لماذا ينتصر الظالم؟ سؤال لطفل حيّر الكثير.. وشيخ الأزهر يُجيب عنه بالأدلة المُقنعة
تاريخ النشر: 23rd, January 2025 GMT
صدر حديثاً الجزء الثانى من كتاب «الأطفال يسألون الإمام» لفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، والذى سيتاح للجمهور بجناح الأزهر بمعرض الكتاب، والذى يتضمن أسئلة كثيرة تدور في ذهن الأطفال الصغار لا يستطيع الكبار الإجابة عنها أحيانًا، ظنًّا منهم أنَّ تلك الأسئلة مسيئة للعقيدة، ويطلبون منهم التوقف عن ذلك.
جاءت فكرة هذا الكتاب «الأطفال يسألون الإمام» الذي جمع فيه أسئلة الأطفال ليجيب عنها فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر بنفسه ليرشدهم، ويعلمهم صحيح دينهم، وتكون رسالة تربويَّة لأولياء الأمور توجههم إلى أهمية الانتباه إلى أسئلة أبنائهم الصغار، والإجابة عنها بعقل متفتح؛ بل وتشجيعهم على التفكير والتدبر في أمور العقيدة وغيرها من الأمور في الحياة، وقد أجاب فضيلته على السؤال الآتى : -
لماذا ينتصر الظالم في هذا العالم ؟
أبنائي وبناتي...
هذا السؤال يحير كثيرًا منكم، وأعلم أن حيرتكم هذه نابعة مما تسمعونه وتشاهدونه كل يوم من أحداث مؤلمة وظلم عظيم واقع على إخوة لنا، وأتمنى أن توضح لكم الإجابة ما يخفف عنكم وعنهم.
وعد الله تعالى رسله عليهم السلام وعباده المؤمنين بالنصر في الدنيا والآخرة فقال عز وجل: ﴿إِنَّا لَننْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر : ٥١] ، وهذا النصر متحقق لا محالة، ولا يعني تأخره إلى أجل محدود أنه لن يأتي، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ فبعد أكثر من عشرين سنة من الدعوة والجهاد أنزل الله تعالى عليه قوله: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) [ النصر : ١]، وما نراه من غلبة الظالم ليس معناه أن الله نصره؛ لأن النصر لا يقاس فقط بالتقدم العسكري في جولة تستغرق فترة من الزمن فالمشركون لم ينتصروا على المسلمين في غزوة أحد لمجرد الغلبة العسكرية، وإنما انتصر المسلمون بشكل عام على المشركين في عاقبة الأمر وكانت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وعلى ذلك فليس التقدم العسكري والغلبة في فترة ما من الزمن هو مقياس النصر ؛ لأن الأيام دول، والمعارك العسكرية يوم لك ويوم عليك .
وإذا أردنا أن نسمي الأشياء بأسمائها فهذا الذي يحياه الظالم الباغي على إخواننا في غزة يسمى ! إمهالا وليس نصرًا، أي إن الله تعالى يملي لهم ويمهلهم، وهذا من سنن الله الكونية، قال عز وجل: ﴿وَأَمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي متين [القلم: ٤٥] ، وقال سبحانه: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [ الحج : ٤٨] ، وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، أما النصر فهو من نصيب عباد الله المؤمنين الصابرين وعدًا حقا من الحكم العدل تبارك وتعالى.
