لجريدة عمان:
2025-01-21@04:05:42 GMT

السكان .. لا يذوبون ولا يعاد تشكيلهم

تاريخ النشر: 20th, August 2023 GMT

تذهب الفكرة في هذه المناقشة إلى أن الأوطان البديلة «المستضيفة» لا يمكن أن تُغَرِّبَ المستبدل بها عن وطنه الأم، ولا يمكن أن تحل الأوطان البديلة إحلالا قطعيا بحيث لا يعود للمستبدل إلى شيء من وطنه الأصل، في: قيمه، ثقافته، تجارب طفولته، مناخاته الاجتماعية التي امتزجت بكل تفاصيل حياته السابقة، أصدقائه الذين لا يزالون يحتلون مساحة واسعة ضمن ذكرياته، زوايا الحي الذي عاش فيه، طرق القرية وبساتينها، ذلك الفضاء الممتد للحقول والميادين، ومجموع الصور التراثية، ولذلك يظل الهاجس؛ وإن تناءى به الزمن؛ قائما للعودة، والبقاء إلى آخر لحظة من العمر، حتى وإن كان الوطن الأم مارس قساوة على مواطنيه، وعانى فيه مواطنوه؛ مما كان دافعا للرحيل، والبحث عن وطن بديل، حيث تظل كل هذه الأسباب -مع تعددها وقسوتها وحمولتها النفسية الثقيلة- هي أسباب مؤقتة تتماهى شيئا فشيئا مع تجدد الذكرى، وتراكم شعور الحنين، ولحظات الصراع بين الغربة وبين هذا الشعور لن تتوقف، ولن تتماهى في دهاليز الوطن البديل، وسرعان ما تنهزم الغربة، ويسلم الفرد نفسه للعودة إلى وطنه، الذي لا يزال في نظره جميلا.

ومعنى هذا فمجموعة المؤثرات القائمة في الوطن البديل - سواء مؤثرات مادية أو معنوية - التي من شأنها أن تعيد تشكيل المواقف، والقناعات لن تصمد كثيرا أمام مارد الحنين، فمجموعة المكتسبات الوطنية السابقة للوطن الأم، توجد في هذا المغترب معززات العودة سريعا، وفي ذلك إعادة إنتاج لـ «الولاءات» حيث «يعيد الناس ولاءهم للبلدان التي جاؤوا منها» ولا يمكن أن تسقط هذه الولاءات لأجل أغراض زائلة؛ غير مرتبطة بوجدان الفرد القابع في أتون الغربة، وإن حدث أن أظهر المغترب شيئا من صور الولاء للوطن البديل، فذلك نوع من التمثيل الطاغي غير المعبر عن الحقيقة.

عندما ترى كل ما كنت عليه، وما تعودته ينسل من بين يديك: يتصادم مع قناعاتك، ومع آرائك، ومع خبرات تجاربك في الحياة التي أنجزت فيها عمرا مقدرا؛ حينها؛ بلا شك؛ يساورك شعور الاغتراب، وترى أنك بلا قيمة، وأنك وحيد، وأنك تحتاج إلى شيء من التوازن في حياتك الاجتماعية، وأن هناك شيئا مفقودا تود لو تلمسه بكلتي يديك، وإن لم يتبين لك كنهه، هو نوع من الشعور بالفراغ، وعلى ما يبدو أن كل الصخب المثار حولك لن يلهيك عن التفكير في وطنك الأم؛ هنا في هذا الجزء من المناقشة؛ استحضر حالة المغترب، ولعلي أتقمص وجدانه في شخصيته، وشعوره، وحنينه، ولذلك أَكْبُرُ في قدرة المغتربين على البقاء طويلا في الأوطان البديلة، التي لن تملأ مجمل الفراغات التي يعيشونها في غربتهم، ويقينا أيضا؛ أن المادة التي تكون هي المبرر الأكثر للاغتراب، لن تملأ هذه الفراغات التي تتسع كلما مكث المغترب طويلا في غربته، فالأوطان من شأنها أن لا تقبل البديل، وستصر على ممارسة غواياتها من الحنين، والشوق، والنبل، حتى وإن اتسعت مسافة الفصل بين الطرفين، فلا بديل إطلاقا عن الوطن، ومن يساوره شك في هذا التقييم عليه أن يسافر قليلا عن وطنه ليجد الحقيقة الصادمة التي لا يستشعرها الإنسان وهو محمول على أكف الرضا والحنان والأمان والسلام في وطنه.

