بسبب الفشل أمام “طوفان الأقصى”.. موجة من الاستقالات تضرب قيادة جيش العدو الصهيوني
تاريخ النشر: 23rd, January 2025 GMT
يمانيون../
ضربت موجة من الاستقالات جيش العدو الصهيوني، بدأها أمس الثلاثاء رئيس هيئة الأركان هرتسي هاليفي على خلفية الفشل في صد هجوم “طوفان الأقصى”، لتتواصل بذلك التداعيات الأمنية والسياسية للعملية التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية حماس في السابع من أكتوبر 2023.
وتتوالى العواصف السياسية والعسكرية داخل كيان العدو الصهيوني منذ بدء عملية “طوفان الأقصى”، أعنفها الهزة التي أحدثتها هذه التطورات في هيكل القيادة العسكرية الصهيونية، والتي تمثلت في استقالات متلاحقة لقادة عسكريين بارزين، على رأسهم هاليفي.
ويتفق الخبراء والمُحللون أن هذا الحدث ليس مجرد تغيير إداري، بل يعكس أزمة هيكلية عميقة ضربت جذور المؤسسة العسكرية الصهيونية وعلاقتها المتوترة مع حكومة بنيامين نتنياهو.
وفي التفاصيل أعلن رئيس الأركان الصهيوني هرتسي هاليفي استقالته رسميًا، على أن تدخل حيز التنفيذ في السادس من مارس المقبل.. وجاءت هذه الاستقالة عقب فشل جيش العدو الصهيوني في منع العبور الكبير الذي استهدف مستوطنات “غلاف غزة”، وترك بصماته المريرة على المشهد الأمني والسياسي داخل كيان العدو.
وتزامنت هذه الاستقالة مع توقف إطلاق النار في غزة، بعد أكثر من 15 عامًا من الإبادة الجماعية التي جوبهت بصمود واستبسال فلسطيني فريد؛ ما كشف الستار عن صراعات داخلية حادة بين القيادة العسكرية والسياسية في الكيان الصهيوني.
وحفزت استقالة هاليفي موجة جديدة من الاستقالات في المؤسسة العسكرية، أبرزها قائد القيادة الجنوبية يارون فينكلمان، والمسؤولة عن النيابة العسكرية اللواء يفعات يروشلمي.. كما سبق ذلك استقالة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أهارون هاليفا، الذي تحمل مسؤولية الإخفاق الأمني في أحداث السابع من أكتوبر.
وكشفت هذه الاستقالات توترًا متصاعدًا بين المؤسسة العسكرية وحكومة بنيامين نتنياهو، خاصة مع التدخل السياسي الواضح في شؤون الجيش.
وخلال حرب الإبادة، تكررت الانتقادات الموجهة إلى رئيس الوزراء ووزير الجيش يسرائيل كاتس، بسبب تدخلاتهما في القرارات العسكرية، وتعمدهما تأخير التحقيقات في إخفاقات الجيش، فضلًا عن فرضهما تعيينات مثيرة للجدل في المناصب العليا.
ويؤكد المحللون العسكريون الصهاينة أن استقالة هاليفي لم تكن بسبب الإخفاق الأمني فقط، بل جاءت أيضًا نتيجة ضغوط سياسية، ما يعكس عمق الأزمة داخل جيش الإحتلال.. مشيرين إلى أن هذه الاستقالات ستترك جيش الإحتلال غارقًا في أزمة قيادة، وسط استنزاف للموارد البشرية وصراعات سياسية متفاقمة.
ومنذ اللحظات الأولى لهجوم “طوفان الأقصى”، واجه جيش العدو اتهامات بالجهوزية المتدنية والارتباك في اتخاذ القرارات.
ويقول مراسل صحيفة “يديعوت أحرونوت” الصهيونية عميحاي أتالي: إن الجيش كان “فوضويًا”، منغمسًا في عقيدة عسكرية منفصلة عن الواقع.. فبعد 15 شهرًا من الحرب، لم تحقق “إسرائيل” أهدافها العسكرية، ولم تتمكن من تحرير رهائنها إلا ضمن صفقات تبادل.
