لجريدة عمان:
2025-04-09@20:48:35 GMT

«المفكرون والعباقرة» .. ماذا بعد الغياب؟

تاريخ النشر: 23rd, January 2025 GMT

«المفكرون والعباقرة» .. ماذا بعد الغياب؟

عندما نقتفي أثر شخصية «أدبية أو علمية أو فلسفية أو غير ذلك» نجد أنهم كانوا ذات يوم يعيشون حياة مختلفة عما نعيشها نحن من بساطة ومحدودية في عدد الرغبات التي نحلم أن نحصل عليها أو نجدها أمام أعيننا.

نحن البسطاء يكفينا أن تولد الأشياء فجأة ولا نهتم إن غابت أو انتهت بسهولة، عباقرة العصور المختلفة لهم حساباتهم المختلفة تماما عما نذهب إليه، لكن المثير أنهم يتركون أثرا واضحا كمثل أقدامهم عندما كانت تغوص في قاع الأرض، أما ما قالوه فيبقى أثره واضحا في القلب والذاكرة لا يموت.

إن مثل هؤلاء النخبة من البشر يعيشون حياة تعج بالاضطرابات والاهتزازات العنيفة، لذا فهم مختلفون بعض الشيء عن الآخرين من بني جنسهم، لهم عالمهم الخاص وعلاقاتهم التي تتوافق مع نظرتهم للحياة في لحظة معينة.

بعض العباقرة يصابون بالجنون لكثرة انشغالهم بالأشياء الدقيقة والإبحار في يم المعرفة، لذا لا تستغرب إن ركنوا إلى عالم «العزلة والانفراد بالنفس»، لذا عندما يهاجمهم الغياب تظل أجسادهم في مكانها لا تجد من يواريها الثرى حتى تتحلل تماما في مكانها المعزول.

قد تكون هذه العبقرية وبالًا على أصحابها، فمثل هذه الفئة من الناس لديهم هواجس غريبة، يرتبطون أكثر من غيرهم بـ«المكان والزمان»، لا يهتمون كثيرا بالأشياء التي تحيط بهم سواء كانت ترفا أو مجرد كماليات في الحياة.

يفكرون أكثر من غيرهم في جذب خيوط إبداعاتهم الإنسانية سواء في عالم الإبداع الأدبي والفكري، شغفهم وحماستهم تأتي من أجل تنوير العالم من حولهم بضياء يستمدونه من تجاربهم الناجحة والفاشلة أحيانا، وأيضا من قراءاتهم لسجلات الماضي وتوقعات المستقبل الذي سيأتي بعد ذهابهم في توابيت الأموات.

يصاب بعضهم بحالة من الجنون الفكري والعاطفي، يمتازون بمزاج متقلب أكثر من الغير بمراحل كثيرة، يفرحون في أوقات معينة، ويطلقون سباقهم من الأحزان عندما تضيق بهم الحياة، بعضهم يذهب إلى يم الكآبة ليشرب منه، وبعضهم يتهاوى بنيان الحياة على رأسه عندما لا يستطع مؤلف منهم كتابة كلمة واحدة بسبب ضائقة نفسية أو إفلاس في المشاعر وفقدان في الإحساس بالأشياء من حوله.

لكنهم يستلذون بما يخرجونه من جوفهم من عبقرية متفردة سواء من جمل صادقة تجعلهم يعيدون ترتيب أنفسهم بشكل جديد أو ينهون مسيرته بالعزلة وطلبا في الغياب من الحياة.

بعض العمالقة يفهمون الحياة عبر نظرية «تأمل وجه الموت»، فالبعض يمر بصراعات نفسية واضطرابات داخلية وينتابهم أشد أنواع اليأس.

بعض الكتاب والمؤلفين والأدباء يرحلون بصمت، كما يحرص الكثير منهم على الرحيل بدون إحداث أي ضوضاء، ومع هذا الرحيل، تبقى مقولاتهم شاهدة على عبقرية فذة وفكر متزن ناضج، كلما نريد أن نتحدث عن أمر ما نجدنا نحاول اقتباس شيء كتبه أديب متمكن، لذا علينا أن نحفظ شيئا مما قالوه أو دونوه في كتب قيمة.