يَمْثُلُ التحول الفكري - وهو واحد من صور الاغتراب عن الأوطان - كأحد أهم التحديات التي تواجه الأنظمة : السياسية، أو الثقافية، أو الاقتصادية، أو الدينية، أو العرقية، فهذا التحول يضرب في عمق البناءات الإنسانية التكوينية، فهو ليس زائرا أسطوريا يأخذ بتلابيب الدهشة، بقدر ما يطرح نفسه كبديل لأي بناء إنساني، ثقافي، معرفي، سبق أن تبنته الأجيال، لترى فيه أنه يحقق لها الكثير من الإشباعات النفسية؛ قبل كل شيء، وما يتلو ذلك من مكاسب مادية بحتة؛ حيث يحل مذهب السوق القائم على الربح والخسارة؛ كأهم متكئ لسيناريوهات الحياة اليومية، وحتى لا تتوه الفكرة كثيرا عن الثيمة الرئيسية للمناقشة؛ يمكن القول إن ما تشير إليه الفقرة أعلاه ينطبق أكثر على الجيل الثاني أو الثالث من تسلسل الأجيال التي تتأسس في الأوطان البديلة «الغربة» ويقينا؛ لن ينطبق هذا الفهم على الجيل الأول الذي لا يزال مزروعة أقدامه في وطنه الأم، حيث النشأة الأولى، ولذلك فنتوءات «الجنس والشهرة والمال والسلطة» التي تنشب أظفارها في كل مفارق الحياة اليومية، لن تستطيع أن تمارس تغريبا مضاعفا في مسألة التغريب عن الأوطان، وإن تلقت الدعم اللازم من الحكومة العالمية، والمتمثلة في الشركات «المتعددة الجنسيات» والممثلة هي الأخرى بمنظمة التجارة العالمية، فهذه كلها تظل صورا احتفالية في مسألة علاقة الأفراد بأوطانهم، حيث يعيش من أغرقتهم هذه الصور الاحتفالية في بدايات العمر صدمة كبرى تعيدهم إلى مربعهم الأول الذي انطلقوا منه وهو الوطن.

يقول (يوريبيديس/ شاعر ومسرحي يوناني): «ليس هناك حزن على وجه الأرض أكبر من فقد الإنسان لأرضه الوطنية» - انتهى النص - وبهذا نفهم أن الوطنية ليست شعارات ولافتات تكتب على الأماكن العامة ليقرأها الزائر والمغادر، بل هي عجينة تكوينية بنائية؛ ممتزجة بالدماء النقية للأفراد، ومعنى هذا لا يمكن أن تفصل وطنية الإنسان من دمه، وهو تلازم مطلق حتى خط النهاية، حيث الفراق النهائي من الحياة، ولذا فلن تنجح المحاولة التي تعمل عليها بعض الأنظمة السياسية في إقامة الدولة العالمية الكبرى، وستبقى مجرد حلم - مات عنه حالموه - وستبقى مسألة العلاقة القائمة بين الفرد وموطنه الأصلي علاقة متجذرة إلى ما يمكن التفكير فيه، أو تخيله، صحيح أن النظام الأخلاقي يتعرض اليوم أكثر من أي وقت مضى لانتهاكات مباشرة، تفضي؛ بلا شك؛ إلى محوه كقيمة؛ حصنت الوجود الإنسان من التردي في متون الإسفاف، والهمجية، والسقوط في براثن الغريزة الحيوانية المشاعة، إلا أنه حتى هذه المحاولات «للتغريب» لن تفقد الإنسان بحقيقة وجوده وبكنه هذه الحقيقة؛ وارتباطها بالفطرة السليمة، ولذلك رأينا ردات الفعل القوية والمستنكرة لأي شيء يمكن أن يشعر الفرد بأنه يتعرض لعمليات تهجير أو تطهير لمكتسباته القديمة، حيث تظهر المقاومة العنيفة لهذا السلوك، سواء تعرض الفرد لذلك من وطنه الأم، أو الوطن البديل، ففي الأولى يقاوم مقاومة المستميت، ولن يسلم الأمر، وفي الثانية يذهب إلى أقرب مكتب لحجز تذكرة العودة إلى وطنه، أما أن يستسلم للذوبان، أو إعادة تشكيله ليتوافق مع الواقع الجديد، فلن يكون ذلك مطلقا، ولو اقتضى الأمر التضحية بحياته، وحياة من يعول.