ويتفق المحللون على أن استقالة هاليفي ستفتح الباب أمام تداعيات خطيرة، أبرزها رحيل مزيد من القادة العسكريين واهتزاز الثقة بين القيادة السياسية والعسكرية.
ويرى المحلل السياسي والخبير في الشأن الصهيوني إيهاب جبارين، أن توقيت الاستقالة يأتي لإحراج رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومته.. مشيرًا إلى أن هاليفي باستقالته يعترف بفشل الجيش في أداء مهامه، محملا نفسه المسؤولية في ظل لجنة التحقيق والضغوط العامة.
ويؤكد جبارين أن الفشل لا يقتصر على المستوى العسكري، بل يمتد إلى المستوى السياسي الذي كتب السيناريوهات وأدار الحرب بشكل سيئ.. مُقدرًا أن الاستقالة تضغط على نتنياهو الذي يواجه تحديا كبيرا لإقناع الحلفاء الدوليين -مثل الولايات المتحدة- بقدرة حكومته على إدارة المرحلة المقبلة بعد 15 شهرا من الفشل العسكري والسياسي.
وأوضح أن استقالة هاليفي في هذا التوقيت تعني أن “إسرائيل” بدأت مرحلة جديدة من المحاسبة الداخلية.. مشيرا إلى أن الحرب على غزة وضعت أوزارها، لكن “الحرب السياسية داخل “تل أبيب” بدأت الآن”.
وتبقى استقالة هاليفي حلقة جديدة في سلسلة الأزمات التي تواجه الكيان الغاصب، ولا تقتصر على المؤسسة العسكرية، بل تمتد إلى النظام السياسي برمته.
وتنوعت ردود الفعل في الصحافة الصهيونية على استقالة هاليفي، ففي حين دعا كُتّاب، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى تقديم استقالة حكومته لأنها شريكة في الفشل، اعتبر آخرون الاستقالة جزءا أساسيا من حالة الاعتراف الصهيوني بالفشل في توقع هجوم طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023.
وسلط آخرون الضوء على أن حكومة نتنياهو ستستغل هذه الخطوة وما يليها من استقالات لضباط كبار آخرين للقيام بتعيينات جديدة تكرس المنهج اليميني المتطرف للحكومة في القضايا السياسية والعسكرية.
وكان هاليفي الذي ستدخل استقالته حيز التنفيذ في السادس من مارس المقبل، قال في خطابه: إن الجيش الصهيوني فشل في مهمة الدفاع عن “إسرائيل”، والدولة دفعت ثمنا باهظا”.. مضيفاً: “أتحمل المسؤولية عن فشل الجيش في السابع أكتوبر 2023.. مسؤوليتي عن الفشل الفظيع ترافقني يوما بيوم وساعة بساعة”.
ويعتبر وزير العدل الصهيوني الأسبق حاييم رامون أن هناك ثلاثة أشخاص مسؤولين عن هذا الفشل وهم بالإضافة إلى هاليفي، وزير الحرب يوآف غالانت الذي قدم استقالته في وقت سابق، ورئيس الوزراء نتنياهو.
ويقول “نتيجة لذلك، اضطررنا إلى إبرام صفقة تبادل كانت هزيمة كاملة”.. مستدركاً بالقول: “حتى لا يكون هناك سوء فهم، أعتقد أنه في ظل الظروف الحالية لم يكن هناك خيار سوى السعي للتوصل إلى اتفاق، وعلى الأقل سنحقق هدف إعادة المحتجزين حتى بثمن إنهاء الحرب وأن تظل السيادة في غزة بيد حماس”.
وفيما يلي أبرز الاستقالات الصهيونية على خلفية الفشل العسكري والأمني والاستخباراتي في التوقع والتصدي لهجوم السابع من أكتوبر 2023م:
-في 21 يناير 2025: رئيس هيئة أركان جيش العدو هرتسي هاليفي يعلن استقالته بداية من السادس مارس المقبل، ويقول في كلمة متلفزة: “في السابع من أكتوبر فشلنا في الدفاع والهجوم، وسأحمل نتائج ذلك اليوم الرهيب معي لبقية حياتي”.
