بوابة الوفد:
2025-01-27@05:09:46 GMT

مناقشة حول تراجع الحالة المدنية

تاريخ النشر: 20th, August 2023 GMT

ثمة اتفاق على تراجع «الحالة المدنية» التى تشكلت فى مصر والمنطقة العربية على مدى قرنين من الزمان، السؤال المطروح هو: إلى أى مدى تتراجع هذه الحالة الآن قياسًا إلى لحظة المد الأعلى التى بلغتها قبل منتصف القرن الماضي؟ هل ينبئ هذا التراجع عن هزيمة حاسمة للعلمانية، ونكوص نهائى إلى الحالة التراثية، كما يأمل التيار الأصولي؟ أم يشير إلى مجرد انقطاع وقتى أو تباطؤ نسبى فى مسار التطور الضرورى، كما يتصور التيار المدني؟

يميل التحليل السائد إلى التقليل أصلًا من قيمة التحول الحداثي؛ فهذا التحول لم ينتج أكثر من ثقافة نخبوية محدودة، لا تعكس التوجهات العامة للمجتمع، الذى ظل يقوم على قاعدة تراثية خالصة.

أبدى النظام التراثى ردَّ فعل قويًا على الحداثة من خلال إفرازه للحركة الأصولية، وظل يحافظ على مؤسساته البنيوية القائمة كالأزهر، الذى يعيد تكريس حضوره كقوة سلفية واعية. وفوق ذلك، ظل النظام التراثى حاضرًا كرافد أول لثقافة الجمهور العام، وحتى كخلفية مضمرة لثقافة النخب المتعلمنة ذاتها.

يحظى هذا التحليل بقبول عام لدى التيار الأصولى، الذى يراهن سياسيًا على إسلامية الشارع. وهو التحليل الأكثر شيوعًا فى دراسات الاجتماع السياسى الغربية المعاصرة، التى تناقش واقعة «التراجع العلماني» كظاهرة عالمية متكررة، وتتوقف على نحو خاص أمام تمثلاتها الزاعقة فى السياق العربى الإسلامى، كنموذج بارز لهذه الدراسات، يذهب بيتر بيرجر فى كتابه «نزع العلمنة عن العالم» 1999، إلى أن التصاعد الأصولى العالمى « يقدم أدلة على زيف فكرة الربط بين التحديث والعلمنة، أو هو يظهر على الأقل أن مكافحة العلمنة ظاهرة لا تقل أهمية عن العلمنة نفسها فى عالمنا المعاصر».

يروج بيرجر لفكرة أن الثقافة العلمانية لم تلعب دورًا تغييريًا واسعًا حول العالم، بوصفها ثقافة «أوروبية محلية» وأنها ظلت تمثل خارج الغرب الضيق، الاستثناء وليس القاعدة، ومن ثم فهى ليست النموذج الحتمى ولا حتى الضرورى للتطور. ويؤكد بيرجر أن هذه الثقافة -باستثناء أوروبا- ظلت منحصرة فى وجود «شبكة فرعية دولية مكونة من مجموعات تلقت تعليمًا غربيًا فى مجال الإنسانيات والعلوم الاجتماعية»، وأن هذه الشبكة نفسها أعيد اختراقها من قبل الحركة الأصولية،» فالصحوة الإسلامية مثلًا لم تكن محصورة فى الشرائح الاجتماعية «الأقل حداثة» أو «الأكثر تخلفًا» كما يحب أن يعتقد المفكرون التقدميون، بل هى على العكس قوية للغاية فى مدن تشهد قدرًا كبيرًا من التحديث، وفى عدد من البلدان تظهر بشكل أوضح بين أفراد تلقوا تعليمًا غربى الأسلوب. فى مصر وتركيا مثلًا يمكن أن تجد الحجاب فى أسر علمانية، بالإضافية إلى مظاهر أخرى للحشمة الإسلامية».

