«الربيع الصامت» صيحة تحذير مبكرة !
تاريخ النشر: 25th, January 2025 GMT
(1)
واحد من الموضوعات الملحة التي تواجه الإنسانية، مخاطر الاحترار والتغير المناخي والتلوث البيئي، وكلها قضايا تعود بجذورها إلى صيحات كتّاب ومؤلفين حذروا مبكرا جدا من هذه المخاطر ولفتوا إلى ضرورة تكاتف الجهود الإنسانية؛ بالعلم ومن خلال العلم، لمواجهة أخطار العلم! والتغول على البيئة وعلى الإنسان وعلى كل مظاهر الحياة على هذا الكوكب!، من بين هذه الكتب المهمة الرائعة كتاب «الربيع الصامت» الذي ألفته راشيل كارسون، وترجمه إلى العربية أستاذ الهندسة الوراثية وعلوم الجينات العالم الراحل الدكتور أحمد مستجير (1934-2006).
بالتأكيد سيكون ربيعًا صامتًا وكئيبًا!
يحاول الكتاب أن يجيب على هذا السؤال، وهي إجابة اهتم بها الدكتور أحمد مستجير، رائد تيسير العلوم، ونشر الثقافة العلمية، فعمد من فوره إلى ترجمة الكتاب، ونقله إلى اللغة العربية؛ ليكون نواة ولبنة ضمن مشروعه الطموح لمواكبة ومسايرة أحدث الكتب العلمية الموجهة إلى القارئ العام وليس القارئ المتخصص فقط في سبيل تنمية الوعي العلمي والثقافة العلمية وما يتصل بها وربطها كذلك ربطا وثيقا بالعلوم الإنسانية الأخرى.
أثار الكتاب عند صدوره ضجة كبيرة، ودفع كثيرًا من الحكومات حول العالم إلى الاضطلاع بدورها في حماية البيئة، ووقف الاعتداء عليها، وذلك بعد أن رفع الكتاب من درجة الوعي الشعبي بالمخاطر التي تحيق بالحياة في مجملها وبالإنسان على وجه الخصوص. ورغم مرور سنوات طويلة على صدور هذا الكتاب، وترجمة الدكتور مستجير له، فإن موضوعه لا يزال في بؤرة اهتمام العالَم أجمع.
(2)
نعرف، كما يقول الدكتور أحمد سمير سعيد المشرف على إعداد هذه الطبعة الجديدة، إن العالَم مر بخمسة انقراضاتٍ كبرى، اختفت إبّانها أغلب أشكال الحياة، لعل أشهرها "الانقراض" الذي شهد زوال الديناصورات التي تسيدت وجه الأرض لما يزيد على المائة والخمسين مليون عام!
ويؤكد عدد كبير من العلماء أننا ربما نعيش حاليا انقراضًا سادسًا، وهو انقراض محوره الإنسان وسلوكه الغبي غير المسؤول، وما يفعله بالبيئة، لقد تسبب الإنسان بالفعل في انقراض مخلوقاتٍ عديدة، بعدما اقتحم بيئتها وعمد إلى صيدها، من أشهرها حيوان الكسلان العملاق.
إلا أن ما يفعله حاليا، بفعل التكنولوجيا الحديثة، واستهلاكه للموارد يفوق أي خطر سابق عَرَض له التنوع البيولوجي، فهو يغير في المناخ ويسمم الأرض والبحار، وقد تتسارع وتيرة الانقراضاتٍ لتشمل أنواعًا كثيرة، تنتهي بخلل في التوازن البيئي، ومن ثَمَّ يختفي العالَم الذي نعرفه بكائناته، وعلى رأسها الإنسان.
وانطلاقًا من أهمية هذا الموضوع، وأهمية التوعية به، وتواتر المؤتمرات العالمية الداعية إلى محاولة إيجاد البدائل لخفض الانبعاثات الكربونية وتقليل السموم التي يطلقها الإنسان بفعل أنشطته في الأرض والبحر والجو، ارتأت مؤسسة دار المعارف العريقة أن تعيد نشر هذا السفر العظيم، وأن تعْهد بالإشراف على هذه الطبعة لواحد من تلاميذ مدرسة الدكتور مستجير في نشر الثقافة العلمية وتبسيط العلوم، وهي إعادة نشر تتزامن كذلك مع الاحتفال بالدكتور أحمد مستجير شخصية معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025، لنذكّر بدوره التوعوي الكبير.
