في قراءات الحزب الشيوعي السوداني للمنعطفات (الثورية)
تاريخ النشر: 24th, January 2025 GMT
طارق بشري (شبين)
منذ أرسطو، بدا أنه من المستحيل الكتابة عن المجتمع دون الكتابة أيضًا عن الكتابة عن المجتمع. و هذا يستدعي المنهج للكتابة حول قضايا الشعب و حول ما كتب حول ما كتب وفي كلا الحالين تحضر السياسة
، ذلك أن الجدل حول المنهج هو أيضًا الجدل حول النظرية و حول المجتمع المتخيل و بمعنى آخر في سياقنا التاريخي راهنا نود أن نستدعي بعض من الكتابات( نموذجا لها (بيانات و دورات) اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني
حول الانعطافات الثورية التاريخية و التي انتقل بها عبرها الشعب من سلطة الجنرال و الحزب الواحد -كنظام سياسي استبدادي - إلى سلطة انتقال ديمقراطي مدني عبر ثورة أو انتفاضة (حتى لو لم تكتمل مراميها الاستراتيجية في هزيمة الحكم العسكري).
ابتدينا في هذا المقال من المنعطفات الثورية(وفق المحدد لها أعلاه) الأحدث أي من ثورة ١٩ ديسمبر٢٠١٨ الى الأقدم أكتوبر ١٩٦٤ ووفق مما توصلنا اليه عبر النت من وثائق و التي بعضها تعذر الحصول عليها.
وفق البيان الأول للحزب- ٢ يوليو١٩٨٩ و الذي حدد فيه موقفه الاستراتيجي تجاه انقلاب الجبهة الاسلامية القومية في ٣٠ يونيو ١٩٨٩ والذي أشار فيه ضمن ما أشار في فقرته الاخيرة- في تحليل تاريخي ملموس عن ماذا اسهمت الديمقراطية في تأسيس مصالح الوطن و السيادة و مصالح الأغلبية مع نقد لبعض ممارستها و تقول الفقرة: "إن النضال من أجل استعادة الديمقراطية والحقوق، كما أكدت التجارب، لا ينفصل مطلقاً عن النضال من أجل السلام وتحسين حالة المواطنين المعيشية، فليكن برنامج الجماهير في عملها اليومي، رص الصفوف للنضال من أجل الديمقراطية والسلام والخبز".
و عبر تراكمات ( كمية) نضالات متعددة المشارب خاضتها قوى مدنية و سياسية و أحيانا (عسكرية) في سبيل استعادة الديمقراطية و في سيمفونية جدلية النضال في الداخل بكونه الأساسي والجوهري و مع نضالات السودانيين في الاغتراب والمهجر بكونها عامل ثانوي و عبر ثلاث عقود من الزمان هي عمر انقلاب ٣٠ يونيو هي ذاتها عمر النضال ضده.و في مرحلة محددة من هذا التاريخ وتحديدا في يونيو ٢٠١٣ أصدر الحزب بيانا(للناس) يشير في جوهره أن النضال الوطني والديمقراطي في طريقه ان يقفز الى مرحلة نوعية بتغيير النظام (نظام الانقاذ) بعد أن تراكمت النضالات الكمية و في منتصف يونيو يذهب المتحدث باسم الحزب آنذاك يوسف حسين في ندوة بالجريف إلى القول: (" إن هناك احتجاجات شعبية قادمة وإن احتجاجات العام الماضي هي عبارة عن بروفة لها، وتوقع ذهاب النظام بهذه الثورة الشعبية").
