محاسنُ الشَّريعة العِلمُ الذي سَكَت لما نَطَق
تاريخ النشر: 25th, January 2025 GMT
إن المتدبِّر في محكمات الشريعة ومسلماتها، ليتهادى بين يديه ويقف شاخصا بين عينيه؛ ذلك التطرُّق المصلحي النَّفعي للعباد في تفاصيل الأحكام ولميَّاتها، وتلك المكارم والنفحات الإلهيَّة التي ينصبغ بها الخطاب المؤسِّس للتَّكليف؛ فلا تكاد ترى ذلك الأمر أو النَّهي الجازمين، إلا وترى -في الحين عينه- ذلك التَّحنان والامتنَان الذي يمازجهما ممازجة الدَّم اللحم، فلا ينقطع حضورُ قلب المكلَّف عن شُهُود هذه المعاني، وإن كان الذي يطرقُ السَّمع في معطاه الظَّاهري هو من بابة الحثِّ أو الزَّجر؛ يقول العِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلَامِ -رحمه الله- في (قَوَاعِد الأحكام): “التكاليفُ كلُّها راجعةٌ إلى مصالحِ العبادِ في دنياهم وأُخراهم، واللهُ غنيٌّ عن عبادةِ الكلِّ؛ ولا تنفعُه طاعةُ الطائعين، ولا تضرُّه معصيةُ العاصين”.
وهذه الكليَّة الشرعية المتدبَّرة في التَّوجيهات الإلهية والنبوية؛ لتُوحي لمعاشر المجتهدين وفئام النُّظار، أنه لن يُستفرغ الوسعُ، ولن تُؤدى رسالةُ البلاغ، ولن تلامسَ الأرواح برْدَ اليقين؛ ما لم يكن العطاء المحاسني والإيحاء المقاصدي عضيدًا للألفاظ في ساحة مدلولاتها، وأنيسا للأقيسة في سماءات إلحاقاتها؛ يقولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ -رحمه اللهُ- في (مجموع الفتاوى): “وَإِلَى سَاعَتِي هَذِهِ؛ مَا عَلِمْت قَوْلًا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ إلَّا وَكَانَ الْقِيَاسُ مَعَهُ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِصَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِأَسْرَارِ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدهِ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَحَاسِن الَّتِي تَفُوقُ التَّعْدَادَ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَمَا فِيهَا مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالرَّحْمَةِ السَّابِغَةِ وَالْعَدْلِ التَّامِّ”.
إنَّ هذا المشهد والذي يضرب فيه المددُ المحاسني بعمقٍ، ليسجلُ هذا التجلِّي أن يكون المكوِّن المحاسني حاضرا في ميادين العلوم وساحات الفنون الشَّرعية، ولياذننَّ أن يتبوئَ من مقعدها خير متكئٍ، وأن يتفيئَ من باسقها أوفر ظليليةٍ؛ فهو القادح لزناد المقايسات العليَّة، والناظم لجمعيَّة الدلالات اللفظيَّة، وهو الذي يتصدر جيدُه وينبض وريدُه، ويُلقي أسمال الحياة ويبعث إكسيرَ الخلود في شخوص تلك الفروع وطُوليات الأحكام المسبحة بكمال وجمال إرادة الربِّ الشرعية؛ يقولُ الشيخُ وَلِيُّ اللهِ الدِّهْلَوِيُّ -رحمه الله- في (حجة الله البالغة)، وهو يؤسس لعملقة
هذا الفنِّ النَّوراني: “هذا؛ وإنَّ أدقَّ الفنونِ الحديثيَّة بأسرِها عندي، وأعمقَها محتدًا، وأرفعَها منارًا، وأَوْلى العلومِ الشَّرْعِيَّة عن آخرها فيما أرى، وأعلاها منزلةً وأعظمها مقدارًا: هو علمُ أسرارِ الدِّين، الباحثُ عن حِكَمِ الأحكامِ ولمِّياتِها، وأسرارِ خواصِّ الأعمال ونِكاتِها؛ فهو -واللهِ- أحقُّ العلومِ بأنْ يَصْرِفَ فيه مَنْ أطاقَه نفائسَ الأوقات، ويتَّخذَه عُدَّةً لمعادِه بعدما فُرِضَ عليه من الطاعات؛ إذْ به يصيرُ الإنسانُ على بصيرةٍ فيما جاء به الشرع، وتكونُ نسبتُه بتلك الأخبارِ كنسبةِ صاحبِ العرُوضِ بدواوين الأشعار، أو صاحبِ المنطق ببراهين الحُكماء، أو صاحبِ النَّحْو بكلامِ العَرَبِ العَرْباء، أو صاحبِ أصولِ الفقه بتفاريعِ الفقهاء، وبه يأمنُ من أن يكونَ كحاطبِ ليل، أو كغائصِ سيل، أو يخبطَ خبطَ عشواء، أو يركبَ متنَ عمياء”.
