ترامب والسعودية نموذج للحب الذي يُذل “ادفع تأمن”
تاريخ النشر: 25th, January 2025 GMT
الرئيس الأمريكي يُدشن مسلسل اهانات وابتزاز النظام السعودي بـ500 مليار دولار يصر على تذكير السعودية “بضعفها” وسط صمت من النظام مقابل الإهانات الأمريكية جنون محمد بن سلمان بالعرش جعله يسلَّم أمره وبلاده بالكامل للإدارة الأمريكية
الثورة/ محمد شرف
يعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للتحرش بالسعودية وإذلالها من جديد، مدشناً ولايته الرئاسية الثانية، بتصريح مُهين للمملكة يطلب فيها من السعودية دفع 500 مليار دولار، شريطة زيارته للمملكة في أولى جولة له خارجية بعد تنصيبه رسميا رئيسا للولايات المتحدة .
فترامب، خلال إجابته على أسئلة على هامش توقيعه على عدد من الوثائق، سئل عن وجهته الخارجية الأولى فقال إنها عادة ما تكون للمملكة المتحدة.
لكنه عاد فأشار إلى أن أولى رحلاته في فترة رئاسته الأولى كانت للمملكة العربية السعودية، وذلك بعد شهور من تقلده الرئاسة في يناير 2017.
وأوضح ترامب أنه فعل ذلك “لأنهم وافقوا على شراء ما قيمته 450 مليار دولار” من المنتجات الأميركية.
واعتبر ترامب أن ذلك الإنجاز بين القصص الأقل تغطية لما حققه خلال فترته الأولى.
وعند سؤاله مجددًا عن وجهته المحتملة الأولى هذه المرة، رد ترامب: “إذا أرادت المملكة العربية السعودية شراء ما قيمته 450 أو500 مليار أخرى، فأعتقد أنني غالبا سأذهب هناك”.
وأشار إلى أنه رفع قيمة المشتريات هذه المرة نظرا لعوامل التضخم في الولايات المتحدة.
التصريحات الأخيرة لترامب، ليست جديدة، بل إنها تأتي ضمن الهوايات المفضلة التي اعتاد ترمب إطلاقها على النظام السعودي، من الإذلال والشتم، واصرار ترامب على تذكير النظام السعودي بضعفه بدون أميركا، وسط صمت غريب من النظام مقابل الإهانات الأمريكية .
فقد سُئل الرئيس الاميركي دونالد ترمب عن هواياته المفضلة في آخر خطاباته الانتخابية في دورته الرئاسية الأولى، فقال أن هوايته شتم السعودية والملك سلمان بن عبدالعزيز.
فهذا الرجل شغوف بإهانة المملكة واذلال السعودية لكنه يضيف هو يحب الملك، وقال له أكثر من مرة، عليكم أن تدفعوا لأنه لولانا لما بقيتوا في السلطة اسبوعين.
وغالباً ما يعود في جولاته الانتخابية للحديث عن مكالمته الهاتفية مع ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز، وكشف أنه وجّه له إهانات أثناء حديثهما.
ونقلت وكالة رويترز للأنباء أن الرئيس الأميركي أدلى – حينها – بتصريح غير دبلوماسي بشأن السعودية الحليف الوثيق لبلاده، قائلا إنه حذر الملك سلمان من أنه لن يبقى في السلطة “لأسبوعين” دون دعم الجيش الأميركي.
وأمام تجمع انتخابي في رئاسته الأولى في ساوثافن في مسيسيبي، قال ترامب “نحن نحمي السعودية. ستقولون إنهم أغنياء. وأنا أحب الملك، الملك سلمان. لكني قلت: أيها الملك نحن نحميك، ربما لا تتمكن من البقاء لأسبوعين من دوننا، عليك أن تدفع لجيشنا”.
وقال ترامب إن ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز يمتلك تريليونات من الدولارات، وأضاف أنه من دون الولايات المتحدة الأميركية “الله وحده يعلم ماذا سيحدث” للمملكة.