ففي هذا السياق الاجتماعي الطبقي السياسي تتبدا بكون ان استراتيجية و تكتيك الحزب في النضال هي تتراي بكونها تهدف إلى تجاوز نظام (الانقاذ)نظام الحزب الواحد إلى نظام ديمقراطي متعدد وهو ذاته تجاوز لسياسات النيوليبرالية و منتوجاتها من تعميق التبعية و الافقار و التنمية الرثة و الاقتصاد الاستخراجي…الخ و هذا هو طريق التحرر صوب الحرية والسلام والعدالة.و بهذا يفهم التحليل الملموس للواقع الملموس و الذي يسم الخطاب السياسي للحزب في تلك المنعطفات الثورية. بنوع النضال لتجاوز نظام الانقاذ يتحدد طبيعة النظام الاجتماعي والطبقي الذي يليه في الانتقال الديمقراطي و في هذا يمكن قراءة تشديد الحزب بالنضال الجماهيري القاعدي بدل التفاوض بهذا الشكل او ذاك مع نظام الحزب الواحد و مصالحه الاجتماعية والطبقية.فالثورة أو التغيير الجذري هو -مفاهيمياعند هذا الخطاب للحزب- الكلي بما تتمثله اكبر قاعدة جماهيرية و بهذه القاعدة الجماهيرية و لصالح اغلبيها و بما هي نفي لنقيض مصالحها أي نفي النظام لا التفاوض معه بما هو الجزئي بما يعني تلك الهندسة السياسية التي يميلها(المجتمع الدولي على سبيل تبسيط المصطلح)مع جزء من النظام الحاكم والمعارضة.
وهنا بتبدي لنا أن دورة اللجنة المركزية في يونيو ٢٠١٣ بكونها العقل الجمعي للحزب (الدورة حصيلة نقاش موسع ضم قيادة الحزب المركزية اضافة الى قيادات من فروع المدن و الريف كانت لها القدرة في التنبؤ( بما قد يأتي بعد ٣ أشهر من قولها) بانفجار شعبي يتم عبره المحاولة النوعية لتغيير النظام الاستبدادي بقيادة المؤتمر الوطني و بالفعل تاريخيا تفجرت ثورة سبتمبر ٢٠١٣ و التي لم تنجح في تحقيق القفزة النوعية للنضال الكمي المتراكم منذ ما قدره ٢٤ عاما(١٩٨٩٢٠١٣) و الا انها كانت لها مساهمتها و التي لا تقاس في تحقيق المحاولة الثانية في ١٩ ديسمبر٢٠١٨ و التي نجحت في تغيير رأس النظام الاستبدادي و التحول نحو الانتقال الديمقراطي.
دورة اللجنة المركزية الصادرة في أكتوبر ٢٠١٧ و اغسطس ٢٠١٨ و و مبادرة الحزب بمظاهرة ١٦ يناير ٢٠١٨في وسط الخرطوم - بكونها تمثل العقل الجمعي للحزب و قراءته لمنعطف ثوري آخر قادم كانت هي الاقرب للواقع الملموس حيث بالفعل التاريخي -من المهم وفق التنظير الماركسي لا تفسير و تحليل الواقع الملموس(فيما يسميها الراحل محمد ابراهيم نقد الماركسية و قدرتها في القراءة الباطنية للواقع السوداني) بل العمل على التغيير
وفق بيان الحزب(الخرطوم) الصادر في ٢٢يناير٢٠١٨ حيث يقول :"في ١٦ يناير ٢٠١٨ والذي سيخلده التاريخ كيوم مجيد من أيام الثورة السودانية الخالدة، حيث تدافع فيه الآلاف من المناضلين/ ات من كل أنحاء العاصمة في موكب سلمي مهيب، ومحدد المعالم، بعد إتخاذنا لكافة الإجراءات القانونية التي حددها الدستور والقانون لتنظيم المواكب والمسيرات السلمية بواسطة الأحزاب والقوى السياسية المسجلة، وجاءت الخطوة على أعتاب منعطف تاريخي بالغ الخطورة على حياة الملايين من الفقراء ومحدودي الدخل …"(https://shorturl.at/MmsZv الحوار المتمدن عدد ٥٧٨٦). هذه كانت مبادرة من الحزب بالعاصمة وفق تحليل ملموس و محدد لطبيعة الازمة او المنعطف الثوري و تاريخيا كانت لها ما بعدها في اقل من ١١ شهرا ببدء المظاهرات المتعددة الجنينية لتفجير ثورة١٩ ديسمبر ٢٠١٨ و نجاحها في إسقاط رأس النظام في ١١ أبريل ٢٠١٩. بيان المكتب السياسي للحزب في ٢٢ ديسمبر ٢٠١٨ يذهب وفق تحليله إلى القول أكثر:"إننا في الحزب الشيوعي وحلفائنا في قوى الإجماع قراءتنا لهذا النظام وطبيعته الطبقية نرى أن لا مخرج من هذه الازمة الشاملة الا باسقاط النظام وتفكيكه وتصفيته وفتح الطريق لفترة انتقالية وعقد مؤتمر دستوري بنهاية الفترة الانتقالية ولهذا ندعو جماهير شعبنا وعلى رأسها القوى صاحبة المصلحة في التغيير الجذري الى مواصلة الخروج للشارع والتعبير عن رفضهم لهذه السياسات وصولا الى الاضراب السياسي والعصيان المدني حتى اسقاط النظام.ندعو جميع القوى السياسية والديمقراطية الحادبة على مصلحة الوطن لتكوين أوسع جبهة لمناهضة النظام والاصطفاف لانجاح الانتفاضة والعصيان المدني للاطاحة بالنظام" (الحوار المتمدن-العدد: ٦٠٩١).