(3)
لم يكن الدكتور مستجيرًا مناصرًا للعلم فحسب بل يحمل رؤية عميقة تجاهه، وهي رؤية متفائلة في الغالب لكنها "واعية" كذلك. وطيلة حياته الوظيفية، وبعد بلوغه سن الستين، ظل مستجير يجري بحوثًا علمية تطبيقية رفيعة المستوى. وقد اعترفت الدولة (متمثلة في وزارة الزراعة طيلة عهد الوزير يوسف والي وخلفائه) بقدراته العلمية فاستعانت بأفكاره ورحبت بها، وهو صاحب فكرة المشروع القومي لاستنباط أصناف جديدة من محاصيل القمح والأرز والذرة، التي تصلح للزراعة في أرض مالحة وتروى بمياه مالحة، عن طريق التهجين الخضري مع الغاب، وقد نفّذ التجارب الأولى في هذا المشروع في جامعة القاهرة بتمويل من وزارة الزراعة. وكان قبل وفاته قد بدأ التفكير في استنباط التقاوي الاصطناعية للذرة، وزيادة نسبة الزيت في بذور القطن، وفي إثراء الفول البلدي بحامض الميثونين الأميني لترتفع قيمته الغذائية، وتقترب من اللحم، وشرع في دراسة فكرة إدخال الجين المقاوم لفيروس الالتهاب الكبدي في ثمار الموز.
وظل مستجير بمثابة المبشر الأول بالهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية ودورهما وتطوراتهما، حتى وفاته. وعندما انتشرت نتائج الاستنساخ كان واضحًا في رفضه الإنساني والأخلاقي لفكرة الاستنساخ البشري، وربما كان هذا هو السبب في تباطئه في العمل على إنشاء مركز للاستنساخ الحيواني في كلية الزراعة، حيث كان يعمل.
وواقع الأمر أن مستجير نجح في توظيف أفكار التكنولوجيا الحيوية في مجال الزراعة، وقد واكب هذا إيمانه الشخصي بحق الجماهير في الغذاء والتنمية، وحكمت الفلسفة الأخلاقية كثيرًا من رؤاه فيما يتعلق بالتطبيقات العلمية لسياسات الاستنساخ والتكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية على حد سواء، فكان يحذر بصوت عال، مثلًا، من خطورة ما نادت به بعض الشركات العملاقة من إنتاج تقاوي محاصيل لا تصلح للزراعة إلا لمرة واحدة؛ إذ كان يقدر مدى قسوة مثل هذه الفكرة على اقتصاديات الدول النامية.
ويمكن تلخيص المشروع العلمي لمستجير في مصطلح واحد هو «زراعة الفقراء» ومحاولة الإفادة من المياه المالحة في الري، ومقاومة الملوحة والجفاف.
هيأت له قدراته النفاذ بيسر إلى جوهر النفس البشرية، كما مكنته من الوصول إلى جوهر الحقيقة، ومع أنه لم يكن يعبأ بالشكليات، فقد كان من أقدر الناس على استيفائها، ومع أنه لم يكن ينخدع بالمظاهر، فقد كان يقدر ضرورتها. وكان يري أن كل المشكلات قابلة للحل الذكي إذا ما اصطنعنا لها علمًا يخضع لما يخضع العلم له من قواعد وأصول، وليس أدل على ذلك من دفاعه الدائب عن نظريته المنحازة إلى القول بأن هناك علمًا اسمه الضحك، وعلمًا آخر اسمه السعادة.
(4)
ترجم الدكتور مستجير هذا الكتاب ليلفت إلى أن التكنولوجيا الحديثة قد تُظهِر وجها ضارًا يجب الالتفات له، لكنه في مقالاتٍ لاحقة لفت إلى أنه كذلك لا يجب التهويل من أضرار التكنولوجيا، ولا يجب بالتالي أن نخشاها، فالعلم طوال الوقت قادر على اكتشاف الأخطاء وتصويبها، كما أننا يجب أن نزن المكاسب والخسائر بميزان رشيد. ربما علينا أن نضرب مثالًا يوضح هذه الرؤية العميقة لدى الدكتور أحمد مستجير، من واقع ترجمته للكتاب، وكما يستشهد الدكتور سمير سعد في تقديمه الكاشف لهذه الطبعة.
لقد نال اكتشاف "الدي دي تي" كمبيد حشري - في وقتٍ من الأوقات - جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا، وذلك لأنه زاد بدرجة هائلة من الحاصلات الزراعية. إلا أن كتاب كارلسون لفت إلى أن سمية هذا المبيد الحشري لا تقف عند الحشرات، بل تمتد إلى الطيور والحيوانات الأخرى، وتتراكم في البيئة وتهدد بالخطر.
دفع كتاب كارلسون إلى منع استخدام "الدي دي تي" لكن هذا المنع قد يؤدي كذلك إلى حدوث مجاعات ويضر بأطفال الدول الفقيرة التي ستتناقص فيها إنتاجية المحاصيل، بعد أن تتعرض لهجوم الحشرات. هنا يجب أن ننتبه إلى أن "العلم" هو من اكتشف "الدي دي تي" لكنه كذلك من اكتشف أضراره، وهذه الأضرار يجب أن تُقاس بالميزان العلمي التجريبي لوضعها في نصابها الصحيح أمام المكاسب. كما أن العلم هو القادر كذلك على البحث عن بدائل للتخلص من الحشرات، تتمثل على سبيل المثال في المكافحة البيولوجية أو الهندسة الوراثية لإنتاج حشرات عقيمة أو محاصيل مقاومة للآفات.