حاول مناصرو العولمة «الوطن العالمي» ولا يزالون أن يوظفوا (الجنس، والعرق، واللون، والأديان، والمذاهب) في تفكيك المجتمعات الإنسانية قبل الدولة، لتبدو الصورة أكثر تشويها، ولكن كل المحاولات فشلت حتى هذه اللحظة من الزمن، وما يحدث من توافق في بعض المواقف، فذلك استثناء من القاعدة، والاستثناء لا يرقى إلى مشارف القاعدة؛ فضلا؛ أن يكون أحد ركائزها، وإن ظهرت الصورة كما يقول البعض: «الفضائل القديمة تتحول إلى خطيئات، والخطيئات القديمة تتحول إلى فضائل»- انتهى النص - فذلك لن يخرج عن حالة الاستثناء، وهذا الفهم أعلاه لن ينفي أن الفطر السليمة تتعرض للتشويه، وهذا التشويه إن استمر قد يفضي إلى كثير من الاغتراب في مجمل العلاقات القائمة بين الفرد وما يحيط به، ولكن هذه الفطر متى لامست شيئا من الفضائل؛ سرعان ما تسلم أمرها لفضائلها، ولنا في الحديث الشريف؛ أسمى الحكمة وأكبر العظة؛ الذي يرويه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» - بحسب المصدر -.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لا یمکن أن

إقرأ أيضاً:

روح المسرح .. لا يمكن كبْتها

«لم أفهم ماذا أراد العرض أن يقول لنا؟»، تكرر هذا السؤال لأكثر من مرّة من قِبل الجمهور العُماني الذي حضر بكثافة ليالي مهرجان المسرح العربي الخامس عشر، وفي الغالب لم يكن مرد ذلك غموض الأعمال المُقدمة، بل لعلي أجزمُ أسبابا أخرى أهمها: انقطاع العُماني «الجمهور» عن سياق العروض المستمرة، الأمر الذي يُشوه الفهم لديه، يشوه قدرته على ربط الثيمات بسياقات أبعد مما تبدو عليه، وقد يرجع الأمر لتعوده أيضا على مستوى من الأعمال السطحية التي تكمن مهمتها في الإضحاك الباهت، غافلا -أي الجمهور- عن أشكال أخرى تُنمي هاجس السؤال لديه وتغرس شجرة النقد المتفرعة، وتجعله في مواجهة شرسة مع انفعالات نفسه التي تتمرأى انعكاساتها بجلاء على الخشبة.

علينا أيضا ألا نغفل كارثة المشتغلين بالمسرح الناتجة عن إغلاق فسحة التعليم الأكاديمي، فالمُشاهد للعروض العربية المقدمة، يجد أنّ أكثرها نضجا هي تلك التي خرجت من معاطف التعليم، وليس الارتجال العفوي التهريجي.

إنّ الأزمة الحقيقية هي أزمة فهم مُركبة.. من قبل الجهات المسؤولة التي يتضاءل اهتمامها بهذه المشاريع، جوار ضعف المعرفة بماهية المسرح وماذا نريد أن نقول من وراء عروضه أيضا، فالمشتغل بالمسرح ينبغي بدرجة أو بأخرى أن يرتبط بسياق معرفي، يوظفه في النصّ، في الحركة، في الإيماء، في الإضاءة والأزياء والديكور، في تثوير المعنى، فكل هذا بالضرورة سينعكس على الجمهور، عندما يتعود على مستوى من الخطاب، ضمن خطة عروض مستمرة، لا تبتسرُ في سياق المسابقات والمهرجانات وحسب!