من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني : الصراع الفكري ١٩٦٣ ١٩٦٦. تاج السر عثمان : الراكوبة ٥ أكتوبر ٢٠١٥ على الرابط (https://shorturl.at/Jo38J)يشير تاج السر الي :" من أهم دروس ثورة أكتوبر: تجربة الإضراب السياسي العام، وكان أول من طرح فكرته الحزب الشيوعي السوداني، في بيان المكتب السياسي للحزب ” حول الإضراب السياسي العام” في أغسطس ١٩٦١، و الذي نشر في العدد ( ١٠٩) من مجلة الشيوعي ١٩٦١م.والجدير بالذكر أن الحزب الشيوعي طرح فكرة الإضراب السياسي لأحزاب المعارضة، ولكنها لم تتجاوب معها، وبعدها انسحب الحزب من جبهة أحزاب المعارضة، وطيلة الثلاث سنوات ظل الحزب الشيوعي يعمل بصبر مع الحركة الجماهيرية إلى مستوى تنفيذ الاضراب السياسي ، إلى نقطة الانفجار الشامل".
إذن هنا يتبدي لنا أن فكرة التكتيك السياسي(الاضراب السياسي) و التي طرحها الحزب و التي فيما بعد تم ممارستها من قبل القوى السياسية و المدنية لتغيير الأنظمة العسكرية الثلاثة (عبود(من ١٩٥٧١٩٦٤) و نميري(من ١٩٦٩١٩٨٥) و البشير(١٩٨٩٢٠١٩)كانت جزء من القراءة الباطنية وفق المنهج الماركسي و التي أصبحت حقيقة تاريخية في جدلية بين ثلاثي السلطة و الحكم العسكري و الانتقال الديمقراطي و يلاحظ ايضا ان القوى السياسية في المبتدأ تبدي شكوكا (معرفية و في ذات الوقت لا تنفصل عن القراءة الأيديولوجية لتلك الأحزاب)و الا انها في تاريخ لاحق تتبني الفكرة المطروحة من الحزب.و في اقل من شهرين من طرح فكرة الاضراب السياسي و بالتحديد المعرفي الذي كتب حولها( و فكرته الجوهرية هي- نتيجة لملامسة الواقع لا عبر النقل المفاهيمي الأقرب لممارسة العقل السلفي- توصل الحزب انذاك الى شعار الإضراب السياسي العام، الذي يجمع بين العصيان العام الذي طرحه الزعيم الهندي غاندي، والإضراب العام الذي طرحه لينين، ل يطبقه وفق السياق الاجتماعي السياسي سودانية بشكل إبداعي ولف بين العصيان والإضراب والتظاهر). انفجرت ثورة أكتوبر ١٩٦٤ متبنية ذات التكتيك السياسي لهزيمة النظام العسكري وتأسيس حكومة الانتقال الديمقراطي.
ذهبت دورة اللجنة المركزية في قراءتها لأزمة نظام المؤتمر الوطني وبخاصة بعد انفصال الجنوب إلى تحليل الاشتراطات و الحالة السياسية والاقتصادية و ملامح تمظهر الأزمة في البنية الداخلية والاجتماعية للنظام والحزب الحاكم وهي تلامس معاناة النظام من داخله" والصراعات التي بدأت تنخر كالسوس في عظامه . صراعات امتدت إلى قمة معظم الولايات ، بل دخلت أهم مؤسسات حمايته مثل الجيش والأمن واتهمت مجموعة قائده متنفذة فيها بالقيام بانقلاب عسكري ضد النظام. وقامت مجموعة في قمة قيادته بما سمته المعركة من أجل الإصلاح بقيادة ٣١ عضواً . بينهم أعضاء في اﻟﻤﺠلس الوطني وعلى رأسهم رئيس كتلة نواب المؤتمر الوطني وغيرهم برفع مذكرة احتجاج على سياسات النظام. وهذا عامل هام من عوامل نضوج الأزمة".
