أعداء المسلمين، بل وأعداء البشرية: اليهود الصهاينة ومن يدور في فلكهم، (أمريكا، وإسرائيل):
فالأعداء- كما قلنا- يتحركون وفق مشروع (المشروع الصهيوني)، فكرته محسوبةٌ على الدين زوراً وبهتاناً، المشروع الصهيوني هو يُقدَّم على أنه مشروع ديني؛ ولـذلك ينطلق المنطلقون فيه بحماس، واندفاع كبير جداً، وله أهداف محددة، هي تدميرية لأُمَّتنا، المشروع الصهيوني يعني: احتلال لأوطاننا الإسلامية والعربية، بدءاً بفلسطين، يعني: تدمير أُمَّتنا، والسيطرة عليها، والبعثرة لها، العمل على القضاء على وجودها الحضاري والمستقل، ويستخدمون وسائل وأساليب هي أيضاً تدميرية، وسائلهم وأساليبهم لتحقيق مشروعهم كلها عدوانية:
•سواءً في المجال الثقافي، لطمس هوية هذه الأمة.
•أو في الإفساد للقيم، والأخلاق، والفضائل، والسعي لنشر الرذائل والمفاسد، التي تُمَيِّع الناس.
•أو على مستوى الاستهداف الأمني والعسكري، والقواعد العسكرية، والاحتلال.
•أو على كل المستويات، من تجزئة المجزأ من أمتنا، وبعثرة المبعثر، وإغراق أمتنا في الأزمات، والحروب، والفتن، تحت مختلف العناوين، حتى العناوين الساذجة والوهمية.
وهم يعملون على تنفيذ مشروعهم على مراحل، وفق إنجازات تراكمية؛ ولـذلك ليس تحركهم ارتجالياً، ولا ردة فعل، ولا بحسابات مصالح محدودة، يمكن التقاسم معهم فيها، مثلما تعمل بعض الأنظمة، تتصور أنها ستدخل ضمن المظلة الأمريكية والإسرائيلية، وتحقق لها مصالح في ذلك الإطار، وتبقى كأداة، وتضمن مستقبلها كأداة بيد أمريكا وإسرائيل، هذا قد يحصل لفترات محدودة ومؤقتة، حتى الاستغناء من الدور، وعند الاستغناء من الدور يكون التعامل بطريقة مختلفة من جانب الأمريكي والإسرائيلي.
أمام ذلك، ما هو المشروع الذي ينبغي أن نتحرك نحن كأمة مستهدفة، نحن كمسلمين، وأي خيار نعتمد تجاه ذلك:
•هل خيار الاستسلام؟ ليس مُنَجِّياً.
•هل خيار العمل مع الأعداء؟ هو تمكينٌ لهم، واستغلال، وخسارة في الدنيا والآخرة.
•أم أي مشروع بدون أن يكون مدروساً كيف ينبغي أن يكون؟
لا شك، وبشكلٍ بديهي، أن الخيار الأنجح والأقوى هو: المشروع الذي ينسجم أولاً مع هويتنا الإسلامية والإيمانية، هذا أول ما ينبغي أن نحسب حسابه، في المشروع الذي ننطلق على أساسه لمواجهة أولئك، هم يتحركون في إطار مشروع على أساس أنه مشروع ديني.
أقوى دافع وحافز هو عندما نتحرك بمشروع ينسجم مع هويتنا الإسلامية والإيمانية، المشاريع التي لا تنسجم مع هوية الأمة، لن تكون الأمة مستعدةً للتضحية من أجلها بشكلٍ كبير، تتحمل كل الأعباء مهما كانت، لن تتوفر الحوافز ولا الدوافع اللازمة لذلك، وأيضاً بضمانة إلهية، عندما نتحرك وفق تعليمات الله، نحظى بمعونة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وبوعده الصادق، وهي ضرورة تحتاج إليها الأمة أيضاً في مرحلة الاستنهاض والتوعية والتعبئة.
عندما يكون هناك مشروع يستند إلى هوية هذه الأمة، إلى دينها، إلى عقيدتها، إلى ما تؤمن به، يمكن أن يمثِّل- فعلاً- عاملاً مهماً، مؤثِّراً في الاستنهاض للأمة، وفي توعيتها، وفي تعبئتها؛ لأن الأمة بحاجة إلى استنهاض.
الأمة عانت من إشكالية الجمود تجاه المخاطر، والتفرُّج تجاه الكوارث، والتفريط في المسؤولية منذ بداية المشروع الصهيوني في منطقتنا، منذ أن بدأ الصهاينة يتدفقون إلى فلسطين بحمايةٍ بريطانية، كانت مشكلة الأمة هي: الجمود، وانعدام الوعي، بحاجة إلى وعي بمستوى أكبر، شعور بالمسؤولية بمستوى أكبر، فهي إشكالية بارزة، بارزة، واستمرت في كل المراحل هذه الإشكالية، وهي تكشف:
•عن ضعف في الوعي.
•وعن ضعف في حِسِّ المسؤولية.
•وعن ضعف في الوازع الديني.
كانت بارزة في مقابل الهجمة الأمريكية الإسرائيلية بعد الـ 2001، نفس الحالة: حالة جمود، حالة حيرة، حالة غفلة، حالة غفلة كبيرة عن الإدراك لحجم الخطر، وعن الشعور بالمسؤولية تجاه ذلك، والإشكال أيضاً أنها تتعاظم هذه الحالة، تتعاظم حالة الجمود، والاستسلام، والغفلة، تتعاظم وتكبر، وصولاً إلى مراحل التطبيع العلني لبعض الأنظمة، هي وصلت إلى هذا المستوى من التطبيع العلني؛ لأنها تدرك أن الواقع العام للأمة يساعد على ذلك.
ولـذلك الأمة- فعلاً- مفتقرة إلى استنهاضٍ قرآني، يَهُزُّ الضمير والوجدان، يحيي الشعور بالمسؤولية، يرفع مستوى الوعي، يوجد الدافع والوازع الديني، الذي يُحرِّك الأمة، وهو أرقى ما يمكن استنهاضها به، يعني: ليس هناك شيء يماثل القرآن الكريم، في أن يكون في مضمونه، وروحه، وأثره، مؤثِّراً في الأمة، مُحيياً لها من جديد، بمثل ما هو القرآن الكريم، وأيضاً بمقتضى إيمانها، وانتمائها، وهويتها، هي تؤمن به أنه كتاب الله، أنه خطاب الله، أنه نداء الله، أنه تعليمات الله، ما فيه من الوعود أنها وعودٌ من الله، هو يَشُدُّها إلى الله، هو يعزز ثقتها بالله؛ لأنها فقدت هذه الثقة، فضعُفت بشكلٍ كبير.
وبمميزات أيضاً عظيمة لا تتوفر في أي مشروعٍ آخر يكون بديلاً عن المشروع القرآني. هذا جانب.
الجانب الآخر: الأمة في حاجة ماسَّة جداً إلى إعادة ضبط مواقفها، وتوجهاتها، وولاءاتها، وعداواتها؛ وفقاً للمبادئ، والتعليمات، والأخلاق الإلهية، التي أتى بها الإسلام في القرآن الكريم، وعلى لسان رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم»، هذه مسألة مهمة؛ لأن الأمة في حالة انفلات وفوضى: فوضى في المواقف، فوضى في الولاءات، فوضى في العداوات، تنطلق لتتبنى أي موقف، الكثير من أبناء هذه الأمة ينطلق لتبني أي موقف، دون أي اعتبار، لا لمبادئ إلهية، ولا لتعليمات إلهية… ولا غير ذلك؛ وبالتالي تتحول الخيانة في واقع الأمة، مع هذا الانفلات وهذه الفوضى، إلى وجهة نظر، تتحول العمالة للأعداء، والقتال معهم ضد أبناء هذه الأمة، إلى وجهة نظر؛ تتحول الجريمة، وممارسة الجريمة والطغيان، إلى ممارسات عاديّة تقتضيها التكتيكات العسكرية، بمثل ما هي الطريقة الأمريكية والإسرائيلية، كذلك الولاءات تشترى بالمال، تشترى بمكاسب سياسية محدودة زائفة، بمصالح مادية محدودة منتهية… وهكذا، تتحول الحالة العامة إلى حالة منفلتة، وحالة تتنافى تماماً مع المبادئ والقيم والأخلاق.
والمسألة ليست بسيطة، بحيث يعتمد فيها على وجهات نظر، مجرَّدة عن المبادئ والقيم والأخلاق، حسابات سياسية، حسابات مصلحية زائفة، في قضية فيها ماذا؟ فيها فلسطين، فيها المُقدَّسات، فيها المسجد الأقصى مسرى رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، فيها الشعب الفلسطيني، جزءٌ من هذه الأُمَّة، مهدد في مصادرة حُرِّيَّته واستقلاله وكرامته، مظلوم ومضطهد بشكلٍ مستمر، يُباد، ويُقهر، وتُنهب ممتلكاته، فيها فلسطين التي هي جزءٌ من هذه الأمة في أرضها وفي كل اعتباراتها، المسألة فيها خطر على مقدَّسات الأمة بشكلٍ عام، بما فيها أيضاً مكة والمدينة؛ لأنها ضمن المشروع الصهيوني، الأمة بشكل عام مساحة جغرافية واسعة مهددة بالاحتلال المباشر، والبقية بالسيطرة والتحكم الكامل، فالمسألة فيها ظلم كبير، فيها أيضاً طمس لهوية هذه الأمة، فيها جرائم، فيها فتن، فيها أمور كبيرة، ليست بمستوى أن تبقى الأمور فيها منفلتة.
فالأمة بحاجة إعادة الضبط في مواقفها؛ لتبقى مواقفها جزءاً من دينها، من أخلاقها، من مبادئها، من قيمها، ترتكز على هوية هذه الأمة، على مبادئها، على قيمها، على تعليمات الله لها، فالمسألة في غاية الأهمية، المسألة فيها السيطرة على الأمة، فيها التدمير للأمة، مسخ هوية الأمة، استهداف لهذه الأمة في ولاءاتها وعداواتها أيضاً.
يصل الحال- ولاحظوا- يصل الحال إلى درجة أن يحدد لك الأمريكي والإسرائيلي أيضاً من تعادي، يكون الإسرائيلي، الذي هو عدوٌ لك، اليهود الذين قال الله عنهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ}[المائدة:82]، يحدد لك أنت الذي تقدم نفسك كمسلم من تعادي، فتتَّجه لمعاداته، تعاديه بكل وسائل العداء: إعلامياً، عسكرياً، أمنياً… بكل وسائل العداء، ويحدد لك الأمريكي من تعادي، يحدد لك من توالي أيضاً، ومن تسالم، ومن تحارب.
وهذا من أسوأ الضلال: أن تصل الأمة في إضلال الأمريكي والإسرائيلي لها، وإضلال اليهود لها، إلى درجة أن تُوَجَّه في ولاءاتها وعداواتها، ومن توالي، ومن تعادي، ومن تحارب، ومن تسالم، وتصل إلى درجة ألَّا تعرف من هو العدو الحقيقي لها، هذا من أسوأ الضلال، دون مستوى ما عليه حتى بقية الحيوانات، الحيوانات تعرف أعداءها من الحيوانات، ولا ترتمي في أحضان أعدائها، الحيوانات لا ترتمي في أحضان أعدائها، وهي حيوانات، بغريزتها التي أودعها الله فيها، بما أودع الله لها أيضاً من مستوى مُعَيَّن من الفهم والإدراك، فأن يصل واقع الكثير من أبناء الأمة إلى الاختلاط والاشتباه في مسألة: من هو العدو، ومن هو الصديق، ومن يوالون، ومن يعادون، ومن يحاربون، ومن يسالمون؛ إضلال رهيب إلى هذه الدرجة، حتى دون مستوى الحيوانات، أضل من الحيوانات.
ولـذلك تحتاج الأمة إلى القرآن الكريم، ضبط للموقف، كما قلنا: المسألة ليست عادية، هناك ظلم رهيب، منكر فظيع، إجرام، إفساد في الأرض، طغيان وشر، كل التحرك الأمريكي والإسرائيلي هو في إطار هذه العناوين، يعني: هو شر، هو إجرام، هو طغيان، هو ظلم، هو منكر، هو فساد؛ ولـذلك عندما تتحرك الأمة منفلتةً في مواقفها لصالحهم؛ فهي تشترك في كل ذلك، فالموقف منهم ليس مجرد وجهة نظر سياسية، وعلاقات سياسية، ومصالح مادية، ومكاسب هنا وهناك زائفة، بل له ارتباط مبدئي، وأخلاقي، وإنساني، وديني؛ لأن الدين الإسلامي له موقف، له موقفٌ من الظلم، هو دين العدل، هو ضد الظلم، ضد الإجرام، ضد الطغيان، ضد الفساد، ضد المنكر، النشاط العدواني اليهودي الصهيوني الأمريكي الإسرائيلي هو يتلخص في: إضلال، وإفساد، وظلم، والدين له موقف من كل ذلك.
المشروع القرآني يعود بنا إلى القرآن الكريم:
•للحصول أيضاً على أعلى مستوى من الوعي، والبصيرة، والنور، والحكمة، والرشد، والهداية، وهذه كلها قد فقدها معظم أبناء هذه الأمة، يعني: فقدوا الوعي، البصيرة، النور، الحكمة، الرشد، الهداية، ونحن بحاجة ماسَّة أن نتحرك بوعي عالٍ عن العدو، عمَّا ينبغي أن نعمل، عن مسؤوليتنا، عن الواقع الذي نعيشه، عن الأوضاع من حولنا، عن التهديدات والمخاطر… الوعي في كل شيء.
•ثم أيضاً لزكاء النفوس، في مواجهة الإفساد اليهودي، والهجمات الرهيبة جداً، التي تهدف إلى إفساد الناس، نحتاج أن نتحصن بالقرآن الكريم؛ لزكاء نفوسنا، ولصون كرامتنا الإنسانية.
•أيضاً للشعور بالمسؤولية، والموقف من شر وعدوان وإجرام الأعداء، أن علينا مسؤولية دينية.
ثم أيضاً بالعودة إلى هويتنا الإسلامية والإيمانية والقرآن الكريم، نعرف أننا كمسلمين أمة علينا مسؤوليةٌ كبيرة، ولنا دورٌ محدد، يتحتم علينا القيام به، وإلَّا كانت العواقب خطيرة في الدنيا والآخرة: وهذه مسألة مهمة جداً، وعنوانٌ كبير.
عندما نعود إلى القرآن الكريم، نعرف بناءً على هويتنا وانتمائنا للإسلام أننا أمة عليها مسؤولية كبيرة، ولها دورٌ محدد، حدده الله لها، إذا فرَّطت في هذه المسؤولية، ولم تقم بهذا الدور؛ كانت العواقب وخيمةً بشكلٍ كبير عليها، في مقام الجزاء والحساب في الدنيا وفي الآخرة.
نحن المسلمون ننتمي إلى الإسلام، والرسالة الإلهية التي نؤمن بها، وبالقرآن الكريم أنه كتاب الله تعالى، ووحيه وتعليماته، وبالرسول محمد «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم» أنه رسول الله، وخاتم أنبياءه، نؤمن برسل الله وكتبه، فلدينا إرث الرسالة الإلهية، إرث الرسل والأنبياء، ونحن آخر الأمم، نحن آخر الأمم، نحن معنيون بحكم هذا الانتماء، هذه المسؤولية، أن نكون أمةً تتحرك بالرسالة الإلهية، تدعو إلى الخير، وتتصدى للشر، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وأن نهتدي بكتاب الله تعالى، ونقتدي برسوله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم»، وهذا الدور هو دورٌ عالمي؛ لأن الرسالة الإلهية هي للعالمين، رحمة للعالمين، كما قال الله لرسوله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107].
ويقترن بهذا الدور معونة من الله، ليست حِملاً حمَّلنا الله إياه، ثم إذا تحركنا لنقوم به، يتخلى عنَّا، ويتفرج علينا، ويتركنا في وضعٍ صعب، بل يقترن مع ذلك معونة من الله، وتأييد من الله، ورعاية من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
هذا الدور لهذه الأمة في إطار هذا المشروع الإلهي والرسالة الإلهية، أتى الحديث عنه كثيراً في القرآن الكريم، من ذلك قول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران:110]، (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) يعني: لها دورٌ عالمي، تتحرك لتكون خير أُمَّة، هذه الخيرية مرتبطة بمدى ارتباطها بهذه المسؤولية، وحملها لهذه الرسالة، والتزامها بها.
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}[آل عمران:110]، هذا الدور انتقل إلى أمتنا الإسلامية عن أهل الكتاب، يعني: كان هذا الدور ما قبل أمتنا الإسلامية، كان هذا الدور إلى من؟ إلى أهل الكتاب، (أهل الكتاب: أهل التوراة والإنجيل من قبلنا)، كانوا هم من تحملوا المسؤولية في أن يكونوا أمة نموذجية، تسعى في أوساط المجتمع البشري لنشر الخير، والحق، والعدل، والقيم، والفضائل، وتقيم حضارة متميزة، مستندة إلى ذلك، وتسعى إلى نشر الخير، ونشر الرسالة الإلهية في العالمين، ولكن انتقل هذا الدور عنهم، لماذا؟
