د. عبدالله الغذامي يكتب: هل العقل رجلٌ والعاطفة امرأة؟!
تاريخ النشر: 25th, January 2025 GMT
كنت طرحت مقولة استنبطتها من السلوك الفكري في التمييز بين عقل الرجل وعقل المرأة، وهي (أن تكون المرأة شاعرةً فهذا أهون على الفحولة من أن تكون منظّرة وناقدة وصاحبة رأي وفكر)، وهذه مسألةٌ تعود لنسقيةٍ ثقافية تعتمد مقولة (العقل رجلٌ والعاطفة امرأة)، وهي مقولة ليست جائرة فحسب، بل هي خاطئة كذلك، وليس هذا مقام تبيان عوار هذه المقولة، ولكن فيما يخص المرأة المنظرة والمرأة الشاعرة، فقد جرى ثقافياً قمع الخطاب الشعري للمرأة وتقييده بشروط ضد البوح والإفصاح عن المشاعر، في حين يبوح الشاعر كيفما يشاء دون خجل ولا تردد، وقد جرى تقبل شاعرية المرأة من حيث المبدأ منذ الخنساء وما بعد، ولكن سنرى فيما يخص النظرية، فالمرأة الفيلسوفة عند اليونان تمت إزاحتها من ذاكرة المتن الثقافي، وبقيت اسماً ورقماً دون أن يسند إليها ما يكشف عن خطاب فلسفي ناتج عنها، رغم ترداد الأسماء في متون الكتب والمرويات، مما يؤكد وجود الفيلسوفات، لكن الفلاسفة الفحول هم المتصدرون للنظريات وهم صنّاع التحولات، وهذه سيرةٌ عامةٌ في الثقافات القديمة كلها، على أن مقولتي هذه جاءت في سياق الكلام عن نازك الملائكة، حيث حضرت في مبحث الريادة للشعر الحر (شعر التفعيلة)، وتساوى الحديث عنها مع الحديث عن السياب مع الجدل عن الأسبق منهما، وهو جدل في حدود الرصد التاريخي، ولكن الجدل الذي ليس علمياً ولا منهجياً هو الجدل حول نظرياتها، التي ساقتها في كتاب (قضايا الشعر المعاصر)، حيث لم يقتصر الجدل عن الخلاف مع مقولاتها وهذا حق ومنهجية، ولكن شابته لغة ساخرة ومتعالية عليها لجراءتها في ابتكار قواعد لتقعيد ما كان يسمى حينذاك بالشعر الحر، وتصديها لنقد الشعراء واستخداماتهم العروضية وتجاوزاتهم، التي مالت نازك لتقييدها، وهذا موقف لا أتفق معها فيه، لكني احترمت عقلها وجهدها وقدرت اجتهادها، على عكس ما جرى من نقاد عرب كثر تهجموا عليها بلغة استعلائية وإقصائية، مما جعلني أقول مقولتي تلك، وهي ملمح من نقدي للأنساق الثقافية، وهو مشروع واسع تصديت له في خمسة كتب، أولها (المرأة واللغة)، ثم ثقافة الوهم، وآخرها (الجنوسة النسقية).
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الغذامي عبدالله الغذامي
إقرأ أيضاً:
في العقل العربي.. الحل في الفصل بين «المعرفي» و«السياسي»
حين ينصرف العقل العربي لجعل كل فاعلية فيه ما هي إلا شكل من تجلٍ سياسي خشن أو مصنوع، فإنه يغلق بوابات الوعي على معنى واحد، وهو الظن بإطلاق أن السياسة هي من تشكل الظاهرة، أي أن الوعي السياسي هو المسؤول على تركيب الجمعي في المجتمع، وهنا الأذى كله، الأذى من تحقيب المعقد في البسيط، وهو القول بألا جدوى من تحليل مظاهر سلوكنا أو ردَّات فعلنا أو حتى كمون تصورنا حول الذات والعالم، والحقيقة أنه لا فائدة من أية مقاربة تريد تدبير أحوالها المعرفية بجعل السياسة أساس البنية وليست جزءًا منها، وفي ظننا أن جملة مشكلاتنا في الواقع العربي مردها هذا الوعي المقلوب، الوعي الشقي الذي يحمل صليبه ويعلن توبته من أي جهد عقلاني لتفسير الواقع لا الاعتراف به كتراكم ظاهراتي يحتاج التفكيك لأجل فهم طبائعه وتحديد مساراته. ومن مظاهر أزمة العقل العربي أنه غارق في التأملات المُجَرْمة حتى قبل تشكلها، عقل يريد من العالم أن ينحاز إليه لا أن يعمل لأجل تحريك واقعه بالصورة التي يجبر بها العالم على الاعتراف بجدارته مساهماً في اللحظة الكونية الراهنة، عقل مفارقٌ لأسباب الفعل ومختبئٌ في التنكر والانتصار لكل ما هو غير عقلاني.
فمشكلاتنا ليست قدراً مكتوباً كما نظن، هي مشكلات تركبت وتعملق حضورها بسبب الغياب الحرج للعقلاني فينا، فما ظل يمارسه العقل العربي ويشيع بين أبنائه أن أزماته قادمة من الخارج، وأنه مستهدف في وجوده لا شيء إلا لكونه يشكل خطراً على العالم، والحقيقة أن مثل هذه التصورات ليست إلا استغلالاً معيباً لتراث يحكمنا دون أن نبدي أدنى قدرة على مقاومته، والتنصيص على صلاته بالراهنية التي ننتمي، إنه تراث متحكمٌ فينا بصورة قاهرة، والحل، هو العمل على تحييد العناصر المتكلسة فيه لصالح علاقة إيجابية مثمرة.. فما السبيل إلى ذلك؟!.
