قالت دار الإفتاء المصرية، إن الصلاة فرضت بالعدد في رحلة المعراج حيث تم تخصيصها بخمس صلوات في اليوم والليلة، أما أصل الصلاة فكانت موجودة من أول البعثة؛ فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في مبدأ البعثة.

هل فرضت الصلاة في رحلة المعراج؟أدلة حدوث رحلة الإسراء والمعراج .. معجزة حيَّرت العقول وطمأنت قلب النبيما سبب حدوث رحلة الإسراء والمعراج؟ .

. اعرف السر الإلهي

ففي الحديث: عن عفيف الكندي قال: "كنت امْرَأً تاجرًا، فَقَدِمْتُ الحج، فَأَتَيْتُ العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة، وكان امْرَأً تاجرًا، فوالله إني لعنده بمنى، إذ خرج رجل من خِبَاءٍ قريب منه، فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت -يعني قام يصلي- قال: ثم خرجت امرأة من ذلك الـخِبَاء الذي خرج منه ذلك الرجل، فقامت خلفه تصلي، ثم خرج غلام حين راهق الحُلُم من ذلك الـخِبَاء، فقام معه يصلي. قال: فقلت للعباس: من هذا يا عباس؟ قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي، قال: فقلت: من هذه المرأة؟ قال: هذه امرأته خديجة ابنة خويلد. قال: قلت: من هذا الفتى؟ قال: هذا علي بن أبي طالب ابن عمه. قال: فقلت: فما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته، وابن عمه هذا الفتى، وهو يزعم أنه سَيُفْتَحُ عليه كنوز كسرى، وقيصر". قال: فكان عفيف وهو ابن عم الأشعث بن قيس يقول وأسلم بعد ذلك، فحسن إسلامه : "لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ، فأكون ثالثًا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه". رواه الإمام أحمد في "مسنده"،، والطبراني في "الكبير".

وقد علق الإمام ابن حجر على هذا الأمر بقوله في "فتح الباري" (7/ 203، ط. دار المعرفة]: [إن فرض الصلاة اختلف فيه؛ فقيل: كان من أول البعثة، وكان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، وإنما الذي فرض ليلة الإسراء الصلوات الخمس...وقد تقدم في ترجمة خديجة رضي الله عنها في الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها في بدء الخلق أن عائشة رضي الله عنها جزمت بأن خديجة رضي الله عنها ماتت قبل أن تفرض الصلاة؛ فالمعتمد أن مراد من قال بعد أن فرضت الصلاة ما فرض قبل الصلوات الخمس إن ثبت ذلك، ومراد عائشة رضي الله عنها بقولها ماتت قبل أن تفرض الصلاة؛ أي: الخمس، فيجمع بين القولين بذلك، ويلزم منه أنها ماتت قبل الإسراء] اهـ.

قطع المسافة بين السماء والأرض

وأوضحت دار الإفتاء أن من الشبهات في رحلة الإسراء والمعراج، هو أن امتداد المسافة من الأرض إلى نهاية السماوات مقدار عظيم يخرج تصوره عن العقل، فما هو مقدار السرعة التي بها يتمكن الإنسان من قطع هذه المسافات، والنور الذي هو أسرع الأشياء يقطع هذه المسافة في أكثر من هذه المدة.

وأجابت دار الإفتاء على هذه الشبهة بأن الأمر إذا كان برمته خارقًا للعادة وهو من صنع القوي القادر جل جلاله فلا مجال لقياس عقلي أو أمر تجريبي، وإنما التسليم والإيمان.

كما أنه يمكن تقريب الصورة في إمكانية الوقوع لمن جمد عقله على الماديات بما قاله الإمام المراغي في "تفسيره" (15/ 6، ط. مصطفى الحلبي): [إن الحركة بهذه السرعة ممكنة فى نفسها، فقد جاء في القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه السلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة، فقد قال تعالى في صفة سير سليمان عليه السلام: ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ [سبأ: 12]، وجاء فيه أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر؛ كما قال تعالى: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: 40]، وإذا جاز هذا لدى طائفة من الناس جاز لدى جميعهم] اهـ.

