تتوالى "المصالحات" بين خصوم الماضي في الشرق الأوسط، إنها ليست مصالحات بالمعنى المتعارف عليه، بل تسويات سياسية ومالية حول نزاعات بعضها قديم وبعضها الآخر جديد. أولى المصالحات بدأت، وما زالت تتكامل، بين الولايات المتحدة وإيران، ظاهرها موافقة طهران على إخلاء سبيل أربعة من المحتجزين الأمريكيين، مقابل إفراج واشنطن عن 6 مليارات دولار من عائدات النفط الإيراني محتجزة لدى كوريا الجنوبية.

. باطنها مجهول يكتنفه الكثير من الأسرار والتكهنات، أشار إليها بعض الكتاب والمعلقين السياسيين في الشرق والغرب، منها، على سبيل المثال، أن المبلغ المفرج عنه والمستحق لإيران يتجاوز 6 مليارات دولار، وتصل مفرداته بمجموعها إلى نحو 24 مليار دولار.

تردَدَ أيضاً أن إيران تعهدت لقاء تسليمها هذه المليارات بالتوقف عن تخصيب اليورانيوم إلى مستوى 90 في المئة. ثانية المصالحات جرت بين السعودية وإيران، ظاهرها استعادة العلاقات الدبلوماسية وعودة سفارة كل منهما إلى عاصمة الأخرى. تردَدَ أيضا، دونما دليل، أن "الصفقة" تنطوي أيضاً على وقف دعم طهران للحوثيين وحكومة صنعاء مقابل تعهد الرياض بوقف التشدّد والتنكيل بجماعة الشيعة من مواطنيها المقيمين في المناطق الشرقية للبلاد.

تكهناتٌ كثيرة سترى في الحاضر والمستقبل، بعضها قد ينطوي على صدقية، وبعضها الآخر قد يفتقر إلى أي موثوقية، الأمر الأكثر أهمية هو ثبوت شروع الولايات المتحدة في انتهاج مقاربة جديدة لعلاقاتها مع خصومها، كما مع أصدقائها وذلك في ضوء تطورات لافتة في داخلها، كما في العالم الأوسع. في الداخل تشكو الولايات المتحدة من ظاهرة تضخم كبير يعصف بمجمل اقتصاد البلاد، ما انعكس سلباً على قطاع المصارف وأدى إلى خلخلة أوضاع عشرة من كبارها، فسارعت معها وزارة الخزانة إلى دعمها تفادياً لما هو أسوأ، إلى ذلك، أدركت واشنطن أن ثمة تحوّلات وتغيّرات طرأت وتطرأ على مختلف الدول في شتى القارات، نشأت عنها تطورات وتحديات جديدة تتطلب معالجات غير تقليدية، الأمر الذي دفع واشنطن إلى المباشرة في اعتماد استراتيجيات جديدة لحماية مصالحها ونفوذها في شتى أنحاء العالم. ما يهمّنا، بالدرجة الأولى، هو ما يمكن أن يتأتى عن كل هذه التطورات والتحوّلات في المشرق العربي بالنظر إلى وجود "إسرائيل" من جهة، ومن جهة أخرى وجود المقاومة الفلسطينية وحلفائها في دنيا العرب والعجم، ذلك أن الكيان الصهيوني وما ينطوي عليه في الوقت الحاضر من تناقضات وصراعات داخلية قد يدفع حكومته برئاسة بنيامين نتنياهو إلى القيام بتحركات، وربما بحروب، بدعمٍ من الولايات المتحدة، أو برضى ضمني منها، ما قد يتسبّب بانعكاسات سلبية ليس على فلسطين والمقاومة الفلسطينية فحسب، بل على حلفائها أيضاً في المحيط العربي، ولاسيما على لبنان وحزب الله، الذي يشكّل أقوى وأبرز حلفاء المقاومة الفلسطينية وداعميها سياسياً وميدانياً، على هذا الصعيد، يقتضي إبراز الحقائق الآتية:

أولاً: صحيح أن الكيان الصهيوني وحكومته الفاشية مرشحان دائماً إلى مباشرة أقسى أشكال الاعتداءات على أعدائهما، لكن انغماس الكيان في صراعات داخلية مريرة منذ أكثر من ثلاثين أسبوعاً قد يرجئ هذه الاعتداءات الواسعة، تفادياً لخسائر جمّة تعرف قيادته السياسية والعسكرية أنها ستؤدي إلى تصدّعه وانهياره.

