السكان .. لا يذوبون ولا يعاد تشكيلهم
تاريخ النشر: 20th, August 2023 GMT
تذهب الفكرة في هذه المناقشة إلى أن الأوطان البديلة «المستضيفة» لا يمكن أن تُغَرِّبَ المستبدل بها عن وطنه الأم، ولا يمكن أن تحل الأوطان البديلة إحلالا قطعيا بحيث لا يعود للمستبدل إلى شيء من وطنه الأصل، في: قيمه، ثقافته، تجارب طفولته، مناخاته الاجتماعية التي امتزجت بكل تفاصيل حياته السابقة، أصدقائه الذين لا يزالون يحتلون مساحة واسعة ضمن ذكرياته، زوايا الحي الذي عاش فيه، طرق القرية وبساتينها، ذلك الفضاء الممتد للحقول والميادين، ومجموع الصور التراثية، ولذلك يظل الهاجس؛ وإن تناءى به الزمن؛ قائما للعودة، والبقاء إلى آخر لحظة من العمر، حتى وإن كان الوطن الأم مارس قساوة على مواطنيه، وعانى فيه مواطنوه؛ مما كان دافعا للرحيل، والبحث عن وطن بديل، حيث تظل كل هذه الأسباب -مع تعددها وقسوتها وحمولتها النفسية الثقيلة- هي أسباب مؤقتة تتماهى شيئا فشيئا مع تجدد الذكرى، وتراكم شعور الحنين، ولحظات الصراع بين الغربة وبين هذا الشعور لن تتوقف، ولن تتماهى في دهاليز الوطن البديل، وسرعان ما تنهزم الغربة، ويسلم الفرد نفسه للعودة إلى وطنه، الذي لا يزال في نظره جميلا.
عندما ترى كل ما كنت عليه، وما تعودته ينسل من بين يديك: يتصادم مع قناعاتك، ومع آرائك، ومع خبرات تجاربك في الحياة التي أنجزت فيها عمرا مقدرا؛ حينها؛ بلا شك؛ يساورك شعور الاغتراب، وترى أنك بلا قيمة، وأنك وحيد، وأنك تحتاج إلى شيء من التوازن في حياتك الاجتماعية، وأن هناك شيئا مفقودا تود لو تلمسه بكلتي يديك، وإن لم يتبين لك كنهه، هو نوع من الشعور بالفراغ، وعلى ما يبدو أن كل الصخب المثار حولك لن يلهيك عن التفكير في وطنك الأم؛ هنا في هذا الجزء من المناقشة؛ استحضر حالة المغترب، ولعلي أتقمص وجدانه في شخصيته، وشعوره، وحنينه، ولذلك أَكْبُرُ في قدرة المغتربين على البقاء طويلا في الأوطان البديلة، التي لن تملأ مجمل الفراغات التي يعيشونها في غربتهم، ويقينا أيضا؛ أن المادة التي تكون هي المبرر الأكثر للاغتراب، لن تملأ هذه الفراغات التي تتسع كلما مكث المغترب طويلا في غربته، فالأوطان من شأنها أن لا تقبل البديل، وستصر على ممارسة غواياتها من الحنين، والشوق، والنبل، حتى وإن اتسعت مسافة الفصل بين الطرفين، فلا بديل إطلاقا عن الوطن، ومن يساوره شك في هذا التقييم عليه أن يسافر قليلا عن وطنه ليجد الحقيقة الصادمة التي لا يستشعرها الإنسان وهو محمول على أكف الرضا والحنان والأمان والسلام في وطنه.