بعد أن وصلوا هم في مستوى الانحراف عن الرسالة الإلهية، والتحريف لها، والتعطيل أيضاً لها، إلى فقدان الأهلية بشكلٍ نهائيٍ لهذا الدور، وتحوَّلوا إلى نقيضه، هم تحوَّلوا إلى نقيض للدور الذي كان عليهم القيام به، تحوَّلوا إلى مصدر للشر، للإضلال، لإفساد الآخرين، للإفساد في الأرض؛ ولـذلك فقدوا الأهلية للقيام بهذا الدور، ليكونوا رائدين في المجتمع البشري، بالقيم العظيمة الفطرية، التي فطر الله الناس عليها، للعدالة، للخير للشعوب والبلدان، للناس، فقدوا هذا الدور تماماً، وفقدوا الأهلية لذلك بشكلٍ نهائي، وتحوَّلوا إلى النقيض منه تماماً.
فهم حاقدون؛ لما جرى، لانتقال ذلك الشرف عنهم والدور الكبير إلى هذه الأمة (الأمة الإسلامية)، هم يدركون أنه دورٌ يقترن به مسؤوليةٌ من جهة، وهو شرفٌ عظيمٌ وفضلٌ عظيمٌ من الله، وفي نفس الوقت يقترن به عونٌ من الله، وتأييدٌ من الله، وبركةٌ من الله؛ لتمكين من ينهض به في أن يكون في صدارة الأمم، متميزاً بهذا الدور، وليس مستعلياً بالظلم، والطغيان، والإجرام، والنهب للشعوب، والظلم لها، والاضطهاد لها، والقهر لها؛ بل لإيصال هذا الخير إليها، بل لنشر الحق والعدل والقيم العظيمة، فهم حاقدون؛ لأنهم يدركون أن ذلك يقترن به مسؤولية، وتمكينٌ إلهي، كما جرى في صدر الإسلام، ليست المسألة مجرد كلام، كلام رائع، لكن لا وجود له في الواقع.
حدث هذا في صدر الإسلام، بعد أن تحرك رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ» من نقطة الصفر، وبدأ المشوار من نقطة الصفر، وبنى الأمة الإسلامية، فوصلت إلى صدارة الأمم، وهي تحمل راية الإسلام، راية الفضائل، راية الحق والعدل، متميزةً بحمل هذا النور الإلهي، وهذه الرسالة المقدَّسة والعظيمة، كما جرى في صدر الإسلام، مع أنهم- أهل الكتاب آنذاك ومن معهم، من تحرك معهم من وثنيين ومشركين من العرب- حاولوا منع ذلك بكل جهد، استخدموا مختلف المؤامرات والمكائد والحروب، ولكنهم فشلوا.
الأمة آنذاك، بقيادة رسول الله محمد «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ»، وصلت إلى صدارة الأمم، انهارت في مواجهتها كل تشكيلات الأعداء:
•من اليهود أولاً.
•من الوثنيين في الجزيرة العربية ثانياً.
•وتهاوت الإمبراطوريات من حولهم ثالثاً.
وانتصرت الرسالة الإسلامية في السَّاحة بذلك المشروع، والأُمَّة بذلك المشروع، وتلك القيم، وذلك الدور، وهذا الدور دور عظيم، يختلف عن سيطرة وعلو المستكبرين، الظالمين، الطامعين، وما ضاعت الأمة فيما بعد ذلك، إلَّا لمَّا أضاعت مسؤوليتها المقدَّسة، فانحدرت الانحدار الكبير الذي استغله أولئك الأعداء التاريخيون من جديد.
الله بيَّن في القرآن الكريم حقدهم، وحسدهم، وإدراكهم هم أن هذا الدور لهذه الأمة هو فضل عظيم وشرف كبير، في آيات كثيرة جداً في القرآن الكريم، كثيرة جداً، في: سورة البقرة، وآل عمران، وسورة النساء، وسورة المائدة… وغيرها، وفي سورة التوبة أيضاً، في سورة الصف، في سورة الجمعة… وغيرها، سور كثيرة في القرآن الكريم، من ذلك:
•قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا}، لماذا؟ {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}[البقرة:109].
•يقول عنهم: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}[البقرة:90].
•يقول عنهم: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ}[آل عمران:69].
•يقول عنهم: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[البقرة:105].
بعد هذا التشريف الإلهي، هذا الدور العظيم، الذي يقترن به تمكينٌ من الله، وشرفٌ وفضل، كيف تعود الأمة إلى تسليم أولئك الذين انتقل عنهم هذا الدور، طُرِدُوا من ساحة الفضل الإلهي؛ لأنهم هم من وصلوا إلى مستوى فقدان الأهلية بشكلٍ نهائي، كيف تعود الأمة إلى تسليمهم زمام أمورها، وتتحول إلى تابعةٍ لهم ومطيعة، فيما هو خسرانٌ مبين في الدنيا والآخرة، بل يتحرك البعض لمناصرتهم والولاء لهم؟!
أمة الملياري مسلم، لا نقول أنَّ هذه المسألة فقط لما مضى في صدر الإسلام، هي مسؤولية مستمرة، وأمة الملياري مسلم تمتلك المقومات للنهوض بهذه المسؤولية، وهذا الدور:
•أول هذه المقومات: هو الهدى، هو النور، القرآن الكريم الذي يؤهلها لذلك، في رؤيتها، وحكمتها، وبصيرتها، ورشدها، وزكائها، وأخلاقها، وأهدافها، وحضارتها، تحتاج إلى العودة لهذا القرآن الكريم، وإلى الاقتداء برسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ»، وتصحيح وضعيتها على أساس ذلك.
•لديها مقومات مادية، ومقومات بشرية، ورقعة جغرافية مميزة جداً، ثروات هائلة، الكثير منها يهدر جزءٌ كبيرٌ منه لصالح أعدائها.
وهي عندما أضاعت مسؤوليتها؛ كان لذلك نتائج كبيرة جداً، تركت فراغاً كبيراً في الساحة العالمية، فراغاً كبيراً من هذا الدور: أن يكون هناك من يسعى لنشر الخير في البشرية، في المحافظة على الكرامة الإنسانية، وإعادة الاعتبار للكرامة الإنسانية في نشر الحق، في نشر العدل، في مواجهة الظلم، والطغيان، والفساد، والإجرام، هذه حاجات أساسية للمجتمع البشري، ليست أموراً يمكن أن يستغني الناس عنها، هل يمكن أن يستغني الناس عن العدل، وأن يكون الظلم بديلاً مريحاً لهم، لمصلحتهم في حياتهم؟! أو أن يكون المنكر والفساد والإجرام بديلاً صالحاً لحياتهم؟! كم هي نسبة المعانين من أوساط المجتمع البشري في مختلف أقطار الأرض؟ نسبة عالية جداً.
ولـذلك الفراغ هذا الذي تركته الأمة فراغ خطير، قوى الشر الظلامية استغلته، واتَّجهت بطغيانها وإفسادها، وظلمها وظلامها وإجرامها، وبتوجه عالمي، أمريكا وإسرائيل، الحركة الصهيونية في العالم هي تتحرك في إطار توجُّه عالمي، وهي مصدر شر، شر يعاني منه الناس في مختلف الشعوب، كم عانت الشعوب والبلدان من أمريكا في مختلف الساحة العالمية، بلدان حتى في غير العالم الإسلامي، في غير العالم الإسلامي؟ ماذا فعلته أمريكا باليابان؟ ماذا فعلت في ألمانيا؟ ماذا فعلت أيضاً في- كذلك- فيتنام، في بلدان كثيرة جداً، في شعوب أمريكا اللاتينية؟ ماذا فعلته بدءاً من أمريكا نفسها، ضد الهنود الحمر؟ كم ظلمت! كم أجرمت! كم تنهب على الشعوب من ثروات، وتحرمها منها، وتتركها للمعاناة والبؤس، ثم تُقدِّم الفتات القليل الضئيل؛ لخداعها، وهي نهبت عليها الكثير الكثير جداً، وحرمتها من خيراتها! كم تُرَوِّج للأباطيل، والخرافات، والأفكار الزائفة، التي تُضِلُّ بها البشرية، وتحرفها عن المسار الصحيح، والاتِّجاه الصحيح، وتدخلها في عمى وفقدانٍ للبصيرة والرشد الفكري… وغير ذلك! كوارث رهيبة جداً، مصدر شر، إجرام، طغيان، إفساد، ظلم، قتل، كم قتلت من أبناء المجتمع البشري في مراحل متنوعة ومتعددة؟
أمريكا قتلت الملايين، يعني: في الإحصائية الأخيرة، وهي إحصائية أمريكية، خلال العشرين عاماً، والتي يفترض أنها أقل مما قد سبق، في مستوى ما فعلته أمريكا، لأن أمريكا ما قبل ذلك قتلت الناس بالقنابل النووية والذرية، لكن حتى فيما بعد خلال العشرين عاماً الأخيرة، الإحصائية تقول، وهي إحصائية أمريكية: أن أمريكا قتلت أكثر من أربعة مليون إنسان، معظمهم من العالم الإسلامي، وكثيرٌ منهم- مئات الآلاف، وقد تكون نسبة بالمليون أيضاً- من الأطفال والنساء.
أمريكا مصدر إجرام كبير، عدوانية، وعدوانيتها واضحة: تتهدد البلدان، تضغط عليها عسكرياً، تصنع أفتك السلاح المدمر، وتستهدف به الأطفال والنساء، تستهدف به خيم النازحين، تستهدف به المدن، أمريكا تصنع قنابل لتدمير المدن، وهي تعرف أن الساكنين في المدن هم المدنيون؛ استباحة لحياة الناس، فهي مصدر شر كبير تعاني منه المجتمعات البشرية.
هي أيضاً مصدر فساد ونشر للرذيلة: تنشر الرذائل، تنشر الفساد الأخلاقي، تفكك المجتمعات، تُمزِّق النسيج الاجتماعي، تحارب الفضائل والقيم، تسعى لتمييع المجتمع البشري، تُدَمِّر الأسرة في المجتمع البشري.
مصدر نهب للثروات: كل هذا تقترن به حقائق كثيرة، أرقام كثيرة، شواهد كثيرة جداً، مصدر نهب للثروات، وحرمان للشعوب منها، مع أسلوب الخداع- كما قلنا- لتقديم الفتات الضئيل؛ للخداع.
مصدر ظلم شامل، ومحاربة للعدالة، فعلاً ومحاربة لإقامة العدالة، أي توجُّه لإقامة العدل، توجُّه صحيح، تحاربه أمريكا ومعها إسرائيل.
هذا الفراغ الذي استغلته أمريكا بشرها، لمَّا تخلَّت الأمة التي كان عليها أن تكون مصدر خير للبشرية، مصدراً لنشر العدل في البشرية، مصدراً لنشر الفضائل في المجتمع البشري، مصدراً- كذلك- لإيصال الإنسانية إلى بَرِّ الأمان في مسيرتها في إطار الرسالة الإلهية… وغير ذلك؛ أتى أولئك، تركوا الساحة لأولئك المجرمين واليهود.
القوى الأخرى في العالم لا تمتلك المقومات الأخلاقية والمعرفية للوقوف بوجه الشر الأمريكي، والتصدي لذلك، والخطر اليهودي، والإضلال والإفساد اليهودي، والإسرائيلي، والأمريكي، والصهيوني؛ (فاقد الشيء لا يعطيه)، يعني: هناك قوى في الساحة العالمية تناوئ أمريكا، تنافسها، لكن منافسة اقتصادية، سياسية؛ لكن لا تمتلك مقومات بهذا المستوى، لا تمتلك المشروع الإلهي، القيم الإلهية، التعليمات الإلهية العظيمة جداً، الراقية، لا تمتلك الهدى الذي يُزَكِّي النفوس، والذي له دور كبير في إصلاح المجتمع البشري.
أيضاً هناك كيانات شُكِّلَت، مثل: محكمة العدل الدوليَّة، الجنائية الدوليَّة، مجلس الأمن، الأمم المتحدة، كل هذه دورها في الاساس هو ضد المستضعفين، إذا كانت وصلت في مراحل معينة- للضرورة القصوى؛ لأنها انكشفت جداً- إلى الحاجة أو الضرورة إلى تبني مواقف مُعَيَّنة من أحد من المستكبرين؛ تُفرض عليها عقوبات ويُشنّ عليها ذلك، مثلما حصل مع الجنائية الدوليَّة، أمريكا فرضت عليها عقوبات، لم تعد أمريكا تحترم القضاء كما يُقدِّمون أنفسهم، وفي نفس الوقت ماذا؟ كثيرٌ من الدول تسخر منها، وقراراتها لن تلقى لها أي قابلية في الواقع عند أكثر الدول.
ولـذلك الأمة المسلمة هي المعنية أن تكون هي الرائدة والقائمة بالدور: في الدعوة إلى الخير للمجتمع البشري، في التصدي للشر وللأشرار، في الأمر بالمعروف الذي تعرفه الفطرة البشرية، وهو في الدين الإلهي والتعليمات الإلهية، والنهي عن المنكر، وتنكره الفطرة البشرية السليمة، والقيام ضد الظلم، والسعي للعدالة، وأن تُقدِّم بادئ ذي بدء النموذج من واقعها، من واقعها الداخلي.
الأمة هي المعنية بهذا الدور: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}[النساء:135]، {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}[المائدة:8]، في آيتين قرآنيتين، دور مهم، تخلَّت الأمة عن هذا الدور، وكان تخليها عنه إسهاماً لدعم المفسدين في الأرض، من تلك القوى، قوى الشر الظلامية التي تقودها الصهيونية واليهود؛ فاتَّجهوا هم ليملأوا الأرض بشرهم، وفسادهم، وطغيانهم، وظلمهم، وظلامهم، ثم كانت الأمة ضحيةً لذلك، أصبحوا هم يتَّجهون إلى أُمَّتنا بشرهم؛ ليملؤوها بالشر، وليدفعوا الكثير من أبنائها معهم؛ لنصرة الشر، والوقوف مع الشر، لنشر المنكر بكل أشكاله، من: ظلم، وفساد، وإجرام، وباطل… وغير ذلك، ولمحاربة المعروف، لنشر الظلم والسيطرة على الثروات، وهذا الذي حصل؛ ولــذلك نرى الآن بكل وضوح أن الساحة العالمية تفتقر إلى إعادة الاعتبار للكرامة الإنسانية، وللأخلاق، وللعدالة، ولإقامة القسط.
أمَّا الصهيونية وأذرعها (أمريكا، وإسرائيل، وبريطانيا، ومن يدور في فلكهم، والنظام الغربي) فهم يُشَكِّلون خطورة على بقية الشعوب، بجشعهم، وطمعهم، وطغيانهم، وإجرامهم، وفسادهم، وخداعهم، كلهم خداع، كل أساليبهم للخداع، وهم يُشكِّلون مصدر قلق كبير، قلق كبير.
الأمريكي الآن واضحٌ في مستوى جشعه وطمعه، وعدوانيته وظلمه، وليس للعدالة عنده أي قيمة أبداً، [ترامب] اتَّخذ قراراً بتغيير اسم [الخليج المكسيكي] إلى [الخليج الأمريكي]؛ ليصادر على المكسيك حقوقها، يتَّجه إلى السيطرة على بلدان هناك، حتى في خارج العالم الإسلامي؛ أمَّا في العالم الإسلامي فمعه برنامج أسوأ وأخطر بكثير، فالمسألة مؤلمة جداً فيما يحصل الآن، وما فعلته أمريكا ببلدان كثيرة.
ولـذلك نحن نقول لِأُمَّتنا: ما يريده الله لكم، يا أيها العرب، يا أيها المسلمون، ما يريده الله لكم هو أرقى وأعظم مما تطمحون إليه من ارتهانكم لأعدائكم، الذين لا يريدون لكم أي خير إطلاقاً؛ وإنما يريدون استغلالكم، والاستفادة من إمكاناتكم، يريد الله لكم أن تكونوا أنتم سادة الأمم، وقادة المجتمع البشري، وأن يمكنكم من ذلك، ولكن ليس لتظلموا وتفسدوا، كما يفعل اليهود وأمريكا وإسرائيل؛ بل لأداء دورٍ راقٍ، ولبناء حضارةٍ إسلاميةٍ نموذجية؛ ليبقى في المجتمع البشري من ينشر الخير والعدل، ويحفظ الكرامة الإنسانية.
أمَّا في إطار أمريكا ومع إسرائيل، لن تكونوا إلا عبيداً لهم، خانعين لهم، وظالمين، ومفسدين، وداعمين للمنكر، وساقطين إنسانياً وأخلاقياً إلى الحضيض، وهم ليسوا مصدر خيرٍ للبشرية، وإلَّا فما الذي ينقصهم؟ سيطروا، لديهم الإمكانات الهائلة، أين الظلم الكبير إلَّا منهم! أين الإجرام الفظيع إلَّا فعلهم! ما عانت البشرية من نشرٍ للفساد وتضييعٍ للفضائل والقيم هو بسعيهم.
نحن رأينا ونرى، ويرى غيرنا، حالة التدني والتراجع الإنساني والقيمي في واقع الأمة، تجاه ما يجري في داخلها وعلى أبنائها، ما بالُك ببقية العالم، وكان ذلك بارزاً تجاه ما قام به العدو الإسرائيلي من إجرامٍ فظيعٍ، وإبادةٍ جماعية، ضد الشعب الفلسطيني، مع أن مسؤولية الأمة واضحة ومعروفة، عليها مسؤولية واضحة: أن تنصر الشعب الفلسطيني، أن توقف الإبادة الجماعية، التي يرتكبها العدو الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ولكنها لم تقم بها، فلماذا؟