فى هذا السياق، يشير بيرجر إلى الأصولية الإسلامية بوصفها النموذج التراثى الأكثر تشددًا حيال الحداثة وبالمقارنة بينها وبين الأصولية الإنجيلية (البروتستانتية)،» تبدو الأخيرة حداثية بشكل إيجابى فى معظم الأماكن خصوصًا فى أمريكا اللاتينية». ويُرجع ذلك إلى طبيعة الإسلام كدين يصعب التوفيق بينه وبين الأفكار والمؤسسات الحداثية «مثل الديموقراطية، واقتصاد السوق، ودور المرأة فى المجتمع، والحدود بين التسامح الدينى والتسامح الأخلاقي». ومن خلال هذا التسبيب يؤكد بيرجر أولوية التفسير الثقافى الدينى لتراجع العلمانية فى السياق الإسلامى، «فالصحوة الإسلامية معروفة بتعقيداتها السياسية الواضحة والمباشرة، لكن من الخطأ اختزالها تفسيريًا كمجرد رد فعل لعوامل سياسية بحتة».

-2-

أتوافق، بالطبع، مع طرح بيرجر حول هذا التسبيب الأخير، فالأصولية الإسلامية، رغم أبعادها السياسية المعصرنة، لا يمكن فهمها بمعزل عن المدونة الفقه نصوصية الموروثة التى تتحدث باسمها، فهى فى الواقع ( إفراز ضرورى لهذه المدونة التاريخية ذات الطابع الحصرى الجامد. لكنى سأختلف مع مجمل هذا الطرح حول علاقة الحداثة بالعلمنة، وبثقافة النخبة، خصوصًا فيما يتعلق بالسياق العربى الإسلامي؛ تاريخيًا، تشكل «مفهوم» الحداثة فى الغرب بعد عصر النهضة على وقع الصدام مع «النظام الديني» المهيمن بالذات، وقام لذلك على قاعدتين أساسيتين: العلم، والعلمانية، وهذا هو المعنى الضيق لمصطلح الحداثة. كان إقرار العلم يهدف إلى كسر احتكار اللاهوت لسلطة المعرفة خصوصًا فى مجال الطبيعة، وإقرار العلمانية يهدف إلى تجريد اللاهوت من سلطة التنظيم السياسى التشريعى داخل الدولة، وهذا هو المعنى الضيق لمصطلح العلمانية. بالمعنى الضيق للمصطلحين لا مجال لفصل التحديث عن العلمنة لأن العلمنة شرط التحديث. ولم يحدث هذا الفصل على أرض الواقع لا فى الغرب الجغرافى، ولا فى المناطق الثقافية الأخرى التى اخترقتها الحداثة حول العالم.

التراجع الحداثى الذى يناقشه بيرجر والفكر الغربى لم يشمل العلمانية بالمعنى الضيق الذى يشير إلى «الدولة المدنية». فقط شمل العلمانية بالمعنى الواسع الذى يتحفظ على الدين فى ذاته كمنظومة كلية فى التفكير والسلوك والتوجه الأخلاقى الروحى، وهو المعنى الذى روج له الفكر التنويرى المبكر فى خضم صراعه مع اللاهوت، لقد تراجعت جاذبية الحداثة بالفعل على امتداد القرن العشرين، بعد ظهور التيارات «ما بعد الحداثية»، التى وجهت إليها سهام النقد من جهة بنائها النظرى، وأدائها السياسى والاقتصادى والأخلاقى المحبط سواء فى شقها الرأسمالى أو الاشتراكى. وظهر هذا التراجع فى ظل بقاء الدين واستقراره على المستوى الشعبى خلافًا للنبوءات التنويرية التى توقعت زواله مع تواصل تقدم العلم، وفى ظل تصاعد الحركات الأصولية وتمددها عبر العالم فيما صار يشار إليه فى الغرب بظاهرة عودة المقدس.

لكن فيما كانت جاذبية الحداثة تتراجع نظريًا على نطاق واسع، لم تتراجع جاذبية «الدولة الوطنية» بطابعها المدنى الذى يستبعد اللاهوت من دائرة القانون، فقد تواصل حضور هذه الدولة على أرض الواقع كنموذج وحيد للدولة «الحديثة». ولا ينطبق ذلك على السياق الغربى المسيحى الذى يتسع لاهوتيًا لفصل الدين عن الدولة، فحسب، بل أيضَا على السياق العربى الإسلامى الذى درج فقهيًا وتاريخيًا على ربط الدولة بالدين.