ثم إنه -بعد وارق هذا الفَنَن- لم يلبث قلمُ الفكر الإسلامي، وفي وقت مبكِّرٍ من الولادة التدوينية: أن تمسَّ أناملُ الصَّنعة وأن تبحرَ سفائنُ الكَشف، عن ذلك الخِدر الطَّاهر والخِبء النَّادر والمشرع المورود؛ فأفصحَ لسانُ الحقيقة والمجازِ عن سُدَّة الإعجاز، وتطاوحت هامة العقلِ المبجَّل ساجدةً بين يدي إحكامات وإتقانات الوحي المنزَّل، وأمطرت زُبُرُ الأحكام وصُحُف التكليف غَيثًا غَدَقًا مُجَلَّلًا طبَقًا؛ حتى اخضَّرت أرواح النَّاظرين والمتدبِّرين، وَرَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيجٍ.
وفي هذا العمر الوليد من تاريخ التدوين الإسلامي، وفي قرنه الرَّابع الهجري، وهي طبقةٌ مبكرةٌ، ربما لم تشبَّ فيها بعضُ العلوم المركزيَّة؛ أطلَّ علمُ محاسن الشريعة، وأيُّ إطلالة كانت؟! فقد سُجِّل في هذا القرن عددٌ من مصادر ومدوَّنات هذا الفن التشريعي، ثم قدمت هذه المصادرُ مادة إثرائية رائدة، وكأنَّه عصر من عصور النَّهضة والنُّضوج العلمي؛ وقد كان من أقطاب هذا النَّتاج المبتكر والمفتخر:
– الإمام الحافظ العارف الزاهد، أبو عبد الله محمَّد بن علي بن الحسَن بن بشر الحَكيم التِّرمذي؛ صَاحب المصنَّفات الكبار في أُصول الدين ومعاني الحَديث، والذي عاش إلى حدود سَنة (320هـ)؛ وذلك في كتابه الذي مَزَعَ قرطاسةَ هذا الفنِّ: إثبات العِلل.
– ثمَّ أَبو زَيد أحمد بن سهل البَلْخِي؛ صاحب التَّصانيف المشهورة، وأحد كبار النَّظار والفلاسفة، والذي تُوفي سنة (322هـ)؛ وذلك من خلال أطروحته الفلسفية عن إعجاز التشريع، المسمَّاة: (الإبَانة عن علل الدِّيانة).
– ثم أبو الحَسَن مُحمد بن يُوسف العَامري النيسَابوري؛ عالم المنطق والفلسفة اليونانية، والذي تُوفي سنة (381هـ)؛ والذي قدَّم طرحا توليديًّا لمعاقد وفصول وأطروحات المادة المحاسنية، حتى قدَّم لنا بابا كان خليقا بكل مضارعة ومشاكلة، وإن تُحفظ على فكره العَقَدي، وهو باب: القَوْل فِي الشُّبَهَاتِ الَّتِي يَتَسَلَّقُ بها المُعَانِدُونَ للإسلام، وذلك في كتابه: الإعلام بمناقب الإسلَام.