دعاء ليلة الجمعة .. ردد أفضل الأدعية المستجابة لقضاء الحاجة والفرج السريع
دعاء الإسراء والمعراج.. فضله كبير في تفريج الكرب وتيسير الأمور
وأجاب كتاب "الأطفال يسألون الإمام"، الجزء الأول منه، عن ٣٨ سؤالاً للأطفال، وجاءت كالتالي:
١- أين الله؟
٢- من خلق الله؟
٣- هل تراني أمي المتوفاة؟
٤- هل يأكل الشيطان معي إذا أكلت بيدي اليسرى أو لم أذكر اسم الله قبل الأكل حقا؟
٥- لماذا خلق الله بعض البشر بصفات بها نقص؟
٦- هل يحبني الله؟
٧- كيف أصل إلى محبة الله لي؟
٨- ماذا سنجد في الجنة؟ وهل في الجنة ألعاب؟
٩- قالت لي أمي: لا تلعب مع صديقك المسيحي لأن المرء على دين خليله.. هل هذا صحيح؟
١٠- قالت لي زميلتي بالمدرسة: إن صداقتي لزميلتنا المسيحية حرام.. ما صحة ذلك؟
١١- مات كلبي.. هل سآراه في الجنة؟
١٢- هل سأجد كل من أحبهم من أسرتي وأصدقائي في الجنة؟
١٣- تقول لي أمي دائما: النظافة من الإيمان.. هل يعني ذلك أنني عندما أغسل يدي ووجهي أنال ثوابا؟
١٤- كيف أنتصر على الشيطان وأبعده عني؟
١٥- هل يعيش الشيطان في السماء؟
١٦- أين تعيش الملائكة؟
١٧- هل تحرسني الملائكة حقا عندما تدعو لي أمي؟
١٨- يسخر مني زملائي في المدرسة بسبب لون بشرتي السمراء.. لماذا خلقني الله هكذا؟
١٩- لماذا خلق الله الصرصار؟
٢٠- قال لي أبي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم عندما أصلي عليه.. هل هذا يعني أنه يعرف من أنا وما هو اسمي؟ وهل يحبني لأنني تعلمت أن أصلي عليه دائما كل يوم؟
٢١- أتعرض لمضايقة التلاميذ بالمدرسة لأن وجهي به آثار حروق وأشعر دائما أنني أريد أن أضربهم.. فهل لو ضربتهم أكون مخطئة ويغضب الله مني؟
٢٢- يضربني أبي أحيانًا عندما أحصل على درجات ضعيفة في المدرسة رغم محاولتي دائما الاجتهاد في دراستي وهذا يحزنني جدا ويجعلني أغضب من والدي وبعد ذلك أشعر بالذنب لأنني أعرف أهمية بر الوالدين.. فهل من الممكن أن توجه فضيلتك كلمة لأبي فأنا لا أحب أبدًا أن يضربني أحد ؟
٢٣- في بلدي يقتل بعض الناس آخرين ويقولون: نجاهد من أجل الدولة الإسلامية.. هل أمرنا الله بذلك فعلا؟
٢٤- قال زميل لي: إن تحية العلم خطأ وإنها كعبادة الأصنام.. كيف أرد عليه؟
٢٥- أخي ذهب للتجنيد.. هل يثاب على خدمة الوطن؟
٢٦- هل نثاب عندما نساعد غير المسلم؟
٢٧- أعالج من السرطان وأتساءل دائما: هل مرضي عقاب من الله على ذنب فعلته؟
٢٨- هل يسجل الملكان كل كلمة أقولها؟ وماذا لو لم أقل كلمة ولكن أظهر تعبيرا مسيئا لشخص ما بوجهي هل يستطيع أن يسجل ذلك أيضا؟ وهل سيسألني الله عن ذلك يوم القيامة ؟
٢٩- يضايقني بعض الشباب في شارعنا بكلماتهم ونظراتهم لي رغم أني محجبة.. أتمنى أن يوجه الإمام الأكبر كلمة لكل شاب يفعل ذلك، كما أتمنى أن يفعل ذلك خطباء المساجد في خطبهم بتوجيه من فضيلتك.
