سوريا – عندما تسير في شارع العابد، لا بد أن يستوقفك مقهى الروضة، مكان مغلق يطل بواجهة زجاجية على برلمان دمشق، أحد أهم المعالم البارزة الشاهدة على استقلال سوريا عام 1946.

فضاء مفتوح على الحكايات والتفاصيل، يستحضر رواده قصصا فرضت حضورها وارتبطت بحبل سري مع مسارات حياتهم وحواديثهم وحتى مآلاتهم. وهو في ذاكرة الكثيرين كان مجلسا يوميا لنخبة من الأدباء والشعراء، مثل ممدوح عدوان ومحمد الماغوط ومظفر النواب وسعدي يوسف، والأديب أدونيس الذي كان يعرّج إلى الروضة كلما زار دمشق.

ولا ننسى مظفر النواب الذي واظب على ارتياد المقهى، إضافة إلى حضور الفنانين إليه، تتوزع فيه الكراسي والطاولات، وتتداخل الأصوات الممزوجة مع حركة الزبائن دخولا وخروجا.

التقاط اللحظة

في ركن بعيد، يجلس الكاتب الروائي يعرب العيسى محاولا التقاط اللحظات الخاصة بالمكان والشخوص. ويؤكد لـ”روسيا اليوم” أن سر المقهى هو اتساع فضائه ورحابته وسقفه المفتوح عمرانيًا، إضافة إلى حضوره في الحياة العامة وعدم ارتباطه بتيار سياسي معين أو شريحة محددة من الناس. ويضيف العيسى: “استطاع مقهى الروضة التقاط اللحظة، فقبل أسابيع من سقوط النظام بدأوا بإقامة ندوات وحوارات سياسية، إضافة إلى الندوات الأدبية والفنية وغيرها، ليصبح بعدها وجهة وقبلة لكل القادمين من الخارج، ويتحول إلى رمز خاص. وأنا أعتقد أن للأماكن أقدارا كالأشخاص، وهذا قدر مقهى الروضة أن يكون له هذه الدلالة”.

ويستكمل العيسى حديثه بأن لشجرة الدلب القابعة على باب المقهى خصوصية، فعمرها الممتد لأكثر من 100 عام يحمل الكثير من المفارقات، ولو شاهدناها عن قرب سنفهم المعنى العميق لها.

ليس مكانا للترفيه

وترى الكاتبة الصحفية سعاد جروس، إحدى زائرات المقهى الدائمات، أن المقهى اكتسب أهميته كفضاء عام من موقعه وتاريخه ورواده. فهو جزء لا يتجزأ من ذاكرة المدينة. وقد عرفت دمشق العديد من المقاهي ذات الخصوصية التي تتجاوز وظيفته كمكان للترفيه وتمضية الوقت مع الأصحاب، مثل مقهى النوفرة خلف الجامع الأموي، وأبو شفيق في الربوة، والهافانا ومقهى البرازيل عند جسر فكتوريا. وشكل الأخيران جزءا من الذاكرة السياسية السورية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، لوقوعهما في قلب دمشق، إلى جوار النادي العربي والعديد من مكاتب الصحف والمطابع فيها.

وبرز مقهى الروضة مقابل مبنى مجلس الشعب كمكان للقاء المثقفين والمعارضين، ليكون ساحة للمعارك الثقافية الساخنة والباردة. ومع انطلاق الثورة عام 2011، أصبح مكانًا للقاء الثوار الشباب، الذين سرعان ما تحول المقهى إلى مصيدة لتعقبهم من قبل المخبرين الذين احتلوه وحولوه إلى مقهى بائس لاجترار الملل ونفث الدخان ولعب النرد، كجزء من المشهد العام الثقيل الذي كانت تعيشه البلاد قبل سقوط النظام.

ومع تحرر البلاد من القبضة الأمنية، استعاد السوريون مقهى الروضة كفضاء مفتوح لهم، فأقبلوا عليه من الداخل والخارج، وراحوا ينفضون غبار الدمار والخراب عن ذاكرتهم الموجعة، ويغسلون أحلامهم المؤجلة بدموع الفرح: “ارفع رأسك، فأنت سوري حر”.

تحول تاريخي

يقدم الشاعر والناقد الأكاديمي د. مازن أكثم سليمان قراءته لتحولات المشهد الثقافي، ويؤكد لـ”روسيا اليوم” أنه لا يمكن قراءة ما يحدث الآن من نشاطات وتجمعات في مقهى الروضة أو غيره، دون ربط ذلك بالتحول التاريخي المرتبط بسقوط النظام في سوريا. بمعنى أن عودة الحياة إلى مقهى الروضة لا تتصل بعودة الزبائن التقليديين بعدد أكبر فحسب، إنما تتصل بعودة المقهى إلى كونه صاحب موقع محوري في الفضاء العام للبلد.

ويضيف: “مارست المقاهي الدمشقية العريقة منذ أواخر القرن التاسع عشر، ومع مطلع القرن العشرين، وصولًا إلى حقبة الاستقلال وما بعدها، دورا كبيرا في لقاء النخب السياسية والفكرية والثقافية، وفي إدارة حواراتها العامة والمنظمة، وفي إطلاق الأفكار والبيانات والتجمعات المتعلقة بشؤون السياسة وصراعاتها وتوجهاتها”.