وفي تجمع انتخابي بولاية فرجينيا، كشف ترامب أنه تحدث مطولا مع الملك سلمان، وأنه قال له “ربما لن تكون قادرا على الاحتفاظ بطائراتك، لأن السعودية ستتعرض للهجوم، لكن معنا أنتم في أمان تام، لكننا لا نحصل في المقابل على ما يجب أن نحصل عليه”.
(الإدارة الإمريكية تُجاهر بإذلالها للرياض)
منذ ثلاثينيات القرن الماضي، والعلاقات السعودية الأمريكية تشهد ارتباطاً وثيقاً لسد حاجة متبادلة بين الطرفين، بحيث تحصل الولايات المتحدة على النفط، مقابل حماية حكم آل سعود. اختلف مستوى توطيد العلاقات بين الرؤساء الأمريكيين وملوك “السعودية” خلال السنوات الماضية، وقد أخذت شكلاً من المد والجزر.
لكن لم يسبق أن جاهرت إدارة أمريكية بإذلالها للرياض كما فعلت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب.
لقد عيّنت واشنطن محمد بن سلمان ولياً للعهد عام 2017، بعد إقصائه لمحمد بن نايف، وجميع منافسيه في القصر، وفي أول زيارة له إلى الرياض حصل ترامب على مبلغ مالي ضخم تبلغ قيمته 450 مليار دولار، فضلاً عن الهدايا التي قدمت له ولعائلته من قبل العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز.
كانت تلك أول دفعة لترامب قبل أن يبذل أي جهد، ولاحقاً تواترت الدفعات مقابل كل خدمة ينفذها للرياض، حتى أصبح يتعامل مع “السعودية” بمنطق العصابات لا كرئيس دولة، ويعمد إلى ابتزازها بصورة علنية للحصول على المزيد من الأموال.
فعلى مدى أربع سنوات من رئاسته الاولى، واصل ترمب إهانته “للسعودية”، ليتمكن من تحصيل المزيد من الأموال.
اللافت في العلاقات السعودية الأمريكية خلال عهد محمد بن سلمان، مستوى الابتذال الذي اتسم به خطاب الإدارة الأمريكية مع الرياض.
وبحسب مرآة الجزيرة؛ فمرد ذلك يعود إلى جملة من الأسباب التي تحكم طبيعة العلاقات السعودية الأمريكية وأخرى تتعلق بمحمد بن سلمان نفسه. أولى هذه الأسباب هو أن بقاء آل سعود في السلطة مرهون بالحماية الأمريكية لعروشهم.
وثانيها، أن “السعودية” غارقة في العديد من الملفات الساخنة في المنطقة بحماية ودعم أمريكي مطلق، لا سيما تورطها في حرب اليمن ومختلف دول المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، جنون محمد بن سلمان في العرش، جعله يسلم أمره وبلاده بالكامل للإدارة الأمريكية، إلى يحد يصعب بعده الاعتراض على أوامر واشنطن أو كبح جماح رئيسها آنذاك. لأن ابن سلمان يعلم جيداً أن أي محاولة لإظهار العداء في وجه واشنطن ستكلفه كرسي الحكم.
(الإذلال الأمريكي والصمت السعودي )
في مقال لها على موقع “ميدل إيست آي”، سألت الكاتبة السعودية مضاوي رشيد : “إلى متى سيظلّ النظام السعودي صامتاً أمام الإذلال المنتظم الذي يتعرض له على أيدي الرئيس الأميركي دونالد ترامب؟”
فقد وصفت رشيد في مقالها العلاقة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة في ظل ترمب بـ”العلاقة العارية، والخالية من اللغة الدبلوماسية المهذبة للشراكات والتحالفات”، معتبرةً أنّه السعودية”ستواصل دفع ثمن باهظ لاعتمادها الكليّ على الولايات المتحدة للحفاظ على أمن نظامها”.