من كل تلك الملامسة والدراسة للواقع السياسي توصلت الدورة إلى أن الحل يكمن في إسقاط النظام بالعمل الدؤوب والمثابر لتكوين أوسع جبهة ممكنة ضد النظام. مهمة الحزب الشيوعي تكمن أساساً في إنضاج العامل الذاتي للانتقال من مرحلة السخط الجماهيري إلى تصعيده والتحرك به ومعه إلى الأمام بالعمل المثابر مع الجماهير في النضال اليومي عبر قضاياها اﻟﻤﺨتلفة.و تذهب و تقول ايضا في اصدارية دورة لاحقة في ذات العام :"لم تكن اللجنة المركزية لحزبنا ترجم بالغيب عندما توصلت في دورتها المنعقدة في يونيو ٢٠١٣ والاجتماعات الموسعة التي عقدت مع مسؤولي المناطق والمكاتب المركزية والمدن ومع المدن والقطاعات والطلبة لمقاومة الزيادات أن الهبة الشعبية أصبحت ماثلة .بل كان ذلك استقراء صحيحاً ومبكراً للواقع….."
بيان سكرتارية اللجنة المركزية٣٠ مارس ١٩٨٥يقول:"لقد استعادت جماهير العاصمة بسرعة فائقة قدراتها النضالية بعد حالة الانحسار التي أعقبت نهوضها عام ١٩٧٨ وتجاوزت كل الخسائر والضربات ومختلف أشكال الإرهاب وها هي تستعيد اليوم دورها القيادي الطليعي الذي تتطلع إليه جماهير الأقاليم وهي تنظم وتقود مظاهرات الاحتجاج في عطبرة وكوستي وسنار والقضارف ومدني وسنجة ومدن الغرب وتتطلع الجماهير في العاصمة والأقاليم إلى توحيد إرادتها وتكوين منبر لقيادة وتوجيه نضالها. وهذا يفرض على طلائع العمال والمهنيين والموظفين والمعلمين والفنيين في العاصمة، المبادرة بتعبئة القاعدة النقابية لدخول المعركة وتخطي القيادات الانتهازية عملية السلطة، وممارسة كافة أشكال التنسيق والتضامن النقابي دفاعاً عن حقوق ومطالب العاملين وعن الحريات النقابية والديمقراطية والإسهام في انتفاضة الشعب. ويفرض على جماهير الأحياء السكنية بعث تقاليدها وتجاربها في حشد قواها للمظاهرات والمواكب وحماية المتظاهرين وكشف عناصر الأمن والمندسين، ولشباب العاصمة أساليبه الشجاعة في الإثارة والخطابة وتوحيد شعارات وهتافات المظاهرات كيما تتخذ طابعها السياسي الشعبي السليم… قد دشنت انتفاضة مارس فترة جديدة في مسار الحركة الشعبية ودفعت حركة المعارضة السياسية خطوات إلى الأمام وشقت طريقها في الشمال لتلتقي مع حركة تحرير شعب السودان وذراعها العسكري في الجنوب في التوجه الحازم خطوة أثر خطوة نحو الإضراب السياسي والانتفاضة للإطاحة بحكم الفرد وتصفية مؤسساته واستعادة الحرية السياسية والسيادة الوطنية. وفي هذه الوجهة يفرض الواجب الوطني على أبناء الوطن في الجيش والبوليس والقوات النظامية ان ينضموا بسلاحهم. مازالت المعركة في بداية أطوارها ولن يستسلم السفاح نميري والقوى الاجتماعية المنتفعة بحكمه بسهولة، ومازالت تحت يده أجهزة قمع وإرهاب ومازال يعتمد على مساندة أمريكا التي لن تكف عن التآمر لتخريب انتفاضة الشعب وإجهاضها من الداخل أو قطع الطريق على انتصارها بانقلابات القصر المشبوهة" (https://shorturl.at/w0YS0)
و المفهوم الاسمنت والذي يربط الخطاب التاريخي للحزب - بما مررنا عليه من بيانات و دورات مركزية للحزب في هذه المقالة - و قراءته للمنعطف الثوري المحدد هو نقد ايديولوجيا السلطة الاستبدادية الحاكمة( عبود, نميري, البشير) - بما هي تشكيلة اجتماعية و طبقية محددة- لا من مواقعها هي بل من موقع
التموضع الأيديولوجي النقيض لها و الذي يعني استعادة الديمقراطية و السلام و العدالة و الذي يعني استعادة في القلب منها قوي العمل لحقوقها في الوجود القانوني و في التنظيم.و في هذا كان نقد مفاهيم الحلول الجزئية بما فيها التسوية والتصالح مع السلطة الاستبدادية و بما فيها اتفاقيات السلام المحددة (الجزئية) و من مواقع النقد الثوري النقيض كانت القدرة على قراءات التناقضات الاجتماعية و الطبقية الجوهرية والثانوية و بالتالي القدرة المحددة في التنبؤ بما قد يأتي من ثورة او انتفاضة شعبية محددة كما رأينا خلال المقال.
