لجريدة عمان:
2025-04-23@23:27:09 GMT

عندما تموت جارة .. تموت أمّ!

تاريخ النشر: 26th, January 2025 GMT

عندما تلقيتُ نبأ وفاة جارتنا، شعرتُ وكأنّ يدًا خفـية امتدّت فانتزعت قطعة من لوحة الطفولة، اللوحة التي يشعُّ وهجها من مكان غامض، اللوحة التي بدأت معالمها بالتشرذم بمرور عجلة الزمن فوقها، فامّحاء الجارات -بطريقة أو بأخرى- يُفتت وجه القرية ويقوّضُ بصمتها فـي أرواحنا.

كُنّا نفتحُ أعيننا على وقع أقدامهن فـي مطابخنا، وبينما نعركُ أعيننا نعي أنّ أمنا ذهبت إلى المستشفى، فلا يبدو وجود جاراتنا طارئًا أو مُختالًا، فهن يعتنين بحيواناتنا ويُعن منها المواليد الصغيرة، يُمشطن شعورنا، يُكحلننا دون تعجب منا أو شعور بالتطفل من قبلهن.

نسمعُ رنين الأساور فـي أيديهن، وهن يدخلن ويخرجن، مُحملات بالفواكه والتمر والقهوة، وفـي أيام أُخر يحدثُ أن تترك إحداهن فـي ثلاجة البيت كيس لحم أو دجاجة مذبوحة دون أن تُحدث ضجيجًا، وإذا مررنا بالقرب من مزارعهن يتركن فاكهة أو عقد ياسمين فـي أيدينا أو على أعناقنا.

قد تبدو الجملة التي صدرتُ بها المقال كعنوان، مبالغًا فـيها، «عندما تموت جارة تموت أمّ»، وقد لا يفهم أبناء اليوم مغزاها، وهم يعيشون فـي جزر فرديتهم التي تكبحُ روح الجماعة التي لطالما تغذينا من أوردتها.

ومن المؤكد أيضا أنّ تلك الحياة لم تكن مثالية على نحو ما، إذ لطالما حلمنا بترك قُرانا، لطالما حلمنا بأن نجوب العالم، لننتزع أنفسنا منها ومن الجارات، لكن النوستالجيا المُعقدة فـي أرواحنا، تجعل تلك الأيام أجمل عهودنا بهذه الحياة!

ولذا فعندما تموتُ الجارة تفقد أمّهاتنا أختًا لهن، ففـي وقت كانت المسافات -لا تُقصرها وسائل التواصل الحديثة كما هو الحال اليوم- اكتسب وجود الجارات معنى آخر غير الذي نعرفه الآن.. فلو كنت تعيش وسط «جارات» كما هو حالنا فـي ثمانينيات القرن الماضي أو قبل ذلك، فأنت ستشعر دوما بأنّك مُحاط بالأمهات، أمهات يفرحن بك ويغضبن منك، يُوبخنك ويُحببنك ويشاركن فـي تربيتك. بينما يندر أن نجد ذلك بين أوساط الأجيال الجديدة التي تُعيد تشييد قُراها على نحو «مُخترق» وغير مألوف، استجابة لتداعيات أو دعايات العصرنة المُتسارعة.

فـي نقطة البدء، كبرنا على أيدي الجارات، كن يمررن أيديهن الشابة ثمّ ما لبثت أن صارت - تلك الأيدي- مُجعدة، ويبدو لي على نحو فلسفـي، بأنّ شيخوخة الجارات هي شيخوخة الأمكنة والأزمنة، فنحنُ لا نفقدُ الجارة، بل نفقدُ نمط عيش كامل، نمطًا لطالما أردتُ توثيقه.. لا أعني عبر التصوير، وإنّما عبر امتلاك القدرة على حفظ حرارة الإيماءات والضحكات، الأصوات، الكلمات، الثياب والزركشات، اللواسي التي تُخفـي أكثر مما تُبدي، زينتهن، الطعام الذي يخص كل واحدة منهن، الرائحة التي تنبعثُ من أجسادهن.. كل تلك الأشياء التي تضج بمعانيها.

الفكرة الأكثر وجعًا هي ذلك الإحساس باليُتْم. موت الجارات يُتمٌ من نوع لن يفهمه إلا من جرّب العيش بصحبة جوهرهن النادر.

لطالما شعرتُ أنّي شُجيرة صغيرة فـي قريتي وأنّ جاراتنا أشجار كبيرة يُظللنا، ولم أكن أظن -فـي رحلة النمو تلك- أن كل شجرة تسقط فـي غابة قريتنا، هي سبب لانكشافنا السخي على الضوء والنور والهواء. فبعد أن قدمن لنا الحماية الكافـية، بعد أن تجذرنا وتطاولنا، هاهنّ يغادرن، ليتركن فـي قلوبنا حنينًا أبديًا لأمهات ليس مثلهن أمهات.

من المؤكد أنّ فوتوغرافـيا الألبومات، لن تُعيد ضحكاتهن الممتدة فـي مزارعنا، لن تُعيد البطء الذي تحلين به فـي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهن ينصتن لقصص بعضهن البعض، وهن ينظرن فـي الأعين فلا يغفلن التفاصيل. فمن فناجين قهوتهن تنمو المؤازرة النادرة، الأيدي التي تتماسك بصلابة فـي آخر اللقاء. الدموع الصافـية. لا أحد يمكنه أن يُعيد تلك الحياة بحلوها ومرها.. لا أحد يمكنه أن يوقف جريان التحول فـي جدول قُرانا الجارف.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التی ت

إقرأ أيضاً:

أحمد موسى: السيسي عندما كان وزيرا للدفاع حرص على تطوير الجيش المصري

أحمد موسى: الرئيس عبدالفتاح السيسي عندما كان وزيراً للدفاع حرص على تطوير الجيش المصري.

ديربي الغضب.. التشكيل الرسمي لمباراة إنتر وميلان في كأس إيطالياالكرملين: لا مواعيد نهائية لتحقيق وقف إطلاق النار في أوكرانيا

أكد الاعلامي أحمد موسى، أن الرئيس عبدالفتاح السيسي عندما كان وزيراً للدفاع حرص على تطوير الجيش المصري.
واضاف أحمد موسى، مقدم برنامج على مسئوليتي، المذاع عبر قناة صدى البلد، مساء اليوم الأربعاء، أن السيسي قدم خلال السنوات العشر الماضية الكثير والكثير، مستدركاً أن السيسي يتفاوض على مشروعات الدولة لصالح الشعب.
وتابع أحمد موسى، أن لدينا إرادة قوية وقرار مدروس بالمشروعات القومية، لافتاً إلى أن مصر لن تفرط في أرضها ولن تسمح لاحد المساس بأمنها.
 

مقالات مشابهة

  • أحمد موسى: السيسي عندما كان وزيرا للدفاع حرص على تطوير الجيش المصري
  • "شات جي بي تي".. بين التسهيل والاعتماد المفرط
  • تقنية الشات جي بي تي بين التسهيل والاعتماد المفرط
  • «نظارة» تُغرم تشيكوني في «دراجات الألب»!
  • السجن 6 أشهر للمتهم بإشعال النار في منزل جارة بـ بني سويف
  • فينيسيوس كان قريباً من برشلونة!
  • صناعة الجوع: إرهاب مجتمعي صارخ
  • بعد سقوطها من الطابق الـ25.. فتاة صينية تنجو من الموت بأعجوبة
  • ابنة سليمان عيد تكشف اللحظات الأخيرة في حياته
  • الرئيس عون نعى البابا فرنسيس: لطالما دعا العالم إلى مساندة لبنان في محنته