هذا يدل على أن هناك عمل مستمر، لإيصال الأمة إلى هذا المستوى من التدني والتراجع، على مستوى الضمير الإنساني، على مستوى الإحساس بالمسؤولية، على مستوى النهوض بالدور الذي عليها القيام به، على مستوى إدراكها لحقيقة المخاطر التي تهددها.
هذا يدل بشكلٍ واضح إلى الضرورة القصوى لإعادة استنهاضها قرآنياً، الأُمَّة في حالة تراجع كبير، بحاجة إعادة استنهاض على المستوى العام، استنهاضها قرآنيا، وتعبئتها إيمانيا؛ لأن القرآن الكريم مصدر للهداية، ولتزكية النفوس، ويرتقي بالناس إلى المستوى المطلوب، بل إلى المستوى الراقي في الإنسانية، في الوعي، في سمو الروح.
ثم مع المقومات، والمسؤولية، والدور، هناك مسألة مهمة، وهي: علاقة الأمة مع الله تعالى، الحي القيوم، هي مرتبطةٌ بمدى قيامها بدورها، ونهوضها بمسؤوليتها، وإلَّا فهناك عواقب وعقوبات: عقوبات في الدنيا، وعقوبات في الآخرة، إن استجابت لله، حظيت بالمعونة والنصر، والله وعدها، وقدَّم لها الوعود، التي هي وعود حقيقية لا تتخلف ولا تتبدل، وقدَّم لها الضمانات الكافية؛ وإلَّا خسرت إذا لم تنهض بمسؤوليتها، وخسر أولئك في نهاية المطاف، يعني: حتى قوى الشر الظلامية هي خاسرة، هي تتَّجه بالمجتمع البشري إلى الخسران، تتَّجه بمن يطيعها ويواليها، ويتجه معها من أبناء أمتنا، إلى الخسران، طريقهم ليس طريقاً للنجاح، ولا للفلاح، هو طريق التلاشي، الانهيار، السقوط، وهو طريقٌ عاقبته الحتمية واضحة، توعَّد الله بها في القرآن الكريم، وشواهدها التاريخية كبيرة جداً.
مع كل ذلك، يبقى للحق والنور امتداده، مهما كانت حالة الارتداد عن مبادئ الدين، مهما كانت حالة التنكر والتجاهل، بل والتهرب من هذا الدور العظيم، الدور المشرِّف، التحرُّك بالرسالة الإلهية، بنورها، وخيرها، وعدلها، وفضائلها، وقيمها الراقية، وتعليمات الله فيها، مهما كان هناك من المتنكرين لهذه المسؤولية، لهذا الدور العظيم، مهما كان هناك من ارتداد في الولاء، من اتِّجاه مع الأعداء، هذا الدور سيبقى مستمراً، يبقى للحق والنور امتداده، والمسار مستمر.
قد يضيع الكثير حتى من أبناء الأمة، قد تكون حالة الارتداد والتراجع واسعة، لكن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة:54]، قد تكون هناك صعوبات، تضحيات كثيرة، أسبابها في كثيرٍ من الأحيان يعود إلى إشكالات، إلى عوائق، إلى خلل، إلى ضعف في التفاعل، في الالتزام؛ ولكنَّ المستقبل، والأمل، والنصر المحتوم، هو لصالح الذين يستجيبون لله تعالى.
المشروع الإلهي، والرسالة الإلهية، بقرآنها، بنورها، بعدلها، بمبادئها وقيمها، أتت لتبقى، ولم تأت لتسقط وتضيع، وتتلاشى وتنتهي، ثم تكون الأرض خاضعةً للطغاة والمجرمين إلى النهاية، إلى قيام القيامة، الله يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، هو الذي يقول: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[الصف:8]، وفي آيةٍ أخرى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[التوبة:32].
هذا الدين، هذا الحق، هذا النور، سيبقى، سيظهر، المستقبل له، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} كما وعد الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، الوعد الإلهي المحتوم: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}[الأنبياء:105]، الوعد الإلهي المحتوم المؤكد بزوال الكيان الصهيوني المجرم، الغاصب، الظالم، المفسد في الأرض: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[الإسراء:7]، الوعد الإلهي في قوله تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}[الإسراء:8]؛ فلذلك هي وعود إلهية، تتحقق على رغم أنف الأعداء الظلاميين، قوى الشَّرّ الظَّلامِيَّة مِنَ المنحرفين عن رسالة الله تعالى، والمحرفين لها، من أهل الكتاب، هم مُتَّجهون إلى الفشل في نهاية المطاف، والكيان الإسرائيلي كذلك مُتَّجِهٌ إلى الزوال بإذن الله تعالى.
ولـذلك حال التائهين من أبناء الأمة، حال الذين لم يثقوا بوعود الله، ولم يستبصروا بنور الله، ولم يستنيروا بنور القرآن الكريم، حالهم تجاه هذه الحقائق، وتجاه هذه المتغيرات التي سيصنعها الله، سيصنعها على أيدي الثابتين على نهجه، والمستجيبين له، كحال ابن نوح العاصي، المنعزل عن نهج الله الحق، في قصة الطوفان بعد ما ناداه والده: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ}[هود:42-43]، يتصورون في أمريكا وفي إسرائيل ذلك الجبل، الذي يعصمهم من طوفان الله الآتي حتماً، ولكنهم سيهلكون، سيغرقون، سيضيعون، عندما اتَّجهوا مع الكافرين، مع الظالمين، مع جبهة الشر والطغيان، والظلم والضلال.
من يتصور أنه بولائه لأمريكا وإسرائيل، ونصرته لهما، بما يترتب على ذلك من مواقف ظالمة، وتراجع عن مبادئ وقيم الإسلام، والتعاليم الإلهية، وبرمجة لكل الشؤون وفق إملاءاتهم المضلة، المفسدة، من يتصور أنه قد ضمن مستقبله، فهو خاسر وخائب، وعاقبة أمره هي الخسران في نهاية المطاف، كما هو الوعد الحتمي في القرآن الكريم في (سورة المائدة): {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[المائدة:52]، العاقبة هي الندم، وهي الخسران.
نحن في المقابل- بتوفيق الله تعالى، وبهدايته- نؤمن بيقين: أن ضمان المستقبل في الدنيا والآخرة؛ لأن المسلم يحسب في حساباته مع الدنيا الآخرة، والآخرة أرجح، وأبقى، وآثر، وأن العزَّ والخير هو بالتولي لله تعالى، والتمسك بكتابه وهديه، والوقوف موقف الحق، والتحرك في إطار المهام والمسؤوليات الإلهية المقدَّسة والمباركة، في حمل راية الجهاد في سبيل الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولـذلك نحن نقف ضد منكر أمريكا وإسرائيل، والصهيونية، وباطلها، وشرها، وظلامها، وطغيانها، ضد العدو الإسرائيلي، ضد المشروع اليهودي الصهيوني، ونحن بفضل الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وبهذا التوجه القرآني الإيماني، أحرار بما تعنيه الكلمة، لم نُعَبِّد أنفسنا للطاغوت، ونحن نريد الحُرِّيَّة لأمتنا، ولكل البشر، ونريد الخير لأمتنا، ولكل الناس، وما نقدمه من تضحيات في هذا المشروع العظيم، وفي هذا الطريق المبارك، هي تضحياتٌ محسوبةٌ في سبيل الله تعالى، قربانٌ إلى الله، لها نتائجها الطيبة؛ بينما الآخرون يخسرون، ولكن بعد خسران الدنيا خسران الآخرة، والعياذ بالله.
أمريكا هي راعية الشر، وهي راعية المنكر والإجرام، وهي داعية الضلال والباطل، هي محاربةٌ للمعروف، هي معاديةٌ للحق، تسعى على الدوام لمصادرة حقوق الآخرين، تسعى لاستعباد الناس من دون الله، وإخضاعهم لسياستها، وطغيانها، وتوجهاتها الظالمة؛ ولـذلك فمن الخير والفلاح أن يكون الإنسان ضداً لتوجهاتها الظلامية، ولطغيانها وإجرامها، ما يصدر منها من مواقف عدائية ظالمة ليس غريباً عليها، ومن يؤيِّد ما يصدر عنها، يتورط معها في الوزر الفظيع.
حساباتنا، والحسابات التي ينبغي أن يحسبها كل أبناء أمتنا، حسابات تكون على أساس مبادئ الدين، وقيمه، وتعاليم الله تعالى، تأتي فيها الأمور الكبيرة كبيرة؛ ولـذلك فأمريكا وإسرائيل هما جبهة الشر والظلم، في أكبر مستوى من الظلم والشر، والإجرام والطغيان، وهما مصدر الفساد، لنشر أسوأ مستوى من الفساد والرذيلة؛ ولـذلك فالمصداقية في الانتماء الديني أن تكون في اتجاه مناوئ لهما؛ لتكون ضد الظلم الأكبر، والمنكر الأكبر، والشيطان الأكبر، وليس أن تتولاهما، وتدعمهما، وتتورَّط في ذلك بالاشتراك معهما في الظلم والطغيان، ثم تكتفي من الإسلام بطقوس، تحولها إلى طقوس شكلية، وتُفَرِّغها من مضمونها الحقيقي، فقد كانت جبهة الكفر ما قبل الإسلام تحج وتعمر المسجد الحرام، ثم تتجه لحرب رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ» والإسلام. أمريكا وإسرائيل شرٌّ على المجتمع البشري، وشرٌّ مستمرٌّ يجب الموقف ضده، وليس إخضاع الأمة له، ومعاداة من لا يخضع له.
القضية الفلسطينية باقية، وإخوتنا المجاهدون في فلسطين جبهةٌ ثابتة، أثبتت صمودها، وثباتها، وتماسكها، وجدارتها بهذا الدور الذي تقوم به، وبأن تكون- فعلاً- في مقدمة الأمة، وطليعة الأمة، لمواجهة العدو الإسرائيلي؛ ولـذلك يجب تقديم الدعم لإخوتنا المجاهدين هم، يجب مساندتهم بكل أشكال المساندة، وليس أن يتَّجه البعض لدعم أمريكا الداعمة لإسرائيل، والتي سَخَّرت كل إمكاناتها لدعم إسرائيل، وإبادة الشعب الفلسطيني، وكان كل الدمار في قطاع غزة هو بقنابلها وقذائفها، وبإشرافها، ودعمها، ومساندتها؛ ثم يتَّجه البعض إلى تقديم المكافأة لمن؟ ليس للشعب الفلسطيني المظلوم، والمضطهد، والمدمَّر، والمعتدى عليه، وليس لمجاهديه الثابتين الأعزاء، تقديم تريليون دولار لمن؟ لأمريكا، التي هي بكل ذلك الشر والإجرام من قدمت أكبر دعم لذلك الظلم والطغيان ضد الشعب الفلسطيني، بعد كل ما حدث، وحدث كله بالقنابل الأمريكية.
نحن في مسيرتنا القرآنية، وشعبنا اليمني العزيز بهويته الإيمانية، مستمرون وثابتون على موقفنا، ونهجنا، وتوجهنا، نعتمد على الله تعالى، ونتوكل عليه، ونثق به، وهذا هو أساس موقفنا المناصر، بحقٍّ وصدقٍ وجدٍ للشعب الفلسطيني ومجاهديه الأعزاء، هذا هو يمن الإيمان والمدد والسند، الذي يستمر في هذا الدور المساند، والداعم، والواقف بجدّ، والتحرك الشامل عسكرياً وفي كل المجالات، كما تحركنا على مدى خمسة عشر شهراً- بتوفيق الله تعالى- على المستوى العسكري تحركاً فعالاً وقوياً، ضد العدو الإسرائيلي:
•في فرض حصارٍ بحريٍ تامٍ في الملاحة عبر البحر الأحمر، وخليج عدن، والبحر العربي.
•والإيقاف والإغلاق لميناء أم الرشراش الذي يسميه العدو بـ [إيلات].
•وفي الاستهداف للأعداء الصهاينة بالصواريخ والمسيَّرات إلى عمق فلسطين.
وفي التصدي للعدوان الأمريكي بفاعلية عالية، ومعنوياتٍ كبيرةٍ إيمانية:
•في القصف والاستهداف لبارجاته وسفنه الحربية.
•ومنع سفنه التجارية من العبور.
•والاشتباك مع حاملات طائراته، وطردها من مسرح عملياتها، ومن البحرين (الأحمر، والعربي).
•والتصدي الفعَّال بالدفاع الجوي لطائرات التجسس والعدوان، التي تم إسقاط أربعة عشرة طائرة منها.
والتحرك الشعبي المليوني، الذي قدَّم أعظم صورة قوية وعظيمة عن التوجه العظيم والشجاع لشعبنا، واستمر خمسة عشر شهراً في مختلف الظروف والأحوال، من حرٍّ، وبردٍ، ومطرٍ، وفي الصوم، ومع القصف، ولم يتأثر بالحملات الدعائية المعادية، ولم يتراجع لفتورٍ، أو كللٍ، أو ملل.
في التحرك القوي أيضاً للجبهة التثقيفية والتوعوية، التي استمرت وتستمر، من أبطالها من العلماء، والخطباء، والثقافيين المجاهدين، بشكلٍ مكثفٍ وقوي، وقدَّمت صورةً مغايرة عن حالة المتخاذلين والمدجنين.
في التحرك القوي في الجبهة الإعلامية، وفرسان الإعلام الذين بذلوا جهداً عظيماً جهادياً في الميدان الإعلامي، وتحركوا بشكلٍ عظيمٍ وفعَّال، إلى درجة أن الأمريكي يصيح من قوة دائهم وتأثيره.
مسيرتنا القرآنية من يومها الأول كانت محاربةً بإشرافٍ أمريكيٍ مستمر، وعبرنا- بفضل الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»- مراحل صعبة جداً، وكنا في كلها مظلومين لا ظالمين، ومعتداً علينا، ولسنا معتدين، وبعون الله تعالى تحققت الانتصارات الكبرى والنقلات العظيمة، وأصبحنا الآن في مستوى متقدم من القيام بدورنا، في التصدي للشر والإجرام الأمريكي والإسرائيلي.
نحن في هذه المرحلة نراقب ونتابع مجريات تنفيذ الاتفاق في غزة، وتطورات الوضع في جنين والضفة، ونحن ثابتون على موقفنا المعلن الواضح، في جهوزيتنا المستمرة، واستعدادنا الدائم لنصرة إخوتنا في فلسطين؛ ولـذلك إذا تورَّط العدو الإسرائيلي في النكث بالاتفاق، والعودة إلى التصعيد والإبادة الجماعية، سنعود إلى التصعيد.
ثم كذلك نحن ثابتون على المعادلة، التي سبق وأن أعلنها شهيد الإسلام والإنسانية، السَّيِّد/ حسن نصر الله «رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ»، فيما يتعلق أيضاً بالمسجد الأقصى، وسنبقى على تنسيقٍ مستمر مع إخوتنا المجاهدين في فلسطين، وإخوتنا في محور الجهاد والقدس، تجاه أي تطورات للوضع، وكذلك في جهوزيتنا الدائمة والمستمرة للتصدي لأي عدوانٍ أمريكيٍ على بلدنا.
نصيحتنا للموالين لأمريكا والمسترضين لها بالحذر من التورّط: أيُّها الأغبياء، كونوا أذكياء ولو لمرةٍ واحدة، وفي موقفٍ واحد وقرارٍ واحد، دعوا أمريكا وإسرائيل، وحرضوهما كما تشتهون، وكما أنتم تفعلون أصلاً، ولكن اتركوها، اتركوا أمريكا لتفعل ما تشاء في مواجهتنا، فلتصنف ولتحارب، ولتفعل ما تريد أن تفعل، نحن سنواجهها بعون الله تعالى، ونتصدى لأي عدوانٍ منها مهما كان مستواه، لكن لا تتورطوا معها، هذه نصيحتنا لكم، تفرجوا وتربصوا، كما هي عادتكم في التربص، تربصتم على مدى خمسة عشر شهراً، وخابت آمالكم، وكانت حالة الحسرة واضحةً عليكم.
{وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[هود:121-123].
نَسْألُ اللهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
السَّلَامُ عَلَى شَهِيْدِ القُرْآن، وَنَسْألُ اللهَ أَنْ يُجْزِيَّهُ عَنَّا خَيرَ الجَزَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