٣٠- لماذا فرض الله الحجاب على الفتاة ولم يفرضه على الفتى؟
٣١- لماذا تأتينا كل الاختراعات الحديثة من البلاد الغربية ونحن لا نخترع شيئا مثلهم؟
٣٢- أعيش في بلد أجنبي.. هل صداقاتي لزملاء لي بالمدرسة تتعارض مع ديني؟
٣٣- نسمع عن مؤتمر المناخ للدول وكيف أن الإنسان تسبب في ارتفاع درجة حرارة الأرض.. فهل تدمير الأرض بفعل الإنسان يمكن أن يكون هو يوم القيامة؟
٣٤- عندما علمت أن مصر تعاني من فقر مائي أصبحت أقتصد في الماء وأنا أفتح الصنبور دون أن يراني أحد.. هل أثاب على ذلك ؟
٣٥- أبي مسلم وأمي أجنبية غير مسلمة.. كيف أتعامل معها؟
٣٦- يعجبني شكل شجرة الكريسماس ومظاهر الاحتفال به وأحب مشاهدتها في الأفلام الأجنبية.. فهل هذا حرام؟
٣٧- يطلب مني أبي ارتداء النقاب بدءًا من العام القادم لكني لا أحب النقاب ولا أطيقه. فماذا أقول لأبي؟
٣٨- ما معنى رب العالمين؟ هل تعني عالم الإنس والجن أم رب كل البشر على الأرض؟
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: شيخ الأزهر أحمد الطيب الأطفال يسألون الإمام المزيد الأطفال یسألون الإمام فی الجنة
إقرأ أيضاً:
الشجرة الطيبة المباركة.. أصل ثابت وفرعٌ مورقٌ نابت
الدولة السعودية الأولى:
من يتأمل تاريخ هذه الأسرة السعودية الطيبة الزكية الكريمة المباركة، حتى قبل أن يتولى الإمام محمد بن سعود الإمارة عام 1139/1727، ومن ثم يؤسس الدولة السعودية الأولى في 1157/1744؛ لا بدّ له أن يدرك يقيناً أن قادتها قد أخذوا على عاتقهم مهمة توفير الأمن والاستقرار، وتحقيق العدل ووأد الظلم إلى الأبد، ومساعدة المحتاجين، وإغاثة المنكوبين، وإحياء الفضيلة ومحاربة الرذيلة، وتوفير الخير للناس أجمعين، وقبل هذا وذاك، توحيد الله عزَّ و جلَّ وإعلاء كلمته، وخدمة الحرمين الشريفين، ورعاية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وتمّكينهم من أداء شعائرهم في الحج والعمرة، وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمن وأمان واطمئنان، وتحقيق الخيرية للناس أجمعين من عرب وعجم، سعياً لتحقيق مفهوم الخلافة في الأرض كما ينبغي له أن يكون.
فقد تسنَّموا الإمارة في عهود مبكرة، بزغ فجرها مع قدوم مانع بن ربيعة المريدي مؤسس الدرعية عام 850/1446، لتصبح لاحقاً نواة الدولة السعودية الأولى، لاسيَّما بعد أن انضمت إليها العيينة، حريملاء، منفوحة، عرقة والعمارية، أي قبل ستمائة عام تقريباً، الذي كان ملكاً بسط سيادته على الإحساء والقطيف وقطر، ثم انتقلت الإمارة بين عقبه، من موسى بن ربيعة بن مانع المريدي، إلى ابنه إبراهيم، ثم تعاقب على الحكم مرخان بن إبراهيم بن موسى وابنه مقرن الذي تنازل له أخوه ربيعة، فناصر بن محمد بن وطبان، فوالده محمد الذي خلفه أخوه إبراهيم، ليخلف إبراهيم هذا أخوه إدريس، ثم موسى بن ربيعة بن وطبان بن ربيعة، الذي كثيراً ما خلط المؤرخون الأجانب الذين ليس لديهم إلمام تام بتسلسل نسب هذه الأسرة الطيبة المباركة الكريمة، بينه وبين موسى بن ربيعة بن مانع المريدي؛ ثم سعود بن محمد بن مقرن، فزيد بن مرخان بن وطبان، فمقرن بن محمد بن مقرن، لتعود الزعامة إلى زيد بن مرخان مرة أخرى؛ ليستقر الأمر في النهاية لسعود بن محمد بن مقرن، كبير فرع آل مقرن، وهو الذي تنسب إليه الأسرة السعودية الكريمة المباركة اليوم. فإذاً هذه الأسرة السعودية المباركة، ذات بعد تاريخي عريق، ليست طارئة على مسرح الأحداث، كما فعل كثيرون في بلدان كثيرة، ليس لهم من التاريخ غير أنهم جاؤوا محمولين على ظهر دبابات المستعمر، فأذاقوا شعوبهم الويل والثبور، وما زالوا يذيقونهم الأمرين.
أقول هكذا تعاقب قادة آل سعود، إلى أن استقر الأمر أخيراً إلى الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي، الذي يُعَدُّ آخر أمراء الدرعية من آل سعود، وأول أئمة الدولة السعودية وقادتها، إذ تولى الإمارة ليؤسس لاحقاً الدولة السعودية الأولى كما تقدم، أول كيان سياسي اجتماعي موحد، دولة جديدة منظمة، لم تعرف شبه الجزيرة العربية مثيلاً لها منذ نهاية عهد الخلافة الراشدة.