tarig.b.elamin@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الانتقال الدیمقراطی الشیوعی السودانی الاضراب السیاسی الإضراب السیاسی اللجنة المرکزیة القوى السیاسیة الحزب الشیوعی من أجل فی هذا
إقرأ أيضاً:
إصلاح النظام المصرفي السوداني: التحديات والفرص بعد الحرب
بقلم: عمر سيد احمد
مارس 2025
O.Sidahmed09@gmail.com
المقدمة
يُعتبر النظام المصرفي ركيزة أساسية لأي اقتصاد، حيث يسهم في تحفيز النمو، تنظيم العمليات المالية، وتوفير التمويل اللازم للأفراد والشركات.
في السودان، شهد القطاع المصرفي تطورات كبيرة منذ نشأته، متأثرًا بعوامل متعددة، أبرزها التغيرات السياسية، التقلبات الاقتصادية، والإصلاحات الهيكلية.
وخلال العامين الماضيين، تعرض القطاع المصرفي لأزمات حادة بسبب الحرب التي اندلعت في أبريل 2023، مما أدى إلى تدمير البنية التحتية للمؤسسات المالية، وتوقف عدد كبير من الفروع عن العمل. كما تراجع الشمول المالي، وفقد العملاء ثقتهم في المصارف، ما أدى إلى انهيار جزئي في العمليات المصرفية.
يستعرض هذا التقرير تطور النظام المصرفي السوداني، هيكليته الحالية، مدى التزامه بالمعايير الدولية، تأثير الحرب عليه، وأهم الأولويات لإصلاحه بعد الأزمة، بما في ذلك ضرورة التحول الرقمي، الالتزام بالحوكمة، ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
نشأة وتطور النظام المصرفي السوداني:
بدأ النظام المصرفي في السودان في أوائل القرن العشرين مع دخول البنوك الأجنبية، حيث أُنشئ فرع للبنك الأهلي المصري عام 1903، تلاه بنك باركليز عام 1913، بالإضافة إلى فروع لبنوك أخرى مثل بنك مصر والبنك الإثيوبي والكريديت ليونيه.
في عام 1959، تأسس بنك السودان المركزي ليكون الجهة المنظمة للقطاع المصرفي، والمسؤول عن إصدار العملة وإدارة الاحتياطي النقدي. بعد الاستقلال، شهد القطاع تطورات كبيرة، حيث تم تأميم بعض البنوك الأجنبية، وإنشاء مصارف حكومية وخاصة لدعم الاقتصاد الوطني.
في عام 1978، تم تأسيس بنك فيصل الإسلامي، مما أدخل النظام المصرفي الإسلامي إلى السودان. وفي عام 1983، بدأت الحكومة تطبيق أسلمة المصارف، ومع حلول 1990، أصبح النظام المصرفي السوداني إسلاميًا بالكامل، مما أدى إلى تحول المعاملات البنكية إلى صيغ التمويل الإسلامية مثل المرابحة والمضاربة، وغيرها بديلا لصيغ الاستدانة التمويل المرنة والمعروفة عالميا مثل السحب علي المكشوف والقروض بكل اشكالها وقد فرض تطبيق النظام الإسلامي تحديات في التعامل مع الأسواق المالية العالمية وتسبب مع أسباب اخري في ضعف النظام المصرفي الهش وعزلة من التعامل مع النظام المصرفي العالمي .
