السودان ودولة الحرب العميقة
تاريخ النشر: 23rd, January 2025 GMT
السودان ودولة الحرب العميقة
ناصر السيد النور
إن مفهوم الدولة العميقة الذي بات مصطلحا ومفهوما لا يقل غموضا لتفسير السياسيات والقرارات غير الرسمية للحكومات ويبدو قد توطنت عمليا في الشئون السياسية والحكومية حتى بات شبحا تعزى اليها القرارات السياسية الجريئة وغيرها من توجهات لا تفصح عنها أجهزة الدولة الرسمية في صناعة القرار.
تحولت الحرب في السودان من حرب يقودها طرفان صراعا على السلطة ومن ورائهما تحالفات متعددة تتفاوت في القوة والعدة والعتاد إلى حرب لمحاولة استعادة سلطة ونفوذ بما يكشف في الوقت ذاته عن واجهة خلفية تدخل إدارة وتوجيها للحرب. فمنذ ارهاصاتها التي سبقت تفجر الحرب في الخامس عشر من ابريل/نسيان 2023 ظل المشهد السياسي السوداني في مرحلة الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة ديسمبر/تموز 2019 في حالة سيولة تمكنت فيها أذرع النظام السابق حينها على تأكيد حضورها القوي في المشهد السياسي بعد ثلاثين عاما من الحكم المستمر. ولأن طبيعة النظام السابق (الإنقاذ) بخلفيتها الإسلامية قد تمكن عبر سياسة التمكين التي اتبعها في تأمين اركان نظامه من تكوين هياكل وواجهات في موازاة الدولة القائمة بما يشمل حزبا سياسيا (المؤتمر الوطني) وجماعات مسلحة (كتائب الظل) وكيانات عشائرية أخرى كقواعد قد يضطر للجوء اليها وقد كان. فمنذ أن أطاح الفريق البرهان قائد الجيش في انقلابه على الحكومة الانتقالية بمساندة قوات الدعم السريع في أكتوبر/تشرين الأول 2021 وهو ما مهد الطريق للعودة المفتوحة إلى السلطة ومؤسساتها للحزب السابق الحاكم. وبرزت عناصر النظام السابق من فجوة الدولة العميقة مستعيدة لسلطة يدعمها العسكريون والعناصر المدنية الموالية. وتحولت هذه العناصر بالتالي من قوة مختبئة تخشى الملاحقة إلى سلطة بكامل اطقمها وقياداتها إلى الواجهة السياسية تقوم بأدوار غامضة ولا تترد في الكشف عن خطابها ورؤيتها للحرب والتحشييد لها تحت مظلة الشعارات السابقة.
وكانت الحرب الجارية أكبر اختبار أمام الدولة العميقة وأدواتها حيث لم يعد من الممكن التخفي وراء السلطة القائمة فكل ما حملته الحرب من توجهات وشعارات تكشفت عن الواجهة الحقيقة للدولة العميقة ومدى تأثيرها في مجريات الأمور. والحرب لم تقتصر على ميدان المواجهات بين الطرفين الجيش والدعم السريع بل في المحاولة المستميتة لإقصاء المدنيين الواجهة التي تمثل الاتجاه الديمقراطي والحكومة الفترة الانتقالية أكثر ما استهدفته عناصر الدولة السابقة بعمقها التنفيذي وتحكمها بالقرار العسكري بالإضافة الى كتائبها الشعبية المقاتلة. فقد اعادت الحركة الإسلامية صراعها القديم محمولا على انتقام من الكيانات السياسية المدنية التي تسببت في انهيار سلطتها متدرعة بقوة تنظيمية عسكرية تدعم وجودها في السلطة والامساك بمفاصل الدولة مثلما بدأت. إلا أن هذه التوجهات التي تستند إلى شرعية بحكم التمدد الزمني في السلطة وبالطريقة التي ادارت بها سلطتها وما رافق ذلك من انتهاكات جسيمة وحروب على طول البلاد وعرضها وانهيارات على كافة الأصعدة. وإذا كان الهدف المبدئي للدولة العميقة هو استعادة السلطة والتمسك بمقاليد الحكم فلأنها تستند إلى بنية الدولة الصلبة لا على شعاراتها أو برامجها السياسية فإن التحكم بالأجهزة الأمنية المختلفة أولوية لدى عناصرها. فالعناصر المتحكمة بتسيير دفة الحرب من داخل الدولة العميقة لا تعمل من خلال مواقع أو مناصب لها صفة رسمية في أجهزة الدولة، ولكنها تعمل من خلال قنوات تنظيمية. فقد كشفت العقوبات التي فرضتها كل من الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوربي على شخصيات سودانية من خارج المنظومة الرسمية أثناء هذه الحرب لدورهم كما إشارات بيانات العقوبات في الحرب واعاقة مجهودات السلام وأكدت بالتالي على دورهم النافذ في الحرب. ومن بين هذه الشخصيات ما لها موقع بارز في حكومة البشير السابقة مثل شخصية صلاح عبد الله قوش أحد مهندسي القوة الأمنية ومن يزعم بدورهم في قيادة الحرب. فأن تفرض عقوبات من خارج الحدود على شخصيات سودانية معروفة بتوجهاتها السياسية والايدولوجية يزيد من ادانة دورها الخفي وتأثيرها المباشر على أخطر القضايا الوطنية كالحرب الجارية والمسئولية الأخلاقية والسياسية.