كان الإمام محمد بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الأولى، كسائر قادة آل سعود، يتمتع بصفات قيادية فريدة، اشتهر بها دون غيره من أمراء البلدان النجدية، جعلت له مكانة سامية بين ربعه آل مقرن، وسائر مواطنيه على حد سواء؛ فقد أثنى المؤرخون المحليون وغيرهم على ما تحلّى به من أخلاق رفيعة: وفاء، مروءة، شهامة، كرم، إقدام ومد يد العون حتى لمن ناصبه العداء. وكان بجانب هذا شجاعاً جسوراً في غير تهور، قوي العزيمة، رابط الجأش، ولهذا كثيراً ما قاد الجيوش بنفسه، خاصة في المراحل الأولى من الغزوات التي خاضها لتوحيد نجد، حريصاً على استتباب الأمن، وتفقد الأمور العامة لرعيته، بحفظ حقوقهم، ورفع الظلم عنهم. كما كان دبلوماسياً ذكياً حسن التدبير، حريصاً على إتباع سياسة السلم وحسن الجوار، لا يقدم على القتال إلا إذا غلبت الروم، فكان لا بد ممّا ليس منه بد. ولهذا استطاع أن ينأى ببلاده عن النزاعات والحروب التي كانت سائدة بين البلدان النجدية حينئذٍ؛ لكنه مع هذا كان صاحب قدرة مدهشة على اتخاذ القرارات الخطيرة في ما يتعلق بكل الشؤون المصيرية برعيته أو بلاده. كما كان خبيراً بالشؤون العسكرية، وأسلوب القتال، ومن ذكائه السياسي الإداري، كان يبقي على أمير كل بلدة في إمارته في حال انضمامه إلى الدرعية طوعاً أو كرهاً.
وكان بجانب هذا كله شديد التَّديُّن، حتى قبل توليه شؤون الإمارة، كثير الخيرات والعبادة، كان يحب الخلوة فينقطع عن أهله وأولاده للعبادة. فازدهرت الحياة العلمية في عهده إلى حد ما. ولهذا، وغيره كثير من صفات قيادية مدهشة، دان له الجميع بالطاعة والولاء، ولم ينازعه أحد الحكم. كما كان حكمه مستقراً مستقلاً استقلالاً تاماً عن بقية القوى السياسية، داخلية كانت أو خارجية، ولم يكن يتلقى مساعدات خارجية أيَّاً كانت من هذه القوى أو تلك.
وهكذا ظل الإمام محمد بن سعود يجاهد في تأسيس هذه البلاد الطاهرة الطيبة المباركة التي ليس مثلها اليوم في الدنيا وطن لمدة أربعين سنة تقريباً، أي أنه قضى نصف عمره المباركة في خدمة بلاده وشعبه، حتى إذا وافته المنية عام 1179/1765، ترك لابنه عبد العزيز كياناً قوياً ضم بلاداً مهمة وقبائل بارزة في نجد، واضعاً بذلك حدَّاً لقرون من التمزق والتفرق السياسي والقبلي والاجتماعي بين بلدانها وقبائلها.
فتولى الحكم بعده ابنه عبد العزيز، الذي كان مثل والده، فارساً لا يشق له غبار، فكم قاد الجيوش بنفسه وتقدم الصفوف، ولم يقعده حتى المرض عن تحقيق أهدافه؛ فسار على خطى الوالد المؤسس في تعزيز أركان الدولة؛ فتمكَّن عام 1186/1772 من ضم الرياض إلى الكيان الجديد. حتى إذا لحق بالرفيق الأعلى شهيداً إن شاء الله، عام 1218/1803، تسلم الراية ابنه سعوداً، الذي أعدَّه والده عبد العزيز إعداداً جيداً ليتولى قيادة السفينة بعده. وكان سعود هذا، إضافة لما تحّى به من صفات القيادة والبطولة، عالماً ضليعاً في التشريع الإسلامي، فبذل جهداً كبيراً في تطبيق الشرع، واستتباب الأمن والاستقرار، وسيادة النظام، والقضاءعلى الحروب المحلية والنزاعات الشخصية.
وعند وفاة سعود في الدرعية عام 1230/1814، خلفه ابنه عبد الله، الذي عرف بالفروسية والجرأة والإقدام منذ طفولته المبكرة، إذ قيل إنه استطاع ترويض فرسه وهو لم يكن يتجاوز ربيعه الخامس بعد. كما كان صريحاً محبوباً، وكان كل أفراد رعيته يرون فيه تجسيداً لكل الفضائل والمكارم، شأن قادة آل سعود كلهم على مرّ التاريخ.