ولعل هذا الدور قد انحسر، إن لم نقل قد انعدم نهائيًا، في حقبة الأسدين، حيث أُلغي فضاء الحريات العامة ليس من المقاهي وحدها، بل من عموم البلاد، وحُذفت السياسة من التداول العام تحت سطوة أحادية الدولة الأمنية العسكرية وتنكيل قبضتها الصارمة. وهذا ما حوّل المقاهي إلى مجرد مكان تقليدي للقاء والترفيه والاستهلاك.

ويشير د. سليمان إلى أن سقوط النظام غيّر المعادلة في الأسابيع الماضية، وهذا ما أظهره النشاط السياسي والثقافي الذي يشهده مقهى الروضة حاليًا. وهو نشاط يكشف تعطش النخب المختلفة إلى العمل الوطني، والعودة إلى الفضاء العام، ومواجهة استحقاقات المرحلة الانتقالية وصعوباتها وأسئلتها ومخاطرها. ويتوازى أو يتكامل ذلك مع جهود القوى المدنية والأهلية في العمل على القضايا المباشرة على الأرض.

بمعنى أن الاشتغال السياسي والثقافي للنخب المختلفة، ومن بينها عدد من الناشطين المدنيين والإغاثيين والأهليين ممن يشاركون في لقاءات مقهى الروضة، لا يتناقض مع متطلبات الناس المباشرة والملحة جدًا من أمور معيشية وخدمية وصحية، ولا سيما في ضوء الحاجة إلى العمل في المسارات كافة.

وشدد د. سليمان على أن تحوُّل مقهى الروضة الآن إلى أحد منابر الحوار الوطني هو حالة وحاجة صحية، وهي لا تقتصر عليه، بل تمتد إلى منابر عدة. وتؤكد عودة الناس إلى العمل العام على أمل تحمل الجميع مسؤولياتهم في مواجهة الاستحقاقات الحالية والقادمة، وفي بناء سوريا كي تكون دولة مواطنة تعددية ديمقراطية وحرة.

المصدر: RT

المصدر: صحيفة المرصد الليبية

إقرأ أيضاً:

وصول أول رحلة مدنية إلى مطار دير الزور شرقي سوريا منذ 14 عاما (شاهد)

وصلت طائرة مدنية إلى مطار دير الزور شرقي سوريا لأول مرة منذ 14 عاما ضمن جهود السلطات الرامية للتأكد من جاهزية المطار للعودة إلى العمل، حسب وكالة الأنباء السورية "سانا".

وقالت الوكالة في بيان مقتضب، الأحد، إن "طائرة مدنية وصلت الأحد إلى مطار دير الزور في أول رحلة تجريبية للتأكد من جاهزيته".

وصول رحلة للخطوط السورية إلى مطار دير الزور شرق #سوريا، قادمة من مطار #دمشق، للمرة الأولى منذ عام 2011 بعد أن حوّله النظام المخلوع إلى ثكنة عسكرية pic.twitter.com/o4uqajdEHj — عربي21 (@Arabi21News) February 3, 2025
وأرفقت الوكالة السورية عددا من الصور التي تظهر لحظات هبوط الطائرة المدينة في مدرج مطار دير الزور، دون التطرق إلى مزيد من التفاصيل.

ومنذ أسابيع تعمل السلطات على إعادة تفعيل مطار دير الزور المدني الذي استغله النظام المخلوع لأهداف عسكرية ما ألحق به دمارا وأضرارا مادية كبيرة.


يأتي ذلك ضمن مساعي حكومة تصريف الأعمال إعادة عجلة الحياة في سوريا إلى طبيعتها على كافة المستويات الخدمية والمعيشية بعد سقوط نظام الأسد.

وفجر الأحد 8 كانون الأول/ ديسمبر، دخلت فصائل المعارضة السورية إلى العاصمة دمشق، وسيطرت عليها مع انسحاب قوات النظام من المؤسسات العامة والشوارع، لينتهي بذلك عهد دام 61 عاما من حكم نظام حزب البعث، و53 عاما من حكم عائلة الأسد.

وجرى تكليف المهندس محمد البشير، وهو رئيس حكومة الإنقاذ التي كانت تدير إدلب، بتشكيل حكومة لإدارة شؤون البلاد في المرحلة الانتقالية، إلى غاية الأول من شهر آذار/ مارس المقبل.

مقالات مشابهة

  • وصول أول رحلة مدنية إلى مطار دير الزور شرق سوريا منذ 14 عاما (شاهد)
  • وصول أول رحلة مدنية إلى مطار دير الزور شرقي سوريا منذ 14 عاما (شاهد)
  • مجزرة في حماة وتصعيد أمنى في سوريا وسط غموض حول المنفذين
  • تشييع جثمان حسن نصرالله وهاشم صفي الدين في 23 فبراير.. وهذا مكان دفنهما
  • السفير نبيل فهمي: يجب أن يكون هناك خطط لمواجهة مقترح ترامب بتهجير الفلسطينيين
  • التربية توجه بعدم السماح بوجود المقاهي والكافتيريات على بُعد 500 متر من المدارس
  • عرض مسرحي يتناول تهميش المثقفين زمن النظام البائد في ثقافي شهبا
  • سوريا: مقتل وإصابة 3 من عناصر الأمن العام على يد الـفلول
  • بالفيديو .. من هو عاطف نجيب ابن خالة الأسد الذي تسبب باشتعال الثورة السورية؟
  • اعتقال عاطف نجيب ابن خالة الأسد.. تسبب بانفجار الثورة السورية