تتوالى الأفراح والمسرات على الساحات العربية بعد سنين عجاف ربضت على صدور السوريين، وأيام ثقال أحاطت بالفلسطينيين في غزة واختبرت صبرهم، وعجز كثير من أبناء الأمة بأقسى ما يمكن للنفس أن تتحمله؛ من قتل وتهجير وتضييق وأفعال لا تمتّ إلى الإنسانية بصلة!

لكن عامًا يُغاث فيه الناس أطلّ على الشعوب العربية ليمحو قهر السنين، ويُطبّب جراح المنكوبين، ويربت على قلوب المجروحين، فها هي سورية الحبيبة اليوم حرة ترفرف راياتها في سماء من عز وكرامة وأمان، وها هي غزة اليوم تخلع ثوبها المضرج بدماء الشهداء والأبرياء لتكتسي بحُلَل الأمن والسلام وترفع شارات النصر عاليًا، وها هو لبنان اليوم يرفل بزيّ جديد في مسار الوحدة الوطنية بعد أن طال عهد التخبط والتشتت والانقسام، وها قد بدأت بشائر الخير تهلّ على السودان الجميل، فيا مرحبًا بعام المسرّات!

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"مكتبة طريق الحرير" في بكين.

. طموح ريادة ترجمة الكتاب العربي إلى اللغة الصينيةlist 2 of 2أحوال الناشر العربي.. بين حتمية الإبداع ودروب الضياعend of list الظلم مرتعه وخيم

مرّ على الأقطار العربية من الظلم والحيف والاستعمار والاحتلال الغاشم ما تشيب منه الولدان، ولعل أقسى ما عاينته الشعوب العربية من ظلم وخذلان ما كان صادرًا عن ذوي القربى، فالوطن والعرق والدين والتاريخ والحضارة والثقافة المشتركة؛ كلها عوامل لم تكن كافية لتوحيد الصفوف وردّ الظلم والحيف عن بعضنا.

إعلان

انتشر الفساد وعمّت الظلمات في ربوعنا دهرًا من الزمن، وإننا اليوم إذ نستبشر بغد مزين بالحريات، مُحلّى بالمسرات، واعد بانفراجات كثيرة على الأصعدة كافة؛ نستحضر قول الشاعر:

فلا تعجلْ على أحدٍ بظلمٍ

فإِن الظلمَ مرتعُهُ وخيمُ

وإننا اليوم إذ نعاين المزاودات الوطنية والجدالات السفسطائية والنقاشات العقيمة التي يمارسها أبناء الشعب الواحد في ما بينهم، نستحضر قول الشاعر الآخر:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

على النفس من وقع الحسام المهند

إن ما يحدث الآن في المجتمع السوري من مزاودات على الوطنية ومراشقات فكرية تستند إلى انتماءات طائفية أو مناطقية؛ لن يأتي بخير على البلاد والعباد، ولن يكسر سلسلة المظالم التي عمّت رياضنا وعاثت فسادًا في ربوعنا.

إن الموقف اليوم يحتاج إلى وعي كبير لتوحيد الصف في سبيل الغاية الكبرى التي دفع الوطن فداء لها دماء طاهرة لا حصر لها، وقدم تضحيات مرّة ما زال طعمها حاضرًا تحت لسان الشعب السوري الكسير الجناح، وما من سبيل للسير قدمًا إلا بقلوب كبيرة وإيمان عظيم بقدرة الشعب على تجاوز ما مضى، ليبدأ الغد بجراح مضمدة، وعلى أرض متينة لا مكان للظلم والفساد فيها.

فشعار الفتح الذي لا ثأر عشوائي فيه يصب في مصلحة البلاد ويحقق سكينتها التي طالما مزقتها الثارات وفتكت بها الأحقاد، وهذا الشعار لن يؤتي ثماره حقًّا إلا إذا تحول إلى ثقافة عامة تتمكن من عقول عامة الجماهير وقلوبهم.