فى الحالة المصرية -كنموذج- ثَبتت «الدولة الوطنية» حضورها بشكل راسخ منذ تشكلها فى غضون القرن التاسع عشر، واشتغالها مبكرًا على قيادة عملية التحديث. وفيما نجحت فى إحراز نجاح جزئى وإنتاج تراكم مدنى ملموس هو ما أسمية «بالحالة المدنية»، استطاعت التكيف مع ثقافة التراث التى ظلت حاضرة فى المجتمع. ولا تزال هذه الدولة قادرة بشكل ما، على احتواء حركات الارتداد الأصولية التى صارت تستهدف مدنية الدولة. وحتى عندما وصلت هذه الحركات مؤخرًا إلى السلطة، لم تستطع إنهاء صيغة الدولة المدنية.

وهذا مؤشر على أن فكرة الدولة المدنية بإطارها الوطنى القانونى صارت جزءًا من صلب الثقافة « العامة» المحلية مثلما هى فى ثقافة الاجتماع السياسى المعاصرة حول العالم، وليس فقط فى ثقافة النخب الفكرية المتعلمنة. صحيح أن هذه الدولة لم تستكمل بعد معايير الأداء الموضوعية التى تطلبها الحداثة السياسية، لكن ذلك يرجع «جزئيًا» إلى المعوق التراثى ذاته، الذى يعود إلى التفاقم الآن بسبب الحركة الأصولية.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: الحالة المدنية مصر القرن الماضي

إقرأ أيضاً:

حى فى الغرب ميت بالشرق.. «فصل المقال» و«تهافت التهافت»علامات ابن رشد فى تاريخ الفلسفة العربية والإسلامية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

ليس سهلا، أن يتجاوز تاريخ الفلسفة، دور الفيلسوف العربى ابن رشد الأندلسى المتوفى عام ٥٢٠هـ، وما طرحه من أفكار تصدت للجمود والانغلاق، فمن خلال فلسفته طرح مفهومه للتأويل بوصفه المنقذ من التناقضات الدينية الظاهرية، والمصلح بين الفلسفة والدين، والمتسامح مع الاختلافات والتعددية، ومن خلال فلسفته أيضا تصدى لاستخدام "الإجماع الفقهي" سلاحا لتكفير الفلاسفة وتعطيل جهودهم. 
يأتى اسم ابن رشد كأحد أهم الأصوات الفلسفية فى تاريخ الحضارة العربية والإسلامية، لما له من دور بارز فى التصدى للأفكار الجامدة التى أطلقها أبو حامد الغزالى ضد الفلسفة والفلاسفة، لذا قدم ابن رشد من خلال رسالته الصغيرة المسماة "فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من اتصال" عرضا موجزا ومكثفا حول علاقة الدين بالفلسفة، وكيف أن العلاقة بينهما قائمة على التعاضد والتكامل، وليست متنافرة متناقضة، كما أوضح فيه دور الدين فى الحض على التفلسف والنظر العقلي، وناقش عدة قضايا بصورة مكثفة مثل التأويل وأهميته، ومعنى الإجماع، وجواز الاستفادة من علوم الآخرين المختلفين عنا فى الدين واللغة.
أما كتابه "تهافت التهافت" فقد تصدى فيه للمساءل التى ناقشها أبو حامد الغزالى فى كتابه "تهافت الفلاسفة" وبسببها كفَّر الفلاسفة، مثل قدم العالم وحدوثه، ومعرفة الله بالجزئيات، وغيرها من المسائل الكلامية الشائكة.
رشحه ابن طفيل الأندلسى للخليفة الموحدى أبى يوسف يعقوب المنصور الذى طلب منه شرح أرسطو، حينما اشتكى الخليفة من "قلق عبارة أرسطو"، بعدها أصبح مقربا من الخليفة وتمكن من أن يصبح فقهيا وقاضيا وفيلسوفا، وأهم شارح لفلسفة أرسطو.
كتب ابن رشد فى أربعة أقسام مهمة لحركة الثقافة العربية والإسلامية: شروح ومصنفات فلسفية وعملية، شروح ومصنفات طبية، كتب فقهية وكلامية، كتب أدبية ولغوية، واشتهر بشرح التراث الأرسطي، ومن شروحاته لأرسطو: "تلخيص وشرح كتاب ما بعد الطبيعة، شرح كتاب البرهان، تلخيص كتاب المقولات، شرح كتاب النفس، شرح كتاب القياس". 
وله مقالات كثيرة ومنها: "مقالة فى العقل. مقالة فى القياس، مقالة فى اتصال العقل المفارق بالإنسان. مقالة فى حركة الفلك. مقالة فى القياس الشرطي"، وله أيضا كتب أشهرها: كتاب "مناهج الأدلة"، وهو من المصنفات الفقهية والكلامية، كتاب "تهافت التهافت" الذى رد فيه على كتاب الغزالى "تهافت الفلاسفة"، كتاب "الكليات"، كتاب "الحيوان"، كتاب "المسائل" فى الحكمة، كتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" فى الفقه، كتاب "شرح أرجوزة ابن سينا" فى الطب.‏