فالذي أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى ما فوق الطبقات السبع، هو الذي سخر الريح لسليمان عليه السلام ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ [ص: 36]، وهو الذي أعطى من عنده علم من الكتاب القدرة على نقل عرش بلقيس من الشام إلى اليمن قبل ارتداد الطرف، وهو الذي أنزل جبريل عليه السلام بالوحي من السماء إلى الأرض في لمح البصر.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: رحلة الإسراء والمعراج الإسراء والمعراج رحلة المعراج المزيد رضی الله عنها علیه السلام فی رحلة

إقرأ أيضاً:

محاسنُ الشَّريعة العِلمُ الذي سَكَت لما نَطَق

إن المتدبِّر في محكمات الشريعة ومسلماتها، ليتهادى بين يديه ويقف شاخصا بين عينيه؛ ذلك التطرُّق المصلحي النَّفعي للعباد في تفاصيل الأحكام ولميَّاتها، وتلك المكارم والنفحات الإلهيَّة التي ينصبغ بها الخطاب المؤسِّس للتَّكليف؛ فلا تكاد ترى ذلك الأمر أو النَّهي الجازمين، إلا وترى -في الحين عينه- ذلك التَّحنان والامتنَان الذي يمازجهما ممازجة الدَّم اللحم، فلا ينقطع حضورُ قلب المكلَّف عن شُهُود هذه المعاني، وإن كان الذي يطرقُ السَّمع في معطاه الظَّاهري هو من بابة الحثِّ أو الزَّجر؛ يقول العِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلَامِ -رحمه الله- في (قَوَاعِد الأحكام): “التكاليفُ كلُّها راجعةٌ إلى مصالحِ العبادِ في دنياهم وأُخراهم، واللهُ غنيٌّ عن عبادةِ الكلِّ؛ ولا تنفعُه طاعةُ الطائعين، ولا تضرُّه معصيةُ العاصين”.

وهذه الكليَّة الشرعية المتدبَّرة في التَّوجيهات الإلهية والنبوية؛ لتُوحي لمعاشر المجتهدين وفئام النُّظار، أنه لن يُستفرغ الوسعُ، ولن تُؤدى رسالةُ البلاغ، ولن تلامسَ الأرواح برْدَ اليقين؛ ما لم يكن العطاء المحاسني والإيحاء المقاصدي عضيدًا للألفاظ في ساحة مدلولاتها، وأنيسا للأقيسة في سماءات إلحاقاتها؛ يقولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ -رحمه اللهُ- في (مجموع الفتاوى): “وَإِلَى سَاعَتِي هَذِهِ؛ مَا عَلِمْت قَوْلًا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ إلَّا وَكَانَ الْقِيَاسُ مَعَهُ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِصَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِأَسْرَارِ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدهِ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَحَاسِن الَّتِي تَفُوقُ التَّعْدَادَ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَمَا فِيهَا مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالرَّحْمَةِ السَّابِغَةِ وَالْعَدْلِ التَّامِّ”.

إنَّ هذا المشهد والذي يضرب فيه المددُ المحاسني بعمقٍ، ليسجلُ هذا التجلِّي أن يكون المكوِّن المحاسني حاضرا في ميادين العلوم وساحات الفنون الشَّرعية، ولياذننَّ أن يتبوئَ من مقعدها خير متكئٍ، وأن يتفيئَ من باسقها أوفر ظليليةٍ؛ فهو القادح لزناد المقايسات العليَّة، والناظم لجمعيَّة الدلالات اللفظيَّة، وهو الذي يتصدر جيدُه وينبض وريدُه، ويُلقي أسمال الحياة ويبعث إكسيرَ الخلود في شخوص تلك الفروع وطُوليات الأحكام المسبحة بكمال وجمال إرادة الربِّ الشرعية؛ يقولُ الشيخُ وَلِيُّ اللهِ الدِّهْلَوِيُّ -رحمه الله- في (حجة الله البالغة)، وهو يؤسس لعملقة

هذا الفنِّ النَّوراني: “هذا؛ وإنَّ أدقَّ الفنونِ الحديثيَّة بأسرِها عندي، وأعمقَها محتدًا، وأرفعَها منارًا، وأَوْلى العلومِ الشَّرْعِيَّة عن آخرها فيما أرى، وأعلاها منزلةً وأعظمها مقدارًا: هو علمُ أسرارِ الدِّين، الباحثُ عن حِكَمِ الأحكامِ ولمِّياتِها، وأسرارِ خواصِّ الأعمال ونِكاتِها؛ فهو -واللهِ- أحقُّ العلومِ بأنْ يَصْرِفَ فيه مَنْ أطاقَه نفائسَ الأوقات، ويتَّخذَه عُدَّةً لمعادِه بعدما فُرِضَ عليه من الطاعات؛ إذْ به يصيرُ الإنسانُ على بصيرةٍ فيما جاء به الشرع، وتكونُ نسبتُه بتلك الأخبارِ كنسبةِ صاحبِ العرُوضِ بدواوين الأشعار، أو صاحبِ المنطق ببراهين الحُكماء، أو صاحبِ النَّحْو بكلامِ العَرَبِ العَرْباء، أو صاحبِ أصولِ الفقه بتفاريعِ الفقهاء، وبه يأمنُ من أن يكونَ كحاطبِ ليل، أو كغائصِ سيل، أو يخبطَ خبطَ عشواء، أو يركبَ متنَ عمياء”.