ما بين الظلم والقصاص والعدالة

لا يمكن تحرير الإنسان بالعقلية نفسها التي تعرّض بسببها للظلم، لكننا نتساءل: هل يمكن أن يتعافى المرء من آثار الظلم الذي مُورس عليه أبشع أشكاله بالقصاص أو بردّ الصاع صاعين؟ إن كثيرًا من الناس يرون أنه ما من إنسان يدرك وقع الظلم وقسوته إلا حين يتعرض له، وهذا الأمر يأخذنا إلى متاهات فلسفية عميقة، ومفاصل أساسية في مفهوم الإنسانية، فهل ينبغي أن نعيش التفاصيل نفسها حتى نفهم أو ندرك حجم الظلم الذي تعرض له الآخرون؟

إعلان

لا يبدو الأمر بهذه الحدّة في الفهم والإدراك، فالإنسان ذو الفطرة السليمة قادر على التعاطف والشعور بأخيه الإنسان والانفعال مع تجربته كأنه معه فيها، وقد يبلغ بالتعاطف ما لم يبلغه الذي عانى من الظلم نفسه، يقول في ذلك بنجامين فرانكلين "لن تتحقّق العدالة حتى يغضب الذين لم يتضرروا من الظلم تمامًا مثل الذين تضرروا به".

لا بد لنا حين ننطلق باتجاه البناء والإعمار بعد سنين مرة عالجتنا وعالجناها ألا ننسى أن الظلم وتحييد العدالة كان السبب الرئيس في ما عشناه من استبداد وفساد. ولا أدري كم يكفينا أن نؤمن بوقوع العقاب على الظالم عاجلًا أو آجلًا، فالحقوق لا تضيع في هذا الكون الذي يسبّح بحمد الواحد الأحد الفرد الصمد العدل الحكم ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ (الأنعام: 18).

أما والله إنّ الظلم شؤمٌ

وما زال المُسيء هو الظلومُ

إِلى الديّان يومَ الدين نمضي

وعند الله تجتمعُ الخصومُ!

إن العدالة الانتقالية هي الضمان الحقيقي للعبور الآمن إلى التعافي المبكر والقدرة على البناء وانخراط الجميع في ميدان العمل المثمر، وصناعة مستقبل البلاد التي أنهكتها الحروب وفتك بها الظلم، وتركها يبابًا لا قدرة لها على الوقوف على قدميها إلا بجناحين من الحب والعدل.

الكارثة الكبرى في الحالة السورية كانت أن الضحية والجلاد يُنظر إليهما على أنهما من أرض واحدة وأن انتماء وطنيا واحدا يجمعهما (الفرنسية) فلسفة الاستبداد في المجتمعات الإنسانية

الاستبداد هو الوجه الآخر للظلم، وقد وصف محمد الغزالي حال المجتمعات التي يسود فيها الاستبداد فقال "إن التجمعات البشرية السوية فيها رجال كثيرون يوصفون بأنهم قمم، أما البيئات المنكوبة بالاستبداد فدجاج كثير وديك واحد"، وقد لخص عبد الرحمن الكواكبي الحال في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، وهو أحد أهم رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، فقال "وباء دائم بالفتن وجدب مستمر بتعطيل الأعمال، وحريق متواصل بالسلب والغصب، وسيل جارف للعمران، وخوف يقطع القلوب، وظلام يعمي الأبصار، وألم لا يفتر، وصائل لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي".

إعلان

وها نحن اليوم نسعى للنهوض فنتعثر بالديكة التي تكاثرت وسط الدجاج، ويبدو أن طريقنا نحو القمم طويل! لكن قصة السوء الخاصة بنا انتهت، ولا مكان لقصص سوء غيرها، فقد امتلأت صفحاتنا بغبار السوء حتى كدنا نختنق، وعزمنا بعد اليوم على البدء بخط حكايا الفرح وتطريز قصص الأمان والسلام.