ثانياً: ثمة حقيقة ساطعة أن المقاومة الفلسطينية لم تنجح في حماية وجودها ومؤسساتها في قطاع غزة فحسب، بل تمكّنت أيضاً من تقديم دعمٍ وافر للمقاومة، أفراداً وجماعات، في سائر أنحاء الضفة الغربية، الأمر الذي وضع "إسرائيل" أمام ظاهرة فريدة وخطيرة، هي انطلاق مقاومة ذاتية، أضحت معها كل فلسطينية وفلسطيني مشروع مقاوم وشهيد، وإن هذه الظاهرة ـ مشفوعةً بنضال الحركة الأسيرة وبعض الأحرار في الأراضي المحتلة سنة 1948ـ باتت معها فلسطين التاريخية كلها في حال انتفاضةٍ متصاعدة ضد الاحتلال الإسرائيلي.

ثالثاً: إن وصول الأمير محمد بن سلمان إلى ولاية العهد، وبالتالي إلى قيادة السعودية فعلياً، يتكّشف يوماً بعد آخر عن تغيير محسوس في سياسة المملكة الموالية تقليدياً للغرب الأمريكي والأوروبي. في هذا المنظور، انفتحت السعودية على الصين، ثم ما لبثت أن وافقت على وساطتها للتوفيق بينها وبين إيران لإنهاء قطيعةٍ دامت أكثر من 16 سنة. أخيراً وليس آخراً، عيّنت الرياض سفيراً لها في فلسطين ليتولى أيضاً منصب القنصل العام في مدينة القدس.

السفير شدّد في تصريح له على أن "هذه خطوة مهمة لتعزيز العلاقات مع الأشقاء في دولة فلسطين وإعطائها دفعة ذات طابع رسمي في المجالات كافة".

لا أرى، وربما غيري أيضاً، مصلحة في الانسياق وراء بعض القائلين إن مراد محمد بن سلمان من وراء هذه الخطوة التغطية على حديث متزايد عن جهود لتحقيق التطبيع بين "إسرائيل" والسعودية، ذلك أنه ليس ثمة شيء رسمي من هذا القبيل جرى إعلانه حتى الآن، فلماذا التقليل من أهمية هذه الخطوة في هذه الظروف العصيبة، ولماذا لا يصار إلى اغتنامها لمطالبة محمد بن سلمان بخطوةٍ إضافية أكثر أهمية، فتأكيد الاعتراف بالدولة الفلسطينية و"إعطائها دفعة ذات طابع رسمي في المجالات كافة" أمر مهم بلا شك. لكنْ ثمة أمر أكثر أهمية وجدوى هو أن تبادر السعودية إلى دعم المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية بالمال، خصوصاً تلك الناشطة والمتصاعدة عملياتها في جنين ونابلس والخليل وطولكرم، بغية تمكينها من تدويم فعاليتها ونجاحها، خصوصاً بعدما كشف رئيس شعبة الاستخبارات الإسرائيلية السابق عاموس يادلين، أن المقاومين في الضفة الغربية، أتقنوا تصنيع القنابل والمتفجرات ويستخدمونها بفعالية ضد الجيش الإسرائيلي. نعم، المطلوب انخراط سعودي أكبر وأفعل في دعم المقاومة الفلسطينية سياسياً ومالياً، لاسيما بعد أن أصبحت عملياتها تشمل الضفة الغربية كلها.
يُقال إن مسار الألف ميل يبدأ بخطوةٍ أولى، حسناً، لعل محمد بن سلمان يبدأ مسار السعودية الطويل لدعم المقاومة الفلسطينية، خصوصاً في الضفة الغربية، مالياً بسخاءٍ وبلا تأخير…

القدس العربي


المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المقاومة الفلسطينية الاحتلال احتلال فلسطين مقاومة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة تكنولوجيا سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المقاومة الفلسطینیة الولایات المتحدة الضفة الغربیة محمد بن سلمان

إقرأ أيضاً:

الاستيطان في الضفة الغربية يتوسع من بوابة المحميات الطبيعية

رام الله- تصاعدت مؤخرا وتيرة الاستهداف الإسرائيلي لأراضي الضفة الغربية، وكان آخرها إعلان منظمة "السلام الآن" الإسرائيلية غير الحكومية الأربعاء، عن مصادرة هي الأكبر منذ 3 عقود، تطال 12,7 كيلومترا مربعا من أراضي منطقة الأغوار وتحويلها إلى "أراضي دولة".