إن الراهن الذي يعيشه العربي ويمارس من خلاله وصفه لذاته والعالم، يعيشه في حالات من إنكار المشكلات، والعمل على رفعها إلى أعلى، فكل الذي يصيبنا ليس من صنع أيدينا، والحل في إعادة فهم مفردات التكوين والتشكل، ولنبدأ حقاً فواجبنا العمل على الخروج من الحالة التوفيقية إلى المواجهة المنتجة، وهي معركة ثقافية بامتياز، فالحل المقترح لا يريد الذهاب بالمسألة إلى حيز التأسيسات النظرية، بل هو إيمان عميق بأننا سننجو إن واجهنا أنفسنا بأكبر متاعبنا، وهي غياب التفكير الناقد والمواجهة الصريحة مع الذات، والسبب ببساطة أن رصيدنا من التحليل الثقافي متواضع في مقابل طغيان التسييس لكل شيء، إن المجتمع العربي وهو يحزم حقائب حزنه على انهزاماته، ليس بقادر على فعل شيء أكثر من الحزن المجاني، ذلك أننا لم نفهم بعد طبيعة الاجتماعي لدينا وهو ما قيَّد فاعليتنا في الالتحام بقوة من أجل قضايانا العادلة، إن غياب أثر العامل الثقافي هو المسؤول مباشرة عن تصلَّب حضورنا السياسي والاقتصادي، فالسياسة حين ترشد تبدو أكثر طواعية لتمثيل الثقافي فينا، والاقتصاد كي ينمو ويحقق لنا اكتفاءً في الغذاء، وتحسيناً في سلوك الاستهلاك فإنه لن يستطيع ذلك دون أرضية اجتماعية قادرة على تحديد الأولويات وليست محبوسة في أفق مادي يُعَّرِف قيمة الشيء بإشباعه، بل حتى قضية التفاوت بين طبقات المجتمع العربي (الحقيقة لا توجد طبقية في الاجتماع العربي) فإنها مزيفة، والسبب فيها غياب الثقافي في السياسي/الاقتصادي، ففي الاقتصادي لو فكرنا بصورة جدية لإصلاح هذا الفضاء المعقد التركيب فإننا مطالبون بالنظر إلى الطرف الآخر من المعادلة، وهو غياب التنمية الاجتماعية مع بروز مظاهر للنماء الاقتصادي المرتبط بفئات بعينها في الظاهرة وتتمنع فيها عمليات الانتقال بين أفراد المجتمع، وهنا فسياسات مثل «التشغيل» و«الضمان الاجتماعي» وإن أثمرت في لحظات الأزمة إلا أنها ستعمق من مسألة التفاوت الاقتصادي بين الفئات الاجتماعية المختلفة، ولذا فالمطلوب سياسات تجريبية تصنعها الحكومات العربية لأجل إصلاح لوائح العمل بصورة تداركية مما يسهم في توفيق العلاقة بين السوق والخريجين، ومن فوائد ذلك حتمية الإصلاح المؤسسي وإقامته على ديناميكية تراعي في المقام الأول استيعاب منظم للطاقات ومن ثم توزيعها على دوائر الفعل الاقتصادي التنموي في أي قطر عربي.
هذا اقتصادياً، أما اجتماعياً فإن المهمة الرئيس هي وكما نكتب دائماً يكمن في «السياسات الثقافية» وهي التي ستنقل القطاع الثقافي من كونه يرقص خارج الحلبة إلى فاعل رئيس في عمليات التنمية الاجتماعية، إذ تقوم هذه السياسات على ترميز الإنتاج الثقافي ما يصنع له قيمة مضاعفة في السوق، هذا عوضاً عن أنه سيركب أكثر معالم الهوية كونه يفتح الباب أمام عملية استقلال ثقافي مرتبط بالوجدان الاجتماعي المتنوع، وهذا هو الغائب عند المعنيين بإدارة الفضاء الثقافي في الوطن العربي، وبصورة أكثر وضوحاً تقوم السياسات الثقافية بدور مزدوج، فمن ناحية ستسهم هذه السياسات في تطوير الصناعات الثقافية وتحريرها، وهذا ما يمنح الفاعل الاجتماعي القدرة على تحقيق أكبر قدر من التمثيل له في تلافيف الظاهرة الجمعية، ومن ناحية أخرى لكي نستطيع فتح الطريق أمام الصناعات الثقافية فإننا نحتاج حتماً إلى دراسات ثقافية توفر الإطار النظري والمدخل لبناء اقتصاد سياسي للصناعات الثقافية يجعلها رافداً تنموياً مهماً.
إن غرض هذا المقال لفت الانتباه إلى ضرورة الفصل بين المعرفي والسياسي في المجتمع العربي، وأن ينصرف اهتمام الفاعلين الاجتماعيين بتطوير آليات الإصلاح الشعبي وأن يأخذوا مجتمعاتهم إلى ناحية الفعل المنتج وتخفيف تسييس كل شيء. والمهام الملقاة على عاتق المثقفين الوظيفيين أن يعرفوا كيفية استثمار أدواتهم لأجل بناء واقع أكثر ثراء بدلاً عن إضعاف فاعليتهم بأعذار ضيق المجال السياسي، فالسياسة في أقصى تجلياتها لا تعدو أن تكون فعل لمراقبة سريان القوانين في السياق والاطمئنان إلى استقرار البنية الشاملة في المجتمع حفظاً لأمنه وصوناً لسلامه الثقافي..
غسان علي عثمان كاتب سوداني