يَمْثُلُ التحول الفكري - وهو واحد من صور الاغتراب عن الأوطان - كأحد أهم التحديات التي تواجه الأنظمة : السياسية، أو الثقافية، أو الاقتصادية، أو الدينية، أو العرقية، فهذا التحول يضرب في عمق البناءات الإنسانية التكوينية، فهو ليس زائرا أسطوريا يأخذ بتلابيب الدهشة، بقدر ما يطرح نفسه كبديل لأي بناء إنساني، ثقافي، معرفي، سبق أن تبنته الأجيال، لترى فيه أنه يحقق لها الكثير من الإشباعات النفسية؛ قبل كل شيء، وما يتلو ذلك من مكاسب مادية بحتة؛ حيث يحل مذهب السوق القائم على الربح والخسارة؛ كأهم متكئ لسيناريوهات الحياة اليومية، وحتى لا تتوه الفكرة كثيرا عن الثيمة الرئيسية للمناقشة؛ يمكن القول إن ما تشير إليه الفقرة أعلاه ينطبق أكثر على الجيل الثاني أو الثالث من تسلسل الأجيال التي تتأسس في الأوطان البديلة «الغربة» ويقينا؛ لن ينطبق هذا الفهم على الجيل الأول الذي لا يزال مزروعة أقدامه في وطنه الأم، حيث النشأة الأولى، ولذلك فنتوءات «الجنس والشهرة والمال والسلطة» التي تنشب أظفارها في كل مفارق الحياة اليومية، لن تستطيع أن تمارس تغريبا مضاعفا في مسألة التغريب عن الأوطان، وإن تلقت الدعم اللازم من الحكومة العالمية، والمتمثلة في الشركات «المتعددة الجنسيات» والممثلة هي الأخرى بمنظمة التجارة العالمية، فهذه كلها تظل صورا احتفالية في مسألة علاقة الأفراد بأوطانهم، حيث يعيش من أغرقتهم هذه الصور الاحتفالية في بدايات العمر صدمة كبرى تعيدهم إلى مربعهم الأول الذي انطلقوا منه وهو الوطن.
يقول (يوريبيديس/ شاعر ومسرحي يوناني): «ليس هناك حزن على وجه الأرض أكبر من فقد الإنسان لأرضه الوطنية» - انتهى النص - وبهذا نفهم أن الوطنية ليست شعارات ولافتات تكتب على الأماكن العامة ليقرأها الزائر والمغادر، بل هي عجينة تكوينية بنائية؛ ممتزجة بالدماء النقية للأفراد، ومعنى هذا لا يمكن أن تفصل وطنية الإنسان من دمه، وهو تلازم مطلق حتى خط النهاية، حيث الفراق النهائي من الحياة، ولذا فلن تنجح المحاولة التي تعمل عليها بعض الأنظمة السياسية في إقامة الدولة العالمية الكبرى، وستبقى مجرد حلم - مات عنه حالموه - وستبقى مسألة العلاقة القائمة بين الفرد وموطنه الأصلي علاقة متجذرة إلى ما يمكن التفكير فيه، أو تخيله، صحيح أن النظام الأخلاقي يتعرض اليوم أكثر من أي وقت مضى لانتهاكات مباشرة، تفضي؛ بلا شك؛ إلى محوه كقيمة؛ حصنت الوجود الإنسان من التردي في متون الإسفاف، والهمجية، والسقوط في براثن الغريزة الحيوانية المشاعة، إلا أنه حتى هذه المحاولات «للتغريب» لن تفقد الإنسان بحقيقة وجوده وبكنه هذه الحقيقة؛ وارتباطها بالفطرة السليمة، ولذلك رأينا ردات الفعل القوية والمستنكرة لأي شيء يمكن أن يشعر الفرد بأنه يتعرض لعمليات تهجير أو تطهير لمكتسباته القديمة، حيث تظهر المقاومة العنيفة لهذا السلوك، سواء تعرض الفرد لذلك من وطنه الأم، أو الوطن البديل، ففي الأولى يقاوم مقاومة المستميت، ولن يسلم الأمر، وفي الثانية يذهب إلى أقرب مكتب لحجز تذكرة العودة إلى وطنه، أما أن يستسلم للذوبان، أو إعادة تشكيله ليتوافق مع الواقع الجديد، فلن يكون ذلك مطلقا، ولو اقتضى الأمر التضحية بحياته، وحياة من يعول.
