يمثل المشهد السوداني اليوم لوحة معقدة تتشابك فيها قضايا السياسة والأمن والإنسانية، حيث تبرز معضلة العلاقة بين الجيش والسياسة كعامل مركزي في تأجيج الصراعات وإطالة أمد الأزمات. ومنذ استقلال السودان، ظل الجيش لاعبًا رئيسيًا في الحياة السياسية، متأرجحًا بين أدوار التحرير والبناء الوطني من جهة، والانقلاب والتسلط من جهة أخرى.

ومع اندلاع الحرب الحالية، تتجلى بصورة أوضح الأثمان الباهظة لهذه العلاقة الملتبسة.

شهد السودان أكثر من 16 انقلابًا عسكريًا منذ الاستقلال عام 1956، مما جعله واحدًا من أكثر دول العالم التي تأثرت بتدخل الجيش في السياسة. وفي كل مرة، كانت المؤسسة العسكرية تسوق مبررات تتعلق بحماية الأمن القومي، أو إنقاذ البلاد من الفوضى السياسية، لكن هذه التدخلات غالبًا ما قادت إلى مزيد من التدهور السياسي والاقتصادي. تحولت المؤسسة العسكرية إلى أداة لتحقيق مصالح فئوية وشخصية، حيث أدى التداخل بين الجيش والسياسة إلى إضعاف كفاءة الجيش في أداء مهامه الأمنية. وبمرور الوقت، أصبح الجيش طرفًا في الصراعات بدلاً من أن يكون وسيطًا محايدًا. ساهمت الخلافات بين القوى المدنية وعدم قدرتها على بناء جبهة موحدة في تعقيد المشهد. هذا التشرذم أتاح للجيش فرصة لاستغلال الفراغ السياسي، ما أدى إلى تعطيل مشاريع التحول الديمقراطي.

اندلاع الحرب في أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع أدى إلى موجات نزوح واسعة، حيث تقدر الأمم المتحدة عدد النازحين داخليًا بأكثر من 4 ملايين شخص، بالإضافة إلى مئات الآلاف من اللاجئين الذين عبروا الحدود إلى دول الجوار. تدهور الأوضاع الإنسانية انعكس في نقص حاد في الغذاء والدواء، وانهيار شبه كامل للخدمات الصحية. أصبحت المدن الكبرى مثل الخرطوم ودارفور ساحات حرب مفتوحة، مع استهداف مباشر وغير مباشر للمدنيين. جرائم القتل الجماعي، والاغتصاب، والاختطاف باتت واقعًا يوميًا، ما يشير إلى تدهور خطير في القيم الإنسانية. الحرب ليست مجرد صراع لحظي؛ بل تُنتج آثارًا ممتدة على الأجيال القادمة، سواء من حيث التعليم الذي توقف في معظم أنحاء البلاد، أو من حيث انتشار ثقافة العنف التي تهدد النسيج الاجتماعي.

أدت الحرب إلى تقويض مؤسسات الدولة، حيث انهارت البنية التحتية، وتعطلت أجهزة الحكم المدني. تحول السودان إلى "دولة فاشلة" في عيون المجتمع الدولي، ما يهدد بفقدان السيادة الوطنية لصالح التدخلات الخارجية. شهدت العلاقة بين الجيش والشعب تدهورًا غير مسبوق نتيجة الأدوار التي لعبتها المؤسسة العسكرية في الصراعات. كثير من السودانيين يرون الآن في الجيش عقبة أمام تحقيق السلام والاستقرار. الحرب الحالية أعادت إلى الواجهة أسئلة حول مستقبل القوى المدنية ودورها في السودان. تزايد تهميش هذه القوى يعكس هيمنة الخطاب العسكري على حساب الحوار السياسي.

لا يمكن تحقيق استقرار سياسي في السودان دون فصل واضح بين الجيش والسياسة. يتطلب ذلك إعادة هيكلة الجيش ليكون مؤسسة وطنية غير مسيسة، ملتزمة بحماية السيادة دون التدخل في الشأن المدني. على القوى المدنية تجاوز خلافاتها التاريخية، والعمل على بناء جبهة موحدة قادرة على طرح رؤية متكاملة لمستقبل السودان. الوحدة ليست خيارًا بل ضرورة لتغيير موازين القوى. لا يمكن للسودان الخروج من أزمته بمعزل عن الدعم الإقليمي والدولي. يحتاج المجتمع الدولي إلى لعب دور أكثر فاعلية في تسهيل الحوار بين الأطراف المتصارعة، وتقديم الدعم الإنساني العاجل.