البرهان العقلي

اعتمدت فلسفة ابن رشد على القياس العقلى والبرهان، فى كتابه "فصل المقال" رأى أن الشرعَ دعا المؤمنين إلى تدبّر الموجودات عن طريق العقل، ومن الواجب تعلّم القياس العقلى والاعتبار الذى هو "استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه".
وصفَ ابن رشد البرهان بأنه أتمُّ أنواع النظر العقلي، ومن الضرورى لمن يريد أن يعرف الله وسائر الموجودات أن يتعلّم أنواع البراهين، ويدركَ الفارق بينها، وبما خالفَ القياس البرهانى القياس الجدلى والقياس الخطابى والقياس المغالطي، ويُسمّى تلك العلوم بـ"منزلة الآلات من العمل".
انحاز ابن رشد فى فلسفته إلى التاريخ الإنسانى المتكامل فى وضع العلوم وتطوّرها، فقد رأى أن كلّ إنسان يحتاج لجهود غيره حتى يتمّ أيّ فنٍّ وأيّ صنعة، لذا كان من المنطقى أن يسمح ابن رشد بمطالعة جهد الأمم الأخرى غير المسلمة، وأن يتعرّف إلى جهود الأفراد مهما كانوا مختلفين عنه، فليس بمقدور إنسانٍ واحدٍ أن يتخلّى عن جهود السابقين ويضع علم الفلك كاملًا من نفسه، وليس بمقدور إنسانٍ واحدٍ "أن يقف على جميع الحجج التى استنبطها النظّار من أهل المذاهب فى مسائل الخلاف التى وقعت المناظرة فيها بينهم فى معظم بلاد الإسلام". 
وهاجم فيلسوف قرطبة ابن رشد فتاوى الإمام الغزالى التى كفَّر فيها الفلاسفة، وأعاد بذلك فتح باب الاجتهاد فى الفقه، كما واجه تحريم النظر العقلى والعمل بالفلسفة، مع وضع شروط تأويل ظاهر النص المخالف لحقائق العقل والمنطق.

خصوصية الخطاب الدينى والفلسفي

طالب المفكر المغربى محمد عابد الجابرى فى مقدمة كتابه "ابن رشد.. سيرة وفكر" بتعميم الروح الرشدية فى الأوساط الثقافية والمؤسسات التعليمية من أجل الحد من التطرف الدينى إلى درجته الأدنى، وترشيد جماعات "الإسلام السياسي".
ركز الجابرى على دراسة السمات العامة لعقلانية ابن رشد الواقعية، ويبرزها من خلال عدة نقاط كالتالي: الفصل بين الدين والفلسفة باعتبار أن لكل منهما مجاله الخاص وطريقته الخاصة، والنظرة الاكسيومية إلى كل من البناء الدينى والبناء الفلسفي، أى ربط القضايا بمنظومتها الفكرية الأصلية، وتأكيد العلاقة السببية فى عالم الطبيعة وعالم ما بعد الطبيعة سواء بسواء، وفهم حرية الإرادة البشرية ضمن الضرورة السببية وربطها بالعلم والأسباب. الميل إلى نوع عقلانى خاص من وحدة الوجود، يعتبر الإله كقوة رابطة بين أجزاء الكون وظواهره، قوة روحية هى فى آن واحد مندمجة فى الكون ومتعالية عليه.
من ناحية أخرى، فإن الشعور المرهف بخصوصية الخطاب الدينى والخطاب الفلسفى وبثقل المسئولية الملقاة على كاهل الفيلسوف، يؤدى إلى صعوبة الإمساك بالحقيقة، بل باستحالة الإمساك بها كاملة سواء فى مجال الدين أو مجال الفلسفة، الإدراك الواعى للأخطار التى تحدق بمن يغامر بالكشف عنها لمن ليس مؤهلا لتقبلها، وبالتالى الإدراك الواعى لثورية الحقيقة من جهة أخرى.