المصدر: الثورة نت

كلمات دلالية: الأمریکیة والإسرائیلیة الأمریکی والإسرائیلی ضد الشعب الفلسطینی إلى القرآن الکریم فی المجتمع البشری فی الدنیا والآخرة العدو الإسرائیلی المشروع الصهیونی بدر الدین الحوثی فی القرآن الکریم الساحة العالمیة العالم الإسلامی المشروع القرآنی أمریکا وإسرائیل ما تعنیه الکلمة فی کل المجالات من أبناء الأمة حسین بدر الدین هذه المسؤولیة الحرب الأولى تعلیمات الله هذه الأمة فی هذا المشروع السیطرة على شهید القرآن بهذا الدور أهل الکتاب الله تعالى ع ل ى آل ه مسألة مهمة لهذه الأمة على مستوى فی الساحة فی العالم الکثیر من ة المشروع السلطة فی الأمة إلى کثیرة جدا نشر الخیر کبیرة جدا لله تعالى هذا الدور هذا البلد للتدخل فی رسول الله فی التصدی س ب ح ان ه ت ع ال ى إلى درجة ال ک اف ر مهما کان ال ک ت اب فی مختلف على أساس مستوى من ینبغی أن فی الأرض فی البلد قوى الشر آل عمران لا تمتلک فی مستوى کبیر جدا وغیر ذلک من خلال فی حالة الأمة م لوا إلى ل الأمة غیر ذلک أن تکون أن یکون ک الأمة من الله فی إطار ت الأمة یمکن أن التی هی مستوى م ر ض و ان على ذلک فی الس دون أی الذی ی کل شیء حتى فی ضعف فی مع ذلک وفی کل عن هذا د الله ات

إقرأ أيضاً:

في محاضرته الرمضانية السادسة والعشرين قائد الثورة: طموح الإنسان المؤمن يجب أن يكون في مرتبة الصالحين

الثورة /

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

استكمالاً للآيات المباركة من (سورة الشعراء)، في قصة نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، كُنَّا قد وصلنا إلى قوله:

{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}[الشعراء:82].

تحدثنا عن أهمية يوم الدين، يوم الجزاء على الأعمال، الذي هو بداية الحياة الأخرى، فيما فيها من مصيرٍ محتومٍ:

• إمَّا إلى الجنة، في خيرها العظيم، ونعيمها الخالص والراقي والأبدي.

• وإمَّا إلى النار، في عذابها الشديد، والعذاب المخزي المهين للإنسان، والذي هو عذابٌ وشقاءٌ للأبد والعياذ بالله.

في اهتمامات الإنسان المؤمن، يحسب حساب هذا المستقبل، لا يتَّجه اهتمامه في هذه الحياة نحو متطلباتها العاجلة، بل يجعل سعيه في هذه الدنيا مرتبطاً أيضاً باهتمامه بمستقبله في الآخرة؛ ولـذلك هناك مساحة واسعة- كما شرحنا في المحاضرة الماضية- في رسالة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، من خلال رسله، وأنبيائه، وكتبه، مساحة واسعة تُذكِّرنا بمستقبلنا في الآخرة، وأهمية هذا المستقبل:

• أهميته في أن تستقيم لنا حياتنا هنا.

• وأهميته كذلك حينما تستقيم حياتنا هنا؛ ليستقيم لنا هناك.

فهناك ارتباط ما بين الأولى والأخرى (الحياة الأولى، والحياة في الآخرة)؛ فاهتمام الإنسان المؤمن هو اهتمامٌ يجمع بين اهتماماته في هذه الدنيا، شؤونه في هذه الدنيا، مع ربطٍ لها بمستقبله في الآخرة.

يوم الجزاء على الأعمال يومٌ عظيم، يومٌ مهم، يوم الحساب، يوم القيامة، لا يمكن للإنسان أن يغيب عن ذلك المشهد، أو أن يتهرَّب عن الحضور، أو أن يمتنع عن أن يبعث في يوم القيامة ويحاسب ويجازى، لا يمكنه ذلك، والله لا ينسى أحداً، ولا يغفل عن أحد «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، والإنسان المؤمن هو يحمل تجاه يوم القيامة ويوم الجزاء حالة الخوف، وحالة الرجاء، وهما متلازمان في الجانب الإيماني:

• الخوف من التفريط، من التقصير، من المعصية، من التهاون بالذنوب، الخوف من تبعات الأعمال وآثارها، حينما تكون أعمالاً سيئة.

• وفي نفس الوقت الرجاء لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في مغفرته، في عفوه، في فضله، في رحمته.