وهكذا ظل كل خلف يضع مزيداً من اللبنات على بنيان السلف، إلى أن بلغت الدولة السعودية التي تعدّ أول كيان سياسي اجتماعي موحَّد في شبه الجزيرة العربية، بعد عهد الخلافة الراشدة كما تقدم، وقوة نفوذها في شؤون الخليج حدهما الأقصى عام 1225/1810. لكن للأسف الشديد، بدأ محمد علي باشا حملاته على السعودية من مصر، ثم توالت الحملات والقتل والدمار إلى أن وصلت الدرعية، فاضطر الأمير عبد الله بن سعود بن عبد العزيز عام 1233/1818، للدخول في مفاوضات مع الغزاة بعدما استنفد كل جهده في مقاومتهم؛ فعقد صلحاً مع إبراهيم باشا لإيقاف الحرب شريطة العفو عن مقاتليه والمحافظة على الدرعية وأهلها. ومع أنه كان مدركاً لمصيره، إلا كل ما كان يشغل ذهنه هو قومه وبلاده، شأن القادة الكبار عبر التاريخ. وبالفعل كما كان يتوقع، بعد أن أخذه الغزاة إلى القاهرة ومن معه، تم إرساله إلى القسطنطينية حيث أعدم مع بعض المقربين إليه.
ومتى كان الغازي يرعى عهداً أو يخفر ذمة؟ فقد هدموا الدرعية ودمّروها، حتى قيل إنه لم يبق فيها حجر على حجر، حتى أشجار نخيلها لم تسلم من حقد المعتدي، وهكذا أسدل الستار على الدولة السعودية الأولى.
الدولة السعودية الثانية:
ولما كانت هذه الأسرة السعودية المباركة، صاحبة رسالة عظيمة سامية، غايتها توحيد الله وإعلاء كلمته، ونفع الناس أجمعين، وتحقيق الخلافة في الأرض كما ينبغي لها أن تكون، كان لا بدّ لقافلة خيرهم القاصدة، أن تحثّ السير نحو غاياتها، مهما كانت وعورة الطريق. فبعد فترة فراغ وفوضى كما يحدث عادةً بعد انهيار الحكم القائم، برز من بين الصفوف الإمام تركي بن عبد الله، الفارس الجسور، البطل المغوار، صاحب السيف الأجرب، فالتف حوله قومه، واستطاع طرد الغزاة وإجلائهم عن نجد كلها، واستعادة الرياض وجعلها عاصمة لدولته، بعد أن أجبرهم سيفه الأجرب على مغادرتها صاغرين. وقد لُقِّبَ الإمام تركي بسيفه هذا (صاحب الأجرب) وفيه قال في قصيدته الشهرة التي وجهها لابن عمه مشاري بن عبد الرحمن، الذي كان محبوساً من قبل الأتراك في مصر مع مجموعة من أقربائه وأتباعه:
ان سايلو عني فحالي تسرا
قبقب شراع العز لو كنت داري
يوم ان كلن من خويه تبرا
حطيت الأجرب لي خوي(ن) يباري
نعم الرفيق اللي صطا ثم جرا
يودع مناعير النشاما حباري
ثم يواصل في قصيدته، مطمئناً ابن عمه مشاري، باستعادة دولة آبائه وأجداده:
رميت عني برقع الذل برا
ولا خير في من لا يدوس المحاري
يبقى الفخر وانا بقبري معرا
وافعال تركي مثل شمس النهاري
احصنت نجد عقب ما هي تطرا
مصيونة عن حر لفح الهذاري
نزلتها غصب(ن) بخير وشرا
وجمعت شمل(ن) بالقرايا وقاري
والشرع فيها قد مشى واستمرا
ويقرى بها درس الضحى كل قاري
زال الهوى والغي عنها وفرا
ويقضي بها القاضي بليا مصاري
والحقيقة القصيدة طويلة ومعبرة ومؤثرة، ولا أكاد أقرأها حتى يبلل الدمع الورق دون أن أشعر، وكم تمنيت لو أنني أستطيع إيرادها هنا كلها، لما تعبر عنه من معاني جزلة، وتؤكد الروح الشاعرية لهذا البطل، صاحب المواهب المتعددة؛ إذ كان بجانب هذا كله صاحب خبرة في التطبيب البلدي.