وفي السياق نفسه، أشارت الكاتبة إلى أنّ “النظام السعودي يثني عضلاته عندما تنتقد حكومات غربية أخرى ذات أهمية استراتيجية أقل، سياساتها المحلية، كاحتجاز ناشطين حقوقيين سعوديين، أو قتل المدنيين المسالمين في اليمن”، مبرزةً أن كلاً “من كندا وألمانيا والسويد والنرويج وإسبانيا وغيرهم، بعض الضجيج من حين لآخر حول القمع السعودي المحلي والسياسات الإقليمية المضللة، لكن رد الفعل كان سريعاً. لقد تمّت معاقبتهم على الفور كرادع لكي لا تفكر الحكومات الأخرى بمعاداة السعوديين”.
ورأت رشيد أنّه “يستغل النظام السعودي مثل هذه الحوادث مع كندا أو غيرها، كفرصة لإظهار سيادته المتخيلة. لكن عندما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة الأميركية، تظهر صورة مختلفة. النظام السعودي يستوعب الإهانة ويتحرك للخضوع لإرادة السلطة التي تحمي الملكية”.
وأوضحت الكاتبة أنّه “من الرسوم التي تُظهر الإنفاق العسكري السعودي أمام ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والكاميرات، للإشارة إلى ضعف النظام السعودي من دون أميركا، يعلم ترامب جيداً أنه يستطيع الاستمرار في إطلاق الشتائم دون أن يتمكن السعوديون من الرد”.
وفي تحليلها للعلاقة الأميركية-السعودية، أشارت الكاتبة إلى أنّه “إذا كان ضعف النظام السعودي بدون أميركا أمراً واقعاً بلا منازع، فإن الإهانات الدرامية لترامب تخبرنا أكثر عن جمهوره المحلي، الذي يهتف في كل مرة يُذلّ فيها شيوخ النفط”، مؤكدةً إنّ “جعل أميركا عظيمة أو إبقاء أميركا عظيمة، لا يتحقق بإبعاد الحلفاء والشركاء المذعورين وإهانة الأصدقاء”.
وتوصلت الكاتبة في مقالها إلى أن السياسة الأميركية “تراجعت إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق. ولم يعد الأمر يتعلق بالاحترام أو الإنصاف أو أفكار الديمقراطية أو التعايش. لا يتعلق الأمر حتى بالقيادة على المستوى العالمي. إن السياسة الأميركية غارقة في المخالفات الجنسية للنخبة السياسية”، مشيرةً إلى أنّ “قوّة عظمى لا تستطيع أن تنتخب رئيسًا نظيفًا وصريحًا، أو تعيّن قاضياً محترمًا في أعلى منصب في السلطة القضائية، لم تعد قوة عظمى”.
واستنتجت الكاتبة أنّ ترامب “يحتاج إلى إبقاء الإهانات تتدفق لإرضاء قاعدته الانتخابية، الذين يسلّمون ويُسحرون بتصريحاته القصيرة والبسيطة وغير المنسجمة في أغلب الأحيان. وهذا يعني إبقاء السعوديين في حالة من الخوف من أن تتمكن أميركا يومًا ما من سحب دعمها”.
المصدر: الثورة نت
كلمات دلالية: الولایات المتحدة النظام السعودی محمد بن سلمان الملک سلمان ملیار دولار فی السلطة سلمان بن إلى أن
إقرأ أيضاً:
“تأملات في طمأنينة لا تُشبه الخرائط… عن العراق الذي يكتبه الغريب كما يُكتب الحنين”
توطئة:
كتبتُ هذا النص لا من باب التوثيق، ولا لارتداء هوية ليست هويتي، بل لأنني اقتربت من العراق من خلال أهله، وفتحت بيتي لهم كما فتحوا بيوتهم لي. وكنت، وأنا أستمع لهم، أشعر أني أستعيد شيئًا من نفسي.
