لجريدة عمان:
2024-09-10@02:03:39 GMT

السكان .. لا يذوبون ولا يعاد تشكيلهم

تاريخ النشر: 20th, August 2023 GMT

تذهب الفكرة في هذه المناقشة إلى أن الأوطان البديلة «المستضيفة» لا يمكن أن تُغَرِّبَ المستبدل بها عن وطنه الأم، ولا يمكن أن تحل الأوطان البديلة إحلالا قطعيا بحيث لا يعود للمستبدل إلى شيء من وطنه الأصل، في: قيمه، ثقافته، تجارب طفولته، مناخاته الاجتماعية التي امتزجت بكل تفاصيل حياته السابقة، أصدقائه الذين لا يزالون يحتلون مساحة واسعة ضمن ذكرياته، زوايا الحي الذي عاش فيه، طرق القرية وبساتينها، ذلك الفضاء الممتد للحقول والميادين، ومجموع الصور التراثية، ولذلك يظل الهاجس؛ وإن تناءى به الزمن؛ قائما للعودة، والبقاء إلى آخر لحظة من العمر، حتى وإن كان الوطن الأم مارس قساوة على مواطنيه، وعانى فيه مواطنوه؛ مما كان دافعا للرحيل، والبحث عن وطن بديل، حيث تظل كل هذه الأسباب -مع تعددها وقسوتها وحمولتها النفسية الثقيلة- هي أسباب مؤقتة تتماهى شيئا فشيئا مع تجدد الذكرى، وتراكم شعور الحنين، ولحظات الصراع بين الغربة وبين هذا الشعور لن تتوقف، ولن تتماهى في دهاليز الوطن البديل، وسرعان ما تنهزم الغربة، ويسلم الفرد نفسه للعودة إلى وطنه، الذي لا يزال في نظره جميلا.

ومعنى هذا فمجموعة المؤثرات القائمة في الوطن البديل - سواء مؤثرات مادية أو معنوية - التي من شأنها أن تعيد تشكيل المواقف، والقناعات لن تصمد كثيرا أمام مارد الحنين، فمجموعة المكتسبات الوطنية السابقة للوطن الأم، توجد في هذا المغترب معززات العودة سريعا، وفي ذلك إعادة إنتاج لـ «الولاءات» حيث «يعيد الناس ولاءهم للبلدان التي جاؤوا منها» ولا يمكن أن تسقط هذه الولاءات لأجل أغراض زائلة؛ غير مرتبطة بوجدان الفرد القابع في أتون الغربة، وإن حدث أن أظهر المغترب شيئا من صور الولاء للوطن البديل، فذلك نوع من التمثيل الطاغي غير المعبر عن الحقيقة.

عندما ترى كل ما كنت عليه، وما تعودته ينسل من بين يديك: يتصادم مع قناعاتك، ومع آرائك، ومع خبرات تجاربك في الحياة التي أنجزت فيها عمرا مقدرا؛ حينها؛ بلا شك؛ يساورك شعور الاغتراب، وترى أنك بلا قيمة، وأنك وحيد، وأنك تحتاج إلى شيء من التوازن في حياتك الاجتماعية، وأن هناك شيئا مفقودا تود لو تلمسه بكلتي يديك، وإن لم يتبين لك كنهه، هو نوع من الشعور بالفراغ، وعلى ما يبدو أن كل الصخب المثار حولك لن يلهيك عن التفكير في وطنك الأم؛ هنا في هذا الجزء من المناقشة؛ استحضر حالة المغترب، ولعلي أتقمص وجدانه في شخصيته، وشعوره، وحنينه، ولذلك أَكْبُرُ في قدرة المغتربين على البقاء طويلا في الأوطان البديلة، التي لن تملأ مجمل الفراغات التي يعيشونها في غربتهم، ويقينا أيضا؛ أن المادة التي تكون هي المبرر الأكثر للاغتراب، لن تملأ هذه الفراغات التي تتسع كلما مكث المغترب طويلا في غربته، فالأوطان من شأنها أن لا تقبل البديل، وستصر على ممارسة غواياتها من الحنين، والشوق، والنبل، حتى وإن اتسعت مسافة الفصل بين الطرفين، فلا بديل إطلاقا عن الوطن، ومن يساوره شك في هذا التقييم عليه أن يسافر قليلا عن وطنه ليجد الحقيقة الصادمة التي لا يستشعرها الإنسان وهو محمول على أكف الرضا والحنان والأمان والسلام في وطنه.