ولـذلك فالإنسان مع خوفه لا يصل به خوفه إلى اليأس، أو إلى أن يتصور حينما بدرت منه، أو حصلت منه زلَّات في هذه الدنيا، أو تقصير في مسؤوليات، أو أعمال، أنه مهما رجع إلى الله، مهما تاب وأناب، مهما عمل لتلافي تقصيره؛ فهو لن يحظى بمغفرة الله، ولا بعفو الله، هي حالةٌ خطيرة؛ لأن الشيطان هو يشتغل في الاتِّجاهين:

• يشتغل في اتِّجاه: أن يؤمِّنك من عذاب الله، ويصل بك إلى درجة الاستهتار؛ حتى لا تبالي فيما تعمل، تُمَنِّي نفسك، تُمَنِّي نفسك بالمغفرة، تُمَنِّي نفسك بأنك ستتوب في يومٍ من الأيام، أو حتى لو لم تتب، فسيغفر لك، وهذه حالة خطيرة جداً حالة الأماني، حذَّر الله منها في القرآن الكريم، وحالة التسويف، حالة الاستهتار بالأعمال، والجرأة على المعاصي، والشيطان يشتغل عليها.

• وقد يشتغل في اتِّجاه آخر: إذا كان لديه احتراز من هذا الجانب، وانتباه، وتذكُّر بآيات الله، وإدراك لمخاطر المعاصي، ومساوي التفريط في طاعة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وما يترتب على ذلك، قد يأتيك من جهة أخرى؛ في محاولةٍ لأن يزرع اليأس في قلبك، بأنك لن تحظى بمغفرة الله، أنت مُقَصِّر، أنت مذنب، أنت مخطئ؛ وبالتالي مهما توبت، مهما رجعت إلى الله، مهما عملت؛ فأنت لن تصل إلى أن تحظى بمغفرة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» وعفوه، وهذه الحالة من التيئيس حالة خطيرة جداً، {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف:87].

فلـذلك الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» يُعَلِّمنا أن نجمع بين الأمرين: بين حالة الخوف، والرجاء، ويبيِّن لنا ما عليه أولياؤه من أنبيائه والهداة من عباده، وحتى ملائكته، أنهم يجمعون بين الخوف والرجاء: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}[الإسراء:57]، فهم يخافون العذاب، وفي نفس الوقت يرجون رحمة الله، ويرجون المغفرة.

والرجاء هو حافزٌ على العمل، ليس دافعاً إلى الاستهتار، الرجاء الصادق هو يدفع الإنسان إلى العمل؛ ولهـذا يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21]، فالرجاء الصادق هو حافزٌ على العمل؛ لأنك تعمل ولديك أملٌ بالله: أنه سيقبل عملك، سيضاعف لك الأجر، سَيَمُنُّ عليك بالرعاية، والرحمة، والمغفرة، فيما شاب عملك من تقصير، أو نقص، أو قصور؛ فهو حافز على العمل، ومشجعٌ على العمل.

ومعه حسن الظن بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، برحمته الواسعة، بغفرانه العظيم، وفي نفس الوقت تشجيعٌ كبيرٌ على العمل؛ لأن الإنسان يحمل، إذا كان مؤمناً واعياً، هو دائماً يحمل روحية الشعور بالتقصير، وهو بعيدٌ عن مشاعر الغرور، والعجب بالنفس، مثلما عليه أنبياء الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، يتَّجهون الاتِّجاه الإيماني في أرقى مستويات الإيمان، وأرقى درجات الإيمان، يتَّجهون لأداء مهامهم المُقدَّسة العظيمة، في التبليغ لرسالة الله، والسعي لإقامة دين الله، ولهداية عباد الله، وفي نفس الوقت يعتبرون أنفسهم مُقَصِّرِين، يطلبون من الله المغفرة، بالرغم مما هم عليه، لكنهم يدركون عظيم حق الله، عظيم حق الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» عليهم، عظيم حق الله على الإنسان، مهما عمل الإنسان، فلا يساوي عمله شيئاً في مقابل عظمة الله، وعِظَم حق الله عليه، ولكن الله يقبل مِنَّا القليل، ويجازي عليه الكثير، ولـذلك يبقى الإنسان بعيداً عن مشاعر الغرور، مشاعر العُجْب، ومشاعر الاستهتار، وجامعاً بين الخوف والرجاء مع بعض، كُلٌّ منهما يدفع الإنسان، ويُمَثِّل له دفعةً عمليةً في طاعة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».

مخاطر الذنوب على الإنسان هي مخاطر كبيرة جداً، على علاقته بالله، وعلى رعاية الله له، تأثيرها على:

• علاقتك بالله من جهة، ومنزلتك عند الله، وواقعك الإيماني، وحالتك الإيمانية.

• تأثير حتى على المستوى النفسي.

• وتأثير في مدى رعاية الله.

لـذلك فالإنسان يبقى دائماُ يسعى إلى طلب المغفرة، والخلاص من الذنوب وتأثيراتها على نفسه، واتِّجاهه العملي يبقى اتِّجاهاً إيمانياً بأقصى ما يتمكن، فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» يصف عباده المؤمنين بمواصفاتهم الراقية العظيمة (المتقين)، فيقول عنهم: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}[آل عمران:17]، فهم يطلبون من الله المغفرة، وهم يحاولون أن يغتنموا حتى وقتاً من أهم الأوقات للدعاء، واستجابة الدعاء: وقت الأسحار، ما قبل الفجر، في آخر الليل، في الثلث الأخير من الليل؛ بينما هم يتَّصفون بتلك المواصفات الراقية العظيمة، فهم:

• أهل صبر، والتزام عملي نتيجةً لهذا الصبر: الصبر في إطار العمل بطاعة الله، في القيام بما أمر الله، في الانتهاء عن مناهي الله، النهوض بالمسؤوليات الإيمانية المهمة، التي تتطلب الصبر، كـ: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة القسط.

• أهل صدق: في أقوالهم، في أفعالهم، في انتمائهم، في معتقداتهم، في تَوَجُّهاتهم… كلها قائمة على الصدق: الصدق مع الله، الصدق مع أنفسهم، الصدق مع الناس، الصدق في الانتماء، الصدق في الموقف.

• وهم أهل قنوت: خضوع لله، والتزام بطاعة الله، وانقياد لأمر الله، ليسوا متعنتين، ولا منحرفين.

• وهم مع ذلك أهل إنفاق وعطاء: ليسوا بخلاء، ينفقون في سبيل الله، ينفقون في سُبل الخير والبر، يحملون روحية الإحسان، وروحية العطاء.

• ومع ذلك هم مستغفرون بالأسحار: فلديهم اهتمام بطلب المغفرة، يستشعرون التقصير، بالرغم مما هم عليه من التزام وطاعة، لكنهم يستشعرون حالة التقصير؛ فلم يصبهم الغرور، ولا العجب بالنفس، ولم يتَّجهوا إلى حالة التكبر، أو يتأثروا بحالة التكبر والعياذ بالله.

{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}[الشعراء:82]، فأنا أحمل الرجاء في أن يغفر لي، وغيره لن يغفر لأحد، غير الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» لا يتمكن من أن يُخَلِّصك من ذنوبك، {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}[آل عمران:135]، لابدَّ من التَّوَجُّه إلى الله، والطاعة لله، والإنابة إلى الله؛ حتى لا تأتي يوم القيامة مُحَمَّلاً بأوزارك وذنوبك؛ لأنه لا خلاص هناك، إذا قدمت على الله يوم القيامة، وأنت محملٌ بالذنوب والأوزار، لم تتخلص منها في الدنيا؛ فحينها لا يمكن لأحد أن ينقذك، ولا أن يُخَلِّصك مما أنت مُحَمَّلٌ به من الذنوب والأوزار، ولا توبةٌ تُقبل، ليس هناك مجال للتوبة والاعتذار والخلاص من ذلك، {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}[فصلت:23-24]، ليس هناك قبول لِلعُتْبَة، والرجوع، والتوبة، والإنابة، وتقول: [أنا الآن تائبٌ من هذا الذنب]، بل في حالة الموت نفسها، في الدنيا نفسها حينما تأتيك حالة الموت وأنت مسوِّفٌ للتوبة، لم تتب إلى الله، ثم تتوب عندما يأتي الموت؛ حينها لا تُقْبَل منك توبتك في تلك اللحظة، {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ}[النساء:18]، (تُبْتُ الْآنَ) عندما شاهد الموت، أيقن برحيله من هذه الدنيا، ليس هناك مجال لذلك؛ فلـذلك يحمل الإنسان الرجاء في الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وأنه وحده هو من يغفر الذنوب، ويتَّجه إليه.

بعد هذا العرض، الذي يُبَيِّن أن الذي يستحق العبادة وحده هو الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؛ لأن بيده حياتنا، ورزقنا، وموتنا، ومستقبلنا إليه، ومصيرنا في الآخرة إليه، ولا يتمكن من أن ينقذنا من ذنوبنا إلا هو، وهو «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» الذي يطعمنا، ويسقينا، وإذا مرضنا فهو الذي يَمُنُّ علينا بالشفاء… وغير ذلك من نعمه، نعمة الهداية في مُقَدِّمة النعم، ومفتاح لكل النعم، بعد هذا العرض، الذي هو كله يدل على أن الجدير بالعبادة هو الله وحده، اتَّجه بشكل دعاء:

{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[الشعراء:83].

وهذا العرض فيما يتعلق بالدعاء، أولاً: هو يبيِّن أن الذي هو جديرٌ بالعبادة، ومن أهم ما في العبادة هو الدعاء، ويملك لنا حينما ندعوه النفع، ودفع الضر، والخير المعنوي والمادي، والخير في الدنيا والآخرة، الذي يملك لنا كل ذلك هو الله، وهو «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» من يسمعنا حينما ندعوه، ويعلم بنا، ويعلم بأحوالنا، وهو الذي يستجيب الدعاء، إذا كان الإنسان مستجيباً لله، وسائراً في طريق هديه، هو الذي يستجيب الدعاء «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؛ فهو إذاً وحده من هو جديرٌ بالعبادة، يستحق العبادة؛ لأن من أهم ما في العبادة هو: الالتجاء بالرجاء، والرغبة، والآمال، فيما يملكه الله ولا يملكه غيره، وما لا يقدر عليه غيره، هو «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» على كل شيءٍ قدير، بيده الخير كله، فهو اتَّجه بالدعاء؛ ليبين لهم ذلك، فنفس الاتِّجاه بالدعاء هو أيضاً في هذا السياق: في سياق عرض أن المستحِق للعبادة وحده هو الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ومن أهم ما في العبادة: الدعاء.

في مُقَدِّمة دعائه هذا: اتَّجه إلى الله يطلب منه ومن فضله هذا الطلب: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[الشعراء:83].

فيما نطلبه من الله، وفيما ندعوه، عادةً ما تغلب على ذلك- على مضمون الدعاء نفسه- اهتماماتنا، ما الذي هو مهمٌ بالنسبة لدينا نحن، في تقديراتنا، في تصوراتنا، في التفاعل النفسي مع الأمور؛ ولـذلك في العادة في واقع الناس، قد تكون أكثر أدعيتهم مُتَّجهةً إلى الله في أمورهم المعيشية والحياتية؛ لأنها ضاغطةٌ عليهم، قد يكون من أكثر ما يدعو الناس، يدعون الله به، ويرجونه من الله، ويكثرون من الدعاء فيه، هو:

• مطالبهم في هذه الحياة المطالب المادية: الرزق، أمور المعيشة… وغير ذلك من المتطلبات هذه الحياة.

• أو ما هم يعيشون حالة الضغط منه في واقعهم النفسي: هموم مُعَيَّنة، مشاكل مُعَيَّنة.

هذا للإنسان الذي يُقبل عادةً على الدعاء.

ولكن نتعلم من الأنبياء «عَلَيْهِمُ السَّلَامُ»، نتعلم من الأدعية القرآنية: كيف نعيد ترتيب أولوياتنا واهتماماتنا، بحيث تشمل ما قد نغفل عنه من الأمور ذات الأهمية الكبيرة لنا في حياتنا؛ لأن اهتمامنا وتفاعلنا قد يكون- وفق قصور رؤيتنا ونظرتنا- منحصراً في هموم مُعَيَّنة، مطالب مادية، أمور معيشية ضغطة، ولا نقصد أن الإنسان يترك الدعاء بشأنها، الإنسان يتَّجه إلى الله لخير الدنيا والآخرة، يتَّجه إلى الله تجاه همومه، ومشاكله، والأمور الضغطة عليه؛ لكن لا يغفل عن الأمور المهمة، التي ينبغي أن تكون ضمن اهتماماته؛ وإنما مع قصور نظره، وقلة معرفته ووعيه، لا يدرك أهميتها له، في كل شؤون حياته، وفي مسار حياته بكلها.

ولـذلك نجد هنا في مُقَدِّمة أدعيته (أدعية نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ») هذا الدعاء: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[الشعراء:83]، ما هو الحكم؟ الحكم له تعريفات واسعة، وعادةً ما يُرَكِّز المفسرون على جوانب منها، ويربطون بينه وبين الحكمة، ويتَّضح أنه يجمع عِدَّة أمور، يعني: يجمع بين أن يهبك الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: هدايةً، وملكةً، وزكاء نفس؛ بحيث:

• تتعامل مع مختلف الأمور بمقتضى الحكمة؛ فتكون صائب الفكر، راشداً في فكرك، مهتدياً للخير.

• وتكون- في نفس الوقت- زاكي نفس.

• وتملك أيضاً التوازن النفسي، الذي يساعدك على أن تتصرف مع الأمور بحكمة.

وبمجموع هذه الأمور، حينما يَمُنُّ الله عليك بالهداية، والرشد، والإصابة في الفكر، في النظرة إلى الأمور، في الحكم عليها، في التقييم لها، والتوازن النفسي، وفي نفس الوقت زكاء النفس، في الخلاص من المؤثرات السلبية على نفسيتك؛ فأنت ستتصرف مع الأمور بشكل صحيح؛ لأنك تملك الرؤية الصحيحة تجاه الأمور، ولديك أيضاً الملكة النفسية في التعامل الصحيح، والتصرف الصحيح مع الأمور.

