صحيفة التغيير السودانية:
2025-03-29@16:39:33 GMT

الخطاب السياسي للحرب

تاريخ النشر: 26th, January 2025 GMT

الخطاب السياسي للحرب

 

الخطاب السياسي للحرب

ناصر السيد النور

تظل مقولة الاستراتيجي البروسي كلاوزفتز الكلاسيكية في كتابه عن الحرب من أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى من أكثر المقولات وصفا للحرب في بعدها الاستراتيجي الذي يقترن بالسياسية والإرادة السياسية من شنها. والدولة بوصفها الجهة التي تقرر الحرب وتشرع مبرراتها وتحدد أهدافها الاستراتيجية وجهازا يحتكر شرعية استخدام العنف.

وتضع هذه العلمية المتسلسلة لإدارة الحرب المدخلات السياسية والتشريعية من تفويض وغيره من وسائل في الدولة امام مسؤولية الدفاع عن مواطنيها ضد أي خلل يهدد أمنهم. ويحدث هذا عادة في الوضع المستقر سياسيا والمعزَّز باتفاق سياسي مجمع عليه بأبعاده الشرعية والدستورية. أما والدولة تقودها سلطة يتعذر فيها تحديد مصدر صناعة القرار فيها فإن المغامرة السياسية والعسكرية في نهاية المطاف ستؤدي إلى نتائج وخيمة يعصب تداركها. إن الخطاب السياسي لا يعني خطة استراتيجية الدولة تعلنها الدولة أو منظومتها السياسية في وقت الأزمات وحسب، بل آلية تعمل على الدوام لتعزيز خططها السياسية الشاملة بما السياسات الاقتصادية وغيرها من مشروعات تحتاج إلى الغطاء سياسي وقانوني واخلاقي!

انطلقت الحرب في السودان منفجرة عن صراع يحمل كل أسباب التنازع السياسي واحتمالاته الباطنة منها والظاهرة وانتهت لتأخذ تعريفا محددا كمواجهة عسكرية عنيفة بين قوتين مسلحتين أيٍ يكن الوصف لشرعية أي طرف في استخدام القوة.  فالجيش من حيث مهامه حسب موقعه المنصوص عليه دستوريا – كما في كل دول العالم- يعد القوة الأوحد والأقوى في استخدام القوة بلا حدود وتبعد مهامه المفترضة عن السياسية بمقدار تنفيذه لمهامه القومية. وبينما قوات الدعم السريع رغم تقنينها وتكوينها تحت كنف الجيش إلا أنها تعد قوة شبه عسكرية Paramilitary قبل أن تزداد قوتها وبطبيعية الحال طموحها بشرعية القوة الضاربة. وميزان القوة في معادلته السياسية بين هاتين القوتين تفسره المواقف السياسية في خضم الفوران السياسي في مرحلة ما قبل الحرب. إذ شهد الصراع عقب الانقلاب الذي قاده قائد الجيش الفريق البرهان في أكتوبر 2021 أطاح فيه بحكومة المرحلة الانتقالية بقيادة رئيس الوزراء المدني الدكتور عبد الله حمدوك بمساندة وموافقة الدعم السريع وتحالفات قوى الحرية والتغيير (مجموعة الميثاق الوطني) ظلت قوات الدعم السريع مساندة وقوة متصدية لمعارضيها من تيار الأحزاب المدنية.