(5)
يمكن القول ختاما، إن كتاب «الربيع الصامت» هو أحد كلاسيكيات مناصرة القضايا في أمريكا، كتاب أثار استهجانًا على الصعيد الوطني، في الداخل الأمريكي، ضد استخدام المبيدات الحشرية، كما كان ملهمًا لتشريع مسعاه كبح التلوث، وبذلك أطلق الحركة البيئية الحديثة في الولايات المتحدة الأمريكية منذ ستينيات القرن الماضي وحتى وقتنا هذا.
كتاب مرجعي مهم يحمل رؤية عميقة واستشرافا أكدت السنوات صدقه، وأطلق في حينه صيحة تحذير مخلصة وأمينة لعل وعسى أن يستجيب أحد! ونسعد في مؤسسة دار المعارف بتقديمه للقراء مرة أخرى، فموضوعه متجدد، يلفت إلى قضية مهمة وحيوية تستحق التدبر، وثبت خلال العقود الخمسة الماضية أنها صارت قضية القضايا التي تواجه الإنسان الذي يعيث فسادا وإفسادا على ظهر هذا الكوكب الأزرق.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الدکتور أحمد مستجیر الدکتور مستجیر إلى أن
إقرأ أيضاً:
ما حجم مشاركة المرأة العربية بالأدب؟ وماذا تعرف عن صاحب كتاب قل ولا تقل؟
ووفقا لحلقة 2025/3/4 من برنامج "تأملات"، فقد أورد القرآن الكريم أقوالا لبعض النسوة منهن امرأة فرعون التي قالت "ربِّ ابن لي عندك بيتا في الجنة"، فقدمت الجار على الدار، بقولها عندك بيتا، ولم تقل بيتا عندك.
وفي الأدب العربي أو غيره، قليلا ما نجد امرأة شاعرة كالخنساء، لكن هذا لا يمس المرأة في شيء، فإن سبق الرجل بخياله، فهو في حاجة إلى امرأة تذكره بالواقع، وتحد من إمعانه في الوهم، وإسرافه في الخيال.
ونجد في أدب النساء من الجمال ما لا يقع، تحت حصر منه، ما يدل على سرعة البديهة والجواب الحاضر. فقد سأل عبد الملك بن مروان، بثينة: ماذا رأى فيك جميل (المعروف بجميل بثينة) حين قال ما قال؟ فقالت على البديهة: "ما رأى فيك المسلمون حين ولوك أمرهم".
ونجد في أدب النساء ما يدل أيضا على الرقة والسهولة، فيروى أن جارية كان في يدها خاتم من ذهب، وعود من سواك، فطلب منها رجل خاتمها ليتذكرها به، فقالت، هذا ذهب وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود فلعلك تعود.
صاحب كتاب "قل ولا تقل"
كان مصطفى جواد مؤرخا لغويا من أعلام نهضة العراق في العصر الحديث، وقد عرف بحمايته للعربية التي كان يقول إنها صارت صناعة، وإن الصناعة تحتاج إلى دقة وإتقان، وإنها تكتسب بالتمرن والبراعة.
إعلانعاش جواد مع المعاجم العربية زمنا طويلا فدرس قديمها وعلق على حديثها ولاحظ على المعاجم القديمة قلة تبويبها ونقص تنسيقها وقصورها في تناول الألفاظ المولدة والمعربة.
وكان جواد موسوعة معارف وعضوا في المجامع العلمية العربية، وقد قال في كتابه "المباحث اللغوية في العراق" إن اللغة العربية عراها الفتور وأصابها ذلك العجز، مع أنها منطوية على عناصر النماء والثراء والانتشار والازدهار.
ومن الطريف أنه كان يضع الألفاظ الخطأ في قفص الاتهام ويحاكمها، ثم يقرر إعدام روحها، كما يقول، لأنها غير صالحة وغير فصيحة.
وجواد هو صاحب كتاب "قل ولا تقل"، ويذكر أنه سئل في ندوة حول قيام الدولة العباسية عن عدد الخلفاء العباسيين ومن هم، فسرد أسماءهم جميعا، وذكر تاريخ مولد كل واحد منهم وتاريخ خلافته ومدتها وسنة قتله أو وفاته.
وتوفي جواد في 17 ديسمبر/كانون الأول 1969 تاركا ثروة علمية يحق لكل غيور على العربية أن يعتز بها.
4/3/2025