ثم إنه -بعد وارق هذا الفَنَن- لم يلبث قلمُ الفكر الإسلامي، وفي وقت مبكِّرٍ من الولادة التدوينية: أن تمسَّ أناملُ الصَّنعة وأن تبحرَ سفائنُ الكَشف، عن ذلك الخِدر الطَّاهر والخِبء النَّادر والمشرع المورود؛ فأفصحَ لسانُ الحقيقة والمجازِ عن سُدَّة الإعجاز، وتطاوحت هامة العقلِ المبجَّل ساجدةً بين يدي إحكامات وإتقانات الوحي المنزَّل، وأمطرت زُبُرُ الأحكام وصُحُف التكليف غَيثًا غَدَقًا مُجَلَّلًا طبَقًا؛ حتى اخضَّرت أرواح النَّاظرين والمتدبِّرين، وَرَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيجٍ.

وفي هذا العمر الوليد من تاريخ التدوين الإسلامي، وفي قرنه الرَّابع الهجري، وهي طبقةٌ مبكرةٌ، ربما لم تشبَّ فيها بعضُ العلوم المركزيَّة؛ أطلَّ علمُ محاسن الشريعة، وأيُّ إطلالة كانت؟! فقد سُجِّل في هذا القرن عددٌ من مصادر ومدوَّنات هذا الفن التشريعي، ثم قدمت هذه المصادرُ مادة إثرائية رائدة، وكأنَّه عصر من عصور النَّهضة والنُّضوج العلمي؛ وقد كان من أقطاب هذا النَّتاج المبتكر والمفتخر:

– الإمام الحافظ العارف الزاهد، أبو عبد الله محمَّد بن علي بن الحسَن بن بشر الحَكيم التِّرمذي؛ صَاحب المصنَّفات الكبار في أُصول الدين ومعاني الحَديث، والذي عاش إلى حدود سَنة (320هـ)؛ وذلك في كتابه الذي مَزَعَ قرطاسةَ هذا الفنِّ: إثبات العِلل.

– ثمَّ أَبو زَيد أحمد بن سهل البَلْخِي؛ صاحب التَّصانيف المشهورة، وأحد كبار النَّظار والفلاسفة، والذي تُوفي سنة (322هـ)؛ وذلك من خلال أطروحته الفلسفية عن إعجاز التشريع، المسمَّاة: (الإبَانة عن علل الدِّيانة).

– ثم أبو الحَسَن مُحمد بن يُوسف العَامري النيسَابوري؛ عالم المنطق والفلسفة اليونانية، والذي تُوفي سنة (381هـ)؛ والذي قدَّم طرحا توليديًّا لمعاقد وفصول وأطروحات المادة المحاسنية، حتى قدَّم لنا بابا كان خليقا بكل مضارعة ومشاكلة، وإن تُحفظ على فكره العَقَدي، وهو باب: القَوْل فِي الشُّبَهَاتِ الَّتِي يَتَسَلَّقُ بها المُعَانِدُونَ للإسلام، وذلك في كتابه: الإعلام بمناقب الإسلَام.

– ثم محمَّد بن علي بن حسين بن مُوسى بن بابويه القُمي، المعرُوف بالشيخ الصَّدوق وبابن بابويه، من علماء الشِّيعة في القرن الرابع الهجري، والمدفون بالرَّي سنة (381هـ)؛ وذلك في مصنَّفه: علل الشرائع.