إن الوثيقة الدستورية التي طرحت بين المجلس العسكري والمدنيين لتنظيم القانوني للحكم الفترة الانتقالية تعتبر نقطة الخلاف التي يُركن إليها في السبب الرئيس في وصول الخلاف إلى حرب كنقطة اللاعودة في الحوار السياسي بين الطرفين على ما حملت من نقاط خلافية بين المكونين لم تكن إلا عرضا لخلاف أعمق تعود جذوره إلى طبيعة التكوين المهني للطرفين المتحاربين الآن.  فلم يكن من الممكن قبول قوة موازية باتت تتجاوز مهام الجيش بما يعني خروجا على تقاليد المؤسسة العسكرية بالإضافة إلى الانتماء الجهوي لمنسوبيها مما لم تعهده مؤسسة السلطة في تاريخ السودان السياسي وغيرها من عوامل تراكمت لتنتهي إلى صدام كان محتوما. ولأن قوات الدعم السريع لم تكن مستعدة من الناحية السياسية أن تقدم برامجا يؤهلها للطرح السياسي وبدلا عن ذلك استندت إلى حجم قوتها المتصاعدة حينها كقوة تفرض ارادتها وتجذب السلطة إليها طالما أن القوة العسكرية كانت ولا زالت الطريق الأقرب إلى الحكم وطريقة ممارسته في السودان وتسبق أي وسيلة أخرى تنفذ بها الاستحواذ على السلطة أو ممارستها وفق أي معايير محتملة في صراع السلطة.

ولم تكن الحكومة القائمة بشرعية الواقع بحاجة إلى خطاب سياسي بما أنها تمثل الدولة وحكومة على رأسها قائد مؤسسة الجيش فخطابها يقوم على تفرضه سلطة الامر الواقع أكثر. وبينما الدعم السريع اضطرت إلى البحث عن غطاء سياسي تشرع به مواجهتها للجيش تحت مظلة الشعارات التي رفعتها وخطابا سياسيا يمثل رؤيتها في المواجهة: الديمقراطية والعادلة وقضايا المهمشين وغيرها من دعاوى مطلبية كانت برامجا لمكونات الهامش السياسية منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي في حركات نهضة دارفور ومؤتمر البجا في الشرق واتحاد جبال النوبة في الغرب.  هذه الاختطاف المتسرع لقضايا لم تكن يوما ضمن برامجه أو جزء من طبيعة تكوينيه احدثت مفارقة بين الخطاب والفعل. فالتجأ إلى ما يشابه طبيعته الجهوية من حشد الأنصار على أسس من قبائلية عشائرية فزعا إلى الروابط الدموية، ولاقت هجوما مضادا على نفس الأسس التي ارتكزت عليها الأمر الذي مهد لصعود خطابات جهوية تستهدف المواطنين على أساس الهوية.

ولم يقتصر الخطاب السياسي للحرب على الطرفين المتقاتلين بقوة السلاح، فإن الأحزاب السياسية المدنية وتوجهاتها المناوئة للحرب ونزعها نحو المسار الديمقراطي وما تعتبره اجهاضا لأهداف ثورة 2019 التي أطاحت بنظام البشير سعت لتكون بعيدة عن خطاب الحرب السائد. وجماع المكون السياسي المدني يسعى إلا أن تكون هذه الحرب الجارية منذ عامين غير أهلية Uncivil War إذ تعدها ضمن صراع السلطة مع أن نطاقها الممتد يشير إلى أبعد مما يتصوره أو ترغب فيه المكونات السياسية المدنية.  ومع تسارع وتيرة الحرب وما شهدته من تحولات عسكرية وسياسية بانضمام جماعات مقاتلة إلى جانب الجيش (القوات المشتركة) التي تحسب على معسكر البرهان، وقفت القوى المدنية من منافيها بالخارج تصدر خطابا سياسيا يدعو إلى وقف الحرب (لا للحرب) بين أروقة المؤسسات الدولية وعلى منصات التواصل الاجتماعي عبر تنسيقة القوى الديمقراطية (تقدم) لوقف الحرب واسترداد الديمقراطية. وفي المقابل لاقى هذا الطرح هجوما وانتقادا من الأطراف في الداخل بل وتم اتهامها على نحو واسع شعبيا بوقوفها إلى جانب الدعم السريع وتمثل ذراعا سياسيا لقوة المليشيا خاصة توقيعها لإعلان اديس ابابا يناير 2024 بينها وقوات الدعم السريع. ولأنها أي القوة المدنية لا تتأسس على اجماع جماهيري واسع بين مكونات الشعب السوداني لا ينتظر أن تؤثر سياسيا في مجريات الأمور بالداخل دون التوصل الى حل ما نوع ما تشارك فيه كقوى سياسية ضمن التيارات العديدة التي تمثل طيف السياسية السودانية بأعداده المتكاثرة على أساس من القرية والقبيلة والايدولوجيا وكل ما من شأنه أن يمثل مجموعة مهما كان حجمها أو وزنها في المشهد السياسي.