استفادة الغرب من ابن رشد

والمفارقة التى حدثت لابن رشد، كما يرى وهبه، أنه حى فى الغرب ميت فى الشرق، لأن فلسفته قد أجهضت فى العالم العربى إثر ما يسمى بنكبة ابن رشد وهى النكبة التى حدثت حين أصدر يعقوب المنصور (ت. ١١٩٩م) أمرًا بنفى ابن رشد إلى اليسانه، فى حين أن الإمبراطور فردريك الثانى قد أمر بترجمة مؤلفات ابن رشد ونشرها، وقد كان فى صراع مع رجال الدين المسيحى وكانت فلسفة ابن رشد العقلية هادية له فى مواجهة هذا الصراع. والمفارقة هنا أن ابن رشد ميت فى الشرق حى فى الغرب وهى مفارقة فى حاجة إلى تفسير. 
لم ينخدع مراد وهبه فى كلمات ابن رشد الخاصة بالقيود التى فرضها على العامة أو الجمهور لدخول عالم الفلسفة، قائلًا إن الفيلسوف الأندلسى لم يكن راغبًا فى إبعاد الجمهور عن مجال الفلسفة ولكن بشرط ألا ينغمس الجمهور فى المتع الحسية، لأن من شأن هذه المتع أن تمنع الإنسان من التحكم فى ذاته، ومعنى ذلك أن التحكم فى هذه المتع يسمح للإنسان بمجاوزة ما هو حسى إلى ما هو عقلى، أى بمجاوزة ما هو خطابى أو ما هو شعرى إلى ما هو برهانى، ومعنى ذلك أن الباب مفتوح أمام الجمهور كى يصل إلى ممارسة البرهان العقلى، وإذا دخل الجمهور من هذا الباب أصبح من الميسور أن يكونوا رؤساء فى مدينة ابن رشد، وبذلك ينتفى الانفصال بين الجمهور والحكماء.

