لم تمضِ الأيام الأخيرة لأنتوني بلينكن في البيت الأبيض كما أرادها دون منغصات، فقد تمنى الرجل الأمريكي اليهودي الأبيض (والصفات مهمة هنا) أن يودع منصبه وزيرًا للخارجية الأمريكية، مع المودعين في إدارة جو بايدن، بشكل أحسن قليلًا مما سارت عليه الأمور في مؤتمريه الصحفيين الأخيرين.
فقد حضر كبير الدبلوماسيين الأمريكيين إلى المجلس الأطلسي ليلقي كلمة عن مستقبل الشرق الأوسط، ولكنه لم يكد البدء في تبرير الإبادة واجترار الرواية الصهيونية حول ما جرى يوم السابع من أكتوبر 2023، كعادته المملة، حتى قاطعته امرأة بالقول: بلينكن! إرثك سيكون الإبادة الجماعية.
بعد يومين، وفي مشهد آخر خلال مؤتمر الوداع بوزارة الخارجية، قاطعه صحفيان نعتاه مجددًا بالقاتل المتورط مع زمرته في إبادة الفلسطينيين على مدى 15 شهرًا، قتل خلالها زملاؤهما الصحفيون، ونجح في التهرب من عدالة «لاهاي» حيث كان ينبغي له أن يذهب، كما صرخ به الصحفي الأمريكي ذو الأصول الفلسطينية، سام حسيني، والذي وثّقت لنا العدسات محاولته للتشبث بيديه على الطاولة وهو يتفوه بعباراته الأخيرة، بينما يحاول 3 من رجال الأمن اقتلاعه بكل قوة.
وتلك -لعمري- جرأة نادرة تحسب لصحفي مثله، وشجاعة قد تثير غيرة من لا يتقنون الشجاعة من الصحفيين في بلادنا، أو ممن لا يملكون في الأساس «حق» إبداء الجرأة والشجاعة في هكذا مواقف وأمام هذا النوع من الشخصيات السياسية، كي نكون منصفين.
بالعودة إلى بلينكن، فإن مشهد مقاطعته بتلك الصورة قد أصبح مألوفًا إلى حد ما في يوميات السياسة الأمريكية خلال حرب الإبادة، خاصة بعد أن تكرر الأمر في مناسبات عدة هتف فيها صحفيون ومحتجون باتهامات قوية في وجوه أبرز المسؤولين الأمريكيين، حيث كان الرئيس الأمريكي نفسه، طيلة الأشهر الماضية، عُرضة لمقاطعات وإحراجات مشابهة تذكره بغزة، غير أن ما يثير الانتباه في مشهد بلينكن الأخير هو الاتهام الموجه إلى شخصه مباشرة، ليس لكونه صهيونيًا معترِفًا بذلك، متواطئًا مع السياسات الإسرائيلية فحسب، بل لأنه -شخصيًا هذه المرة- قاتل بالمعنى الحرفي.
صهيونية بلينكن (والتي كثيرًا ما تذكرنا، بالمناسبة، بصهيونية كسينجر في الخارجية الأمريكية) كانت معلنة بوضوح منذ خامس أيام الحرب، حينما حط وزير الخارجية إلى جوار نتنياهو في إحدى القواعد العسكرية بتل أبيب، مُبديًا بتذلل أسفه لما جرى في ذلك اليوم اليهودي الحزين، ومعلنًا للإسرائيليين: «إنني لا أتحدث إليكم بصفتي وزيرًا لخارجية الولايات المتحدة فحسب، بل وأيضًا بصفتي يهوديًا، وأنا أعي شخصيًا الأصداء المروعة التي تحملها مجازر حماس بالنسبة لليهود والإسرائيليين في كل مكان».
لن تنقصنا البراهين الدامغة لننصب بلينكن وزيرًا للإبادة الجماعية، يكفينا علمًا بأن الشخص الذي ظل في واجهة الأحداث محسوبًا على الدبلوماسية ووسيطًا في عملية التفاوض، كان في الواقع الخفي «منغمسًا في الشؤون العسكرية أثناء اجتماعه بمجلس الحرب الإسرائيلي» كما تقول مقالة لمايكل كرولي وإدوَرد وونج، المراسلين بنيويورك تايمز، اللذين اعتنيا بتتبع مسيرته السياسية كوزير للخارجية الأمريكية خلال السنوات الأربع الماضية، وتحديدا من زاوية تناقضه الحاد بين الحرب الروسية على أوكرانيا والحرب الإسرائيلية على غزة.
ومن الطريف إشارة المقال إلى حالة الابتزاز التي تعرض لها بلينكن بين ضبَّاط الجيش الإسرائيلي كلما طلب منهم محاولة ضبط الرد العسكري، بحيث يكون مدروسًا لتجنب وقوع عدد كبير من الضحايا المدنيين، الطلب الذي يقابله الضبَّاط بتذكيره بأن «أمريكا كانت على استعداد ذات يوم لإبادة هيروشيما وناجازكاي بالقنابل الذرية»، يعني ببساطة: حلال عليكم، حرام علينا؟!
في ظهوره الأخير بوزارة الخارجية سعى بلينكن كي يختتم عهده بتقديم نفسه منقذًا أخيرًا، ومبشرًا بالسلام، وحلّالًا لمشكلات العالم، وأن يرفع ورقة الصفقة مع حماس على رؤوس الأشهاد ليقول للعالم إن الساعات الطويلة التي قضاها على متن الطائرة، طائرًا من أجل السلام بين عاصمة وأخرى، ها قد أثمرت أخيرًا عن اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، يضمن عودة الأسرى الإسرائيليين إلى عائلاتهم وإدخال المساعدات إلى القطاع، ويفتح كتاب التاريخ على شرق أوسط جديد، بيد أن المقاطعات الساخطة التي تعرض لها كانت قد خرَّبت مشهده الأخير برمته، وشيّعته إلى خارج البيت البيض وزيرًا للإبادة الجماعية بنظر كثير من الأمريكيين، لكن السخرية السوداء لا تتوقف عند هذا الحد، فوحده الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ضرب على صدره وتكفل بتعويض بلينكن عاطفيًا، وذلك حين استقباله استقبالًا احتفاليًا في قصر الإليزيه فمنحه وسام جوقة الشرف، أرفع الأوسمة الفرنسية، واصفًا بلينكن بأنه «خادم بارز للسلام»!
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: وزیر ا
إقرأ أيضاً:
حماس: ندعو الإدارة الأمريكية إلى التوقف عن الأطروحات التي تتماهى مع المخططات الإسرائيلية
دعت حركة حماس، الإدارة الأمريكية إلى التوقف عن الأطروحات التي تتماهى مع المخططات الإسرائيلية.
وفي وقت سابق، أعلن رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني، التوصل إلى صفقة تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار في قطاع غزة، بين إسرائيل و"حماس".
وأكد آل ثاني، أن "قطر ومصر والولايات المتحدة ستعمل على ضمان تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار"، مشيرا إلى أنه "نعمل مع حماس وإسرائيل بشأن خطوات تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار".
وأضاف أن سريان الاتفاق بدأ يوم الأحد، مشيرا إلى أن المرحلة الأولى من الاتفاق تبلغ 42 يوما وتشهد وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية حتى حدود قطاع غزة وتبادل الأسرى والرهائن وفق آلية محددة وتبادل رفات المتوفين وعودة النازحين إلى مناطق سكناهم وتسهيل مغادرة المرضى والجرحى لتلقي العلاج.