هل يجتمع الإسلام والاستبداد في آن واحد؟

يُنسب إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال "إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكّر قدرة الله عليك". وهذا الأمر ينسجم انسجامًا تامًّا مع ما دعا إليه الإسلام من ضبط للنفس وتهذيبها لا سيما حين يكون المرء في موقع المسؤولية، إذ تزداد حساسية الناس ومراقبتهم لتصرفاته، وتعظم توقعاتهم منه لتحقيق العدل والمساواة في ما بينهم، غير أن كثيرًا من البشر يطغون إذا ما صاروا في موضع السلطة فيميلون إلى الغرور واعتماد البطش والظلم والاستبداد وسيلة لتثبيت الحكم، بعيدًا عما دعا إليه الإسلام من تعاليم عظيمة تضمن حقوق الأفراد جميعًا وتكفل بناء مجتمع سويّ قائم على الأخلاق والمبادئ التي توفر سعادة الجميع من رئيس ومرؤوسين.

ولا يحتاج المرء إلى إعمال عقله وإجهاد نفسه ليعرف موقف الإسلام من الظلم والاستبداد، ومن جميل ما قاله الغزالي في هذا الموضوع في كتابه "الإسلام والاستبداد السياسي" إن "الإسلام والاستبداد ضدان لا يلتقيان، فتعاليم الدين تنتهي بالناس إلى عبادة ربهم وحده، أما المراسيم والاستبداد فترتد بهم إلى وثنية سياسية". وقد وصف الكواكبي الاستبداد بقوله إنه "أعظم بلاء يتعجَّل الله به الانتقام من عباده الخاملين، ولا يرفعه عنهم حتى يتوبوا توبة الأنفة". وحين سئل عن سبب ابتلاء الله الناس بالاستبداد أجاب:

"إن الله عادل مطلق لا يظلم أحدًا، فلا يولّي المستبد إلا على المستبدين. ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقق لوجد كل فرد من أسراء الاستبداد مستبدًّا في نفسه، لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم، حتى وربه الذي خلقه تابعين لرأيه وأمره".

يأخذنا كلامه إلى مطارح عميقة لنحاكم أنفسنا، فالحديث "كيفما تكونوا يولّى عليكم"، على ضعفه وإخراجه من دائرة الأحاديث إلى مصاف الحكم، يوافق منطق الحياة، فالمستبد يستمد قوته وجرأته من الرعية الخانعة، وظلم المستضعفين، وصمت الشاهدين.

مغادرة البلد أو البقاء فيه لم يكن معيار صدق على وطنية الأفراد وثوريتهم وإن نقاشا كهذا اليوم ليس سوى فتنة سيطفو نَتَنُها على السطح سريعًا (الفرنسية) الاستبداد ما بين ظلم الأشرار وصمت الأخيار

يقول مارتن لوثر كينغ الابن "إن المأساة الحقيقية ليست القمع والقسوة التي يمارسها الأشرار، بل الصمت الذي يُبديه الأخيار إزاء ذلك. إن مشاهدة الظلم وعدم القيام بأي شيء يُعدّ مشاركة في هذا الظلم، لأن الشر لا يعتمد على قوته الذاتية، بل على جبن أولئك الذين يرفضون مواجهته".

إعلان

وهذا ما نسميه الخذلان القاتل للضمير والوجدان، وهو العجز بوجهه الآخر، فمن ذا الذي يستطيع أن يواجه سلطات تهدده بأبشع أنواع التعذيب والتنكيل إن هو قام لنصرة أخيه؟ تبدو هذه المعادلات خارج نطاق العقل والاستيعاب، لكن شعوبنا العربية عاينت هذه المشاعر طوال سنين، وعانى الشعب السوري من ويلات العجز حينًا وويلات الخذلان أحيانًا أخرى.

إن الكارثة الكبرى في حالتنا السورية كانت أن الضحية والجلاد يُنظر إليهما على أنهما من أرض واحدة وأن انتماء وطنيًّا واحدًا يجمعهما! لكن الحقيقة كانت أبعد من ذلك بكثير؛ فالانتماء وحده لا يكفي للحكم على وطنية الإنسان، والصمت ليس معيارًا للوطنية في غابة عاث الوحوش فيها فسادًا حتى لفظهم ترابها لفظ عزيز مقتدر!