-في اليوم ذاته يُعلن قائد المنطقة الجنوبية بالجيش الصهيوني يارون فينكلمان استقالته، ويقول في كتاب الاستقالة: “في السابع من أكتوبر فشلت في الدفاع عن (منطقة) النقب الغربي، وسيبقى هذا الفشل محفوراً في ذهني لبقية حياتي”.
-في 12 سبتمبر 2024: قائد الوحدة 8200 الاستخبارية في الجيش يوسي سارييل يستقيل قائلاً: “في السابع من أكتوبر لم أقم بالمهمة كما توقعت وكما توقع المرؤوسون والقادة”.
-في اليوم ذاته استقال قائد الشرطة الصهيونية في الضفة الغربية المحتلة اللواء عوزي ليفي.
-في 11 يوليو 2024: قائد المنطقة الجنوبية في جهاز الشاباك (يشار إليه بالحرف “أ”) يستقيل جراء إخفاقه في التعامل مع هجوم حماس.
-في التاسع من يونيو 2024: استقالة قائد فرقة غزة في الجيش آفي روزنفيلد بسبب فشل فرقته في صد الهجوم، وتمكُّن مقاتلي كتائب القسام، الجناح العسكري لحماس، من احتلال مقارّ الفرقة.
-في 22 أبريل 2024: رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) أهارون هاليفا يستقيل، ويعلن تحمله مسؤولية الفشل في السابع من أكتوبر.
-في الرابع من أبريل 2024: استقالة رئيس قسم لواء الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية عميت ساعر.
هذا ومن المتوقع أن يشهد جيش العدو الصهيوني مزيداً من الاستقالات حتى نهاية يناير الجاري، إذ حدد وزير الحرب يسرائيل كاتس هذا التاريخ الراهن موعداً لإنهاء الجيش تحقيقات داخلية في إخفاق السابع من أكتوبر.. في المقابل، يرفض رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو تحمُّل أيّ مسؤولية، ويتمسك بمنصبه، ويرفض دعوات المعارضة إلى انتخابات مبكرة.
السياسية – مرزاح العسل
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: فی السابع من أکتوبر جیش العدو الصهیونی المؤسسة العسکریة بنیامین نتنیاهو استقالة هالیفی من الاستقالات رئیس الوزراء طوفان الأقصى فشل فی
إقرأ أيضاً:
طوفان الأقصى.. مفاجأة كبرى تعيد تشكيل قواعد الاشتباك.. تحول استراتيجي
في سياق حواري فكري معمّق تطلقه صحيفة "عربي21" حول عملية "طوفان الأقصى" وتداعياتها السياسية والفكرية فلسطينياً وعربياً ودولياً، تطرح هذه الورقة أسئلة مركزية عن طبيعة هذه العملية: هل كانت خطأً تاريخيًا مكلفًا أم خطوة استراتيجية جريئة لخلخلة ثوابت المعادلة الإقليمية والدولية بشأن فلسطين؟ ما بين من اعتبرها مغامرة متهورة ومن قرأ فيها نقطة تحوّل في مسار النضال الفلسطيني، تتعدد الروايات وتتناقض التقييمات، وهو ما يستدعي تفكيك خلفيات القرار وقراءة أبعاده في ضوء ما قبله وما تلاه.
هل ارتكبت حماس خطأ قياسيا ألحق ويلحق ضررا تاريخيا بالقضية الفلسطينية عبر عملية طوفان الأقصى؟ هل ثمة من تحكم بالقرار داخل الحركة ودفعها إلى تنفيذ هجوم غير مسبوق في حجمه وقوته وأثره على إسرائيل لتبرير حرب إبادة حقيقية للشعب الفلسطيني ولدفع ما تبقى منه إلى خارج فلسطين التاريخية؟ هل كانت إسرائيل على علم بالهجوم فلم تحبطه لكي تستخدمه من بعد ذريعة في تدمير غزة وترحيل المنظمات المقاتلة إلى خارج القطاع ومن ثم ختم القضية الفلسطينية بالشمع الأحمر؟ بالمقابل هل كانت لدى حماس استراتيجية مدروسة مدخلها عملية 7 أكتوبر ومخرجها تغيير المعادلات المتعلقة بغزة وبالقضية الفلسطينية؟ تلك هي أبرز الاحتمالات التي يتم تداولها في سياق تحليل خلفيات ودوافع عملية "طوفان الأقصى".