هذا ليس مقالًا، ولا سيرة. إنه قطعة من ذاكرة مشتركة، كُتبت على مهل، في أحد مساءات الغربة.
في المقهى العراقي الذي يديرُه رجلٌ من الكرادة ويحفظ أشعار الجواهري، سمعت للمرة الأولى كيف يمكن للحرب أن تُروى كشأن منزلي، كما تُروى وصفة الشاي أو طريقة طبخ الدولمة. لم يكن سردًا بطوليًا بل اعترافًا، صادقًا، هشًا، يليق بالبشر حين تتساقط عنهم أقنعة التاريخ. رجلٌ لم يكن يرفع صوته، ولم يكن يُخفضه، يتكلم كما يُسكب الشاي: متوازنًا، دافئًا، مسكونًا بما يكفي من الحكمة لئلا يغرق في الرثاء، وما يكفي من السخرية لئلا يستسلم.
على الجدار خلفه صورة للجواهري، لا تشبه الصورة المألوفة في الكتب، بل صورة يبتسم فيها الشاعر، كما لو كان يبارك لهذا المقهى المتواضع قدرته على أن يُبقي الشعر حيًا، وسط فناجين الشاي وقطرات المطر. وكان المقهى كله، رغم صغره، يبدو كأنه بقعة من الرصافة سقطت سهواً في هذا المنفى البعيد.
“أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي” قالها المتنبي ذات نشوة، لكنّي شهدت هناك كيف يطأ الشعرُ الطينَ، وكيف يتوهج في نبرة امرأة تبكي ابنها ولا تجد ما تكتبه سوى صمتها. لم تكن القصائد تُكتب بالحبر بل بالدخان المتصاعد من غليون يتيم، أو بمرارة ضحكةٍ عراقية وهي تُخبرك أن بغداد مدينة لا تُحكى، بل تُشمّ.
شمّ المدن لا يحتاج إلى خرائط، بل إلى أنف القلب، إلى خيال يتدرب على التقاط ما لا يُرى.
بغداد، كما قالتها تلك المرأة، ليست مدينة تشرحها النشرات، بل رائحة قهوة محروقة قليلًا في بيت قديم، عِبارة تُقال على استحياء، حنجرة تتهدج عند سماع أم كلثوم، ثم تصمت. الشعر هناك لا يُدرّس، ولا يُلقى في المنابر، بل يتجلى في هيئة أمهات يرتّبن شَعر الغياب ويُطعمنه من فتات الذاكرة.
لا شيء يُعيد للإنسان قدره كالخسارة. ربما لذلك كان الاشتراكيون في العالم أكثر شعورًا بالعدل، لأنهم فقدوا كل شيء. يقول أنطونيو غرامشي: “إن تشاؤم العقل لا يُنافي تفاؤل الإرادة”. وأظن أن العراقي حين يُحسن القَصّ، لا يفعل ذلك لأنه متفائل، بل لأنه تعب من الهروب، فصار يروّي ما لا يمكن النجاة منه. هذه الإرادة التي تُشبه الجلد العراقي – لا تتشقق إلا لتُبرهن أنها لا تموت. فهي ليست مقاومة ضجيج، بل صبرُ جمال، وليست تحديًا أجوف، بل تأملٌ نَبيل في المعنى.
أحيانًا كنت أشعر أن القصة عندهم ليست وسيلة تواصل، بل طقسٌ للنجاة، أو محاولة مستترة لترميم الزمن. كأنهم يقولون للغد: نحن لم ننكسر، نحن فقط تعلمنا أن نُطيل الحكاية كي لا ننتهي بسرعة. والعراق في حكاياتهم ليس دولة بحدود، بل مزيج من الشِعر والماء، من الطين والزيتون، من الأغنية التي تُغنّى حتى لو لم يبقَ من الوطن سوى اسم يُوشك أن يُنسى.