لا يمكننا في هذه المرحلة التاريخية المهمة من عمر بلدنا أن نسوّي بين ظلم الأشرار وصمت الأخيار، وكلنا نعلم أن صمت الأخيار كان ثمن حياة عائلات برمّتها، ولم يكن غاية بحد ذاته، وكلنا نعلم أن مغادرة البلد أو البقاء فيها لم يكن معيار صدق على وطنية الأفراد وثوريتهم، وإن نقاشًا كهذا اليوم ليس سوى فتنة سيطفو نَتَنُها على السطح سريعًا ليجرف الأخيار قبل الأشرار.

كل سلطة قامت على الاستبداد على مر التاريخ عادت على الخلق بالويلات والمصائب (الأناضول) الثورة والمزاودات الوطنية

اشتعلت ساحات النقاشات السورية بعد انتصار الثورة بالتخوين والاتهامات والمزاودات الوطنية؛ من الثوري الحقيقي؟ ومن الثوري المزيف؟ وبناء على ماذا؟ وكيف؟ وما الجدوى الآن من هذه النقاشات والجدالات العقيمة التي لا طائل منها سوى زعزعة الصفوف وتصدير بعض الوجوه على حساب أخرى!

يقول آن لاندرز "النضج يعني أن تكون قادرًا على تحمُّل الظلم دون أن تتحوّل في نهاية المطاف إلى شخصٍ ظالم"؛ أي أن ترفع الظلم عن نفسك وغيرك وتحافظ على إنسانيتك مهما حاولوا تشويهها في عينيك، أن تستطيع أن تقف مجددًا لتنظر في وجه من ظلمك وتسلّمه إلى أيدي العدل بقلب راض ومطمئن، أن تكبح في نفسك جماح الحقد والرغبة في الانتقام إيمانًا بأن العدالة ستأخذ مجراها، وفي ذلك يقول غاندي "إن السلام الحقيقي لا يتحقق إلا بالشجاعة اللازمة للوقوف في وجه الظلم. والسلام لا يعني مجرد غياب الصراع، بل يعني وجود العدالة أيضًا".

إعلان

والإيمان بالعدالة الإلهية يأخذنا إلى التسليم بأن حقًّا من حقوق العباد لن يضيع عند الله:

وما من يد إلا يد الله فوقها

ولا ظالم إلا سيبلى بأظلم

لذا لا بد حين تقوى الذراع وتنهض الهمم لتقوم بالبلاد أن تستحضر قول الشاعر:

لا تظلمنَّ إِذا ما كنتَ مقتدرا

فالظلمُ مرتعُه يفضي إِلى الندمِ

تنامُ عينكَ والمظلومُ منتبهٌ

يدعو عليكَ وعينُ اللّهِ لم تنمِ

هل الاستبداد صفة ملازمة للحكام؟

يقول الشاعر الأموي عمر بن أبي ربيعة "إنما العاجز من لا يستبد"، فهل بات الاستبداد لزامًا على كل مقتدر ذي سلطة مهما صغرت أو كبرت، في سياق العشق والسياسة على حد سواء؟!

من يطالع صفحات التاريخ يميز بين الحكم القائم على الاستبداد والحكم الذي يستمد شرعيته من رضا الشعوب ومحبتها ويقوم على توفير منافعها وتسيير مصالحها، وكل سلطة قامت على الاستبداد على مر التاريخ عادت على الخلق بالويلات والمصائب، ويزداد الشعور بالسوء نحو نتائج الاستبداد كلما اعتقد المستبد أنه الصواب المطلق، كفرعون حين قال لقومه: ﴿ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد﴾ (غافر: 29).

فالمستبد في هذه الحال يعتقد مطلق الصواب في نفسه ورأيه بلا شك ولا جدال! وهذا ديدن الطغاة على مر العصور. ولعل أسوأ مستويات الاستبداد ومراتبه وأشدها هي السلطة المطلقة للفرد الذي يرث عرش أبيه القائد الحاكم المسيطر على جيش حائز على قبول السلطة الدينية، والنموذج السوري المدحور أفضل مثال على ذلك!

جاء في كتب طبائع الاستبداد أنه لو كان الاستبداد رجلًا وأراد أن ينتسب لقال "أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة، وأخي الغدر وأختي المسكنة، وعمي الضر وخالي الذل، وابني الفقر وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب، أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال".