ثم بعد هذه الثَّورة التدوينية والدَّفق التصنيفي الكبير، والذي ربما توارى منه عن حركة الرصد التراثي بعضُ المخرجات؛ شهد هذا الحقلُ الشَّرعي فتورًا لافتًا، وأيُّ فتور كان؟! فقد توالت القرونُ المتطاولة، ونضجت المذاهب الفقهية، ولاحت أسرارُ الشريعة في أصول الأحكام وفروعها، وأينعت منها الثِّمار، واستقر على عرش التدوين جهابذة النظار وأساطين المفكرين؛ ولم تنبس شفةٌ، أو يخط يراعٌ، أو يُسود كاغدٌ، فيما بان من مطويَّات المطبوع والمخطوط؛ بل كانت رسومَ نقش لا يُرى منها إلا أطراف البنان، وإطلالة حييٍّ لا يبين منه إلا ذؤابة اللثام، وجرت بعد طيِّ هذه السنين مجرى اللمَامة من القَول، بعد أن كانت على أعواد منابر العلوم خطيبًا مصقعًا مفوهًا؛ فلم يُرَ فيما وُقف عليه، من المصنَّفات التراثية في محاسن الشريعة، والتي هي مستقلةٌ بذاتها في هذا الباب، بعد المائة الرَّابعة؛ إلا:

– كتاب (مَحَاسِن الإسلام)؛ لأبي عَبد الله مُحمد بْن عَبْد الرَّحْمَن بن أَحمد البُخاري الحُنفي، الواعظ المفسر المعروف بالزاهد، توفي في جمادي الآخرة سنة (546هـ).

– وكتاب (كشف الأسرار عما خفي عن الأفكار)؛ من تأليف العلامة شهاب الدين أحمد بن عماد الأقفهسي، الشَّافعي المعروف بابن العماد، تُوفي سنة (808هـ).

ومع هذه المفارقة الغريبة المتصدِّرة لهذا المشهد؛ فهو في قرنه الأول وبواكير نُشوئه ومخايل ولادته، يُسجل نشاطا مذهلا، يتعدَّى الحجم المتوقَّع لكتابة الأحرف الأولى في العُلوم المبتكَرة، ثم لم يمكث غيرَ بعيد إلا ويتهاوى هذا الشِّهاب من سماء الوجود، وتذوي أعذاقه الشَّامخات في جوف كل عنقود، ويتفرق جمعُه، ويدبر نُسَّاكه؛ وهو يقع من علوم الشَّريعة موقع الحسنة من الوجه الطَّاهر المشراقِ، ويقوم في سُوقها مقام المنافح المسدَّد المقدَام.

وقد كنتُ أُفاتح فضيلةَ شيخَنا العالم الجليل، الدكتور أحمد بن عبد الله بن حميد -حفظه الله- في ذلك، وكنَّا نُقلب أوجه الظنِّ في استكشاف السَّبب الذي يقف وراءَ هذا الانقطاع التأليفي المتطاول؛ ولعل مما يمكن تسجيله في هذه المقالة السَّببان التالية:

أولًا: أنَّ هذا الحقلَ مِن التَّصنيف الشَّرعي، قُدِّرَ له -في هذا العُمر المبكِّر- أنَّ أكثرَ من يطرقُه هم أصحاب العلوم الكلاميَّة والمناهج الفلسفيَّة، سواءٌ أكانوا معتزلةً أم صُوفِيَّةً أم شيعةً؛ وربما صدَّر هذا الاختصاصُ الاتِّفاقي بين أصحاب هذه المناهج انطباعًا تحفظيًّا على هذا المنحى التَّأليفي، وربما ظُنَّ به الافتئاتُ على أصول أو مسلَّمات النَّظر الشرعي في هذه المتعلَّقات التكليفية؛ هذا إذا ما ضَمَمْنَا إليه ذلك النَّهج التأسيسي والبنائي الذي تعيشه المذاهب الفقهية في هذه الفترةِ، وأنَّها كانت أمام متطلباتٍ من الوجودِ والبقاء ورسم خرائط العطاء والإنتاج الفقهي، ما كان كفيلاً بالانشغال عن ذلك الطَّرح المتقدِّم والثَّوري بالنسبة إلى هذه الفترةِ الحرجة من أعمار المذاهب الفقهيَّة؛ الأمر الذي جعل من هذا الحقلَ المحاسني أولويةً متأخرةً في هذه الروزنامة الفقهيَّة، خاصَّة وأنها قد تشوكَّت بهذا الطرح الفلسفي والكلامي، والذي ربما احتاج إلى عملياتٍ متضاعفةٍ من التَّنقيح والتَّسديد والمقاربة.