أجل، كان الإمام تركي بطلاً شجاعاً مقداماً لا يخشى الوغى، شأنه شأن آبائه وأجداده، قاد أخطر الحملات وأكبرها في استعادة الدولة بنفسه متقدماً الصفوف، ذكياً راجح العقل، صاحب رأي سديد متديناً، شهماً كريماً حتى مع من ناصبوه العداء، حريصاً على رؤية دولة تعيد توحيد الناس حتى إن لم يكن هو زعيماً لها، شديداً في رد الحق إلى نصابه، وتأديب المعتدي. فتعلق به قومه وأعجبوا بشخصيته القوية وحزمه وعزمه، ممّا أهله لتولي الأمر وإعادة الدولة السعودية في دورها الثاني عام 1240/1824. وفي هذا قال عنه ابن بشر: (دخلت السنة الحادية والأربعون بعد المائتين والألف، وتركي بن عبد الله رحمه الله في الرياض، وبلدان نجد كلها سامعة مطيعة. فاطمأنت بعدله الرعايا، وأمنت البلدان والقرايا. ورفع الله بولايته عن المسلمين المحن وزالت عنهم الحروب والفتن… إلخ).
ولا غرو في ذلك، فوالده هو الإمام عبد الله ابن الإمام محمد بن سعود، الجد الأعلى للأسرة المالكة اليوم. شارك في توحيد الدولة السعودية في دورها الأول، وقاد كثيراً من الحملات، كما كان من خاصة مستشاري أخيه الإمام عبد العزيز لصدقه وإخلاصه ورجاحة عقله. كان كثير الملازمة لأخيه، حتى عندما طعنَه قاتلُه في مسجد الطريف أثناء صلاة العشاء عام 1218/1803، كان إلى جانبه. فسارع الإمام عبد الله وصرع المجرم الذي أهوى عليه يريد قتله بعد أن جرحه، واجتمع المصلون على القاتل فقتلوه.
وهكذا ظل الإمام تركي يؤمن البلاد والعباد ويرسي العدل، ويضع حداً للاضطرابات القبلية، إلى أن سقط شهيداً مثل عمه الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، بيد الغدر والخيانة والحقد على ما حققه من إنجازات عظيمة.
وسرعان ما عاد الإمام فيصل بن تركي الذي كان يقود جيش والده للدفاع عن الإحساء، ليقتص من قاتله، ويستلم زمام الأمر في العام نفسه. ثم يبذل قصارى جهده لطرد الغزاة المعتدين الذين حدثتهم أنفسهم بالعودة مجدداً.
ونظراً لاختلال ميزان القوى، استسلم مشترطاً تأمين أتباعه، فأرسل إلى مصر حيث تم حبسه. ثم يتمكن من العودة بعد فترة فوضى، ليستعيد سلطته من جديد؛ وظل يوطِّد حكمه، ويعمل على الاستقرار، ويرسي الأمن، ويقيم العدل، ويؤمن قوافل الحجيج، ويضطلع بشؤون رعيته، حتى وفاته في 1282/1865. فخلفه ابنه عبد الله. وتستمر مؤامرات الغزاة المعتدين في إشعال جذوة الصراع على السلطة، ليفضي الأمر في النهاية، إلى أفول نجم الدولة السعودية الثانية التي أسسها الإمام تركي بن عبد الله ابن الإمام محمد بن سعود.
الدولة السعودية الثالثة:
ولما كانت هذه الأسرة السعودية الطيبة المباركة صاحبة رسالة سامية عظيمة كما تقدم، تكمن في توحيد الله، وإعلاء كلمته، وتحقيق الخيرية للناس أجمعين، كان لا بد لقافلة خيرنا القاصدة، مواصلة المسير مهما اعتراها من صعاب. ومثل جده الإمام تركي بن عبد الله، ومن قبلهما جدهما الأمام محمد بن سعود، نهض المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، البطل الفذّ الذي اجتمعت له من الصفات البطولية النادرة ما لم يجتمع مثلها لغيره من معاصريه، فحمل الراية بكل جدارة واقتدار، وانطلق من الكويت يرافقه الرواد الأوائل ليستعيد ملك آبائه وأجداده في الخامس من شوال عام 1319، الموافق للخامس عشر من يناير عام 1902، في ملحمة بطولية أدهشت أكبر جنرالات العالم من خريجي سانت هيرست وويست بوينت وأشهرهم. ولأنها أسرة صاحبة رساة حقاً، كان أول قرار أعلنه الملك عبد العزيز المؤسس، أن دستور بلاده هو كتاب الله عزَّ و جلَّ، ثم سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فكانت دولته امتداداً طبيعياً لدولة آبائه وأجداده.