والواقع أن كافة الأحزاب السياسية التقليدية منها والحديثة بطوائفها الدينية وطائفيتها السياسية تشكو قصورا في خطابها البرامجي السياسي التنظيمي في الممارسة والفعل بما فيهم فاللاعبون الجدد الذين يشكلهم القوة وخرجوا من تشكيلات الصراعات المسلحة واستمروا في ممارسة السياسة بطرق أخرى ومنحهم فراغ السلطة دوراً سياسياً يصعب التراجع عنه. وما على الأحزاب إلا إعادة فهم ما يجرى على الساحة السياسية وأن تخرج من رؤيتها التأريخية التي ظلت حبيسة تجربتها المتكلسة في اليمين واليسار وتبعد عن تفكيرها المتخم بالفشل.

إن في تعدد خطابات السياسية للحرب بالشكل الذي طرحته التنظيمات السياسية ما عبر عن موقفها من الحرب مما دفعها مجتمعة إلى جدال مع القرار السياسي إلى أقصى نقاط الخلاف بين مسؤولية الدولة والجيش والمعارضة والجماعات الإسلامية التي المتهمة بإدارة الحرب وتوجيهها بما يمكنها من العودة إلى السلطة. وهذا الاختلاف حول أخطر قضية سودانية في القرن الحالي ربما استدعى قدرا من المعقولية السياسية قبل الشرعية السياسية في الموقف من الحرب إلا أن تحول الخطاب السياسي إلى الدعاية والاتهامات المتبادلة بين أطراف العملية السياسية جعل منه أن يكون خطابا سيء الصياغة تخالطه اعتبارات كثيرة منها الداخلي والخارجي.  وإن في ارتباط الحرب في السودان بمحاور إقليمية مؤثرة في المنطقة العربية والمحيط الافريقي اثرت على مضمون الخطاب السياسي السوداني واستقلاليته. وبانتقال الحكومة إلى مقر يبعد كثيرا عن العاصمة التاريخية الرسمية في بورتسودان أفقدها حيزا مقدرا من سلطة توجيه وتنفيذ السياسات بل ما اعتبر تراجعا يقترب من الهزيمة إن لم تكن في الموقع ففي رمزية الدولة ومقارها. ومن هنا اضطرت الدولة أن تجد قنوات بديلة في تصدير خطابها رافقه عادة التضارب في البيانات بما يفهم منه تعدد لمراكز القرار فيما تبقى لها من واجهات إعلامية.

تفاعل الخطاب السياسي مع دولة في حالة حرب لم يكن بالقدر الذي تقتضيه المرحلة الحرجة من استجابة تحدد أولوياتها الواقع بحقائقه التي أوجدتها حرب لم يكن أحد مستعد لتداعياتها الهائلة وأثرها في تهديد الموقع الوجودي للسودان نفسه على الخارطة الجغرافية والتاريخية. فإنتاج الخطاب السياسي تأثر إلى حد بعيد بردود الأفعال غير الراجحة بين السياسيين في السلطة (الجيش الحاكم) وخارجها (مجموعة أحزاب المعارضة) وأدى هذا بطبيعة الحال إلى خلق خطابات منقسمة تفصح عن الانقسام الذي احدثته الحرب في بنية الدولة والمجتمع السوداني أكثر منه تعدد في الرؤى نحو الحل أو حسم معركة الحرب. ولكن ذلك ليس جديدا على الممارسات السياسية المتبعة في الخطاب السياسي السوداني فهي لا تستند إلى بيانات أو تحليل استراتيجي في تقدير المواقف السياسية اعتمادا على مؤسسية فاعلة تقودها نحو قضايا وطنية عليا توحد من خطابها بما يزيد من منسوب الحساسية التاريخية والوطنية في القضايا المصيرية المشتركة. ولطالما كان التفريق بين الوطن والدولة والحزب من أعقد المعضلات في الوعي السياسي السوداني خلافا لغيرها من الأدوار التي يتصدى لها السياسيون دون تبصر كافٍ في التأسيس السياسي ومشروعية خطابه في تصورهم للدولة ودورها.