كانت الطرق المؤدية لحل سياسي للقضية الفلسطينية عبر مشروع الدولتين، مقفلة تماما منذ سنوات. لقد أقفلت إسرائيل هذه الطرق بدعم أمريكي صريح، وبدا أن الإقفال لا يعوق التطبيع الإبراهيمي مع الدول العربية..إذا كان فعل الخطأ خاضع للنقاش، في ضوء تطورات الحرب، وهي الأطول في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فإن الاحتمال الثاني يقع تحت عنوان نظرية المؤامرة وبالتالي لا يصح كفرضية جدية في تفسير استراتيجية حماس في هذه الحرب. يبقى الاحتمال الثالث وهو يتناسب مع معطيات الصراع التي كانت متوفرة قبل الحرب، ومع التفسير الإسرائيلي للعملية بوصفها معركة وجود "إما نحن وإما هم" بحسب ردود فعل قيادة الحرب الإسرائيلية. ويتناسب أيضا مع رواية حماس الرسمية التي صدرت في 21 يناير ـ كانون الثاني عام2024 وفيها تؤكد على أن العملية تمت للحؤول دون "تصفية القضية الفلسطينية"، ولا شيء حتى الآن يوحي بان لدى الحركة استراتيجية مختلفة عن تلك التي وردت في الرواية.
القضية الفلسطينية قبل "الطوفان"
ثمة إجماع على أن التخطيط لهذه العملية قد استغرق وقتا طويلا ولعله استند إلى معطيات ثابتة يمكن حصرها بالخطوط العريضة التالية:
1 ـ كانت الطرق المؤدية لحل سياسي للقضية الفلسطينية عبر مشروع الدولتين، مقفلة تماما منذ سنوات. لقد أقفلت إسرائيل هذه الطرق بدعم أمريكي صريح، وبدا أن الإقفال لا يعوق التطبيع الإبراهيمي مع الدول العربية (الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب الأقصى). كان واضحا أن التطبيع مع البحرين بصورة خاصة، ما كان يمكن أن يتم لولا الموافقة الضمنية من المملكة العربية السعودية التي كان من المرجح أن تسير على هذا الطريق في العام الماضي. والواضح أن تطبيع السعودية مع إسرائيل سيهمش المعترضين ويعزلهم في جامعة الدول العربية أو على الأقل سوف يُضعفُ موقف الجزائر وهي الدولة الأبرز في هذا الاتجاه.
أضف إلى ذلك أن التطبيع يهمش التيار الفلسطيني المقاتل، ويفقده الغطاء العربي، بل يزيد من ارتباطه بالمحور الإيراني، من دون أن يفتح أمامه الأفق الإسلامي الرسمي المندرج في إطار "منظمة المؤتمر الإسلامي" التي تَرسمُ سياساتها تحت السقف الخليجي عموما والسعودي بصورة خاصة.
من يحتاج إلى براهين إضافية يمكنه العودة إلى المواقف التي اتخذتها "منظمة المؤتمر الإسلامي" خلال حرب غزة المستمرة والتي لم تتجاوز سياسة الجامعة العربية، هذه السياسة التي تتبنى موقف منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية بزعامة الرئيس محمود عباس. معلوم أن حكومة عباس انتقدت توقيت وأسلوب عملية "طوفان الأقصى" وحَمّلتْ حماس مسؤولية وتداعيات العملية على غزة والشعب الفلسطيني وانتقدت في الوقت نفسه سياسة التدمير والإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني في القطاع والضفة الغربية.
التفاهم السعودي الإيراني
2 ـ كان محور الممانعة عشية "الطوفان" يشهد تطورات ملفتة أبرزها التقارب والتفاهم السعودي ـ الإيراني، عبر اتفاق تم توقيعه في بكين وبإشراف صيني في مارس ـ آذار عام 2023 وأدى إلى عودة السفير الإيراني إلى الرياض بعد قطيعة بدأت في العام 2016 وبأثر من هذا التفاهم تم تخفيض التوتر بين السعودية والحوثيين حلفاء إيران.