هيكلة وملكية المصارف في السودان حتى عام 2023، كان يوجد في السودان 39 بنكًا، تتوزع على النحو التالي:
- 15 بنكًا حكوميًا أو بشراكات حكومية.
- 24 بنكًا خاصًا تجاريًا بعضها فروع لبنوك إقليمية خارجية .
تخضع المصارف السودانية لإشراف بنك السودان المركزي، الذي يمنح الترخيص ويحدد السياسات النقدية ويصدر التوجيهات للبنوك التجارية ويراقب البنوك الي جانب دوره كمقرض اخيرر.
إلا أن عدم استقلالية البنك المركزي يجعله عرضة للتدخلات السياسية، مما يحد من فاعليته في الرقابة المالية، ويؤدي إلى ضعف الشفافية وغياب السياسات المستقرة التي تعزز ثقة المتعاملين مع البنوك والمستثمرين.
عدم التزام البنوك السودانية بمقررات لجنة بازل :تواجه المصارف السودانية صعوبات في الامتثال لمقررات لجنة بازل الخاصة بكفاية رأس المال، والتي تتطلب أن تحتفظ البنوك بنسبة 8%-12% من رأس المال مقارنة بالأصول الخطرة.
أبرز التحديات التي تمنع الالتزام بهذه المعايير:
1. انخفاض قيمة العملة الوطنية، مما أدى إلى تآكل رؤوس أموال البنوك.
2. أثر الحرب على القطاع المصرفي، حيث تعرضت البنوك لخسائر كبيرة وفقدت نسبة كبيرة من أصولها.
3. ضعف دور بنك السودان المركزي بسبب التدخلات السياسية، مما أضعف الرقابة المصرفية وتسبب في عدم استقرار السياسات النقدية.
دور الاقتصاد الموازي في ضعف النظام المصرفي السوداني
يُعد الاقتصاد الموازي من أكبر التحديات التي تواجه النظام المصرفي السوداني، حيث يسيطر على جزء كبير من النشاط الاقتصادي يقدر ب85 % من الاقتصاد الكلي مما يؤدي إلى ضعف دور المصارف في التمويل، وانخفاض نسبة الأموال المتداولة داخل النظام المصرفي الرسمي.
إن الحد من سيطرة الاقتصاد الموازي على النشاط المالي في السودان يمثل خطوة ضرورية لاستعادة دور النظام المصرفي، وزيادة فاعلية السياسات النقدية، وضمان استقرار الاقتصاد الوطني.
تشير التقديرات إلى أن 95% من الكتلة النقدية في السودان توجد خارج النظام المصرفي، مما يعني أن المصارف لا تتحكم إلا في 5% فقط من النقد المتداول. ويعود ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها:
1. هيمنة الاقتصاد غير الرسمي:في ظل نظام الإنقاذ والعزلة المصرفية والاقتصادية التي ظل يعاني منها السودان بسبب المقاطعة الاقتصادية الأمريكية تمدد الاقتصاد الموازي الذي تتحكم فيه أجهزة الدولة النظامية وغيرها من الطبقة الطفيلية للحزب الحاكم واعتماد شريحة واسعة من السودانيين على الأنشطة غير المنظمة، مما يقلل من اعتمادهم على المصارف في التعاملات المالية وعجز وزارة المالية والدولة عن أداء دورها في وضع الجزء الأكبر من الاقتصاد تحت ولايتها كما ينبغي .
2. مشكلة الديون المتعثرة بسبب الحرب :
أدت الحرب إلى ارتفاع نسبة الديون المتعثرة في المصارف السودانية إلى مستويات غير مسبوقة، حيث تشير التقديرات إلى أن %50 من القروض والتمويلات المصرفية أصبحت غير مستردة بسبب تعطل الأنشطة الاقتصادية وتدمير العديد من المنشآت التجارية والصناعية. و يجب على الدولة التدخل لتخفيف هذه الأزمة عبر تبني حلول مماثلة لما قامت به دول أخرى في أوقات الأزمات، مثل:-
1. منحالبنوك المتضررة قروضًا مدعومة من الحكومة لمساعدتها على استعادة سيولتها.