فالخطاب السياسي وإن يكن يمثل جماع الرؤية المخططة في سياق الفلسفة السياسية للكيانات التي تتصدى للشأن السياسي العام عبر منظومات حزبية وايدولوجية وخلافه إلا أنه يظل حوارا بين ضرورات السياسية وما تفرضه المواقف التاريخية في لحظات بالغة التعقيد. فإذا كانت الحرب التي رزء بها السودان تعود في جوهرها جزئياتها الباطنة إلى تعطل الحوار السياسي ولغته بين الأطراف المتنازعة سياسيا فإنه في الوقت نفسه يبرهن على القصور في الرؤية التي تنظر من خلالها المكونات السياسية إلى معالجة القضايا الوطنية. فبدلا أن يكون خطاب الحرب خطابا سياسيا ينطوي على الرغبة في تجاوز المحنة تحول إلى خطابة تؤجج المشاعر نحو حتمية الحرب مهما كلف ثمنها الإنساني. وما نتج عن هذا الخلط في الخطاب الذي وحد بدوره من خطابات أخرى بين المكونات الاجتماعية أبرزها خطاب الكراهية والعنصرية وكل ما يتقوى بغير الدولة ومؤسساتها على نحو ما أضرت هذه الخطابات المشحونة بخطاب الدولة الرسمي.

 

الوسومالحرب السودانية الصراع السوداني

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الحرب السودانية الصراع السوداني

إقرأ أيضاً:

القدس المنسية: المدينة التي تُسرق في ظل دخان الحرب الإسرائيلية على غزة والضفة

في الوقت الذي تشتعل فيه المواجهة في القطاع وتحتل صدارة المشهد الإعلامي والدبلوماسي، تنزوي القدس في الظل، كمدينة تُسرق بهدوء وتُغيَّب عن الواجهة تحت غطاء النسيان والانشغال. يعيش الفلسطينيون في القدس واقعا قاسيا لا يقل عنفا، لكنه غالبا ما يُختزل إلى الهامش في السردية الفلسطينية العامة.

تفرض السلطات الإسرائيلية قيودا مشددة على حركة المقدسيين، خاصة خلال شهر رمضان، ما يعيق وصولهم إلى المسجد الأقصى، ويحوّل ممارسة العبادة إلى معاناة يومية تتخللها الإهانات والمنع. فهل تُمارس هذه القيود بدافع أمني حقيقي، أم أن وراءها بُعدا دينيا وسياسيا مقصودا؟ ولماذا تستهدف القدس بشكل متكرر بينما يُسمح للمستوطنين باقتحام ساحاتها بكل حرية؟

ومنذ احتلالها عام 1967، تبنّت إسرائيل نهجا ممنهجا لتغيير الطابع الديمغرافي للقدس الشرقية، من خلال سحب الهويات، وهدم المنازل، وتوسيع المستوطنات على حساب الأحياء الفلسطينية. فهل هي مجرد إجراءات إدارية وأمنية؟ أم أنها جزء من مشروع استراتيجي طويل الأمد لطمس الهوية الفلسطينية في المدينة؟