– ثم محمَّد بن علي بن حسين بن مُوسى بن بابويه القُمي، المعرُوف بالشيخ الصَّدوق وبابن بابويه، من علماء الشِّيعة في القرن الرابع الهجري، والمدفون بالرَّي سنة (381هـ)؛ وذلك في مصنَّفه: علل الشرائع.
ثم بعد هذه الثَّورة التدوينية والدَّفق التصنيفي الكبير، والذي ربما توارى منه عن حركة الرصد التراثي بعضُ المخرجات؛ شهد هذا الحقلُ الشَّرعي فتورًا لافتًا، وأيُّ فتور كان؟! فقد توالت القرونُ المتطاولة، ونضجت المذاهب الفقهية، ولاحت أسرارُ الشريعة في أصول الأحكام وفروعها، وأينعت منها الثِّمار، واستقر على عرش التدوين جهابذة النظار وأساطين المفكرين؛ ولم تنبس شفةٌ، أو يخط يراعٌ، أو يُسود كاغدٌ، فيما بان من مطويَّات المطبوع والمخطوط؛ بل كانت رسومَ نقش لا يُرى منها إلا أطراف البنان، وإطلالة حييٍّ لا يبين منه إلا ذؤابة اللثام، وجرت بعد طيِّ هذه السنين مجرى اللمَامة من القَول، بعد أن كانت على أعواد منابر العلوم خطيبًا مصقعًا مفوهًا؛ فلم يُرَ فيما وُقف عليه، من المصنَّفات التراثية في محاسن الشريعة، والتي هي مستقلةٌ بذاتها في هذا الباب، بعد المائة الرَّابعة؛ إلا:
– كتاب (مَحَاسِن الإسلام)؛ لأبي عَبد الله مُحمد بْن عَبْد الرَّحْمَن بن أَحمد البُخاري الحُنفي، الواعظ المفسر المعروف بالزاهد، توفي في جمادي الآخرة سنة (546هـ).
– وكتاب (كشف الأسرار عما خفي عن الأفكار)؛ من تأليف العلامة شهاب الدين أحمد بن عماد الأقفهسي، الشَّافعي المعروف بابن العماد، تُوفي سنة (808هـ).
ومع هذه المفارقة الغريبة المتصدِّرة لهذا المشهد؛ فهو في قرنه الأول وبواكير نُشوئه ومخايل ولادته، يُسجل نشاطا مذهلا، يتعدَّى الحجم المتوقَّع لكتابة الأحرف الأولى في العُلوم المبتكَرة، ثم لم يمكث غيرَ بعيد إلا ويتهاوى هذا الشِّهاب من سماء الوجود، وتذوي أعذاقه الشَّامخات في جوف كل عنقود، ويتفرق جمعُه، ويدبر نُسَّاكه؛ وهو يقع من علوم الشَّريعة موقع الحسنة من الوجه الطَّاهر المشراقِ، ويقوم في سُوقها مقام المنافح المسدَّد المقدَام.