أما الأمة إذا ما خنعت للمستبد وخضعت له فينطبق عليها قوله "إن الأمة إذا ضربت عليها الذلة والمسكنة وتوالت على ذلك القرون والبطون، تصير تلك الأمة سافلة الطباع، حتى إنها تصير كالبهائم، أو دون البهائم، لا تسأل عن الحرية، ولا تلتمس العدالة، ولا تعرف للاستقلال قيمة".

إعلان

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات اجتماعي من الظلم ن الظلم الذی ی ما بین

إقرأ أيضاً:

معالم في طريق استقرار الحكم في السودان

أ / محمد علي طه الملك
خبير قانوني وقاض سابق بالمحاكم السودانية

سلسلة مقالات من (1 إلى 10)
إن تجاوز أزمة الحكم ومعضلاته في السودان مقدور عليه لو صدقت النوايا، فهنالك العديد من النظريات في العلوم السياسية ، وتطبيقات الحوكمة ، ونظم الدولة يمكن بها حل إشكالات الدولة المركزية في السودان ، ولكن لم يعد سرا عند كافة السودانيين أن لا استقرار ولا نجاح ولا استدامة لنظام حكم في السودان ، ديمقراطيا كان أو دكتاتوريا ، فدراليا كان أو مركزيا ، ما لم تحل جذريا مشكلات هوامشه ويعاد النظر في بنيات الدولة ومؤسساتها الموروثة من الاستعمار ، ومثلما هي واضحة مشكلات تلك الهوامش فإنها أيضا متباينة من حيث مسبباتها ودرجات تعقيداتها ، فإن كانت أبعادها في الشرق والي حد كبير في الشمال القصي
تعود لما هو ثقافي وتنموي ، فإنها تعود في الغرب والنيل الازرق لما هو إثني وتنموي وثقافي وبيئي ، ولعل العقدة الكأداء التي تحول دون العبور الآمن للحلول بوجه أكثر خصوصية في هذه الآقاليم ، أن الحلول يجب أن تأتي بتوافقات من مكوناتهم الاجتماعية قبل أي جهة سياسية أو رسمية أخرى ، وهنا تكمن العلة ، لآن ذلك يعني أن الكيانات المتساكنة في أقاليم الصراعات يقع عليها العبء الآكبر، نحو تسكين وترويض قناعات مكوناتهم نفسها في قبول الآخر والتعايش مع حقائق البيئة التي تفرض ذاتها على الآزمة لحين تجاوزها بالتنمية المدروسة ، بمعنى أن الرغبة في التعايش وقبول الآخر المختلف اثنيا أو ثقافيا ، يجب أن تنبع منهم فيما بينهم قبل غيرهم ولن يكون ذلك ممكنا مالم تتولي نخبهم الاجتماعية بنفسها عملية التنوير، ورأب التصدعات فيما بينهم وصولا لتقصير ظل المعضلات ، حتى تصبح محصورة فيما هو تنموي أو تمثيل سلطوي ولكن في ظل التباغض الاجتماعي ، والفرز الإثني والثقافي الحاد ، والتنازع الهويوي الذي يحول التنافس على الموارد المحدودة الي حروب طاحنة، لن تنجح معها الخطط التنموية ولا التعايش السلمي المنشود، حتى لو عولجت معضلة تولى السلطة ، وما يثير الغرابة ويدفع المرء للظن بأن بلادنا محسودة ، أن مناطق النزاعات هي الآكثر ثراء من حيث تنوع مواردها ، والآكثر نفرا من حيث قواه العاملة ، والآكبر رقما من حيث اعداد الاثرياء فيه ، مع ذلك فلمكون الاجتماعي غير قادر على تقبل الآخر والتعامل معه بندية صحيح هنالك أخطاء استراتيجية ارتكبتها السلطات الحاكمة بمختلف سياقاتها وزمانها ولكن ليس صعبا الوصول لعلاجات ناجعة لمسائل الصراع حول السلطة كما نوهت في المقدمة ، غير أن الآهم التعويل على دور المكونات الاجتماعية المحلية ، وما يمكن أن تضطلع به من حيث تسكين ثقافة القبول بالآخر ، والاعتراف بالتنوع كميزة تعضد الثراء الاجتماعي وتصحح اختلالات الجينات الوراثية.