وهكذا انطلقت رحلة البناء الطويلة الشاقة، يد تبني وتعمِّر، وأخرى تحمل السلاح لتأديب العصاة وقطع دابر المفسدين. ومثلما قضى الإمام محمد بن سعود أربعة عقود في مسيرة التوحيد، كذلك فعل المؤسس الملك عبد العزيز، إذ قضى ثلاثة عقود في مسيرة توحيد بلاده، وكان كثيراً ما يقود الجيوش بنفسه متقدماً الصفوف.
كما استطاع بما وهبه الله من ذكاء، وفطرة سليمة، وصفات قيادية عديدة، تجيير صراع القوى الأجنبية على بلده لخدمة مصالحه هو. فأسس هذا الكيان الشامخ، الذي كانت نواته الدرعية، التي لم تكن تتجاوز بضعة كيلومترات، إلى وطن قارة. ومثلما اهتم عبد العزيز بتوحيد أجزاء بلاده، لم يكن لقائد مثله أن يغفل توحيد قلوب شعبه، والتفافهم حول قيادتهم، ونبذ الفرقة والشتات والتعصب القبلي والجهوي والمناطقي، وتوحيد الجهود كلها لخدمة الجميع.
فأصبحنا اليوم بفضل الله سبحانه وتعالى، نعيش في إلفة ومحبة ورخاء وازدهار، كلنا أسرة واحدة، يرحم كبيرنا صغيرنا، ويوقِّر صغيرنا كبيرنا، جسداً واحداً، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
أقول، أوقف الملك عبد العزيز حياته الطيبة المباركة كلها، لتأسيس هذا الكيان، وترسيخ أركانه، وإن كانت إنجازاته لا تعد ولا تحصى، كما يؤكد دوماً قائد مسيرتنا الظافرة اليوم، خادم الحرمين الشريقين، سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، أشبه الناس بعبد العزيز خَلقاً وخُلقاً، مستودع تاريخنا وإرثنا الحضاري: (إن ألف كتاب، أو حتى ألفا كتاب، لن تستطيع أن توفي الملك عبد العزيز حقَّه علينا)، أقول وإن كانت إنجازات عبد العزيز لا تعد ولا تحصى، يبقى ترسيخ الأمن الذي أصبح علامة سعودية فارقة بامتياز في العالم كله، ممّا جعل دولتنا المباركة هذه اليوم تعرف في العالم كله شرقيه وغربيه بـ (دولة الأمن والأمان). يسير فيها المسافر من الشام إلى اليمن، ومن الخليج إلى البحر، لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه.
والحقيقة، يعجز الإنسان، ويخذله اللسان عند ذكر إنجازات المؤسس الملك عبد العزيز، ولهذا يروق لي دوماً، أن أجد في شعر الشاعر المبدع أحمد بن إبراهيم الغزاوي، شاعر الملك عبد العزيز، شيئاً من عزاء في عدم القدرة على حصر إنجازات الملك عبد العزيز والد الجميع، إذ يقول في رائعته بمناسبة قدوم الملك عبد العزيز مكة المكرمة في السادس من ذي الحجة 1346، بعنوان (قد شاء ربك أن تكون موفقاً):
ما ذا أرتل من مآثرك التي
أولى فضائلها صلاح (المسجد)
وحدت فيه صلاة كل جماعة
وأذعت فيه هدي دين (محمد)
وعمرته وأقمت في أرجائه
ظلاً تقي حر الهجير الموقد
وأشدت فيه مسايلاً مورودة
فهي (السقاية) في جوار الأسعد
زانت جوانبه نجوم الكهربا
فتلألأت كالكواكب المتوقد
ونسجت ثوب البيت حول رواقه
فأضفت طارف مجده المتجدد
•••••••••••
وينام ملء جفونه عن ماله
مما استتب من الأمان الأوكد
إلى أن يقول:
هذا لعمر الله بعض صنيعكم
هيهات بحصره بيان مقصد
وبعد رحيل المؤسس، بعد رحلة جهاد شاقة طويلة، أورثتنا هذا المجد الذي نفاخر به اليوم الأمم كلها، حمل الراية بعده أبناؤه: سعود، الفيصل، خالد، الفهد، عبد الله، وكلهم كان يضيف مزيداً من اللبنات على هذا البنيان الراسخ الشامخ؛ وصولاً إلى هذا العهد الميمون الزاهر، بقيادة شبيه عبد العزيز، خادم الحرمين الشريفين سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وولي عهده القوي بالله الأمين أخي العزيز صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، رئيس مجلس الوزراء، شبيه والده وجده المؤسس، الذي ظل دوماً منذ شبابه الباكر، نعم السند. فأدهشت بلادنا العالم بما حققته من تنمية وتطوير في المجالات كلها؛ وانتقلت من المحلية إلى العالمية لتحقق مراكز متقدمة في المؤشرات الدولية في جميع المجالات.