وقد كنتُ أُفاتح فضيلةَ شيخَنا العالم الجليل، الدكتور أحمد بن عبد الله بن حميد -حفظه الله- في ذلك، وكنَّا نُقلب أوجه الظنِّ في استكشاف السَّبب الذي يقف وراءَ هذا الانقطاع التأليفي المتطاول؛ ولعل مما يمكن تسجيله في هذه المقالة السَّببان التالية:
أولًا: أنَّ هذا الحقلَ مِن التَّصنيف الشَّرعي، قُدِّرَ له -في هذا العُمر المبكِّر- أنَّ أكثرَ من يطرقُه هم أصحاب العلوم الكلاميَّة والمناهج الفلسفيَّة، سواءٌ أكانوا معتزلةً أم صُوفِيَّةً أم شيعةً؛ وربما صدَّر هذا الاختصاصُ الاتِّفاقي بين أصحاب هذه المناهج انطباعًا تحفظيًّا على هذا المنحى التَّأليفي، وربما ظُنَّ به الافتئاتُ على أصول أو مسلَّمات النَّظر الشرعي في هذه المتعلَّقات التكليفية؛ هذا إذا ما ضَمَمْنَا إليه ذلك النَّهج التأسيسي والبنائي الذي تعيشه المذاهب الفقهية في هذه الفترةِ، وأنَّها كانت أمام متطلباتٍ من الوجودِ والبقاء ورسم خرائط العطاء والإنتاج الفقهي، ما كان كفيلاً بالانشغال عن ذلك الطَّرح المتقدِّم والثَّوري بالنسبة إلى هذه الفترةِ الحرجة من أعمار المذاهب الفقهيَّة؛ الأمر الذي جعل من هذا الحقلَ المحاسني أولويةً متأخرةً في هذه الروزنامة الفقهيَّة، خاصَّة وأنها قد تشوكَّت بهذا الطرح الفلسفي والكلامي، والذي ربما احتاج إلى عملياتٍ متضاعفةٍ من التَّنقيح والتَّسديد والمقاربة.
ثانيًا: وربَّما يجيب على استبقاء هذا الانصراف التَّأليفي عن محاسن الشريعة، حتَّى بعد تعدِّي هذه الأطوار المؤرِّقة من تكوِّن المذاهب الفقهيَّة، ووجود المساحات الواسعة والنِّزهة والقامات المتينة والمكينة من أوجه الإبداع والإثراء والفتح العلمي؛ وهو أنَّ الطَّريقة الاجتهاديَّة والأطروحة البنائيَّة التي انطلقت منها فكرة محاسن الشريعة وانقدحت عندها شرارتها الأولى، هي التزام القولِ بالتحسين والتقبيح العقليين، وهذا الالتزام سجَّلت أمامه المدرسةُ الأشعريَّة، والتي تمثِّل جمهورَ المذاهب الفقهيَّة المتَّبعة، موقفًا علميًّا عقيمًا من التَّعاطي مع هذه النظرية التَّشريعية، وذهبت منها مذهبَ التَّعطيل والإلغاء والتَّفريط، ولم تقدِّم الاتزان المتواجب في هذا المشتبه الاستدلالي؛ يقول ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في (مفتاح دار السعادة): “وَكَذَلِكَ الإِمَام سعد بن علي الزنجانى بَالغ فِي إِنْكَاره على أبي الْحسن الأشعرى القَوْل بِنَفْي التحسين والتقبيح، وَأَنه لم يسْبقهُ إِلَيْهِ أحد، وَكَذَلِكَ أَبُو الْقَاسِم الرَّاغِب، وَكَذَلِكَ أَبُو عبد الله الحليمي، وخلائق لَا يُحصونَ؛ وكل من تكلم فِي علل الشَّرْع ومَحَاسِنه وَمَا تضمنه من الْمصَالح ودرء الْمَفَاسِد فَلَا يُمكنهُ ذَلِك إِلَّا بتقرير الْحسن والقبح العقليين… فَلَو تَسَاوَت الْأَوْصَاف فِي نَفسهَا لانسد بَاب الْقيَاس والمناسبات وَالتَّعْلِيل بالحكم والمصالح ومراعات الْأَوْصَاف المؤثرة دون الْأَوْصَاف الَّتِي لَا تَأْثِير لَهَا”.