وفي المحور نفسه، وقع لبنان وإسرائيل في أكتوبر ـ تشرين الأول عام 2022 على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين البلدين بإشراف أمريكي، وكان من المفترض أن يستكمل هذا الاتفاق عبر مفاوضات غير مباشرة برعاية المبعوث الأمريكي نفسه (عاموس هوك شتاين) لترسيم الحدود البرية، وذلك بموافقة ضمنية من حزب الله أو على الأقل من دون اعتراض علني، بل ذهب رئيس الجمهورية السابق ميشال عون شريك الحزب في اتفاق مار مخايل ( 6 شباط فبراير 2006 ) إلى حد القول في مقابلة مع محطة "المنار" إن مصير العلاقات بين لبنان وإسرائيل بعد ترسيم الحدود البرية، سيكون كمصير العلاقات بين فرنسا وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث حلت محل الحروب الماضية علاقات صداقة وتعاون (أول نوفمبر ـ تشرين الثاني عام 2022 ). ولنا أن نتخيل كيف سيكون الموقف لو رُسِّمتْ الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل لجهة دعم حماس عسكريا عبر الحدود المُرَسّمة.
ينبغي التذكير أن إيران اختارت في خضم حرب غزة رئيسا يريد التفاهم مع أمريكا واستبعدت مرشحين راديكاليين يشبهون الرئيس السابق أحمدي نجاد الذي كان يتوقع زوال إسرائيل في "مدى قريب".في السياق يمكننا الاستناد إلى تصريح شهير (25 يناير ـ كانون الثاني 2025) لمحمد جواد ظريف نائب الرئيس الإيراني السابق للشؤون الاستراتيجية، إذ يؤكد أن اجتماعا إيرانيا أمريكيا كان من المقرر أن يعقد في 9 أكتوبر تشرين الأول عام 2023 فأطاحه هجوم 7 أكتوبر، وكأنه أراد القول إن حماس قطعت الطريق على مساومة محتملة بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول الملف النووي الإيراني. معلوم أن ظريف كان قد انتقد في وقت سابق سياسة بلاده تجاه حماس بقوله إن "طهران تريد أن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين".
هنا ينبغي التذكير أن إيران اختارت في خضم حرب غزة رئيسا يريد التفاهم مع أمريكا واستبعدت مرشحين راديكاليين يشبهون الرئيس السابق أحمدي نجاد الذي كان يتوقع زوال إسرائيل في "مدى قريب".
يفصح ما تقدم عن تطور ملفت في محور الممانعة باتجاه التهدئة والابتعاد عن استراتيجية زوال إسرائيل التي كانت شعارا ثابتا في خطب فصائل المحور، لكن ذلك كله لم يترك أثرا ملحوظا في خطب الأمين العام الراحل لحزب الله السيد حسن نصر الله الذي أكد في أكثر من مناسبة أن الحرب المقبلة مع إسرائيل ستكون على أرض فلسطين التاريخية، ناهيك عن حرص الحزب على التدريب المتواصل لفرقة الرضوان من أجل اجتياح الجليل الأعلى في "الحرب المقبلة".
الحكومة الإسرائيلية الأكثر تدينا وتطرفا
3 ـ في نهاية ديسمبر ـ كانون الأول عام 2022 تشكلت الحكومة الأكثر تطرفا والأكثر تدينا في تاريخ إسرائيل، وبدا من خلال رموزها انها حكومة حرب في الخارج و انقسام و صراع داخل إسرائيل سرعان ما سينفجر حول صلاحيات المحكمة العليا. تعزز مع هذه الحكومة احتمال الحرب ضد لبنان وربما اجتياح غزة، وستكون احياء القدس والمسجد الأقصى وبؤر الاستيطان أحد أبرز أهدافها، وسيكون تعدي أنصارها على المسجد الأقصى عنوانا لعملية الطوفان في أكتوبر ـ تشرين الأول 2023.