لأنه في موضوع الحكمة لا تكفي المعرفة، الإنسان أحياناً يعرف تجاه موضوع مُعَيَّن، أو قضية مُعَيَّنة، قد يعرف ما هو التصرف الحكيم، أو الموقف الحكيم، ولكنه قد لا يعمل بمقتضى ذلك، ولا يتصرف على أساس ذلك، بل قد يتعامل بطريقة أخرى ليست حكيمةٍ، أو يتبنى موقفاً ليس حكيما، لماذا؟

• بسبب العامل النفسي: حالة الانفعال، أو الغضب، أو الخوف، أو المؤثرات النفسية الأخرى.

• أو جانب- مثلاً- متعلق بالجانب الأخلاقي: لم يمتلك على مستوى زكاء النفس والأخلاق ما يُمَثِّل حافزاً نفسياً، ودافعاً نفسياً له، ليعمل ذلك العمل الحكيم، أو يتصرف ذلك التصرف الحكيم، أو يقف ذلك الموقف الحكيم.

ولـذلك فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» حينما يهبك: هدايةً، وزكاء نفس، وملكةً نفسيةً، وتوازناً نفسياً؛ فأنت تتعامل مع الأمور برؤية صحيحة، وتتصرف على أساسها، وبمقتضى الحكمة، وبرشدٍ وصواب؛ فتجمع بين الفكرة الصحيحة، الرؤية الصحيحة، والالتزام بها في مقام العمل.

وهذا ما يحتاجه الإنسان جداً:

• في مسيرة حياته بشكلٍ عام، كإنسانٍ مؤمن في هذه الحياة.

• وتجاه المواقف، ولاسيَّما فيما يتعلق أيضاً بالمسؤوليات، حينما يكون الإنسان في مقام مسؤولية، وقد يتعامل مع ظروف مُعَقَّدة، وأوضاع صعبة، ويواجه تحديات كبيرة، ومشاكل متنوعة؛ يحتاج إلى أن يتعامل معها برشد، وحكمة، وهداية، وأن يتصرف بتصرفٍ صحيح، هذا ممن نحصل عليه؟ من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».

هذا العطاء المهم، في زكاء نفوسنا، واستقامة نفوسنا؛ وفي ما يهبنا الله من هداية، ورشد، ومعرفة صحيحة، وفهم صحيح، ونظرة صحيحة إلى الأمور، ونظرة صائبة إلى الأمور، نحتاج فيه إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».

والإنسان بحاجة إلى ذلك كشخص، والمجتمع كمجتمع، لربما من أكبر ما تعاني منه أمتنا الإسلامية، التي تؤمن بالله، وكتابه (القرآن الكريم) كتاب الهداية، وبكتب الله ورسله، أنها تفقد هذا الحكم، وتتصرف في معظم الأمور، وتقف في معظم المواقف، بغير رشد، بغير هداية، بغير إصابة، بغير رؤيةٍ صحيحة، بغير تصرفٍ صحيح؛ فصلتنا الإيمانية بالله، وصلتنا بهداية الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، هي تبنينا في رشدنا، في فكرنا، في فهمنا، في وعينا، في زكاء أنفسنا، في صلاح أنفسنا والاتِّزان النفسي، بما يؤهلنا لأن ننطلق في مسيرة هذه الحياة هكذا: برؤية صحيحة، بتصرفٍ صحيح، بعملٍ صحيح، بمواقف صحيحة.

{وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[الشعراء:83]، لأكون صالحاً في نفسي، ومع الصالحين في زمرتهم، وهذا أيضاً من أهم الأمور.

بل الشيء العجيب عندما نتأمل في دعاء الأنبياء، حتى في قصة نبي الله سليمان، وفي قصة نبي الله يوسف «عَلَيْهِمَا السَّلَامُ»، ونجد أيضاً فيما يتعلق بالمواصفات الراقية للمؤمنين، نجد أنهم بالرغم من كل ما قد وهبهم الله، على المستوى المعنوي، والمستوى المادي: ما وهبهم من هداية، من توفيق، من رشد، من معرفة، من نور، من بصيرة، وارتقاء إيماني، وزكاء نفوس… وغير ذلك، وما وهبهم من تمكين، وما وهبهم أيضاً في هذه الحياة من نعمٍ متنوعة؛ تبقى آمالهم، واهتمامهم، ويبقى تطلُّعهم فيما يتعلق بالمقام الذي يطمحون للوصول إليه، هو هذا العنوان: الصلاح، وأن يكونوا من الصالحين:

• {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}[النمل:19]، هكذا دعا نبي الله سليمان «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، بالرغم مما قد منحه الله من نبوَّة، وملك، وإمكانات، وهداية… [أريد أن أكون من الصالحين].

• في دعاء نبي الله يوسف «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، بعدما وهبه الله به من النعم، والتمكين، والمقام العظيم، يدعو أيضاً بأن يدخله الله في عباده الصالحين، ويلحقه بعباده الصالحين.

• وهذا نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، في مقامه العظيم، يطلب هذا الطلب.

الإنسان المؤمن، آماله، وتطلعاته، وتَوَجُّهاته، إلى المرتبة التي هي مرضيةٌ لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، يعني: عندما نتأمل في واقع الناس، ونلحظ ماهي اهتماماتهم على مستوى المقامات: البعض يريد وظيفة، منصباً مُعَيَّناً، لقباً مُعَيَّناً في إطار منصب مُعَيَّن، مثلاً: رتبة عسكرية مُعَيَّنة، طموحه في هذه الحياة أن يصل إلى رتبة مشير، أو رتبة عقيد، أو رتبة لواء، طموحه في مستوى مُعَيَّن، مثلاً: في المستوى الأكاديمي، أن يصل إلى عنوان بروفيسور مثلاً… وهكذا في اتِّجاهات مختلفة من شؤون الحياة.

الطموح الذي يطمح فيه الإنسان المؤمن مهما بلغ إيمانه: أن يكون في مرتبة الصالحين، هو يدرك أهمية هذا في المنزلة عند الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ويدرك أهمية ذلك في القيمة الإنسانية والأخلاقية. قيمة لك كإنسان، المكانة العالية لك كإنسان، التسامي لك كإنسان، أن تكون من الصالحين.

يكون الإنسان صالحاً بخلوصه من الفساد، ومن كل آفات الفساد، وأن يستمر له ذلك الحال، وهذا مما يحرص عليه أنبياء الله حينما يدعون بهذا الدعاء (مِنَ الصَّالِحِينَ)؛ ليبقى صالحاً، ليستمر في طريق الصلاح، وليرتقي في مراتب الصلاح؛ لأن مراتب الصلاح- أيضاً- مراتب متفاوتة، متفاوتة.

فالإنسان في اتِّجاهه ليكون إنساناً صالحاً، بالعمل على أن يَخْلُص من كل آفات الفساد، يكون خالصاً من حالة الفساد: في نفسه، في أعماله، في تصرفاته، وهذا ما يتَحَقَّق للإنسان باستقامته على منهج الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، حيث تزكو النفس، ويَصْلُح العمل؛ فيتخلص الإنسان من شوائب الفساد:

• على المستوى النفسي، وعلى مستوى تَوَجُّهاته، وقلبه، ومشاعره.

• وعلى مستوى العمل، على مستوى الموقف، على مستوى التصرف.

وهذا يسمو بالإنسان، يسمو به كإنسان في درجات الكمال، وفي المنزلة عند الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[الشعراء:83].

ثم أيضاً في هذا الجانب، الإنسان مرتبطٌ بالصالحين من أنبياء الله، والهداة من عباد الله، وأولياء الله، له بهم هذه الصلة والعلاقة الإيمانية: يُحِبُّهم، يتولاهم، يقتدي بهم، يتأسى بهم؛ لأن هذا أيضاً مما يحقِّق له الصلاح، وفي نفس الوقت هو مرتبطٌ بهم، هو في زمرتهم، في اتِّجاههم؛ لأنه اتِّجاه ممتد، مسيرةٌ عملية فيها الهداة من أولياء الله، من أنبياءه، والصالحين من عباده من ورثة كتابه.

الإنسان لا يتَّجه الاتِّجاه الإيماني ويحمل الشعور الانفرادي: أنه لوحده، صالحٌ لوحده، اتِّجاهه لوحده؛ هناك الأسوة في طريق الصلاح، هناك القدوة، لا يمكنك أن يتَحَقَّق لك الصلاح وتنفصل عن مسارهم، عن الاقتداء بهم، حتى عن المحبة لهم والتولِّي لهم؛ لأن هذا مما يساعدك على أن يتَحَقَّق لك الصلاح، وهو جزءٌ من الصلاح بنفسه. الكلام عن هذا الموضوع يطول، ونحن نسعى على الاختصار.

{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}[الشعراء:84].

وذلك ليمتد تأثيري في الهداية للناس إلى طريق الحق، وإلى طريق الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وفي العمل لإصلاحهم وإنقاذهم، ليمتد ويتجاوز زماني ومكاني، وهذا شيء عجيب في طموح نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وفي تَعَلُّقِه بالحق والهدى.

تَعَلُّق الإنسان بالحق والهدى، وانتماؤه الأصيل له، يجعله حريصاً على نصرة هذا الحق، وهذا الهدى، وأن يَعُمَّ في أرجاء الناس، في أرجاء المعمورة، في أوساط المجتمع، وفي نفس الوقت حرصه على هداية الآخرين، يجعله حريصاً على أن يهدي أكبر قدرٍ ممكنٍ من الناس؛ فلـذلك هو يرغب في أن يكون في طريقته، ونهجه، وما هو عليه، مذكوراً بالخير وبالصدق، وأن يمتد هذا الذكر في الآخِرِين، بما يتجاوز زمانه ومكانه، ليمتد مع ذلك هذا التأثير في هداية الناس، حينما ينظرون إلى تلك الطريقة أنها طريقة عظيمة، مُقَدَّسة، ناجحة، صالحة؛ فيها الفوز، فيها الفلاح، فيها الخير؛ فينجذبون إلى ذلك؛ فيمتد هذا التأثير في هدايتهم، وفي خدمة طريق الحق والهدى، متجاوزاً لزمانه ومكانه.

{وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}[الشعراء:85].

الجنــــة، التي هي من وعد الله العظيم، وهي الجزاء العظيم الأوفى، بما فيها من النعيم المادي والمعنوي؛ لأن جزءاً مهماً من نعيم الجنة هو: التكريم المعنوي، ومعه النعيم المادي، الذي هو راقٍ جداً.

الله علَّمنا فيما يتعلق بما وعدنا به، من الجزاء العظيم على الأعمال الصالحة والتقوى، وعدنا بالجنة، قدَّم لنا في كتبه: أوصافها، أنواع النعيم فيها، الأحوال للإنسان فيها، على نحوٍ واسع، في القرآن الكريم بشكلٍ عجيب جداً، يتحدث عن الجنة:

• عن سعتها: عالم عظيم ووسيع، وشاسع جداً، {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}[آل عمران:133]، وفي نفس الوقت مع سعتها الهائلة جداً هي بكلها جنة، ليست صحاري، ليست قِفَاراً خالية غير صالحة للحياة، بل هي بكلها جنة.

• يذكر ما فيها من النعيم بكل أنواعه: ما فيها من المزارع، من البساتين، من الأشجار، من الثمار، من الفواكه، التي هي بأعداد هائلة جداً: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}[الرحمن:52].

• يذكر ما فيها من الأنهار المتنوعة، بما في ذلك الأنهار من اللبن، والعسل… وغير ذلك، مع أنهار الماء، الذي هو صافٍ ونقي، ولا يشوبه شائبة، ولا يتغير، ولا يَأسَن… ولا أي شيءٍ من ذلك، من العلل والآفات التي تؤثِّر عليه.

• يذكر ما فيها من المساكن الطَّيِّبَة.

• ما فيها أيضاً من الحياة الأبدية، بسلامةٍ من الموت، والهرم، والمرض، والغم، والضَّجَر، والنصب، والتعب.

• الحياة فيها بطريقة محترمة جداً وراقية، ليس هناك ما يجرح مشاعرك حتى بكلمة مسيئة، أو تجرح مشاعرك: {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً}[الغاشية:11]، تعيش فيها محترماً، في النعيم الواسع العظيم: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}[ق:35]، {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}[الزخرف:71]، أرقى النعيم فوق حتى تقديرات الإنسان: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}[السجدة:17]، أرقى النعيم المادي، بأصناف كثيرة وهائلة جداً، وحياة سعيدة.

• يصف ما فيها من: الحور العين، والمساكن، ومجاورة الأنبياء وأولياء الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، والرفقة مع الصالحين… أنواع النعيم العظيم جداً.

كل ما يُمَثِّل رغبةً وحاجةً حقيقيةً للإنسان، هو متوفرٌ فيها بأرقى مستوى، وخالصاً من كل شوائب تُنَغِّص على الإنسان حياته ومعيشته؛ فهي بالشكل الذي يرغب فيها الإنسان، يعني: الله لا يعرض لنا نعيماً عادياً نرى في الدنيا أحسن منه، أو يُقَدِّم لنا أحدٌ عروضاً أكبر، بين كل العروض المغرية، التي تؤثِّر على الكثير من الناس، لو يُقَدِّم الإنسان مقارنة، يقارن- هو بنفسه- قبل أن ينجذب إلى طريق الباطل، أو خط الباطل، أو طريق الشهوات العمياء بطريقة منفلتة: بين كل رغباتك، وشهواتك، وآمالك، وطموحاتك المادية والمعنوية، استعرض لنفسك أنت، ما هو الذي قد تتَّجه به فيبعدك عن الجنة، ما هو؟ هل هو مثل ما في الجنة، أو أرقى من ذلك؟ فلا بأس تفضل؛ ستجده ليس شيئاً، لا يساوي شيئاً في مقابل الجنة، فلماذا إذا كان ما يغويك، أو يغريك، أو يُضِلُّك، أو يفسدك، أو يوقعك في العصيان: رغبات، وطموحات، وشهوات، لماذا لا تنظر إلى ما هو أرقى منها، أعظم منها، أفضل منها، وللأبد، في حياة هنيئة، وتنجذب إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؟!