حاول مناصرو العولمة «الوطن العالمي» ولا يزالون أن يوظفوا (الجنس، والعرق، واللون، والأديان، والمذاهب) في تفكيك المجتمعات الإنسانية قبل الدولة، لتبدو الصورة أكثر تشويها، ولكن كل المحاولات فشلت حتى هذه اللحظة من الزمن، وما يحدث من توافق في بعض المواقف، فذلك استثناء من القاعدة، والاستثناء لا يرقى إلى مشارف القاعدة؛ فضلا؛ أن يكون أحد ركائزها، وإن ظهرت الصورة كما يقول البعض: «الفضائل القديمة تتحول إلى خطيئات، والخطيئات القديمة تتحول إلى فضائل»- انتهى النص - فذلك لن يخرج عن حالة الاستثناء، وهذا الفهم أعلاه لن ينفي أن الفطر السليمة تتعرض للتشويه، وهذا التشويه إن استمر قد يفضي إلى كثير من الاغتراب في مجمل العلاقات القائمة بين الفرد وما يحيط به، ولكن هذه الفطر متى لامست شيئا من الفضائل؛ سرعان ما تسلم أمرها لفضائلها، ولنا في الحديث الشريف؛ أسمى الحكمة وأكبر العظة؛ الذي يرويه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» - بحسب المصدر -.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لا یمکن أن
إقرأ أيضاً:
درجات الحرارة تهبط لمستوى قياسي بالتزامن مع اقتراب الكتلة الهوائية الباردة والارصاد تطلق تحذيرات عاجلة لجميع السكان في عموم البلاد
Related Articles من وسط محلات الصاغة.. هبوط صاروخي مفاجئ في اسعار الذهب بصنعاء وعدن
22 دقيقة ago
ارتفاع جنوني لاسعار صرف الدولار والسعودي مقابل العملة اليمنية ومحلات الصرافة تكشف السعر الجديد لهذا اليوم29 دقيقة ago
عاجل: اسعار الخضروات والفواكه اليوم الثلاثاء في صنعاء وعدن32 دقيقة ago
معارك حامية الوطيس غرب اليمن.. الحوثيون يفشلون هجوم أمريكي غير مسبوق والبنتاغون يصدر بيان هام وعاجل ويكشف تفاصيل مدوية36 دقيقة ago
جهزوا اغطيتكم.. فلكي يحذر جميع المواطنين من الكتلة الهوائية القادمة ويحدد موعد وصولها في جميع المناطق16 ساعة ago
قصة غريبة.. أسرة اكتشفت أن الطفلة ليست ابنتهم.. كيف حلّت الطفلة “فائقة الجمال” اللغز المحيّر وأعادت الهدوء للمنزل بعد أن أظهرت حقائق مذهلة16 ساعة ago
وصلت درجات الحرارة اليوم الى مستوى قياسي لهذا العام مع بدء دخول الكتلة الهوائية الباردة اجواء البلاد بحسب خبراء الارصاد.
وقد كشف مركز الارصاد اخر بيانات الطقس وتوقعاتها خلال ال24ساعة القادمة بمشيئة الله تعالى، وجاء في نشرة الطقس التحذيرية للمركز:
النشرة التحذيرية المتوقعة لل24 ساعة القادمة رقم ( 1 / 11 )
التاريخ : 13/11/2024 الوقت : 11:00:00
الحالة الجوية : أجواء باردة الى شديدة البرودة
أدنى درجات الحرارة المسجلة في بعض محطات الرصد الجوي صباح يومنا هذا :-
ذمار : 2
صنعاء : 4.6
عمران : 5
اب-السدة : 7.6
يتوقع المركز الوطني للأرصاد والإنذار المبكر :-
أجواء باردة الى شديدة البرودة اثناء الليل والصباح الباكرعلى محافظات (صعده, عمران، صنعاء، ذمار والبيضاء) تتراوح فيها درجات الحرارة الصغرى مابين (02 – 06 درجات مئوية).اجواء باردة اثناء الليل والصباح الباكرعلى مرتفعات محافظات (اب، الضالع، ابين ولحج) تتراوح فيها درجات الحرارة الصغرى مابين (5 – 10 درجات مئوية).– رياح قوية السرعة تصل سرعتها الى 25 عقدة تعمل على إضطراب البحر وإرتفاع الموج على جنوب البحر الأحمر ومدخل باب المندب وغرب خليج عدن.وعليه فإن المركز الوطني للأرصاد والإنذار المبكر يـحذر الإخوة:
المواطنين في المناطق آنفة الذكر بأخذ الاحتياطات اللازمة من الأجواء الباردة خصوصاً الأطفال وطلبة المدارس وكبار السن والعاملين أثناء ساعات الليل والصباح الباكر.المزارعين بأخذ الاحتياطات اللازمة لحماية محاصيلهم الزراعية وكذا النحالين ورعاة الماشية.الصيادين ومرتادي البحر في جنوب البحر الأحمر ومدخل باب المندب وغرب خليج عدن من إضطراب البحر وإرتفاع الموج.ذات صلة