بعضنا يحب أن يقرأ فقط دون أن يعرف شيئا عن شخصية الكاتب والمعاناة الحقيقية التي دفعته إلى تأليف ملاحم بطولية سواء كانت من خيال الكاتب أو من واقع الحياة.

لدينا في عالمنا العربي نخبة من الكتاب والشعراء والمؤلفين لا يقلون أهمية عن غيرهم في الأدب العالمي سواء في روسيا أو أوروبا، عاشوا في مضمار الحياة سعيا لتقديم أعمال جليلة تبقى أكثر طيبا في سجلات الإبداع الفكري.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

عندما انتهى بناء القارب.. جف النهر

 

 

علي بن سالم كفيتان

أسير وحيدًا على شط نهر منقطع؛ فبعد كل مسافة أجد بحيرة تحفها نباتات الخوص (نخيل السعف)، وهي تتراقص مع نسمات الهواء الباردة القادمة من لُجة الوادي السحيق خلفي، يشعرني ذلك بالسُّمو، ويتبادر إلى ذهني فيلم أسكتلندي بطله رجل حارب الإقطاع والعبودية، وأسمع وقع خُطاي على حصباء الوادي، وأتابع صدى تلك الخطى في أنحاء المكان، أقف التفتُ إلى الخلف أحسُّ أن أحدًا يتبعني، لكنني لا أرى سوى بقايا هذا النهر العظيم الذي نحتته السنون؛ فأصبح غائرًا لدرجة تشعرك أنَّك تسير في بلاط قصر نبي الله سليمان عليه السلام.

أستفيق من أحلامي وتصوراتي تلك، وأقول لنفسي رحل جميع الأنبياء والرسل وبقيت الرسالات. أُلملم نفسي وأبحث عن جدول صغير على أطراف هذه البحيرة القابعة في عمق الصحراء لأتوضأ للصلاة. صوت خيط الماء المتدفق من بين تلك الصخور الصماء القاسية يمنحني أقرب صورة للفرق بين الحياة والموت. وجَّهتُ نفسي إلى القبلة ورفعت الآذان وحيدًا هنا، وقبل أن انتهي تدافعت العَبرات، وخفت صوتي، مستحضرًا عظمة الخالق وضعف المخلوق، وبعد الإقامة والدخول في الصلاة، لامستْ يدٌ غريبة كتفي الأيمن؛ فاقشعرَّ بدني.. من يا ترى سيكون في هذا المكان القصي الموحش؟!

كانت صلاتي قصرًا، عندما ركعت لمحت رأس رجل أشعث مخضب بالشيب، وأطراف وجه أسمر تلفه التجاعيد، وجسد شاحب نحيل، وأصابع طويلة ترقد على ركبتيه. أتممتُ الركعتين، وعند السلام ظل الرجل الفارع القامة مطرقًا بنظره إلى أصابعه الخشنة التي تعلوها الكثير من الندوب، وهو يكمل التسبيح. مددتُ يدي للسلام، فسلَّم واعتدل في جلسته على الحصباء، ودار حديث عميق بيننا، علمتُ فيما بعد أنه قدم من أرض بعيدة تشبه هذه الأرض، تنبت فيها ذات الشجرة المقدسة الباقية على هذه السفوح والقيعان (شجرة اللبان)؛ وبما أن الإنسان اجتماعي بطبعه- كما يقول ابن خلدون في مقدمته- سكنتْ نفسي بوجود هذا الرجل، ولم أعد أشعر بالخوف والوحشة من الوحدة؛ فالمسار لا زال طويلاً إلى منابع النهر. قضينا تلك الليلة معًا، بعد أن أوقدنا النار، وطبخنا ما تيسر من مُعلَّبات كنتُ أحملها في حقيبتي، فقد كان الضيف زاهدًا في كل شيء في الأكل، وحتى عندما يستل قربته الجلدية ليشرب يأخذ بضع رشفات فقط، رغم أننا على أطراف بحيرة تنضح من أطرافها عدة ينابيع، ومع كل ذلك كنت متوجسًا منه، بحكم تربيتنا الريفية على الحذر من كل غريب. لم يكن يحمل سلاحًا ناريًا، وكان لديه جزرة وعصا فقط، وقصَّ عليَّ رحلته الكاملة من بلاد الصومال إلى اليمن، وحتى وصوله إلى عُمان؛ فتمنيتُ لو حولت إلى فيلم سينمائي بإخراج عالمي استمرت جلستنا من قبيل المغرب إلى التاسعة ليلًا أستأذن بعدها لقضاء حاجته، ولكنه لم يعُد. ولجتُ إلى خيمتي القماشية وأشعلت مصباحًا صغيرًا وفتحت هاتف الثريا لأتأكد أنه موصول بالأقمار الصناعية، وأنه يعمل، فأجريتُ اتصالًا بأعضاء فريق المسح الذي يعمل بشكل متوازٍ في عدة أودية مجاورة.