غفلة الإنسان عن مثل هذه المقارنة، وعن التأمُّل فيما عرضه الله من النعيم، هي حالة خطيرة على الإنسان؛ تجعله يُهْلِك نفسه، يوبق نفسه، من أجل شهوةٍ زائلةٍ فانية، يعقبها الندم، ويعقبها العذاب، ومُنَغَّصة؛ ولـذلك هذا مما يَشُدُّنا إلى الله، تتحوَّل نفس شهواتنا، رغباتنا، آمالنا، طموحاتنا المادية، طموحاتنا المعنوية، تتحوَّل بكلها إلى عامل يَشُدُّنا إلى الله؛ لأن لدى الله أعظم ما نرغب به، وأرقى حتى مما نتصوره، في هذا نفسه: في مجال الشهوات، والرغبات، والأطماع المادية، والأطماع المعنوية، ومقام التكريم، والأهمية… وغير ذلك؛ المساكن، الحور العين، أنواع الطعام، أنواع الشراب، أنواع الملابس، أنواع الأثاث، المزارع، البساتين، المُلك العظيم، والتكريم المعنوي، تكريم حتى من جهة ملائكة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».

ولهـذا استعراض ذلك يَشُدُّ الإنسان إلى الله، وهذا مما يفيدنا عندما نتلو القرآن الكريم، وفي التذكير أيضاً؛ ليكون ذلك حافزاً لنا على الابتعاد عن المغريات، والأطماع، والأهواء، التي تبعدنا عن طريق الله ونهجه «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».

{وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}[الشعراء:86].

دعاؤه بالمغفرة لأبيه هو: دعاءٌ بأن يوفِّقه الله للتوبة، ولا يعاجله بالعقوبة قبلها، يعني: ليس معناه أنه يطلب من الله أن يسامح أباه، ويبقى أبوه على شركه، يبقى على حالة الشركة، ليس المقصود ذلك، لا، هذا لكان إغراءً على المعصية لكنه يطلب من الله هذه المغفرة، التي فيها الإمهال، وعدم المعاجلة بالعقوبة، والتوفيق للتوبة، من مثل قول الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ}[النحل:61]، من مثل قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}[الرعد:6]، يعني: يُمْهِل، يُوَفِّق البعض للتوبة، يترك لهم المجال ليتوبوا.

وكان هذا الاستغفار عن موعدةٍ وعدها إياك، كما في الآية المباركة الأخرى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}[التوبة:114]، حينما لاحظ إصراره وعناده.

{وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}[الشعراء:87].

يوم البعث: يوم القيامة، يوم القيامة. من أهم ما في يوم القيامة في مقام الحساب والجزاء، هو: انكشاف الناس على حقيقتهم، والتعامل معهم على أساس ذلك.

في الدنيـــا، قد يكون البعض حتى من كبار الطغاة والمجرمين، يُقَدِّم نفسه، ويمتلك من وسائل الإعلام ومن الأعوان من يُمَجِّدُونه، من يُعَظِّمونه، من يُقَدِّمونه رمزاً للناس، من يَشُدُّون الناس إليه، من يحاولون أن يُغَطُّوا على جرائمه وقبائحه وسيء أعماله، ويكون في مقامٍ معنويٍ مُعَيَّن، في نفوذه، في تأثيره، في شعبيته؛ ولـذلك نجد في هذه الدنيا الكثير من الطغاة والمجرمين ولهم شعبية واسعة في المجتمع، البعض حتى من كبار الطغاة، من أسوأ المجرمين في الأرض، وكان له شعبية مُعَيَّنة، ومقام معنوي عند الناس، يعني: عندما تشاهد- مثلاً- في التلفاز مشاهد تشييع جثمان (إستالين)، واحد من أكبر المجرمين في العالم، في (الاتحاد السوفيتي)، وترى كم التف من الجماهير، والبعض من عامة الناس يبكون عليه بكاءً شديداً.

ففي هذه الدنيا، قد يكون الإنسان استند إلى ماله، إلى- أيضاً- التأثير على المجتمع فيما يتعلق باعتبارات مُعَيَّنة، تصبح ذات أهمية لدى الناس، وفي منظورهم، ويكون الإنسان من خلالها مهماً عندهم، وَمُعَظَّماً وَمُرَمَّزاً لديهم بسببها.

لكن في مقام القيامة، يظهر الناس على حقيقتهم، بمعيار الأعمال الصالحة والأخلاق، القيمة الحقيقية للإنسان؛ وبالتـالي يظهر البعض ممن كانوا في الدنيا إِمَّا يُغَطُّون على جرائمهم، ويُرَمِّزُون أنفسهم، ويُرَمِّزوهم أتباعهم والضالُّون معهم، يظهرون على حقيقتهم، وهي حقيقة مخزية، تظهر مساوئ أعمالهم، قبائح أعمالهم، وآثارها في الحياة، كم كانت تأثيراتها سيئة، ويظهرون في حقيقتهم، فيما كانوا عليه من السوء، من القُبْح، من الإجرام، من الدناءة.

ومع ذلك هناك التوبيخ لهم، الإهانة، والفضيحة لهم في مشهد القيامة، على مرأى الخلائق، ومسمع الخلائق، بمحضر ملائكة الله، وأنبياء الله؛ فهو مشهد رهيب جداً لحالة الفضيحة، والإهانة، والإخزاء، وحتى في المعاملة لهم، فيما يتعلق بالحساب، وما بعد الحساب، في تجهيزهم للنقل إلى جهنم، تعاملهم ملائكة الله بالإهانة والإذلال، حالة رهيبة جداً من التبكيت، من الإهانة بكل أشكالها.

فهو من أهم الحالات التي يحذر الإنسان منها، عليه أن يحذر منها، الإنسان في هذه الدنيا إذا افتضح في قضية تُمَثِّل فضيحةً له، وخزياً له، ونقيصةً له، على مستوى قيمته الإنسانية، وكرامته الشخصية، كم يؤثِّر عليه ذلك؟ أحياناً قد يتمنى الإنسان الموت في بعض الأمور، أو يتمنى أنه لا وجود له في هذه الحياة، فما بالك في مشهد القيامة! ولذلك في اهتمامات الإنسان المؤمن، هو أنَّه يرجو الله ألَّا يُخْزِيَّه يوم البعث، ويسعى للخلاص من الأمور المخزية، والحذر من الأمور المخزية، ومن الفضائح، ومن الهوان في الآخرة والعياذ بالله.

{وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء:87-89].

في يوم القيامة لا ينفع المال، الناس ينظرون إلى المال هنا في الدنيا على أن منافعه كثيرة، وأنَّه يفيدهم حتى في هذه الأمور:

• في الأمور المعنوية: يعني: البعض من الطغاة والمجرمين يستندون في نفوذهم وتأثيرهم في المجتمع، وأن يحظوا بمكانة اجتماعية، على المال، الإغراء بالمال، يصبح لهم أشياع، وأتباع، وأعوان، بماذا؟ بالدافع المادي، الارتباط بهم ارتباط مادي.

• مكاسب وأطماع الحياة: يرون فيها أنها تتَحَقَّق عن طريق الإمكانات المادية، وتتوفر عن طريق الإمكانات المادية.

• التأثير في الموقف: بالإمكانات المادية…

أشياء كثيرة يربطها الناس بالإمكانات المادية، إلى درجة أنَّ البعض من الناس يعبد المال، يعني: يتصوَّر المال كل شيء، وأنَّه بإمكانه أن يحقِّق لنفسه أي شيءٍ يريده عن طريق المال، وأنَّ يقي عن نفسه ما يريد وقايته عن طريق المال؛ فيرى في المال والإمكانات المادية أنَّها الأساس لكل شيء، وهذا تَوَجُّه مادي لدى الكثير من البشر، يعني: أصبحت نظرتهم- فعلاً- هكذا، وعلاقتهم بالإمكانات المادية والمال هي هذه العلاقة: أنه الأساس في كل شيء، والحل لكل شيء؛ ولـذلك يتَّجهون إليه كلياً في حياتهم؛ لأنهم يعتبرونه مصدر النفع، والوقاية من الضر.

بينما يعلِّمنا الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» كيف ننظر إلى المال أنه وسيلة وليس غاية، وسيلة وليس غاية، وليس هو كل شيء، حتى على مستوى الوسائل ذات الأهمية للإنسان والتأثير في دنياه وفي آخرته، هناك أمور مهمة جداً؛ ولـذلك لا تكون علاقتنا بالمال بالشكل الذي يؤثِّر على اهتماماتنا الأخرى، على حساب التزامنا الإيماني، القيمة الإنسانية، القيمة الأخلاقية.

الإنسان إذا عبد المال؛ يبيع كل شيءٍ من أجل المال: يبيع الحق، يبيع الدين، يبيع العرض، يبيع الشرف، يبيع كل شيءٍ نفيسٍ غالٍ مما لا يباع بالمال، يبيعه بالمال، يبيع قيمته الإنسانية، يبيع المواقف بالمال، الولاءات تتحول عنده على أساس المال، العداوات تتحول على أساس المال، كل شيء يتحول عنده على أساس المال، يتحول المال إلى معيار له؛ لكن قد تكون النتيجة: أنَّ يتحمَّل الآثام والأوزار، ولو امتلك ما امتلك من المال بهذه الطريقة، فهو سيأتي يوم القيامة وهو محملٌ بالأوزار، وحينها لا يمثل المال أي أهمية، أو قيمة، لإنقاذه مما هو فيه، يأتي يوم القيامة محمَّل بالذنوب، بالمعاصي، بالأوزار، في أعماله السيئة، في مواقفه السيئة، في اتِّجاهاته السيئة، في ظلمه، في سوء تصرفاته، وحينها هل يمكن أن يعمل له المال شيئاً؟ لا، سيقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ}[الحاقة:28]، لم يعد يُمَثِّل أي أهمية، مع أنَّه لو أمكن للإنسان في تلك اللحظة أن يقتني الأرض بكلها، ويفتدي بها؛ لافتدى بها، {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[الزمر:47]، لكن لا مجال أبداً.

القيمة التي ستنفعك، وتوصلك إلى أرقى نعيم مادي، إلى أرقى نعيم مادي، والسلامة من العذاب، وتوصلك إلى أرقى تكريم، هي: الأعمال الصالحة، والإيمان، والتقوى، هي التي كنت ستتحرَّك من خلالها حتى مع المال بطريقة صحيحة، تجعل منه وسيلةً في إطار القربة إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وليس سبباً لتحمُّل الأوزار والذنوب.

كذلك الثروة البشرية: البنون، البنون على مستوى أولادك أنت، أو على مستوى أعوانك، لا يمكن أن ينفعوك بشيءٍ يوم القيامة، إن لم تكون في هذه الدنيا اتَّجهت اتِّجاه الإيمان والتقوى، حتى الأبناء عندما تربيهم على التقوى، تصبح هذه التربية، وهذا الجهد في إصلاحهم، محسوبةً لك، نافعةً لك يوم القيامة؛ أمَّا أن يكونوا هم سنداً لك، ولو كانوا في اتِّجاه الباطل، أو كنت أنت في اتِّجاه الباطل، فذلك يومٌ {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}[لقمان:33].

بل يخبر الله أنَّ المجرم يود يوم القيامة {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}[المعارج:11]، ولكن لا يمكن أن يكونوا فداءً لك، أو وقايةً لك من العذاب، أو سلامةً لك.

البعض من الناس من أجل أسرته قد يتَّجه في طريق الباطل، يريد أن يوفر لهم ظروفاً معيشية كبيرة، راقية… إلى غير ذلك؛ فيسبب لنفسه الهلاك، ولا ينفعونه يوم القيامة بشيء.

{إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء:89]، الذي ينفعك في يوم القيامة: أن تُقْبِل على الله {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، لماذا القلب السليم؟ لأنه مع القلب السليم تكون أعمالك صالحة، ويكون اتِّجاهك في هذه الحياة اتِّجاهاً إيمانياً؛ لأن القلب هو معدن التقوى، هو موطن الإيمان، القلب بنفسه.

وسلامـــة القلـب هـي تعنـي:

• سلامته على المستوى العقائدي: لا تحمل عقائد باطلة، عقائد سيئة، سواءً في دينك؛ فتسيء إلى الله وإلى دينه، أو في مختلف أمورك الفكرية، لا تحمل العقائد الباطلة.

• على مستوى السَّلامة من العلل والآفات في مساوئ الأخلاق، كـ:

• الكبر: الكبر أين يستوطن من الإنسان، قبل أن يتجسَّد بشكل تصرفات، وأعمال، وسلوكيات، ومواقف؟ في الحالة النفسية، في مشاعر الإنسان وقلبه.

• الحسد كذلك: أين يستوطن قبل أن يترجم إلى مواقف، وتصرفات، وسلوكيات، ومعاملات؟ في مشاعر الإنسان وقلبه، في قلبه.

• الشُح: أين موطن الشح؟ في القلب، ثم يتجسَّد في تصرفات الإنسان طمعاً وبخلاً، وتصرفاتٍ ظالمة في هذه الحياة مبنيةً على ذلك… وهكذا بقية العلل.

• الميول الفاسدة: الميول الفاسدة نحو الفساد اللاأخلاقي، أين منبعها، وموقعها؟ في داخل القلب، وهكذا.

فسلامة القلب أيضاً من هذه العلل.

• من الشك أيضاً: الشك تجاه هدى الله، تجاه حقائق الإيمان، حقائق الهدى، أين يعرض هذا الشك؟ موطنه في قلب الإنسان، في داخل قلب الإنسان.

• العداوات والولاءات: البغض لأولياء الله، عندما يكون في قلبك، هذا من العلل الخطير جداً عليك؛ أو الحب والولاء لأعداء الله، كذلك يشكِّل خطورةً عليك.

فسلامة القلب هي سلامة كاملة: على مستوى العقائد، على مستوى العلل، والسلامة من العلل والآفات، في مساوئ الأخلاق؛ لأنها جذور للمعاصي، ينتج عنها في تصرفات الإنسان، الإنسان يتَّجه في الأعمال السيئة بدوافع من قلبه، ويتَّجه في الأعمال الصالحة بدوافع من قلبه؛ فالقلب مؤثِّر، هو مضغة إذا صلحت، صلح الجسد بكله؛ وإذا فسدت، فسدت الجسد بكله؛ فالإنسان يحرص على صلاح سريرته، وصلاح باطنه؛ ليكون مع ذلك صلاح ظاهره، وصلاح علانيته.