كان تشكيل هذه الحكومة يعني بالنسبة لحماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، إقفال كل الطرق الممكنة على أي حل للقضية الفلسطينية. وسيكون لديها القدرة والتغطية على الرد بقسوة على المقاومة الفلسطينية في غزة. سوف تبرهن عن ذلك في عملية (الدرع والسهم) في 9 مايوـ أيار عام 2023 إذ قتلت قادة بارزين في حركة "الجهاد الإسلامي" خلال أيام قليلة.
كانت حكومة نتنياهو تبحث عن حرب لأسباب عديدة، من بينها توسيع الاستيطان ودرء الانقسامات الداخلية، حرب مع الفلسطينيين أو لبنانيي حزب الله، وبالتالي من الصعب الرهان معها على هدنة أو على أي أفق آخر غير الحرب معها.
لقد هدد رئيسها بنيامين نتنياهو باجتياح غزة مرارا، لكنه اعتمد نهجا تكتيكيا خلال الشهور الأخيرة التي سبقت هجوم 7 اكتوبر، إذ سمح للقطريين بإرسال أموال لحركة حماس واأعتقد أن ترتيبات معينة معها، يمكن أن تعزل حركة "الجهاد الإسلامي" والفصائل الأخرى. وقد برهن لوزرائه على نجاح هذا التكتيك خلال عملية "الدرع والسهم" التي استثنت حماس ولم تبادر الحركة لإطلاق صواريخها على إسرائيل دعما للجهاد الإسلامي التي تحملت منفردة نتائج حرب الأيام الخمسة (أيار مايو 2023.)
كان نتنياهو يروج لفرضية مفادها أن حماس تريد الحكم في غزة وأنها ليست مستعجلة لإشعال حرب مع إسرائيل تقوض سلطتها. ولعل هذا الاعتقاد هو الذي حمله على تخفيف حجم الفرقة العسكرية في غلاف غزة التي يقدر عددها بالآلاف في ظروف المجابهة، لكنها لم تتجاوز الـ 700 جندي وضابط خلال هجوم 7 أكتوبر.
كانت حكومة نتنياهو تبحث عن حرب لأسباب عديدة، من بينها توسيع الاستيطان ودرء الانقسامات الداخلية، حرب مع الفلسطينيين أو لبنانيي حزب الله، وبالتالي من الصعب الرهان معها على هدنة أو على أي أفق آخر غير الحرب معها.وتفيد أنباء أخرى أن الحكومة كانت قد أرسلت مئة جندي من هذه الفرقة إلى الضفة الغربية نظرا لتقديرها أن لا خطر على جبهة غزة وأن لا شيء يستدعي حشدا عسكريا أكبر.
أغلب الظن أن حماس كانت على علم بحسابات نتنياهو وبما يدور في فرقة غزة لذا كان هجومها على الفرقة صاعقا ومدمرا يشبه بالقياسات المحلية هجوم 6 أكتوبر عام 1973 على الجبهتين المصرية والسورية، ومن غير المستبعد أن يكون اختيار 7 أكتوبر موعدا "للطوفان" بمثابة استعادة محلية لحرب أكتوبر المذكورة .
تعثر "الربيع العربي"
4 ـ في هذا الوقت كان العالم العربي يعاني من مخاض "الربيع" الذي هدد وحدة بلدان، بدلا من تغيير أنظمة الحكم فيها، كما هي حال اليمن وليبيا وسوريا والسودان، وأقفل أبواب التغيير الداخلي من دون صعوبات تذكر في تونس ومصر. معلوم أن البلدان التي حطمها "الربيع" كانت الأقرب إلى تيار المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي وكانت تحتفظ بوزن مهم في جامعة الدول العربية. كانت ليبيا مصدرا أساسيا من مصادر تمويل التيار الفلسطيني واللبناني المقاوم منذ انقلاب معمر القذافي في العام 1969 وحتى سقوطه في 20 أكتوبر 2011.