يَمْثُلُ التحول الفكري - وهو واحد من صور الاغتراب عن الأوطان - كأحد أهم التحديات التي تواجه الأنظمة : السياسية، أو الثقافية، أو الاقتصادية، أو الدينية، أو العرقية، فهذا التحول يضرب في عمق البناءات الإنسانية التكوينية، فهو ليس زائرا أسطوريا يأخذ بتلابيب الدهشة، بقدر ما يطرح نفسه كبديل لأي بناء إنساني، ثقافي، معرفي، سبق أن تبنته الأجيال، لترى فيه أنه يحقق لها الكثير من الإشباعات النفسية؛ قبل كل شيء، وما يتلو ذلك من مكاسب مادية بحتة؛ حيث يحل مذهب السوق القائم على الربح والخسارة؛ كأهم متكئ لسيناريوهات الحياة اليومية، وحتى لا تتوه الفكرة كثيرا عن الثيمة الرئيسية للمناقشة؛ يمكن القول إن ما تشير إليه الفقرة أعلاه ينطبق أكثر على الجيل الثاني أو الثالث من تسلسل الأجيال التي تتأسس في الأوطان البديلة «الغربة» ويقينا؛ لن ينطبق هذا الفهم على الجيل الأول الذي لا يزال مزروعة أقدامه في وطنه الأم، حيث النشأة الأولى، ولذلك فنتوءات «الجنس والشهرة والمال والسلطة» التي تنشب أظفارها في كل مفارق الحياة اليومية، لن تستطيع أن تمارس تغريبا مضاعفا في مسألة التغريب عن الأوطان، وإن تلقت الدعم اللازم من الحكومة العالمية، والمتمثلة في الشركات «المتعددة الجنسيات» والممثلة هي الأخرى بمنظمة التجارة العالمية، فهذه كلها تظل صورا احتفالية في مسألة علاقة الأفراد بأوطانهم، حيث يعيش من أغرقتهم هذه الصور الاحتفالية في بدايات العمر صدمة كبرى تعيدهم إلى مربعهم الأول الذي انطلقوا منه وهو الوطن.

يقول (يوريبيديس/ شاعر ومسرحي يوناني): «ليس هناك حزن على وجه الأرض أكبر من فقد الإنسان لأرضه الوطنية» - انتهى النص - وبهذا نفهم أن الوطنية ليست شعارات ولافتات تكتب على الأماكن العامة ليقرأها الزائر والمغادر، بل هي عجينة تكوينية بنائية؛ ممتزجة بالدماء النقية للأفراد، ومعنى هذا لا يمكن أن تفصل وطنية الإنسان من دمه، وهو تلازم مطلق حتى خط النهاية، حيث الفراق النهائي من الحياة، ولذا فلن تنجح المحاولة التي تعمل عليها بعض الأنظمة السياسية في إقامة الدولة العالمية الكبرى، وستبقى مجرد حلم - مات عنه حالموه - وستبقى مسألة العلاقة القائمة بين الفرد وموطنه الأصلي علاقة متجذرة إلى ما يمكن التفكير فيه، أو تخيله، صحيح أن النظام الأخلاقي يتعرض اليوم أكثر من أي وقت مضى لانتهاكات مباشرة، تفضي؛ بلا شك؛ إلى محوه كقيمة؛ حصنت الوجود الإنسان من التردي في متون الإسفاف، والهمجية، والسقوط في براثن الغريزة الحيوانية المشاعة، إلا أنه حتى هذه المحاولات «للتغريب» لن تفقد الإنسان بحقيقة وجوده وبكنه هذه الحقيقة؛ وارتباطها بالفطرة السليمة، ولذلك رأينا ردات الفعل القوية والمستنكرة لأي شيء يمكن أن يشعر الفرد بأنه يتعرض لعمليات تهجير أو تطهير لمكتسباته القديمة، حيث تظهر المقاومة العنيفة لهذا السلوك، سواء تعرض الفرد لذلك من وطنه الأم، أو الوطن البديل، ففي الأولى يقاوم مقاومة المستميت، ولن يسلم الأمر، وفي الثانية يذهب إلى أقرب مكتب لحجز تذكرة العودة إلى وطنه، أما أن يستسلم للذوبان، أو إعادة تشكيله ليتوافق مع الواقع الجديد، فلن يكون ذلك مطلقا، ولو اقتضى الأمر التضحية بحياته، وحياة من يعول.