وفي مساءات المنفى، حين نُطفئ أنوار الغربة، لا نعود نحن فقط، بل يعود معنا ذلك الحنين المُجهض، حنين لا يُكتب، لأنه لا يشبه شيئًا سوى النشيد الأخير في عرس تأخّر كثيرًا.
أحدهم قال لي إن قصيدة بدر شاكر السياب: “أنشودة المطر”، كُتبت لتُقرأ في المنافي فقط. وأنا أصدق ذلك. فـ”عيناك غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر” لا تُقال لعاشقة، بل لوطنٍ يسكن امرأةً تحمل في ملامحها أعمارنا المُنْهَكة. امرأة لا تقول الكثير، ولكنها حين تسند رأسها إلى حافة الليل، تُصغي لنداء لا يسمعه سواها.
قصائد السياب هناك ليست ذخيرة ثقافية، بل جزء من الدورة الدموية اليومية. مثل الملح، مثل الحبّ الصامت، مثل العتاب الذي لا يُقال.
حين تتحدث العراقيات في الغربة، لا تتكلم نساء فقط، بل تتحدث مدن مهدّمة، ومكتبات محروقة، وبيوت تُبنى بالذاكرة. يقُلن لك ما لا يقوله الرجال: أن النصر كذبة صغيرة إذا لم يشبه دفء البيت. في كلامهن فسحةُ ظل لا توفّرها السياسة، ووضوحٌ لا تُجيده المؤتمرات. يحملن العراق كما تُحمل القوارير في البحر، لا ليطفو فقط، بل لئلا ينكسر. ليس فيهن استجداء، ولا ثقل الماضي المجلجل، بل خفة من يعرف أن المعنى الحقيقي لا يُقال، بل يُمنح، في طريقة تقديم الشاي، في لُقمة خُبز مشروحة بحنو، في عِبارة تُقال على الماشي: “تفضل، البيت بيتك”.
وأنا أراقب أحد أصدقائي العراقيين، وهو يشرح لابنه الصغير، باللهجة الجنوبية: “يمه، العراق مو خراب، العراق أحلى من الخيال، بس الكَلبان لعبوا بيه”. أدركت أن اللغة، حتى حين تنكسر، تظل تحاول الإنقاذ. أدركت أن ما نحمله من لهجات، ليس زينة لهوياتنا، بل أدوات بقاء. في جملته تلك، كان يُعيد تشكيل وطنٍ كامل، لا على هيئة علمٍ أو شعار، بل على هيئة حكاية تُروى للطفل كي لا ينسى. لأنهم يعرفون، بذكاءٍ بسيطٍ ومُرهف، أن ما لا يُحكى، يُمحى. وقد رأيتُ في نظراته أن العراق ما زال قائمًا، لا كمؤسسة، بل كنبض حيّ في ذاكرة عائلة تُصرّ على أن تنقل خريطتها الخاصة للأجيال القادمة.
أنا سوداني، وأعرف أن الكتابة عن العراق لا تُمنح لمن يتفرّج، بل تُمنح لمن يدخل البيوت ويُؤتمن على الحكاية. ولذلك أكتب الآن، لا من خارج الدائرة، بل من داخل حميميتها، كمن سُمح له أن يجلس في زاوية المجلس ويُصغي.
الغربة تصنعك كما تصنع النار المعدن. تُنقّي دواخلك من الزيف، تدفعك لأن تُعيد التفكير في كلمة الانتماء، تلك الكلمة التي كانت تبدو قدريّة، فإذا بها تُخاض. وأنا أخوضها معهم. أصدقاء لا يشبهون الصور، بل يشبهون الكتب المفتوحة التي لا تُغلق، يروُون لك “المنفى” كما يروون “العراق”، ويُشبهونك وأنت تحاول أن تتذكّر لماذا خرجت من وطنك ولماذا لم تعد. ليسوا شخوصًا عابرة، بل مرايا نادرة ترى فيها وجهك المُفترض، الوجه الذي نسيت أنك كنت تحمله، وكنت تسعى إليه.