لذلك عندما اتجه الرأي نحو الاعتراف بالعدالة الانتقالية كآلية ، فلكونها الاقرب للمزاج الشعبي من حيث تمليك سلطة الحل للإرادة الشعبية ، عن طريق تحييد سلطة مؤسسات الدولة الرسمية ، ووضعها في حجر المتضررين واليائسين من عدالتها ، كثيرون ينظرون للعدالة الانتقالية وكأنها آلية هدفها محاكمة من ارتكبوا الجرائم في حق مجتمعاتهم فحسب ، بينما هي في حقيقتها آلية ذات فضاء يتجاوز مجرد محاكمة الجناة وجبر أضرار المتضررين ، إلي تقويم الوعي الاجتماعي ، عن طريق تسمية المشكلات ، اجتماعية كانت أو ثقافية أو سياسية أو بيئية أو تنموية ، وربط ذلك بما تطلبه من اعادة النظر في بنية الدولة نفسها ومؤسساتها ، ومدى تناسقها مع إرادة من تحكمهم ، لقد أوجدت هذه الآلية لكي تعالج مشكلات الدول مؤسساتها وتشريعاتها ومجتمعاتها المأزومة ، بغية إعادة الصياغة والبناء وصولا للاستقرار والسلم الاجتماعي اللذان يشكلان كلمة السر في نجاح مشروعات التنمية والنهوض بالدولة وإنسانها.
تجارب الحكم اللامركزي
كثيرون في ظنهم أن تجربة الحكم الفيدرالي في السودان تجربة حديثة على مكوناته السكانية ، غير أنها في الواقع ممارسة غائرة في تاريخ نظم الحكم في السودان ، ولعل الباحث في نظم الممالك والسلطنات القديمة ، يتلمس بجلاء صيغ الفيدرالية التي سادت ونظمت مرافق الدولة في أزمانهم ، فلو نظرنا لشكل ونظم الحكم التي سادت أوان العصر المروي ، نجد أن شكل الدولة مؤسس على الفيدرالية علي أكمل وأقوم أشراطها ، وكذا الحال في المالك المسيحية التي سادت في القرون الوسطى ، وقد تأست السلطنة الزرقاء بسابقاتها وتبنت بدورها النظام الفيدرالي.
السودانيون إذن كانوا الآسبق في تجارب الحكم الفيدرالي ، و لم يألفوا نظام الدولة المركزية إلا بعد غزو حاكم مصر محمد علي باشا للسودان عام 1821م ، وتأسيس حكمدارية تتبع الباب العالي حسبما تفيد المصادر، من بعدهم مضت الدولة مركزية في ظل كل العهود التالية ، استعمارية كانت أم وطنية ، وعلى الرغم من مركزية الحكم التي سادت ، لم تخلو فترات الحكم من إتباع أنماط من النظم الإدارية اللامركزية ، بغية تقصير الظل الإداري ( نظام المأموريات والمديريات الإدارية) اضطروا إليها لاتساع الرقعة الجغرافية في البلاد فضلاً عن تكوينه الاجتماعي وتعدده البيئي وتنوعه الثقافي.
مع بدايات العهد المايوي 1969م ، نحت الدولة نحو اللامركزية الإدارية ، وشرعت قانون الحكم الشعبي المحلي ، كان من ابرز سماته جعل المديرية وحدة حكم بشخصية اعتبارية ، لها موازنة وهيئة حاكمة هي المجلس الشعبي التنفيذي ، هذا المجلس له سلطة إنشاء مجالس شعبية تحتية ، مثل مجالس المناطق ، المدن والآرياف ، ومجالس ا آحياء والقرى والفرقان ، والمناطق الصناعية ، لهدفين هما تحقيق قدر من اللامركزية ، وتفعيل مبدأ المشاركة الشعبية في تقديم الخدمات العامة ، و في قمة المجلس الشعبي التنفيذي محافظ يعين بواسطة رئيس الجمهورية.