ثانيًا: وربَّما يجيب على استبقاء هذا الانصراف التَّأليفي عن محاسن الشريعة، حتَّى بعد تعدِّي هذه الأطوار المؤرِّقة من تكوِّن المذاهب الفقهيَّة، ووجود المساحات الواسعة والنِّزهة والقامات المتينة والمكينة من أوجه الإبداع والإثراء والفتح العلمي؛ وهو أنَّ الطَّريقة الاجتهاديَّة والأطروحة البنائيَّة التي انطلقت منها فكرة محاسن الشريعة وانقدحت عندها شرارتها الأولى، هي التزام القولِ بالتحسين والتقبيح العقليين، وهذا الالتزام سجَّلت أمامه المدرسةُ الأشعريَّة، والتي تمثِّل جمهورَ المذاهب الفقهيَّة المتَّبعة، موقفًا علميًّا عقيمًا من التَّعاطي مع هذه النظرية التَّشريعية، وذهبت منها مذهبَ التَّعطيل والإلغاء والتَّفريط، ولم تقدِّم الاتزان المتواجب في هذا المشتبه الاستدلالي؛ يقول ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في (مفتاح دار السعادة): “وَكَذَلِكَ الإِمَام سعد بن علي الزنجانى بَالغ فِي إِنْكَاره على أبي الْحسن الأشعرى القَوْل بِنَفْي التحسين والتقبيح، وَأَنه لم يسْبقهُ إِلَيْهِ أحد، وَكَذَلِكَ أَبُو الْقَاسِم الرَّاغِب، وَكَذَلِكَ أَبُو عبد الله الحليمي، وخلائق لَا يُحصونَ؛ وكل من تكلم فِي علل الشَّرْع ومَحَاسِنه وَمَا تضمنه من الْمصَالح ودرء الْمَفَاسِد فَلَا يُمكنهُ ذَلِك إِلَّا بتقرير الْحسن والقبح العقليين… فَلَو تَسَاوَت الْأَوْصَاف فِي نَفسهَا لانسد بَاب الْقيَاس والمناسبات وَالتَّعْلِيل بالحكم والمصالح ومراعات الْأَوْصَاف المؤثرة دون الْأَوْصَاف الَّتِي لَا تَأْثِير لَهَا”.

إنَّ هذه المفارقة البحثيَّة في تاريخ التَّدوين في محاسن الشريعة؛ لتفتح آفاقًا واعدةً من الدِّراسات والتَّحقيقات التراثية، والتي تُنقِّب في الرَّصيد المخطُوط للأمَّة، بحثًا عما يمكن التبشيرُ به من مصنَّفات تسدُّ العوزَ العِلمي الذي يشوبُ هذا الحقل الشَّرعي الرَّائد، كما أنها تفتحُ أبوابًا مشرقةً أُخرى من الدِّراسات المنهجيَّة التي تؤطِّر عمليَّات توظيف وتفعيل المعطى المحاسني والمصالحي في الأحكام الجزئيَّة، بعيدًا عن هَلَكة الإفراط أو التفريط في نظرية التحسين والتقبيح العقليين؛ إنَّ مثل هذه الدِّراساتِ ونظائرها لتخفِّف على المجتمع المقاصدي والفروعي من وطئة عنوان هذه المقالة: محاسنُ الشَّريعة العِلمُ الذي سَكَت لما نَطَق، وتُعيد ذلك المجدَ التَّليد لينطق شامخًا من جديد.

مقالات مشابهة

  • «البحوث الإسلامية» رحلة النبي كانت تكريما إلهيا ودعوة لتعزيز القِيم الإيمانية
  • وزير الأوقاف السابق: رحلة الإسراء والمعراج كانت بالروح والجسد معا
  • ما المعنى الصحيح لقرب النبي من الله تعالى في رحلة المعراج؟ الإفتاء توضح
  • ما سبب حدوث رحلة الإسراء والمعراج؟ .. اعرف السر الإلهي
  • محاسنُ الشَّريعة العِلمُ الذي سَكَت لما نَطَق
  • «الإفتاء» تكشف أسرار معجزة الإسراء والمعراج.. هل كان بالروح أم بالجسد؟
  • هل كان المعراج بالروح أم بالجسد.. الإفتاء توضح
  • الشيخ يسري جبر: رحلة الإسراء والمعراج حدثت خلال رؤى منامية أولا ثم كانت يقظة
  • «مصطفى بكري» يروي قصة المخبر الذي تتبع والدته حتى القبض عليه