حاول مناصرو العولمة «الوطن العالمي» ولا يزالون أن يوظفوا (الجنس، والعرق، واللون، والأديان، والمذاهب) في تفكيك المجتمعات الإنسانية قبل الدولة، لتبدو الصورة أكثر تشويها، ولكن كل المحاولات فشلت حتى هذه اللحظة من الزمن، وما يحدث من توافق في بعض المواقف، فذلك استثناء من القاعدة، والاستثناء لا يرقى إلى مشارف القاعدة؛ فضلا؛ أن يكون أحد ركائزها، وإن ظهرت الصورة كما يقول البعض: «الفضائل القديمة تتحول إلى خطيئات، والخطيئات القديمة تتحول إلى فضائل»- انتهى النص - فذلك لن يخرج عن حالة الاستثناء، وهذا الفهم أعلاه لن ينفي أن الفطر السليمة تتعرض للتشويه، وهذا التشويه إن استمر قد يفضي إلى كثير من الاغتراب في مجمل العلاقات القائمة بين الفرد وما يحيط به، ولكن هذه الفطر متى لامست شيئا من الفضائل؛ سرعان ما تسلم أمرها لفضائلها، ولنا في الحديث الشريف؛ أسمى الحكمة وأكبر العظة؛ الذي يرويه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» - بحسب المصدر -.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لا یمکن أن

إقرأ أيضاً:

التربية: انخفاض نسبة الأميّة إلى 2.5 من إجمالي السكان حتى نهاية 2023

"عمان": أكدت وزارة التربية والتعليم في بيان لها انخفاض نسبة الأميّة في سلطنة عمان إلى (2.5) من إجمالي السكان و(0.5) في الفئة العمرية (15-44) وفق البيانات الصادرة من المركز الوطني للإحصاء والمعلومات لعام (2023).

جاء ذلك خلال احتفال وزارة التربية والتعليم ممثلة بالمديرية العامة للتربية الخاصة والتعلم المستمر "دائرة التعلم مدى الحياة"، بمناسبة "اليوم الدولي لمحو الأمية 2024"، والذي يصادف الثامن من سبتمبر من كل عام، والذي جاء هذا العام تحت شعار "تعزيز التعليم متعدد اللغات: محو الأمية من أجل التفاهم المتبادل والسلام"، تحت رعاية سعادة ماجد بن سعيد البحري وكيل الوزارة للشؤون الإدارية والمالية.

وقالت الدكتورة ثريا بنت حمد الراشدية المديرة العامة للتربية الخاصة والتعلم المستمر: لقد وضعت سلطنة عمان العديد من القوانين، والبرامج، والخطط التي كان لها دور كبير في الحد من نسبة الأميّة الأبجدية، مؤكدة أنه بفضل تلك البرامج استطاعت وزارة التربية والتعليم تقليص نسبة الأميّة إلى (2.5) من إجمالي السكان و(0.5) في الفئة العمرية (15-44) وفق البيانات الصادرة من المركز الوطني للإحصاء والمعلومات لعام (2023).