بعد اتفاقية اديس اببا 1972م ، صدر قانون الحكم الذاتي للمديريات الجنوبية ، وحمل نصا في الفصل الثاني منه ، قضى بأن تصبح المديريات الجنوبية للسودان إقليماً يتمتع بالحكم الذاتي الإقليمي ، في نطاق جمهورية السودان الديمقراطية ، يعرف بإقليم جنوب السودان. ُكونت له سلطة تنفيذية للحكم ، جلس على قمته رئيس المجلس التنفيذي العالي ، الحاكم المسؤول عن حسن إدارة الإقليم ، وهيئة تشريعية ُعرفت بمجلس الشعب الإقليمي لجنوب السودان ، كان معنيا بصنع السياسات العامة في الإقليم ، بهذه الصيغة أصبحت البلاد تدار بنمطين من الحكم ، حكم لامركزي في الشمال ، يدار تحت قبضة مركزية من العاصمة بجانب حكم إقليمي في الجنوب ، وبدا الآمر مربكا من حيث التكييف الإداري الدستوري لشكل الدولة ونظام الحكم ، فلا هو نمط فيدرالي كامل الشروط ، ولا هو لامركزية إدارية بحتة ، الآمر الذي حدا بفقهاء الإدارة إلى القول أن مثل هذا الهيكل في دولة موحدة ، يعتبر أمراً لا نظير له في العالم ، ولكي ينم تجاوز هذه الازدواجية المربكة ، فضلاً عن أسباب سياسية أخرى ، أعاد النظام هيكلة إدارة الحكم في الشمال تحت قانون الحكم الإقليمي 1980 بموجبه أصبح للحكم ثلاث مستويات ، تمثلت في الحكومة المركزية ، حكومات الآقاليم ومجالس المناطق، و أعيد توزيع السلطات والموارد بين المركز والآقاليم ، وبين الإقليم والمجالس المناطقية التابعة له ، كان هذا الانتقال لنمط الحكم الإقليمي ، مرانا تطبيقيا ساعد إلى حد كبير ومهد الطريق لتبني النمط الفيدرالي بعد وصول الإنقاذ لسدة الحكم بانقلاب عسكري 1989م ، اصدر في العام 1991م المرسوم الدستور ، الذي تأسس بموجبه أولى بوادر الحكم الفيدرالي ، حيث أخذت الدولة نمط الشكل الفيدرالي ، وأستمر الحال حتى صدور الدستور الانتقالي عقب اتفاق السلام عام 2005م ، وهو الدستور الذي أضفى قدرا من الشرعية الدستورية للدولة ونظام الحكم ، غير أن واقع الممارسة التطبيقية للنظام الفيدرالي حتى يومنا هذا ، بث في روع المواطنين مفهوما مشوها للفيدرالية ، أسهمت فيه الدولة بطبيعة تنظيمها السياسي الشمولي ، وتوجهاته الاقصائية التي رهنت المشاركة في إدارة الدولة ، بضرورة الولاء لتنظيمها السياسي والإذعان لسياسته بالتبعية ، ولو أنها ركنت بجدية وأذعنت في تطبيقاتها لشروط الفدرالية بحيادية وتجرد وطني ، لجنبت نفسها والبلاد الكثير من المشاكل والمزا لق السياسية ، فالنظم الفدرالية وجدت أصلاً لمعالجة إشكاليات الدولة المركبة من عدة قوميات ، حتى تجد منفذاً قانونياً تستطيع تلك القوميات من خلاله التعبير عن ذاتيتها ، وتحافظ على هويتها الثقافية ، وتنمي مواردها وإنسانها بقدراتها وإرادتها، وذاك عين ما استقر عليه التعريف القانوني للفيدرالية من حيث النظرية :
Federalism is a system of government in which the same
territory is controlled by two levels of government. Generally, an overarching national government governs issues that affect the entire country, and smaller subdivisions govern issues of local concern. Both the national government and the smaller political subdivisions have the power to make laws and both have a certain level of autonomy from each other. The United States has a federal system of governance consisting of the national or federal government, and the government of the individual states.