ما يُنفَّذ اليوم ليس سوى تسريع لهذه السياسات، بقيادة حكومة تُعد من الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل، وتضم شخصيات يمينية تتبنى خطابا إقصائيا لا يعترف بحقوق الفلسطينيين. وقد ترافق هذا التصعيد مع الحرب الإسرائيلية الشاملة على الضفة الغربية وقطاع غزة، ما وفّر بيئة مثالية لتكثيف مشاريع التهويد، في ظل انشغال العالم بساحات الصراع المفتوحة وغياب الاهتمام الدولي بما يجري في المدينة المقدسة
وما يُنفَّذ اليوم ليس سوى تسريع لهذه السياسات، بقيادة حكومة تُعد من الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل، وتضم شخصيات يمينية تتبنى خطابا إقصائيا لا يعترف بحقوق الفلسطينيين. وقد ترافق هذا التصعيد مع الحرب الإسرائيلية الشاملة على الضفة الغربية وقطاع غزة، ما وفّر بيئة مثالية لتكثيف مشاريع التهويد، في ظل انشغال العالم بساحات الصراع المفتوحة وغياب الاهتمام الدولي بما يجري في المدينة المقدسة.

سياسة المنع من الوصول إلى المسجد الأقصى: بين التضييق الديني والتأثير الاقتصادي

إن إحدى أخطر السياسات الإسرائيلية المستمرة في القدس هي إعاقة حرية العبادة للفلسطينيين، لا سيما في المسجد الأقصى، الذي يمثل أمرا عظيما بالنسبة للمسلمين. تُفرض قيود صارمة على دخول المصلين من الضفة الغربية، عبر نظام تصاريح تعجيزي، غالبا ما يُستخدم كأداة للعقاب الجماعي، ويُرفض دون أسباب واضحة، خاصة لفئات الشباب والنساء والنشطاء.

ولا يقتصر المنع على حرمان الفلسطينيين من ممارسة شعائرهم الدينية، بل يتعداه إلى تمييز واضح على أساس العمر والجغرافيا. فكثيرا ما يُمنع الشبان تحت سن الأربعين من دخول المسجد، حتى في المناسبات الدينية الكبرى، فيما يُسمح للمستوطنين اليهود من أقاصي البلاد باقتحام ساحاته، بحماية الشرطة الإسرائيلية.

أما سكان القدس أنفسهم، فلا يسلمون من التضييق اليومي، إذ تُغلق بوابات المسجد الأقصى بشكل مفاجئ، وتُمارس بحقهم إجراءات تفتيش مهينة على المداخل، وتقتحم قوات الاحتلال باحاته بشكل متكرر، مما يحوّل الحرم القدسي إلى ساحة أمنية تُقيّد فيها حرية العبادة وتسلب السكينة من المصلّين. وتصل هذه الانتهاكات إلى حدّ مصادرة وجبات السحور أو الإفطار من المصلّين، كما حصل قبل عدة أيام، حين داهمت القوات باحات المسجد، وصادرت الطعام من المعتكفين، في مشهد يمسّ بكرامتهم ويُنغّص عليهم أجواء الشهر الفضيل.

وإلى جانب الأبعاد الدينية والوطنية، ينعكس هذا الحصار سلبا على الحركة الاقتصادية في القدس. فعدم السماح لسكان الضفة الغربية بدخول المدينة يُعطّل النشاط التجاري والأسواق، ويؤثر بشكل مباشر على دخل مئات العائلات المقدسية التي تعتمد على الزوار والمصلين من خارج المدينة، خاصة خلال شهر رمضان والمواسم الدينية.

الوضع الاقتصادي في القدس

الوضع الاقتصادي في القدس ليس أقل مأساوية من الوضع السياسي، إذ يعيش السكان في حالة حصار اقتصادي دائم، تتجلى في ارتفاع معدلات البطالة وتراجع القدرة الشرائية. ووفقا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغت نسبة البطالة في القدس الشرقية نحو 5.2 في المئة في عام 2024، مقارنة بـ4.4 في المئة في عام 2021. وقد فاقمت جائحة كورونا، إلى جانب الحرب الشاملة على غزة والضفة الغربية، من حدة الأزمة، إذ أدت إلى فقدان نحو 35 ألف عامل لوظائفهم خلال عام 2024. كما أُغلق ما يقارب 450 محلا تجاريا، ما ساهم في تفاقم التدهور الاقتصادي وضاعف من معاناة السكان.