{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الشعراء:90].

يعني: تُقرَّب الجنة في مشهد عجيب جداً، على سعتها، وكبرها، وعظمها، تقرَّب قريباً من ساحة المحشر؛ حتى يكون سفر المؤمنين إليها، وانتقالهم من ساحة المحشر إليها بدون جهد، بدون عناء، لا يحتاجون إلى سفر طويل جداً، وهو مشهد عظيم من مشاهد القيامة، وحتى مشهد انتقال المتقين من ساحة المحشر إلى الجنة، وبقاء غيرهم هناك لينتقلوا إلى النار، هو من أكبر المشاهد يوم القيامة، ومن المشاهد التي فيها حسرة كبيرة جداً على المنافقين، حينما ينادون المؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}[الحديد:13]،.

كم هي حسرة الإنسان حينما يرى المتقين- وقد يكون البعض منهم من رفاقه، أو أقربائه، أو مجتمعه- يراهم وهم يذهبون إلى الجنة، في موكبٍ نوراني، مكرَّمين معززين، {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا}[مريم:85]، ويرى نفسه مطروداً، مُنِع من الذهاب معهم، حتى لو طلب منهم أن يأخذوه معهم لا يمكنهم ذلك، وهو يُطرد، وهم لن يتعاطفوا معه، ولن يتفاعلوا معه، هذا أمرٌ لا يعنيهم أصلاً، فهي حالة خطيرة على الإنسان، المشهد مشهد عجيب، من أكبر وأهم مشاهد القيامة، التي فيها حديثٌ واسعٌ عنها، حديثٌ واسعٌ في القرآن الكريم.

وهنا يتبين لنا لمن الجنة؟ الجنة للمتقين، كم تكرر هذا في القرآن الكريم، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:133]، لابدَّ من التقوى.

نحن في شهر رمضان في شهر التزوُّد بالتقوى، نتربى على التقوى، نتزوَّد التقوى، نهتدي بهدى الله بما يدفعنا أيضاً إلى الالتزام بتقوى الله، والتقوى تأتي في الالتزام الإيماني في أعمالنا، في معاملاتنا، في تصرفاتنا، في مسؤولياتنا الكبيرة:

• مسؤوليتنا في إقامة دين الله.

• مسؤوليتنا في إقامة القسط.

• مسؤوليتنا في الجهاد في سبيل الله.

• في الإنفاق في سبيل الله.

• مسؤوليتنا في التصدِّي لأعداء الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}[آل عمران:102]، في مواجهة خطر اليهود والنصارى.

وهكذا، الالتزام بالتقوى هو الأساس، الجنة ثمنها هو التقوى، والطريق إليها عن طريق التقوى.

{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}[الشعراء:91].

البديل عن التقوى هو طريق الغواية، طريقٌ مِعْوَجَّة، ليست في إطار الصراط المستقيم، ليست طريق الرشد، طريق غواية، مِعْوَجَّة، ومؤدَّاها إلى نار جهنم، إذا سار الإنسان فيها، لا يمكن أن توصله إلى الجنة، لا يمكن أن يوصلك إلى الجنة إلَّا طريق التقوى، هو طريق الجنة.

• التقوى: هي طريق الجنة.

• الغواية والخروج عن التقوى: هي طريق من ذهب فيها مؤدَّاها إلى نار جهنم.

نلحظ في الدنيا مثلاً، عندما يكون هناك منطقة معينة، في مكان معين، وأنت تذهب باتِّجاه معاكس لها، هل ستصل إليها؟ لا يمكن أن تصل إليها، فمؤدَّى طريق الغواية، التي هي بديلٌ عن طريق التقوى، مؤدَّاها إلى جحيم جهنم، وهي- كذلك- تظهر لأهلها، قبل أن ينقلوا إليها من ساحة المحشر، في مشهدٍ رهيب، {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}[الفرقان:12]، مشهد رهيب يمتلئون منه خوفاً ورعباً، وحالة الندم فيهم تصل إلى أعلى مستوى، يتمنون أن لو يموتون على الفور في تلك اللحظة، وأنهم لم يبعثوا.

{وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ}[الشعراء:92-93].

وجهتكم في هذه الدنيا بديلاً عن الله، سواءً كان ما تعبدونه أصناماً، أو شيطاناً، أو مضلين، أو كان مادةً، أو أهواءً، أو رغبات… هل يمكن أن يشكِّل لكم وقاية، أن ينصركم، أن يغيثكم، أن ينقذكم؟

{فَكُبْكِبُوا فِيهَا}[الشعراء:94].

نُقلوا إلى جهنم، بعد المشهد الرهيب وهم يشاهدونها، يحشرون إليها، دفعاً، رغماً عنهم، {يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13]، وبطريقة مخزية، مُذِلَّة، مهينة، تدفعهم ملائكة العذاب، وتسحبهم إلى نار جهنم.

وحينما تصل بهم إلى عالم النار، عالم: مكان كبير جداً وشاسع، تلقي بهم ملائكة العذاب إلى نار جهنم إلقاءً؛ لأنهم لا يدخلون رغبةً، وطواعيةً؛ فَيُدْخَلُون إجبارياً، وقسراً، بالإلقاء لهم مُنَكَّسِين على رؤوسهم، يلقى إلى نار جهنم وهو منتكسٌ على رأسه، فيصل على رأسه وجهه إلى نار جهنم والعياذ بالله، مشهد رهيب جداً! وهذه حالة الدخول إلى نار جهنم.

• حالة الذهاب إلى الجنة بتكريم، واستقبال من الملائكة على أبوابها: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}[الزمر:73]، ودخول بفرحٍ عظيمٍ وسرورٍ لا يوصف، وفي نفس الوقت شعورٌ بالفوز والسعادة، وإلى عالم الجنة العظيم الهنيء.

• أمَّا إلى نار جهنم، فالدخول بطريقة مهينة، مُذِلَّة، وبذلك الإلقاء إليها، مُنَكَّسين على رؤوسهم، يصلون على وجوههم، ويسحبون في النار على وجوههم، {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ}[القمر:48]، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ}[النمل:90]، نعوذ بالله، أمر رهيب جداً!

{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}[الشعراء:94].

كل الغاوين، كل الذين خرجوا عن طريق التقوى، وساروا في طريق الغواية، هي طريق أوصلتهم إلى نار جهنم.

{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}[الشعراء:95].

جنود إبليس، من هم جنود إبليس؟ كل الذين تجنَّدوا في هذه الدنيا لخدمة الباطل، ونصرة الباطل:

• سواءً التجنُّد عسكرياً. وما أكثرهم، جيوش كثيرة!

• أو التجنُّد إعلامياً.

• أو التجنُّد في ميدان الثقافة والفكر…

أو التجنُّد في أي مجال من المجالات، حينما تكون المهمة الرئيسية للإنسان في هذه الحياة نصرة الباطل، ودعم الباطل، والصدّ عن الحق، والمحاربة للحق والهدى؛ يصبح متجنِّداً مع إبليس؛ لأن أولياء الشيطان بكل فئاتهم، هم تشكيلات تعمل في نفس الاتِّجاه الشيطاني:

• في الإضلال.

• في الإفساد.

• في الصدّ عن طريق الله، عن الحق، عن نهج الله.

• في صرف الناس عن الالتزام بدين الله.

• في إغوائهم.

• في إفسادهم.

وبالتالي يكون مجنَّداً مع الشيطان.

فجنود إبليس هم من مختلف البلدان، ومن مختلف الأوطان، ومن مختلف الأديان، ومن مختلف الأزمان، بكلهم يحشرون إلى جهنم، ويكبُّون في نار جهنم على وجوههم، ويلقون إليها بتلك الطريقة المخزية.

حينما يصلون إلى ذلك العذاب، والخزي، والخسران الأبدي، تغيَّرت أحوالهم، كانوا في الدنيا تتظافر جهودهم، يتعصَّبون، يتعاونون معاً في نصرة الباطل، وخدمة الباطل، الذي هو خدمة للشيطان، وصدّ عن سبيل الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ويقاتلون مع بعضهم جنباً إلى جنب، ويقفون مع بعضهم صفاً واحداً، وهذا كان من أكبر العوامل لتخليد الباطل، ونشره في الأرض: أن له أنصار، يقاتلون في سبيله، يعملون من أجله على كل المستويات، وكان من أهمِّ ما يؤثِّر على الكثير من الناس في صرفهم عن طريق الحق: أنهم يرون ما عليه أهل الباطل من قوة عسكرية، من تجنُّد، من تظافر جهود، من تحرك لخدمة الباطل بكل الوسائل؛ الكثير من الناس يتهيَّب، ويتَّجه في صف الباطل.

ففي نار جهنم، بعدما كانوا في الدنيا كتلة، تتعاون، تتَّجه في المواقف بشكلٍ واحد، تغيَّرت الأحوال، وتقطَّعت الأسباب، ما بين القادة والمتبوعين، وما بينهم هم ككتلة واحدة في الدنيا، كانوا يتَّجهون، يقاتلون، يتعاونون، تتظافر جهودهم؛ تحوَّلت حالتهم في النار إلى حالة خصام:

{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:97-98].

يحلفون (تَاللَّهِ)، ومتعجِّبين من أنفسهم، كيف تاهوا إلى هذا الحد، أن يسووهم في الطاعة لهم بربِّ العالمين؛ فجعلوا طاعتهم فوق طاعة الله، وأطاعوهم بدلاً عن طاعة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، واتَّبعوهم بدلاً من اتِّباع نهج الله الحق؛ فهم يأسفون، ويتحسرون، يدركون أنَّ تلك كانت ورطة رهيبة، وحمق كبير، وضلال مبين، وغباء بكل ما تعنيه الكلمة.

{وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ}[الشعراء:99].

المجرمون هم مصدر ضلال، المجرمون يعملون على إضلال الناس كوسيلة للتحكم بهم، والتأثير عليهم، والتأقلم معهم، كيف يتأقلم الناس معهم؟ كيف يتقبلهم الناس؟ كيف يطيعهم الناس؟ ترى مجرماً بكل ما تعنيه الكلمة، مصدر للجرائم، يرتكب أنواع الجرائم، والناس يطيعونه، وهو بصفة رئيس، أو ملك، أو قائد، أو شخصية اجتماعية لها طاعة في المجتمع، ونفوذ وتأثير، والناس يعرفونه أنه مجرم، كيف تحولوا إلى متقبِّلين له، مطيعين له؟ وجزءٌ من إجرامه يعتمد على نفوذه، يعني: نسبة كبيرة من الجرائم تحتاج إلى نفوذ، إلى سلطة، إلى تأثير، إلى قابلية في المجتمع، إلى أعوان، بعض الجرائم ترتكب بأعوان.

نلاحظ مثلاً مجرمي العصر: أمريكا وإسرائيل، جرائمهم الكبرى هي جرائم قائمة على أساس أعوان، جرائم جماعية، جرائم: عدوان، احتلال شعوب، إبادة مجتمعات، نهب ثروات، سيطرة، وكذلك نشر واسع للباطل والضلال؛ فهم يعتمدون على الإضلال، بل الإضلال واحدٌ من جرائمهم، يضلُّون الناس، عملية الإضلال خطيرة؛ لأنها تجعل الناس يتقبَّلونهم، يتقبَّلونهم، ينخدعون لعناوينهم، لتبريراتهم، لفلسفتهم؛ فيتَّجهون معهم، ولديهم فلسفة وتبريرات لذلك، ولديهم ما يقدِّمونه كمفاهيم خاطئة، دعايات باطلة، زُخرُف القول، شُبَه تصرف الناس عن الحق، وتصدهم عنه؛ حتى يؤثِّروا على الكثير من الناس، فيترك طريق الحق، ويتَّجه معهم.

{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}[الشعراء:100-101].

لم يبقَ هناك أي شيءٍ ينقذهم، لا شفاعة، ولا وساطات، ولا تدخلات، ولا صداقة تنفعهم، صديق حميم، [الصديق عند الضيق]؛ من أجل أن يخفف عنهم، ويواسيهم، ويعمل لهم شيئاً، ليس هناك مجال لذلك.

{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:102].

لأنها كانت في الدنيا وساطات تعتمد كوسيلة، صديق حميم يكون له دورٌ في مساندة الإنسان وقت الشدائد، والمضائق، والمعاناة؛ هناك لا مجال، {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:102]: رجعه إلى الدنيا؛ فنتَّجه الاتِّجاه الوحيد الذي فيه النجاة: اتِّجاه الإيمان، والإيمان ثمرته التقوى.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الشعراء:121-122].

استكملناها مع استكمال شهر رمضان المبارك، هناك أيضاً قصص لنبي الله إبراهيم في سور أخرى، قد نكمل البعض منها- إن شاء الله- في شهر ذي الحجة، إذا أمد الله في العمر.

نَسْألُ اللَّهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

مقالات مشابهة

  • مسيرات مليونية في مصر دعماً للشعب الفلسطيني
  • في محاضرته الرمضانية السادسة والعشرين قائد الثورة: طموح الإنسان المؤمن يجب أن يكون في مرتبة الصالحين
  • عدوان أمريكي يستهدف محافظة صنعاء
  • عدوان أمريكي جديد يستهدف العاصمة صنعاء
  • محمد علي الحوثي يهنئ قائد الثورة والرئيس المشاط بعيد الفطر المبارك
  • قائد الثورة يبارك الشعب اليمني والشعب الفلسطيني بعيد الفطر
  • مدير مكتب الرئاسة يهنئ قائد الثورة والرئيس المشاط بحلول عيد الفطر المبارك
  • قائد الثورة يبارك الحضور الجماهيري الكبير بالعاصمة صنعاء والمحافظات في مسيرات يوم القدس العالمي
  • توافد جماهيري كبير الى الساحات للمشاركة في مسيرات يوم القدس
  • نص كلمة قائد الثورة بمناسبة يوم القدس العالمي 1446هـ