وفي هذا التمرين الدائم على الانتماء، يبدو لي أن الغربة ليست فقدًا، بل اختراعًا لمعنى جديد، أكثر صدقًا، للوجود معًا. ليست جسرًا بين ضفتين بل هي الضفة الثالثة، تلك التي لا يراها العابرون ولا تقيسها الخرائط. ضفة لا تُسجَّل في العقارات، بل في دفاتر القلب، في الأمكنة التي نختلقها مع من نحب، حين نُقرّر أن نصير وطنًا لبعضنا البعض، دون أن نُعلن ذلك، ودون أن نطلب أوراقًا ثبوتية.
قال المفكر الاشتراكي بول نيزان قبل أن يقتل في الحرب: “لم أكن أعرف أنني أملك هذا القدر من الحب إلا عندما فقدته”. وأنا أعرف أنني لم أكن أعرف العراق، إلا حين عرفت العراقيين عن قرب. عن قُربٍ لا تصنعه الأوطان بل تصنعه القلوب التي حين تهزمها الحروب، تتحوّل إلى أوطانٍ تمشي، تنام، وتفتح لك باب البيت. بيت لا يحتاج إلى سقف، بل إلى كلمة، إلى إيماءة، إلى ثقة بسيطة تنمو على نارٍ هادئة، كما تنمو جذور النعناع.
هل الغربة عدالة؟ لا. لكنها في حالات نادرة، تمنحك امتياز أن تُعيد ترتيب نفسك. أن تُجرّب الأخوّة مع من لا يشبهك تمامًا، ومع ذلك يصبح أقرب إليك من الدم. تمنحك فرصة أن تقول لنفسك، بلا خجل، إن الحياة لا تُقاس بالمكان، بل بنوعية البشر الذين مرّوا بك، ومررت بهم، وقرّرتم معًا أن تجعلوا من اللايقين حكايةً يمكن تصديقها، بلغةٍ لا تُنسى، وصمتٍ يشبه المعنى أكثر من أي كلام.
الغربة، بهذا الشكل، ليست جرحًا، بل خيطًا دقيقًا من الضوء يتسرّب من تحت الأبواب المغلقة. خيط لا ينير الطريق كله، لكنه يكفي لتعرف أنك لست وحدك. وأن دفء الآخر، حين يكون صادقًا، يضاهي دفء الوطن، وربما يتجاوزه. ليس لأن الوطن ناقص، بل لأن القلوب حين تُمنح من غير مصلحة، تكتسب طهارة نادرة.
العراقيون الذين عرفتهم في المنفى لم يكونوا ينتظرون شيئًا من أحد، لم يكونوا ضحايا، ولا دعاة، بل ناسًا يعيشون بكامل أناقتهم في قلب اليوم، يصنعون من الوقت خبزًا ومن القصيدة بابًا ومن المزاح صلاة يومية للنجاة من فجاجة العالم.
منهم تعلّمتُ أن الطمأنينة ليست هدية، بل مهارة. وأن الانتماء ليس وثيقة، بل فعل يومي من الحب. وأن البلاد لا تعني شيئًا إن لم تجد من تشاركهم طريقتها في الغياب.
وأنا الآن، أكتب هذا النص، لا لكي أُحصي ما فُقد، ولا لأرثي ما لا رجعة فيه، بل لأقول ببساطة: بعض الغرباء، حين يدخلون حياتك، يُعيدون ترتيب جغرافيتك كلها. يجعلونك تُفكر في المعنى لا في الحدود. في الجلوس مطوّلًا مع من تُحب، لا في العبور السريع إلى المجهول.
ربما لم أكن أعرف أنني أملك هذا القدر من القرب، إلا عندما التقيت بهم. وربما، ذات يوم، حين تُغلق كل الأبواب، سيبقى باب صغير مفتوح في الذاكرة، كأنك تسمع من بعيد صوتًا يقول لك: “تفضل، البيت بيتك”
zoolsaay@yahoo.com