وانطلقت من سوريا الرصاصات الفلسطينية الأولى ضد الاحتلال الإسرائيلي بمبادرة من الضابط السوري أحمد سويداني عام 1965 وقد دفع النظام السوري السابق ثمنا باهظا لرفضه طرد حماس والمنظمات المقاتلة من سوريا بعد احتلال العراق فضلا عن احتضانه وتسليحه المقاومة اللبنانية للاحتلال الإسرائيلي في صيغتها التعددية الأولى ومن ثم في صيغتها الاسلامية. وقد تعرض السودان للعزل والتقسيم بعد أن صار قاعدة للأممية الإسلامية وللإخوان المسلمين بزعامة الدكتور الراحل حسن الترابي وأصبح بعد "الربيع العربي" منصة لصراع داخلي مميت على السلطة لم تتم فصوله بعد. ولعل اليمن البلد الوحيد الذي لم تتضرر فيه القضية الفلسطينية جراء الربيع العربي. فقد كانت صنعاء في عهد الرئيس الراحل علي عبد الله صالح قاعدة لحماس ولمنظمة التحرير الفلسطينية على حد سواء وصارت في معركة "طوفان الأقصى" حليفا مقاتلا مع غزة ولبنان.
كانت حماس جزءا لا يتجزأ من حركة "الربيع العربي" وبالتالي كان عليها أن تتحمل هي الأخرى جزءا من الفشل الذي أصابه، ولعلها اختارت أهون الشرين إذ أجرت تغييرا جذريا في قيادة غزة، واختارت يحي السنوار قائدا ورئيسا غزاويا للحركة (2017 ـ 2024) ثم رئيسا مركزيا لحماس بعد اغتيال إسماعيل هنية في طهران (31تموز ـ يوليو 2024) حتى استشهاده (16 تشرين الأول ـ أكتوبر 2024). وثبتت محمد الضيف في موقعه القيادي وبدا أن الحركة تستعد من جهتها أيضا لحرب مع الاحتلال فتعوض فشل رهانها على "الربيع العربي" وتستأنف الارتباط القوي بمحور الممانعة.
سيعبر يحي السنوار عن استراتيجيته القتالية بتصريح شهير قال فيه "سنجعل نتنياهو يندم على اليوم الذي ولدته فيه أمه" ويبدو أن هجوم 7 أكتوبر كان تطبيقا حرفيا لهذا التصريح.
الحرب الأوكرانية والانتخابات الأمريكية
5 ـ على الصعيد الدولي بدا أن أنظار العالم شاخصة على الحرب الأوكرانية التي شغلت الغرب وروسيا وشكلت أولوية لدى القوى الأوروبية والأمريكية. أغلب الظن أن هذه الحرب كانت بالنسبة لحماس فرصة لشن عمل عسكري كبير تنقسم حوله القوى الغربية وتتشتت بين حربين، لكن هذا التقدير إن صحَّ، لم يكن متناسبا مع علاقة حماس الضعيفة بموسكو، ومع حرص روسيا الدائم على أمن إسرائيل. هذا ما يحملني على الاعتقاد بأن حماس ربما كانت ترجح حربا قصيرة أو متوسطة مع إسرائيل، تتيح هامشا للمناورة أمام الروس والصينيين من أجل طلب التهدئة حفاظا على الاستقرار في الشرق الأوسط ليتبين من بعد أن الحركة نفسها فوجئت بحجم وتأثير وخطورة عمليتها العسكرية على الاحتلال.
في هذه الظروف انطلقت عملية "طوفان الأقصى" لم تكن قفزة انتحارية في هاوية سحيقة ولم تكن مغامرة غير محسوبة النتائج وهي بالطبع ليست مؤامرة منسقة مع نتنياهو من أجل طي صفحة القضية الفلسطينية إلى الأبد. أما فصولها الدموية التي لم تتم بعد فهي دليل آخر على أن المصير الموعود للشعب الفلسطيني هو الإبادة السياسية أو الإبادة الجسدية.6 ـ من جهتها كانت حكومة نتنياهو الجديدة تراهن على التغيير القادم في الانتخابات الأمريكية، إذ تفصح المؤشرات عن ارتباك ظاهر في أداء الرئيس بايدن وضعف ذاكرة لا يتناسب مع شروط الموقع الأول في رأس السلطة الأكبر والأهم في العالم. وكانت استطلاعات الرأي تكشف عن حظوظ مرتفعة لدونالد ترامب في العودة إلى البيت الأبيض. وإن عاد سيواصل حتما سياسته المؤيدة من دون تحفظ لإسرائيل، وبالتالي استئناف المزيد من الاتفاقات الإبراهيمية التي تتيح "حلاً " للقضية الفلسطينية عبر التطبيع ومن دون تقديم تنازلات.