الاقتصاد في القدس يعتمد بشكل كبير على قطاع الخدمات والسياحة، حيث يشكل أكثر من 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي ويوظف قطاع الخدمات 41 في المئة من العاملين. ومع ذلك، تستمر السلطات الإسرائيلية في عرقلة أي نشاط اقتصادي فلسطيني داخل المدينة، من خلال فرض الضرائب الباهظة وإغلاق المحال التجارية بشكل متكرر.

النقص في الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء ليس عرضا طارئا، بل جزء من سياسة ممنهجة لتقليص الوجود الفلسطيني وإضعاف قدرة السكان على البقاء. يعيش في محافظة القدس حوالي 451 ألف نسمة، يشكلون ما نسبته 9.1 في المئة من سكان فلسطين، ويعاني السكان من نقص حاد في الخدمات الأساسية، كالصحة والتعليم والبنية التحتية، مما يؤثر سلبا على جودة حياتهم اليومية. ويحاول الاحتلال، عبر هذه السياسات، أن يجعل من مدينة القدس بيئة طاردة لأهلها وليست جاذبة، في إطار مساعيه المستمرة لتفريغ المدينة من سكانها الفلسطينيين وتغيير طابعها الديمغرافي.

حين تعود إدارة ترامب.. تُفتح شهية التهويد من جديد

ولا يمكن الحديث عن واقع القدس دون الإشارة إلى عودة دونالد ترامب إلى السلطة، وهو الرئيس الأمريكي الذي منح إسرائيل خلال ولايته الأولى دعما غير مشروط، بدءا من اعترافه بالقدس عاصمة لها، وصولا إلى نقل السفارة الأمريكية إليها في خطوة غير مسبوقة. هذه السياسات لم تكن رمزية فحسب، بل أسهمت فعليا في تغيير ميزان القوى على الأرض، وتعزيز قبضة الاحتلال على المدينة.

عودة ترامب اليوم تمثّل رسالة طمأنة للتيار اليميني المتطرف في إسرائيل، لا سيما في حكومة بنيامين نتنياهو التي تضم شخصيات مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. ومما يعزز هذا التوجه أن الفريق المحيط بترامب لا يزال يضم وجوها بارزة من أشد المؤيدين لإسرائيل واليمين الديني القومي.

ويعزز هذا التوجه اليميني المتطرف المحيطون بترامب، الذين ما زال لهم تأثير واضح على ملامح السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية. من أبرزهم: مايك بومبيو، وزير الخارجية السابق، المعروف بدعمه المطلق للمستوطنات ورفضه لحل الدولتين؛ وديفيد فريدمان، السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل، الذي نسّق بشكل مباشر مع قادة المستوطنين وساند ضم الأراضي الفلسطينية. ويبرز أيضا جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأسبق، الذي لطالما دعا إلى الحسم العسكري والتوسع الإسرائيلي، إلى جانب رون ديرمر، أحد أبرز مهندسي العلاقات بين نتنياهو والجمهوريين، والذي سبق أن وصف الضفة الغربية بأنها "أرض متنازع عليها". أما جاريد كوشنر، صهر ترامب ومهندس "صفقة القرن"،عودة ترامب اليوم تمثّل رسالة طمأنة للتيار اليميني المتطرف في إسرائيل، لا سيما في حكومة بنيامين نتنياهو التي تضم شخصيات مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. ومما يعزز هذا التوجه أن الفريق المحيط بترامب لا يزال يضم وجوها بارزة من أشد المؤيدين لإسرائيل واليمين الديني القومي فرغم غيابه عن الفريق الرسمي الحالي، إلا أن رؤيته لا تزال تترك أثرا عميقا في توجهات الحزب الجمهوري تجاه إسرائيل. هذا الطاقم المتماهي مع توجهات اليمين الإسرائيلي لا يبشر إلا بمزيد من الانحياز، ما يعني أن الفلسطينيين في القدس سيواجهون موجة جديدة من التضييق والتطهير الصامت، تحت غطاء أمريكي رسمي.