إذاً وكما قيل ـ فإن مقصد ( الوحدة في التنوع ) ، يتحقق في نظام الحكم الفيدرالي الذي يبسط السلطة أفقياً بخلق وحدات جغرافية ، ذات صلاحيات دستورية واسعة في اتخاذ القرارات ، في ذات الوقت يضمن تماسك الدولة واستقامة أمرها داخل منظومتها الاتحادية فالنمط الفيدرالي أسلوب حكم ومنهج إدارة ، يتم بموجبه نقل كامل لسلطات الحكومة ، من حاضرة البلاد إلى وحدات جغرافية ، تأوي داخل حدودها مجموعة من السكان ، بينهم تجانس عرقي أو ثقافي ومصالح مشتركة ، لها ارتباط وجداني بذلك الحيز الجغرافي ماضياً وحاضراً ومصيراً ، تبعاً لهذا فالفيدرالية نوع من اللامركزية السياسية أو التخويلية ، لكونها وضع دستوري يقوم على توزيع الوظائف الحكومية المختلفة ، التشريعية والتنفيذية والقضائية ، بين الحكومة المستقرة في العاصمة وحكومات أخرى في الوحدات الجغرافية المكونة للدولة .
أخلص للقول ـ أن قصور التجربة في الاستحواذ على رضا السودانيين بالعموم ، يعود لعيب تطبيقاتها المشوهة ، في ظل شمولية التنظيم السياسي المهيمن على الدولة ، عمل خلال ثلاثة عقود بعناد وجرأة في الاستحواذ على السلطة في المركز والولايات ، محتالا علي الإرادة الحرة لخيارات الجماهير، لكي تبقى السلطة والثروة رهينتين بأيديهم ، يمنحوها و يمنعوها كيف شاؤا، الآمر الذي أطاح بثقة المحكومين في الحاكمين ، ودفعت بعض بؤر الهامش لاتخاذ المقاومة المسلحة منهجا لاقتضاء الحقوق ، وفي ظل اليأس وتوهان الآمل في صلاح الحال ، وانهيار الثقة وكدر الآنفس وضياع الآرواح ، ذهبت بعض أصوات الهامش إلى حد الكفر بوحدة الدولة ، والمطالبة بإقرار مبدأ الوحدة الطوعية ، تماثلا بما أقرته نيفاشا من تقرير مصير وهو المطلب الذي شرع النظام الفدرالي في الآساس لتفاديه عن طريق ردم الهوة وتجسير المثالب الداعية إليه بين المركز وهوامشه .
من النقاط الهامة التي تجدر الإشارة إليها ، أن تطبيق الفيدرالية على وجهها السليم ، يمنح المجالس التشريعية في الوحدات الجغرافية إقليمية كانت أم ولائية ، كامل الحق في تشريع القوانين التي تعبر عن إرادة جماهيرها وخصوصيتهم الثقافية ، الآمر الذي يحول دون فرض الدولة الاتحادية لإيديولوجية ما بصورة شاملة .
على ضوء ما استعرضته عليكم بعالية انتقل بكم لرؤيتي حول معالم الطريق نحو الدولة الفيدرالية وهياكلها .
يتبع >>>>>>>> (2)

medali51@hotmail.com  

مقالات مشابهة

  • ما يوجد في البئر.. يخرج مع الدلو
  • أحمد السقا يرد للمرة الثالثة على انتقادات المنشور المثير للجدل
  • المليشيا الإرهابية تركب التونسية!
  • الديمقراطية في الأردن: بين وهم التحديث وحقيقة الاستبداد المقنّع
  • السقا يرد على منتقدي منشوره السئ: «مش أنا.. ده واحد شغال معايا»
  • لأبراهام مانغيستو الذي أفرجت عنه حماس اليوم قصة مختلفة... فما هي؟
  • نائل البرغوثي…صاحب أطول مجموع مدة اعتقال بسجون الاحتلال يتنسم الحرية اليوم
  • معالم في طريق استقرار الحكم في السودان
  • سرّ جديد عن اغتيال نصرالله.. من الذي خطط لذلك؟
  • محافظ الدقهلية: ضبط 375 كيلو لحوم ودجاج غير صالحة