إن معضلة الجيش والسياسة في السودان ليست مجرد أزمة محلية؛ بل هي انعكاس لصراعات أعمق تتعلق بالهوية الوطنية، وبناء الدولة، وآليات توزيع السلطة. ورغم التحديات الهائلة، يظل الأمل في أن تُشكل هذه الأزمة فرصة لإعادة صياغة علاقة الجيش بالسياسة، وبناء نظام حكم يعبر عن تطلعات السودانيين للسلام والعدالة والتنمية. ومع ذلك، قد يلجأ الجيش إلى مثقفين تنويريين لوضع فلسفة حكم تسعى لاحتواء القوى المدنية كشركاء بلا تأثير فعلي، في محاولة لشرعنة الهيمنة العسكرية وإبقاء السلطة بيد المؤسسة العسكرية. مثل هذا السيناريو يهدد بتعميق الأزمة السياسية ويضع القوى المدنية أمام معضلة جديدة تتعلق بإعادة بناء دورها وتأثيرها في المشهد الوطني

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: المؤسسة العسکریة القوى المدنیة فی السودان بین الجیش

إقرأ أيضاً:

الجيش السوداني يعلن مقتل 47 مدنيا في قصف للدعم السريع استهدف الفاشر‎

 

أعلن الجيش السوداني، اليوم الثلاثاء، مقتل 47 مدنياً وإصابة عشرات في قصف مدفعي نفذته قوات الدعم السريع استهدف مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور غرب البلاد.

الخرطوم ـــ التغيير

وقالت الفرقة السادسة مشاة التابعة للجيش السوداني بالفاشر في بيان، إن قوات الدعم السريع “مستمرة في استهداف المدنيين بشكل ممنهج، حيث استخدمت حوالي 250 قذيفة مدفعية خلال قصفها على أحياء الفاشر أمس الاثنين”، بحسب وكالة السودان للأنباء.

وأضافت: “أسفر هذا القصف المدفعي المكثف عن مقتل 47 مدنياً، بينهم 10 نساء، وإصابة عشرات من المدنيين تم نقلهم إلى المستشفيات والمراكز الصحية”.

وأشارت إلى أن قوات الجيش دمرت منصة لإطلاق المدافع للدعم السريع شمال مدينة الفاشر.

ومنذ أيام تواصل قوات الدعم السريع قصفها المدفعي على مدينة الفاشر، الأمر الذي أوقع عشرات القتلى والجرحى، بحسب السلطات السودانية.

و الأسبوع الماضي  هاجمت قوات الدعم السريع مخيم زمزم للنازحين شمال دارفور وأعلنت سيطرتها عليه، بعد اشتباكات مع الجيش والقوات المساندة له، ما أدى لمقتل 400 شخص ونزوح عشرات الآلاف، وفق الأمم المتحدة.
وتشهد الفاشر منذ 10 مايو  2024، اشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع، رغم تحذيرات دولية من المعارك في المدينة، التي تعد مركز العمليات الإنسانية لولايات دارفور الخمس.

ومنذ أبريل  2023، يخوض الجيش وقوات الدعم السريع حرباً خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل ونحو 15 مليون نازح ولاجئ، وفق الأمم المتحدة والسلطات المحلية، بينما قدر بحث لجامعات أميركية عدد القتلى بنحو 130 ألفاً.

وبدأت في الفترة الأخيرة تتناقص مساحات سيطرة قوات الدعم السريع في ولايات السودان لصالح الجيش، وتسارعت انتصارات الأخير في ولاية الخرطوم، بما شمل السيطرة على القصر الرئاسي ومقار رسمية أخرى.

وفي الولايات الـ17 الأخرى، لم تعد قوات الدعم السريع تسيطر سوى على أجزاء من ولايتي شمال كردفان وغرب كردفان وجيوب في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، بجانب 4 من ولايات في إقليم دارفور غربي السودان.

الوسومالجيش الدعم السريع الفاشر ضحايا مدنيين

مقالات مشابهة

  • كيف تستفيد أي تنسيقية مدنية من الكفاءات المدنية المستقلة؟
  • الفاشر بين الحرب والمأساة.. تصاعد القتال وتفاقم الأزمة الإنسانية
  • رؤية نقدية لمؤتمر لندن للقضايا الإنسانية حول السودان
  • مصر وجيبوتي تؤكدان رفضهما لأية محاولات تهدد وحدة السودان وتشكيل حكومة موازية
  • السلطات العسكرية في السودان تعتقل صحفية .. تعصيب عينيها وتفتيش هاتفها
  • الجيش السوداني يعلن مقتل 47 مدنيا في قصف للدعم السريع استهدف الفاشر‎
  • ضربات موجعة… لكن لم تُكسر الإرادة
  • عاجل- حماس تنعى البابا فرنسيس: صاحب المواقف الإنسانية الرافضة للعدوان ( تفاصيل)
  • حقيقة الحرب في السودان
  • الجيش السوداني يوجه ضربة حاسمة ضد ميليشيا الدعم شمال الفاشر