فجر اليوم التالي، حزمتُ أمتعتي ومضيتُ مرات أتسلق ومرات أخوض المياه، حتى وجدت بقايا أخشاب لا زالت تجمعها حبال قذفتها السيول على ما يبدو إلى ضفة النهر الجاف هذا، فامتلكني الفضول للتدقيق في الأمر، ما عساه يكون؟ فقلت لعلها أتت من كهف يسكنه أناس وأتى عليه الفيضان، لكن الأمر يبدو مختلفًا من حيث توازي أطوال الأخشاب وطريقة ربطها، وحتى الحبال المستخدمة هي من شجرة النارجيل، يبدو لي أنه بقايا قارب بدائي مصنوع من الأدوات المحلية. هنا تسابقت إلى مخيلتي الكثير من التساؤلات؛ هل يكون هذا هو آخر القوارب التي أبحرت في نهر أنظور عزز وجود بقايا القلعة وأبراج الحراسة ومخازن اللبان المطلة على واحة أنظور المهيبة؟! من هذا التصور الخيالي لنهر يجري وقوافل لبان تمخر المنحدرات محملة باللبان إلى ميناء مائي تعج فيه حركة البيع والشراء تكمل بعده المراكب حمل البضاعة إلى المحطة النهائية التي يذوب فيها النهر في الصحراء.

فكرتُ مليًا في صانع هذا القارب القابع اليوم على ضفاف وادي قاحل جاف وكيف حاول بكل ما يملك أن يجعله أحد أعظم القوارب التي سوف تبحر يومًا ما ولكنه لم يبحر أبدًا. يبدو أن النهر جف عندما انتهى بناء القارب!

*****

القصة مستوحاة من جولة عمل بيئي في وادي أنظور بمحافظة ظفار في ديسمبر 2004 استمرت لعدة أيام برفقة خبراء من عدة جهات لتقييم الأودية الجافة المنحدرة من جبل سمحان إلى صحراء الربع الخالي.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • بعد 12 عاماً من الغياب.. أحمد مكي يحضّر لعودته إلى السينما
  • محافظ شمال سيناء: غرفة أزمة مركزية تدير خطة دعم غزة
  • هجينية الصراع
  • الحبّ الفلسفي
  • بعد الغياب .. دنيا بطمة تعود لتتألق في حفل الدار البيضاء
  • خلال جولة مفاجئة بالمدارس.. مدير تعليم القاهرة تشدد على رصد الغياب
  • عندما انتهى بناء القارب.. جف النهر
  • من تاريخ الغياب إلى واقع الإحياء.. شجرة الفرفارة أمل جديد للصحاري العراقية
  • من تاريخ الغياب إلى واقع الإحياء.. شجرة الفرفارة أمل جديد للصحاري العراقية - عاجل
  • حصر نسب الغياب بالمدارس وتطبيق لائحة الانضباط بقرار من وزير التعليم