لقد بدأ المسرح في عُمان مُبكرا نسبيا، بدأ في الأندية الأهلية منذ ستينيات القرن الماضي، ولكن للأسف، لم يتمكن من خلق أجيال متعاقبة مُتسلحة بالخبرات والمعرفة، كما لم يتحول إلى جزء من نسيج قصّتنا بصفتنا الجمهور المتلهف لاتصال من هذا النوع، ولذا لم يمضِ المسرح العُماني في سياق خطي متصل ومتنام.

يبدأ الأمر من تخاذل المسرح المدرسي، هنالك حيثُ يمكن أن تُسلط أول مجاهر الكشف عن المواهب الفريدة من نوعها في مجال التمثيل والكتابة المسرحية، تلك الطاقات التي غالبا ما تظل طريقها، إذ يُربط الطلبة -على اختلافهم- بطريق واحد للتميز: «الدرجات» وحسب، بينما يُغض الطرف عن الإمكانيات التي يمكن أن تتمظهر في أشكال لا محدودة، والأمر سيان في الكليات والجامعات، حيث يغدو مبدأ «تفريخ العمال» أكثر أولوية من تفتيح أفق العقل!

أذكر في أغلب الحوارات التي أجريتها مع العديد من مسرحيي عُمان، أنّ الأزمة المتكررة هي أزمة «مكان العرض»، فكانت الفرق تتدرب في الحدائق وتعرض في مسارح مدرسية، والآن توفرت خشبات مسرح حديثة، إلا أنّ العثرات ما زالت تتجلى في صور عديدة.

السؤال الأهم: من يتحمل تكلفة العرض؟ فهذا العمل الجماعي تتعدد احتياجاته من مكان إلى نصّ إلى سينوغرافيا، وينهضُ أيضا على فريق كبير من كاتب وممثل ومخرج، ينفقون أشهرا من أوقاتهم في سبيل إنجاز عمل واحد جيد، فهو اشتغال مُعقد ومتطلب، وعادة ما يرتبط نجاحه بتبني الدولة له بموازنات سنوية، ولا أدري إلى أي حد نجحت تجربة «شباك التذاكر» في تغطية تكاليفها!

ظننتُ أنّ «المسرح» هو خارج تطلع الجمهور العُماني، لكنه قلب المعادلة رأسا على عقب، فعلى مدى عشرة أيام متواصلة، كانت المسارح الثلاثة «البستان، العرفان، الكلية المصرفية» تضج بالحيوية وبإيقاع الناس الآتية من مشارب متباينة. جاء الجمهور المتعطش فأخذ حيزه، على الرغم من الملهيات الجذابة التي باتت تستحوذ عليه -في عالم استهلاكي- لتبعده عن كل ما هو عميق ومتجذر منذ منتصف القرن التاسع عشر.

وعلى العموم لا يمكن التحدث عن مسرح عربي مزدهر وغير مضطرب، فالمسألة -ليست محلية وحسب- وإنّما رهن تقلبات سياسية واقتصادية، لكن علينا أن نتذكر دائما بأن المسرح قادر على منحنا إمكانيات مذهلة على استبصار الجوانب الخفية من هذا العالم، فتحت طبقات التخييل، تقبعُ القصّة التي تشبهنا جميعا، وكما يقال: «أينما كان هناك مُجتمعٌ إنساني، تتجلى روحُ المسرح التي لا يمكن كبتُها».

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

مقالات مشابهة

  • هل يعاد طرح تهجير الفلسطينيين بإدارة ترامب؟.. وزير الخارجية الأسبق يوضح
  • السكان بدأوا بالهجرة.. العطش يفتك بمنطقة جنوبي العراق
  • أمانة جدة: قريبا طرح منافسة استثمارية لإنهاء معاناة السكان بـ جوهرة العروس.. فيديو
  • روح المسرح .. لا يمكن كبْتها
  • ظهور سحابة مخيفة في سماء البرازيل يرعب السكان
  • مساحات شاسعة أتت عليها الحرائق في لوس أنجلوس.. هذه صدمات السكان الجديدة
  • حرائق لوس أنجلوس.. خسائر تاريخية وانهيارات أرضية تهدد السكان
  • أدخنة مصنع الليثيوم السامة في كاليفورنيا تثير مخاوف السكان
  • الفقر ينهش الدول العربية.. 35% من السكان في دائرة الخطر!
  • انهيار جزئي لمنزل ببولاق الدكرور.. وإصابة أحد السكان