محورية التأويل

انتبه «وهبه» إلى مقولة محورية فى فلسفة ابن رشد، وهى مقولة «التأويل»، أى تأويل ظاهر النص ليتوافق مع العقل، إذ يقول ابن رشد، فى شأن العلاقة بين الشريعة والبرهان العقلى: "إن أدى النظر البرهانى إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه الشرع أو نطق به. فإن كان مما سكت عنه فلا تعارض هناك وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعى. وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا فإن كان موافقا فلا قول هناك وإن كان مخالفا طلب هناك تأويله".
منح التأويل ابن رشد مساحة كبيرة للقول باستحالة قيام "إجماع حقيقى"، وأن خرق الإجماع لا يقتضى التكفير، ونقلًا عن «وهبه» فإن «التأويل يخرق الإجماع، إذ لا يتصور فيه إجماع، ولهذا يمتنع تكفير المؤول، ولهذا فقد غلط أبو حامد الغزالى عندما كفر الفلاسفة من أهل الإسلام مثل الفارابى وابن سينا فى كتابه «تهافت الفلاسفة».
تساءل : «ماذا يعنى تكفير الفلاسفة؟ يعنى أن الذى يكفر هو الذى يتوهم أنه مالك الحقيقة المطلقة وهذا الوهم هو الذى يحد من سلطان العقل، وقد أراد ابن رشد إزالة سلطان هذا الوهم بحيث لا يبقى سوى سلطان العقل، وهذا هو جوهر التنوير. ومن هنا يمكن القول إن ما حدث لابن رشد من إحراق كتبه ومحاكمته ونفيه مردود إلى دعوته إلى التأويل على نحو ما ارتآه».
يعتقد "وهبة" أن مقولة التأويل لديها الكثير كى تقدمه من أجل نهضة فكرية عربية، فالتأويل منع الإجماع لأنه أعطى مساحة أوسع للاختلاف والبحث عن مضامين أكثر عقلانية ومنطقية، كما أنه يعترف بضرورة التعددية أى أنه يتسامح مع الآخر لذا فسوف ينتفى معه التكفير، أى أن التأويل مفتاح للوصول إلى مرحلة التعددية وقبول الآخر ونفى سلطة الرأى الأوحد، قائلًا إن التأويل الحقيقى يمتنع معه التكفير لأن التأويل معناه التسامح تجاه الاختلاف. ولماذا التسامح؟ لأن العقل لديه بدائل العقل لا يكتفى ببديل واحد وإذا اكتفى العقل بديل واحد يقع فى براثن الدوجماطيقية أى أنه يقع فى توهم أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وإذا وقع العقل فى هذا الوهم امتنع التطور وبناء عليه فإن مفهوم التأويل عند ابن رشد يبيح التعددية فيمتنع التكفير ويلزم من ذلك التطور. 
شرح "وهبة" فكرة تقديم العقل التى استفادها من ابن رشد بأننا باذلون الجهد الفطرى فى استكناه حقيقة الكون بالفكر الفلسفى البرهانى فإن وجدناها متفقة مع الشريعة كان خيرا وإلا فنحن مضطرون عند التعارض أن نختار بين التصديق القائم على الإيمان الصرف والأخذ بما أنتجه البحث العقلى أو نلجأ إلى تأويل الشريعة بما يتفق مع نتائج البرهان، فإذا ورد فى البرهان وهو أساس التأويل ما يبدو مخالفا للشرع وجب تأويل الشرع ليطابق البرهان لأنه لا يخالف الشرع من حيث أن كليهما حق، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.
إجمالًا، فإن "وهبة" حدد طبيعة قانون التأويل الذى رسمه الفيلسوف الأندلسى، بأنه لا يأتى إلا من قبل الراسخين فى العلم. وأن نشر التأويلات فى غير كتب البرهان يفضى إلى تكثير أهل الفساد. وأن الإجماع فى التأويل أمر محال، لأن تحقيق الإجماع يستلزم معرفة جميع العلماء الموجودين فى عصر معين، كما يستلزم ألا يكون هناك من العلماء من يجهل وجوده أو تعلمه ولكنه يكتم رأيه، وأنه لا يجوز التكفير على خرق الإجماع فى التأويل، لأن الذى يكفر هو الذى يتوهم أنه مالك للحقيقة المطلقة ومن شأن هذا الوهم أن يَحد من سلطان العقل، والتأويل بالمعنى الرشدى هو الذى يمنع الإنسان من الوقوع فى ذلك الوهم فلا يبقى حد لسلطان العقل. 

مقالات مشابهة

  • "أخلاقنا".. التى كانت
  • عيدك.. عندما تصبح آمنًا فى سربك
  • المضاعفات الطبية ومخاطر العمل الطبى
  • داليا عبدالرحيم تكتب: الدرس
  • د. يسرى عبد الله يكتب:  «الكتاب».. الحقيقة والاحتفاء
  • حى فى الغرب ميت بالشرق.. «فصل المقال» و«تهافت التهافت»علامات ابن رشد فى تاريخ الفلسفة العربية والإسلامية
  • الفن قاطرة التقدم والتنمية
  • تأسيس شركات والانضمام لأخرى.. كيف نظم القانون حق اللاجئ في العمل؟
  • شروط حددها القانون يجب توافرها فى المبعوثين قبل الإيفاد للخارج
  • أزهار شهاب تكتب: 470 يوما غيّرتني.. وللحياة بقية يا غزة