2. إنشاء صندوق لإعادة هيكلة الديون المتعثرة، بحيث يتم جدولة السداد لفترات أطول بفوائد/ بعوائد مخفضة
3. تقديم ضمانات حكومية للبنوك لمساعدتها في استعادة ثقة المستثمرين والعملا
4. تحفيز الشركات المتضررة على إعادة جدولة قروضها عبر تقديم إعفاءات ضريبية أو دعم مالي لتخفيف الأعباء
5. تبني حلول شاملة لإعادة بناء القطاع الخاص المتضرر، مما سيسهم في استعادة قدرة الشركات على الوفاء بالتزاماتها المصرفية.
3 .ضعف التعامل والثقة مع القطاع المصرفي نتيجة الأزمات الاقتصادية والسياسية ، يلجأ المواطنون إلى الاحتفاظ بالنقد خارج البنوك لتجنب مخاطر التقلبات الاقتصادية.
4. تأثير العقوبات الاقتصادية السابقة: أدت العقوبات المالية إلى عزلة القطاع المصرفي، مما دفع الأفراد والشركات إلى التعامل بالنقد المباشر أو عبر شبكات مالية غير رسمية وتحول الجزء الأعظم من التجارة الخارجية ليدار من مدن الخليج وأسواق تجارة العملة الرائجة وقد تم تقنين هذه الممارسات بسماح ضوابط البنك المركزي بالاستيراد بدون تحويل عمله والممارسات الفاسدة في عمليات الصادرات السودانية في ظل اقتصاد الريع وتصدير وتهريب السلع والمنتجات والمحاصيل النقدية السودانية خاما بلا أي قيمة مضافة بالتصنيع والتي لا تعود عائداتها الي داخل السودان .
5 . غياب الحوافز للإيداع المصرفي: لا توفر البنوك حوافز كافية للمواطنين لإيداع أموالهم، بسبب ارتفاع تكاليف الخدمات المصرفية وضعف العائد على الودائع وعدم منح اية عوايد علي ارصدة الحسابات الجارية وفق النظام المصرفي الإسلامي مما ضاعف في ضعف الشمول المالي حيث يعد السودان من أضعفها .
6.انعكاسات ضعف الشمول المالي على الاقتصاد
- انخفاض قدرة المصارف على تقديم التموي: بسبب قلة الأموال المودعة، تعجز المصارف عن تمويل المشروعات الإنتاجية.
- زيادة معدلات التضخم*: يؤدي تداول النقد خارج النظام المصرفي إلى ضعف قدرة البنك المركزي على التحكم في المعروض النقدي، مما يزيد التضخم.
- ضعف دور السياسة النقدية*: مع تحكم الاقتصاد الموازي في الجزء الأكبر من النقد، يصبح تأثير قرارات البنك المركزي محدودًا.
- صعوبة تنفيذ الإصلاحات المال: أي محاولات لتطبيق سياسات نقدية تواجه عقبات كبيرة بسبب سيطرة الاقتصاد الموازي على الكتلة النقدية.
أولويات إصلاح القطاع المصرفي بعد الحرب
1.التحول الرقمي في الخدمات المصرفية
- تطوير الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول لتعويض تراجع الفروع المصرفية.
- تعزيز أنظمة الدفع الإلكتروني لتسهيل التحويلات وتقليل مخاطر التعامل النقدي.
- تحديث الأنظمة المصرفية الرقمية لمواكبة التطورات العالمية وتعزيز كفاءة العمليات المالية.
2. الالتزام بالحوكمة ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لإعادة اندماج الجهاز المصرفي في المنظومة المصرفية الدولية .
- فرض لوائح صارمة للحوكمة والشفافية للحد من التدخلات السياسية في قرارات المصارف.
- تطبيق إجراءات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بما يتماشى مع المعايير الدولية.
- تعزيز الرقابة المصرفية لضمان الامتثال للقوانين الدولية واستعادة ثقة المستثمرين.
3. تعزيز الشمول المالي
- إطلاق برامج لزيادة الوعي المالي وتشجيع المواطنين على فتح حسابات مصرفية.