إنَّ هذه المفارقة البحثيَّة في تاريخ التَّدوين في محاسن الشريعة؛ لتفتح آفاقًا واعدةً من الدِّراسات والتَّحقيقات التراثية، والتي تُنقِّب في الرَّصيد المخطُوط للأمَّة، بحثًا عما يمكن التبشيرُ به من مصنَّفات تسدُّ العوزَ العِلمي الذي يشوبُ هذا الحقل الشَّرعي الرَّائد، كما أنها تفتحُ أبوابًا مشرقةً أُخرى من الدِّراسات المنهجيَّة التي تؤطِّر عمليَّات توظيف وتفعيل المعطى المحاسني والمصالحي في الأحكام الجزئيَّة، بعيدًا عن هَلَكة الإفراط أو التفريط في نظرية التحسين والتقبيح العقليين؛ إنَّ مثل هذه الدِّراساتِ ونظائرها لتخفِّف على المجتمع المقاصدي والفروعي من وطئة عنوان هذه المقالة: محاسنُ الشَّريعة العِلمُ الذي سَكَت لما نَطَق، وتُعيد ذلك المجدَ التَّليد لينطق شامخًا من جديد.
المصدر: صحيفة صدى
كلمات دلالية: المذاهب الفقهی رحمه الله هذا الحقل فی هذا فی هذه
إقرأ أيضاً:
مصطفى بيومي.. رحل راهب الأدب الذي طالما أهتم بـ"ملح الأرض"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قبل قليل، رحل عن عالمنا الكاتب والناقد والمثقف والصحفي مصطفى بيومي، لكنه ترك سيرته كواحد من أهم مؤرخي الأدب المصري في نصف القرن الأخير، عبر تفرده بنظرة شاملة، كان يتلمس بها تاريخ النقد، ويتتبع تاريخ الأدب، ويفحص أيام الأدباء وسيرهم، بداية من الكبار، نجيب محفوظ، ويحي حقي، وبهاء طاهر، وعلاء الديب، وصنع الله إبراهيم، وفتحي غانم؛ وحتى غيرهم من مختلف الأجيال، بما فيها أبناء أيامنا هذه، ومنهم كاتب هذه السطور.
في رحلته، شرّح بيومي، ابن محافظة المنيا، الذي جاء إلى القاهرة ليدرس الإعلام ويتخرج من الجامعة في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، كل ما وقعت عليه عيناه من قصص وروايات، وضع معاجم للشخصيات التي حفلت أعمال الكبار، وكتب عن كثيرين غيرهم، مقالات ودراسات وكتبًا، وشارك في نقاشات عدة، ليس هؤلاء فقط، بل طالما اهتم بالموهوبين الذين لم يكونوا في أي يوم من نجوم الشباك، في الأدب أو الفن، فهناك الكثير من الشخصيات السينمائية البديعة الذين كتب عنهم بمحبة وإخلاص، بجوار كل هذا، أبدع العديد من الأعمال الروائية والقصصية.
يزيدك في هذا أن الرجل "لم يقتصر على نقد وتسجيل وحصر وتفكيك وبعثرة وترتيب وتنظيم وهندسة كثير من إنتاج أعلام الأدب وقضاياهم، إنما نفذ من هذا كله إلى نقد نصوصهم، وهو فى هذا متميز، من زاوية ربط النص بسياقه، وأخذه إلى آفاق أرحب في التفسير والتأويل" كما قال عنه الكاتب عمار علي حسن في مقاله "رجل أضناه التعبد في محراب الأدب".
يرد بيومى على المقولة الشائعة بأن «المُحِب لا يصلح ناقداً» فى مقدمة دراسته عن علاء الديب بأن «المحب الجيد لابد وأن يكون ناقدا جيدا»، وأن الناقد يجب أن يكون محبا حتى لو كان مختلفا، علاقة الحب هى بين القارئ والنص نفسه وليس الكاتب، «فأنا يُمكن أن أحب كاتبا من خلال نصوصه دون أن نلتقى، كما أحببت نصوص المتنبى وبابلو نيرودا وتشيخوف وغيرهم دون أن تكون لى علاقة بالكاتب نفسه، وصبرى موسى أنا لا أعرفه، ولكن أتمنى أن يكون مشروعي القادم عنه، فهو كاتب عظيم»، مُعرباً عن رغبته فى إعادة تقديم كُتّاب عِظام إلى القارئ مثل عبد الحكيم قاسم ومحمود دياب «فهؤلاء كُتّاب عظام أثروا الأدب المصرى، ولكنهم لم يبرعوا في العلاقات العامة، كما قال قبل بضع سنوات في حوار لـ "البوابة نيوز".