وبالتزامن أعلنت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية عن مصادرة 12 و700 دونم جنوبي نابلس، جزء منها مصنف "محميات طبيعية"، وذلك بعد أيام من مصادقة الحكومة الإسرائيلية على قرار بتطبيق القانون على محمية طبيعية جنوبي الضفة، وهدم منازل فلسطينية أقيمت فيها.

وفي مارس/آذار أصدرت سلطات الاحتلال 3 أوامر عسكرية إسرائيلية جديدة، تستهدف أكثر من 45 ألف دونم من أراضي الضفة الغربية، تقع في منطقة مصنفة "محمية طبيعية".

ولتوضيح حجم المحميات الطبيعية ومساحتها، والغرض من الإجراءات والقرارات الإسرائيلية التي تستهدفها، توجهت الجزيرة نت إلى خبير في مجال الاستيطان ومحلل سياسي.

بهدف تقليص مساحات رعي مواشي الفلسطينيين وتوسيع 3 محميات استيطانية.. حكومة الاحتلال تصدر أوامر بمصادرة أراض فلسطينية في الضفة الغربية#حرب_غزة pic.twitter.com/t8ZmsYhLBj

— قناة الجزيرة (@AJArabic) March 18, 2024

تحريض الجمعيات الاستيطانية

تستهدف قرارات الاستيطان عادة المنطقة المصنفة "ج" من الضفة، والتي تشكل 61% من مساحتها وتخضع لسيطرة إسرائيلية كاملة، لكن قرار الكبينت الإسرائيلي الخميس الماضي يتعلق بتطبيق القانون الإسرائيلي على محمية طبيعية مصنفة ضمن أراضي منطقة "ب"، أي تخضع لسيطرة مدنية فلسطينية وأمنية إسرائيلية.

ويعني القرار الإسرائيلي هدم منشآت ومنازل فلسطينية بنيت في المحمية، رغم أن تراخيص البناء من صلاحية السلطة الفلسطينية، خلافا للمنطقة "ج".

ويقول مدير وحدة مراقبة الاستيطان في معهد أريج للأبحاث التطبيقية بالقدس سهيل خليلية للجزيرة نت إن استهداف المحمية الطبيعية شرقي الضفة جاء بناء على طلب إحدى المجموعات الاستيطانية "ريغافيم"، التي تراقب وتلاحق البناء الفلسطيني الذي تصنفه بأنه "غير قانوني" في المنطقة المسماة "ج".

ويشير خليلية إلى أن المحمية كانت موضع تفاوض بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في تسعينيات القرن الماضي، وجرى الاتفاق بتصنيفها منطقة "ب" دون أعمال بناء فيها، لكن مع اجتياح الضفة وإقامة الجدار وحصار المناطق الفلسطينية، ومنع الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم وأملاكهم الخاصة، تزايدت الكثافة السكانية، فاضطر الفلسطينيون للبناء في المحمية الطبيعية.

ويضيف الباحث أن منظمة "ريغافيم" بدأت بملاحقة ومتابعة ما يحدث في المنطقة، وطالبت بأن يتم هدم المنازل والمنشآت الفلسطينية، لكن العقبة كانت أنها مصنفة ضمن مناطق "ب"، وأن الجيش الإسرائيلي غير مخول بتنفيذ عملية الهدم.

إسرائيل تصادق على أكبر مصادرة للأراضي في الضفة الغربية منذ اتفاقيات أوسلو#حرب_غزة pic.twitter.com/vcpt9l2g0Q

— قناة الجزيرة (@AJArabic) July 4, 2024

محميات بهدف السيطرة

ومع قدوم الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، وتولي المستوطن بتسلئيل سموتريتش وزارة المالية، وحصوله على منصب وزير في وزارة الجيش، وتوليه رئاسة الإدارة المدنية المسؤولة عن الشؤون المدنية بالضفة، عادت مجموعة الاستيطان "ريغافيم" لتحفز الحكومة على ملاحقة المباني الفلسطينية.

وكان أول شيء قامت به المجموعة إصدار خريطة توضح المنطقة المستهدفة وتمتد من شرقي بيت لحم حتى جنوب شرق محافظة الخليل، ووفق خليلية فإن الاستهداف يطال أكثر من 3 آلاف منزل ومنشأة فلسطينية متنوعة.