- خفض تكاليف الخدمات المصرفية لجذب الفئات غير المشمولة مصرفيًا.
- توسيع الخدمات المالية الرقمية للوصول إلى المناطق الريفية والنائية بالتوسع بالخدمات والتطبيقات المصرفية الرقمية في التحويلات
الحلول المطلوبة
1. تحفيز المواطنين على التعامل مع البنوك عبر تقديم مزايا مثل تخفيض الرسوم المصرفية، وزيادة العوائد على الودائع.
2. توسيع نطاق الشمول المالي عبر الخدمات المصرفية الرقمية، وتسهيل إجراءات فتح الحسابات البنكية، خاصة في المناطق الريفية.
3. محاربة الأنشطة غير المشروع التي تعتمد على التعامل النقدي خارج النظام المصرفي، مثل تجارة السوق السوداء والتهريب.
4. إعادة هيكلة السياسات النقدية لضبط الكتلة النقدية، وإجبار الشركات الكبرى على التعامل عبر المصارف بدلًا من النقد المباشر.
5. تطوير آليات الدفع الإلكتروني ليكون بديلًا أكثر أمانًا وفعالية من التعاملات النقدية التقليدية.
6. إعادة العمل بالنظام المصرفي التقليدي بالسماح للبنوك بتطبيق نظام النافذتين وتغيير القوانين التي تمنع من إعادة تطبيق سعر الفائدة كأحد الأدوات الاقتصادية المهمة في التحكم في السيولة للتحكم في التضخم .
4. إعادة هيكلة القطاع المصرفي
- إصلاح بنك السودان المركزي لضمان استقلاليته وتعزيز دوره الرقابي.
-إصلاح الجهاز المصرفي برفع رؤوس أموال المصارف خلال فترة لا تتجاوز ثلاثة أعوام بما يحقق الالتزام بتطبيق المعايير الدولية للحد الادني لكفاءة راس المال ( مقررات لجنة بازل )
- إعادة رسملة البنوك المتضررة وجذب استثمارات لدعم استقرارها المالي.
- دمج وإصلاح البنوك الضعيفة لإنشاء مؤسسات مالية أكثر قوة وكفاءة.
الخاتمة
يواجه القطاع المصرفي السوداني تحديات غير مسبوقة بسبب الحرب، ضعف البنية التحتية المالية، وانخفاض كفاية رأس المال.
لكن مع الإصلاحات الصحيحة، يمكن إعادة بناء قطاع مصرفي أكثر استدامة وكفاءة.
**التوصيات الأساسية:**
1. تسريع التحول الرقمي لتوسيع نطاق الخدمات المصرفية وإدخال أنظمة التحويلات المالية الرقمية مثل M-Pesa و Wave والاستفادة من النسبة العالية لمستخدمي الموبيلات ( يقدر ب74 % من السكان )
2. تعزيز الشفافية والحوكمة لضمان بيئة مصرفية مستقرة.
3. إصلاح السياسات النقدية لتعزيز استقرار العملة المحلية وزيادة ثقة المستثمرين.
4. تقديم حوافز لجذب الاستثمارات الأجنبية وتطوير الشراكات مع المؤسسات المالية العالمية.
5. إعادة هيكلة بنك السودان المركزي ليعمل كمؤسسة مستقلة ذات سياسات نقدية فعالة.
إن تنفيذ هذه الإصلاحات سيمكن السودان من إعادة بناء وإصلاح نظام مصرفي حديث قادر على دعم الاقتصاد الوطني، وتعزيز الثقة المحلية والدولية في القطاع المالي.
المراجع:
• البنك الدولي (2023). تقرير التنمية المالية في السودان.
• الهيئة العامة للإحصاء (2022). البيانات الاقتصادية والمصرفية.
• تقرير البنك المركزي السوداني حول أداء القطاع المصرفي (2023).
• دراسات حول الشمول المالي والاقتصاد الموازي في السودان - المراكز البحثية المحلية والدولية.
• Sudantransparency.org: آثار الحرب على النظام المصرفي السوداني.
• Mohsin Mergni Blogspot: تاريخ النظام المصرفي في السودان.
• Addustour.com: تطورات النظام المصرفي السوداني وتعاظم البنوك الإسلامية