والحقيقة الحديث يطول عن هذه الإنجازات المدهشة التي تفوقت فيها السعودية اليوم على نفسها، ولهذا أكتفي برسالة سريعة أوجهها إلى أولئك الذين كانوا يعيروننا بالخيمة والشاة والصحراء:
اليوم نحن أقوى تاسع دولة على مستوى العالم.
لدينا أحد أكبر الصناديق السيادية في العالم وأفضلها.
أفضل دولة من حيث التعليم.
أقوى اقتصاد على مستوى العالم العربي، والعشرون على مستوى العالم.
أغنى الدول العربية، وفي المركز التاسع عشر عالمياً.
نحتل المرتبة الثالثة في قائمة أسعد الدول على مستوى العالم.
نحتل المركز الأول على مستوى العالم في تحقيق أكبر عدد من الميداليات في ما يتعلق بمسابقة الذكاء الاصطناعي للشباب.
ولأننا لا نحقد مثلكم، ولا نحسد ولا نشمت، ندعوكم لمشاهدة مباريات كأس آسيا على ملاعبنا 2027.
ولزيارة معرض أكسبو في بلادنا 2030.
ولمشاهدة كأس العالم أيضاً على ملاعبنا التي ستدهشكم قطعاً 2034.
ومن اليوم حتى آنئذٍ، سترون المزيد من الإبداع الجديد في كل المجالات في بلادنا.
ومع هذا، أتعلمون: ما زالنا نعتز بالخيمة والشاة والصحراء ونفتخر، وسنبقى كذلك إلى الأبد. ونشكر المنعم الوهاب ليل نهار على ما تفضل به علينا.
وبعد، الحقيقة ليس الغرض من حديثي هذا اليوم سرداً لتاريخ هذه الدولة المباركة، وسيرة قادتنا الكرام البررة الذين أوقفوا حياتهم كلها لخدمتها؛ وإن كان الأمر قطعاً يستحق، بل أكثر من ذلك: في كل دور من أدوارها لقي أحد قادتها ربه شهيداً إن شاء الله، الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، الإمام تركي بن عبد الله ابن الإمام محمد بن سعود، والملك فيصل بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود.
فقد ضحى أولئك كلهم بحياتهم من أجلنا، واليوم الدور علينا نحن المواطنين، على كل واحد منَّا أن يدرك مسؤوليته تجاه وطنه، من العامل البسيط حتى أساتذة الجامعات، وإن كنت أتوجه هنا إلى الإخوة رجال الأعمال بشكل أكثر تحديداً، لدعم بلادهم في خدمة المجتمع في مختلف المجالات.
صحيح، الدولة لم تقصر، ولن تقصر أبداً إن شاء الله في واجبها تجاه مواطنيها الكرام، لكن من باب الوفاء والعرفان والامتنان لما تضطلع به الدولة من واجب عظيم، أتمنى أن أرى مشروعات حقيقية يقوم بها رجال المال والأعمال لخدمة الفئات الأكثر حاجة في المجتمع.
وكل عام قادتنا بصحة وعافية، وبلدنا في أمن وأمان وسلام واستقرار، ومن تقدم لآخر، وشعبنا في راحة وهناء ووئام.