هشاشة المواقف العربية والإسلامية

وعلى الرغم من الدعم الذي يلقاه الشعب الفلسطيني من قبل الجماهير العربية والإسلامية، إلا أن المواقف الرسمية لبعض الحكومات العربية والإسلامية تظل هشة ولا ترتقي إلى مستوى التحديات التي يواجهها الفلسطينيون في القدس وغزة. وفي حين تستمر بعض الحكومات في تقديم الدعم السياسي والإنساني، فإن الخطوات الفعلية مثل اتخاذ مواقف قوية ضد السياسات الإسرائيلية أو اتخاذ إجراءات ملموسة مثل سحب السفراء أو إلغاء اتفاقيات التطبيع، ما تزال غائبة.

تساهم هذه الهشاشة الدبلوماسية في إضعاف الضغط الدولي على إسرائيل، مما يقلل من فاعلية التحركات الدولية في محاسبتها على انتهاكاتها المتواصلة. ورغم التحركات الشعبية المستمرة في بعض الدول، والتي تعكس رغبة حقيقية في الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية، فإن غياب التنسيق العربي والإسلامي الفعّال يؤثر على مصير القدس، ويترك الفلسطينيين في مواجهة احتلال متزايد. إن الحاجة إلى توحيد المواقف وتعزيز التعاون بين الدول العربية والإسلامية من أجل الضغط الفعّال على المجتمع الدولي تبقى ضرورية لحماية القدس من عملية تهويد شاملة.

القدس لا تنزف فقط من جراح الاحتلال، بل من صمت العالم، وتردد الشقيق، وغياب القرار. تُسرَق المدينة في وضح النهار، لكنها تُهمَّش في ليل الأخبار، وتذوب في زحمة عناوين الحروب. ومن حق القدس علينا أن نعيدها إلى الواجهة، لا كرمز ديني فحسب، بل كقضية سياسية وشعبية حيّة تستحق أن تكون حاضرة في الضمير العربي والدولي.

فلماذا تغيب القدس عن أولويات الإعلام، وتتراجع على أجندة الدبلوماسية؟ ولماذا تُترك وحدها في معركتها الوجودية؟ إن إعادة الاعتبار للقدس، إعلاميا ودبلوماسيا، لم تعد ترفا ولا خيارا، بل ضرورة وطنية وأخلاقية أمام مشروع الاحتلال الصامت، الذي لا يستهدف الأرض فقط، بل الذاكرة والهوية والإنسان.

مقالات مشابهة

  • كيف جهّزت قوات الدعم السريع للحرب قبل اندلاعها؟
  • برلمانى: الثقة المتبادلة بين القيادة السياسية والمصريين سر استقرار الدولة
  • خبير اقتصادي يكشف عن خسائر ضخمة للحرب في اليمن وتأثيراتها
  • القوى التي حررت الخرطوم- داخل معادلة الهندسة السياسية أم خارج المشهد القادم؟
  • هيئة الأمم المتحدة للمرأة: نساء غزة يتحملن العبء الأكبر للحرب
  • القدس المنسية: المدينة التي تُسرق في ظل دخان الحرب الإسرائيلية على غزة والضفة
  • بشير العدل : القيادة السياسية تولى اهتماما كبيرا بالشفافية ومكافحة الفساد
  • الحكيم والعبادي يبحثان التطورات السياسية والأمنية في العراق
  • الشيخوخة السياسية والانقلاب الداخلي.. مرحلة جديدة نحو تغيير النظام السياسي
  • صلاح الدين عووضه.. شكرًا للحرب..!!!