وأضافت: نتيجة للثورة الصناعية والتقدّم العلمي المذهل، والتطور التقني فقد أوجدت وسائل الاتصال الحديثة، والذكاء الاصطناعي تربة خصبة لتبني أساليب، وطرق، واستراتيجيات تعليم حديثة تساعد الدارسين في صفوف محو الأميّة، وتعليم الكبار على اكتساب المهارات اللازمة من العلوم، والمعارف، وتطوير قدراتهم بما يمكنهم من مسايرة عالم يمتاز بسرعة التغيير، والتحول في جميع مظاهره، وفي هذا الإطار تسعى وزارة التربية والتعليم إلى أن يكون لها دور مهم في مجال محو الأميّة الرقميّة من خلال وضع برامج، وتقديم حلقات، ودورات تساعد في تضيق الفجوة الرقميّة، والحد من هذه الظاهرة.

وتضمن الحفل تقديم قصيدة ترحيبية ألقتها الشاعرة أمل بنت أحمد الشقصية باحثة تربوية في دائرة التعلم مدى الحياة، تلاها عرض مرئي استعرض من خلاله إحصائيات الأمية، ونسبها في المحافظات التعليمية، وعدد الدارسين في كل محافظة، بعد ذلك قُدم أوبربت شعري بعنوان: مجد ذرانا يتحدث عن دور التعليم في النهوض بحياة الأفراد، والأمل الذي يحمله العلم للمتعلمين.

وكرّم سعادة وكيل الوزارة للشؤون الإدارية والمالية أصحاب المبادرات الفائزة في مجال محو الأمية وهي: مبادرة تصميم، وإنشاء خريطة إلكترونية لمواقع شعب محو الأمية بتعليمية محافظة شمال الشرقية، ومبادرة الكتيب الإثرائي لمادة اللغة الإنجليزية بتعليمية محافظة مسقط، ومبادرة التعلم التفاعلي الرقمي بتعليمية محافظة الظاهرة، ومبادرة المدرسة المعززة للتعلم مدى الحياة بتعليمية محافظة الداخلية، وتكريم المشاركين، والمساهمين في إنجاح الحفل.

وهدفت الاحتفالية إلى مشاركة المجتمع الدولي في الاحتفال باليوم الدولي لمحو الأمية، وتسليط الضوء على جهود وزارة التربية والتعليم في القضاء على الأمية من خلال مجموعة من البرامج، والمشاريع التعليمية التي تقدم من الوزارة للدارسين في صفوف محو الأمية، وتشجيع المبادرات على الابتكار، وتطوير أفكار جديدة، وتحقيق الاستدامة.

حضر الحفل عدد من مديري عموم ديوان عام الوزارة، ومديري دوائر التربية الخاصة والتعلم المستمر، ورؤساء أقسام التعلم مدى الحياة بالمديريات التعليمية بمحافظات سلطنة عمان، وعدد من موظفي المديرية العامة للتربية الخاصة والتعلم المستمر.

مقالات مشابهة

  • بشار : بعد أن عاش السكان رعبا بسبب الفيضانات .. النهار تقف على حجم الخسائر
  • شاهد عيان يروي لـ"اليوم24" رعب السكان من هول الطوفان في دوار بإقليم طاطا (+فيديو)
  • رأس نفرتيتي.. يبحث عن طريق للعودة إلى وطنه مصر (28 صورة)
  • خالد بن محمد بن زايد: ذكرى المهاتما غاندي ستبقى خالدة في قلوب أبناء وطنه وشعوب العالم
  • التربية: انخفاض نسبة الأميّة إلى 2.5 من إجمالي السكان حتى نهاية 2023
  • بعد مرور عام على زلزال المغرب.. السكان ما زالوا ينتظرون إعادة بناء منازلهم المدمّرة
  • المواطن أحق بالعمل في وطنه
  • قنبلة نووية رمي بها حاكم دارفور (مني اركوي) في فضاء السودان الخالي من السكان
  • الأستاذ الصحفي فتحـي الضـو عن الحرب العبثية الدائرة ومآلاتها والسيناريوهات التي يمكن أن تحدث حال إستمرارها
  • سعي أمريكي لإنهاء حرب غزة.. وخطة إسرائيلية لتهجير ما تبقى من السكان