عشق بيومي نجيب محفوظ ونصّبه شيخا وأستاذا، وتناول ما كتبه بدقة، ليصير صاحب أكبر عدد من المؤلفات عن أديب نوبل وعالمه الحافل بالشخصيات والأحداث واللقاءات، ضمت أكثر من - 18 كتابًا صدرت منذ عام 1989 إلى اليوم.
وقال عنه: «فى رأيى أن الكتابة عن رجل أحبه مثل نجيب محفوظ كأننى أكتب رواية بقلمى، فأنا من أهوى ومن أهوى أنا»، مؤكداً أن للكتابة الإبداعية وقتا والنقدية وقت، ولغيرهما من صنوف الإبداع وقت، وأن النقد فى حد ذاته إبداع «وأن تنزل إلى النص فى حد ذاته متعة، بدون قواعد مسبقة، فأنت تتعمق فى النص وتبارزه وتستمتع به، لأن النص هو صانع قوانينه النقدية»؛ وأشار إلى أنه يرى أن نجيب محفوظ بعالمه الروائى قام بوصف مصر كما فعل علماء الحملة الفرنسية «وأتحدى أى أحد عن أى حادثة فى القرن العشرين لم يتطرق إليها نجيب محفوظ بعمق»، وأن أديب نوبل قد تحدث فى كل المجالات، وكانت كتاباته ضد أى محاولة لمحو تاريخ هذه الأمة دون أن يتخذ قراراً بهذا، كما فعل سيد درويش بألحانه وأغانيه ومحمود سعيد بلوحاته فهى «جينات» بداخل المرء تجعله يتمسك بالهوية، ولو تعمد أحد أن يفعل هذا فلن يكون بالشكل الحقيقى وسيبدو مفتعلاً.
وعن يحيى حقي، قال إن القصة القصيرة كانت حبه الأول، وأنه توهج في تجربته الروائية الوحيدة الفريدة: "صح النوم"، وقال: "يكتب عن السينما مثل ناقد محترف، ومعالجاته التاريخية عميقة طازجة مبتكرة تفوق الأكاديمي المتمرس.
ولعه بالشعر ينم عن ذائقة خبير، واستيعابه للموسيقى يناطح الأفذاذ من المتخصصين، وكذلك الأمر في المسرح والأوبرا والعمارة والفن التشكيلي، أما رؤاه الاجتماعية في عشرات القضايا فتبرهن على أنه الصديق الصدوق للفقراء، وتكشف عن شخصية عالم قادر على التبسيط العميق لما يتصدى له: من أطفال الشوارع وشيوع الأمية وإدمان اليانصيب، إلى جرائم الشرف والثأر، مرورا بلعنة الروتين الحكومي والسمات المصاحبة للتحول الاجتماعي في الحقبة الناصرية".
وأضاف بيومي عن يحيى حقي: "كتاباته الإبداعية الخالصة لا تمثل إلا ما دون الربع من جملة إنتاجه، ولو أنه تفرغ للإبداع وحده دون المقالات الصحفية لأنجز مشروعا هائلا غير مسبوق، لكنه يأبى إلا الاشتباك بشكل مباشر مع تحديات الواقع ومعطياته".
في "معجم شخصيات بهاء طاهر" قد بيومي دراسة تحليلية للعالم الروائي للكاتب الكبير، عبر ثلاثمائة شخصية، تضمنتها ستة روايات وخمس مجموعات قصصية، هي ما أنتجته قريحته في الفترة بين عامي 1972 و2009.