وبرأي الباحث المختص بشؤون الاستيطان فإن الاحتلال "يلجأ لتصنيف الأراضي كمحميات طبيعية للسيطرة على أكبر قدر ممكن من مساحة أراضي الضفة"، وفي المقابل يجرف ويخرب مناطق يصنفها الفلسطينيون محميات طبيعية.

ويضيف أن مساحة الأراضي المصنفة كمحميات طبيعية والتي يستعد الاحتلال لضمها في الضفة، تتجاوز 700 كيلومتر مربع، أي نحو 12.5% من مساحة الضفة.

وأشار إلى سابقة في إعادة تصنيف محميات طبيعية أو أجزاء منها لتصبح مناطق سكنية، كما جرى في جبل أبو غنيم في القدس عام 1997 عندما قام بتغيير تصنيفه من غابة خضراء إلى موقع سكني، موضحا أن "تغيير تصنيف الأرض وإعادة تخصيصها للسكان يكون لصالح الاستيطان واليهود تحديدا، ولا يشمل الفلسطينيين".

اقتلاع وتهجير

من جهته، يقول الباحث والمحلل السياسي جهاد حرب إن "التغول الإسرائيلي" يهدف إلى حرمان الفلسطينيين من مساحات واسعة من أراضيهم، بذريعة تصنيفها محميات طبيعية، في وقت يجري فيه استغلالها من قبل المستوطنين، ويروّجون للسياحة اليهودية فيها، كما يحصل في منطقة سلفيت ووادي قانا شمالي الضفة، "حيث تتم السيطرة والهيمنة تدريجيا لفرض أمر واقع وتوسيع وتعميق السيطرة اليهودية على الأراضي الفلسطينية".

وقال إن هدم المنازل الفلسطينية -التي يمكن أن تكون بنيت على أطراف تلك المحميات- بحجة أنها مخالفة لاتفاق أوسلو، تعني "تهجير المواطنين الفلسطينيين منها ومنحها للمستوطنين، وتوسيع مناطق سيطرتهم لإقامة ما تسمى مملكة يهودا والسامرة، تحت قيادة مجلس المستوطنات في الضفة الغربية".

وفيما إذا كان بإمكان أي حكومة قادمة إلغاء قرارات الحكومة الحالية، قال حرب "لا أعتقد، هم يؤسسون لتكريس أمر واقع بالاستيطان، والذي بنى الاستيطان هو حزب العمل الذي يقول عن نفسه إنه يؤمن بالسلام"، وأضاف أن ما يتم وضعه من قرارات من أي حكومة إسرائيلية يتم الاستمرار في تنفيذه تحت ضغط المستوطنين، في ظل غياب أي عملية سياسية.

وخلص إلى أن ما يجري اليوم من تسارع في الاستيلاء على الأراضي وشرعنة البؤر الاستيطانية وتسليح المستوطنين يهدف إلى "تكريس أمر واقع"، ولن يكون هناك أي تخل عنه، حتى لو جاءت حكومة مناقضة تماما لحكومة بنيامين نتنياهو، "فلا يوجد أي حزب في إسرائيل يؤمن بخيار حل الدولتين والعودة لحدود 67، وإن وجد فهو مجرد كلام".

مقالات مشابهة

  • السجن أصبح مقبرة..؟
  • قوات الاحتلال الإسرائيلي تعتقل 15 فلسطينيًا في الضفة الغربية
  • الأردن.. مسيرة تضامنية مع مقاومة الضفة بوجه الاستيطان
  • مقتل 5 فلسطينيين في هجوم عسكري إسرائيلي على جنين
  •  تصاعد محاولات المستوطنين الاستيلاء على "نبع غزال" بالأغوار الفلسطينية
  • النرويج تندد بـ "شرعنة" إسرائيل لبؤر استيطانية جديدة
  • تصاعد محاولات المستوطنين الاستيلاء على نبع غزال بالأغوار الفلسطينية
  • أبو ردينة يدين إعلان الاحتلال عن مخطط استيطاني جديد لإقامة 5300 وحدة استيطانية في الضفة الغربية
  • الاستيطان في الضفة الغربية يتوسع من بوابة المحميات الطبيعية
  • المقاومة الفلسطينية تستهدف قوات الاحتلال بعبوة ناسفة في طولكرم شمال الضفة الغربية