تجدر الإشارة إلى أن عهد بايدن لم يشهد مبادرات سلمية أو مساع جدية من أجل تطبيق حل الدولتين، بل بدا وكأنه استمرار لعهد ترامب تجاه القضية الفلسطينية وإن بلغة وبشعارات مختلفة وغير مستفزة.
بالمقابل لم يكن لدى السلطة الفلسطينية ولدى حماس أيضا ما يمكن الرهان عليه في أمريكا، لا في عهد بايدن (ولا في عهد ترامب المقبل على أية حال)، مع فارق أن احتمالات المجابهة مع الرئيس القادم أكبر بكثير من سلفه.
الصين وروسيا
7 ـ كانت الصين بالنسبة لحماس طرفا دوليا يمكن الاعتماد عليه في الصراع مع إسرائيل عموما وفي الرهان على موقفه المؤيد في حالة الهجوم المباغت على إسرائيل. ذلك أن بكين ترغب في تعزيز علاقاتها مع الدول العربية، لذا تهتم بالقضية الفلسطينية التي تعتبر قضية العرب الأولى على الصعيد الدولي، أضف إلى ذلك أن مشروع طريق الحرير يمر في الشرق الأوسط والعالم العربي بصورة خاصة، وبالتالي لا بد من دور سياسي صيني مباشر في هذه المنطقة لاحظنا بوادره الأولى في رعاية الاتفاق السعودي ـ الإيراني كما مر معنا من قبل، وستعمد بكين إلى رعاية مصالحة فلسطينية ـ فلسطينية وصدور إعلان بكين الفلسطيني في شهر تموز ـ يوليو عام2024.
معلوم أن روسيا والصين تعترف بالدولة الفلسطينية منذ شهر تشرين الثاني ـ نوفمبر عام 1988 وتؤيدان حل الدولتين ومن المستبعد أن تقف موقفا مناهضا لفلسطين في المؤسسات الدولية.
من غير المستبعد أن تكون حماس قد ناقشت في أطرها القيادية تقديرا للموقف يشمل المحاور التي وردت أعلاه ولعلها توصلت إلى قناعة بأن محور الممانعة الذي كان يشدد على مرأى ومسمع من يرغب على وحدة الساحات، ويتحدث قادته بتصميم غير مسبوق عن حرب، إذا ما اندلعت مع إسرائيل، قد تكون الأخيرة وقد تسقط فيها كل قواعد الاشتباك على كل الجبهات ولا سيما الجبهة اللبنانية التي حققت ردعا غير مسبوق لإسرائيل منذ العام 2006. بيد أن المحور نفسه كان يشهد تطورات قد تبعده عن جبهات القتال المباشرة في وقت تحتشد فيه مؤشرات خطيرة حول تهميش القضية الفلسطينية عبر الاتفاقات الابراهيمية والاستيطان والتعرض للمسجد الأقصى احد اهم رموزها.
في هذه الظروف انطلقت عملية "طوفان الأقصى" لم تكن قفزة انتحارية في هاوية سحيقة ولم تكن مغامرة غير محسوبة النتائج وهي بالطبع ليست مؤامرة منسقة مع نتنياهو من أجل طي صفحة القضية الفلسطينية إلى الأبد. أما فصولها الدموية التي لم تتم بعد فهي دليل آخر على أن المصير الموعود للشعب الفلسطيني هو الإبادة السياسية أو الإبادة الجسدية.
لعل "طوفان الأقصى" أشبه بـ "دوسة قدم في بيت نمل" تتيح خلط أوراق وموازيين قوى وتفصح عن رهانات كانت واقعية سنأتي على ذكرها.
*باحث في أكاديمية باريس للجيوبوليتيك