يصف بيومي في معجمه -الذي تخطت صفحاته الستمائة- أدب طاهر بأنه "تجربة إبداعية بالغة العمق والنضج والصدق، ولغته أقرب إلى عصير الشعر. رؤيته الإنسانية هادئة تخلو من الضجيج والافتعال"، مُشيرًا إلى أنه انتصر للناس العاديين البسطاء "الذين يتعذبون ويكابدون في صمت ينجون به من داء الابتذال"؛ وقدّم في دراسته قراءة تحليلية موضوعية للشخصيات الثلاثمائة، ليقوم بإعادة إنتاج لعالم الكاتب الكبير؛ واستعاض عن عدم وجود أسماء لبعض الشخصيات بالحديث عن سماتها الأبرز لتعريفها، مثلما أشار إلى الراوي في ثلاث روايات وعشر قصص، وهو ما قام به أيضًا في تحليله للآباء والأمهات وذوي القربى، كما قام بتعريف شخصيات أخرى عبر أدوات تغنيهم عن الاسم مثل اللقب الشائع والمهنة.
قدّم المعجم كذلك -والذي قام بترتيبه أبجديًا- عبر تحليله للعالم الروائي القضايا الرئيسية التي انشغل بها الروائي الكبير، مثل الموقف من السلطة، القضية الفلسطينية، العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، الصراع بين الشرق والغرب، التصوف والدين الشعبي، خصوصية الصحراء، إضافة إلى البيئة الصعيدية ومكوناتها، ى والتي برزت ملامحها في روايته الأشهر "خالتي صفية والدير"، كذلك تناول القضايا الإنسانية الذاتية التي يجد القارئ جانبًا من نفسه فيها، مثل الزمن، الموت، الوحدة والغربة؛ ليجد القارئ "ما قد يُعينه على الاقتراب والتواصل، قبل وأثناء وبعد عملية القراءة"، كما ذكر بيومي في مقدمته القصيرة.
وفي "عباقرة الظل"، مارس بيومي نوعا من الكتابة يجمع بين الأدب والصحافة، مذيبا الحدود بين الاثنين حتى تكاد تتلاشى، يحكي عن بشر ذوي مواهب فائقة، لكن انتهت حياتهم إلى الانزواء ثم التجاهل، فلم ينل ما تستحق من اهتمام وتكريم. لم يهتم كثيرا بسيرة حياة الشخصية التي يتناولها، بل ركز في كلماته على أدوارها السينمائية، ويرسم بورتريهات للشخصيات من خلال أدوار قامت بها، فيصنع قصة أصلية استوحى أحداثها وشخصياتها من أفلام برع فيها هؤلاء الذين حكى عنهم في كتابه، في محاولة للتدليل على استحقاقهم لوصفه لهم بالعباقرة.
وعندما قام بـ "النبش في الذاكرة، قدّم لنا "سيرة شبه ذاتية" حول تسعين شخصية حسب الترتيب الأبجدي -وهي عادة لديه- وحكى عنهم راسما صورة بانورامية نابضة بالفن والكتابة والسياسة والمسرح والرواية. وكما أنه لا يقدم سيرة ذاتية بالمعنى المألوف -تبدأ من مرحلة الطفولة ثم الشباب فالكهولة وحتى الشيخوخة- لم يقدم شخصياته بذواتهم من مولد وحياة، بقدر ما تتعلق بمنجزاتهم وأعمالهم، وبصماتهم في الحياة ويضيئها، حسب فلسفته الخاصة، هكذاـ أفسح الطريق ليقدم ذوات أخرى يتعاطى ويشتبك مع منجزاتهم ويضعهم تحت منظاره الخاص، ومراياه الناقدة النافذة.
الآن، رحل بيومي، الذي كان يبشّر أحباءه برحيله عبر أحاديث الروائي المتقاعد إلى شيخه، أما الآن، فهو كما يقول أستاذه عندما اختتم حكاية الحرافيش "فغاصَت قبضتُه في أمواج الظلام الجليل، وانتفض ناهضًا ثمِلًا بالإلهام والقدرة، فقال له قلبُه لا تجزعْ فقد ينفتح البابُ ذاتَ يومٍ تحيةً لمَن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطُموح الملائكة".