أن تكون ثمة دولة عميقة في السودان بتعقيدات تكويناته العرقية والجهوية والسلطوية فهذا يعني أن تنطوي على تناقضات تاريخية واجتماعية شكلت جزء من أسباب صراع الحرب الدائرة في سياق المنازعات القائمة بين الجماعات المناطقية بين مركز وهامش في اختلال ميزان ما يعرف بتوزيع الثروة والسلطة بين ولايات السودان وسكانه. فإذا كان عمق الدولة وجماعات الظل ونفوذها يتأسس على هذه التناقضات في بنية الدولة السودانية وتركيبتها الاجتماعية فإن عناصرها تعمل على الحفاظ على هذه المعادلة المختلة بدلا عن تفكيكها الذي سيؤدي إلى فقدان تلك الامتيازات. وهذه الامتيازات تمثلها كيانات ليست بالضرورة سياسية بل كيانات عشائرية وقبلية تتقاطع تاريخيا مع السلطة السياسية وهو ما برز بشكل لافت في المجموعات القبلية المسلحة بعيدا عن جيش الدولة. ومن المفارقة أن قوات الدعم السريع كانت إحدى الأدوات التي كونتها الدولة العميقة في السودان وقننت وجودها كمظهر قانوني ودستوري لتعمل على تثبت اركان النظام كقوة ضاربة لا يتعدى دورها الحراسة والدفاع عن النظام. من قبل أن تتصاعد دورا ومهام وطموحا وقوة.
ومثل الموقف من الحرب صراعا محتدما بين أطراف الدولة العميقة المتحكمة وحكومة الواجهة المعترف بها على الأقل بشرعية وجودها، فقد لوحظ أن إدارة الحرب وبياناتها والموقف من المفاوضات والعلاقات الدولية وطريقة تنفيذها بما يعكس من تناقضات في الخطاب الرسمي للدولة أي وجود أكثر من جهة تملك حق التفويض المطلق في صنع القرار السياسي والعسكري على تنوع مجالاته. فالدولة العميقة هي تعدد في مراكز القرار ومراكز قوى داخل أجهزة السلطة بأقسامها الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية وباختصاصات تتجاوز القنوات التقليدية في إدارة الدولة. ولأن الحرب خلقت في السودان بتركيبته الاجتماعيِّة المتداخلة حيث المجتمعات المحلية اقوى من سلطة الدولة فقد أعادته الحرب إلى مرحلة للادولة في ظل إدارة الدولة العميقة. فالهياكل المترهلة التي خلفها النظام السابق أوجدت كيانات ذات نظم إدارية ضعيفة الكفاءة وعانت الآن من فوضى الحرب كنتيجة منطقية لخلل أزمة الدولة وسيادة البربرية أو الطبيعة بمفهوم الفيلسوف السياسي توماس هوبز التي أعادت بغياب القانون والدولة شريعة الغاب إلى شوارع المدن وزعزعت أمنها ومزقت نسيجها الاجتماعي.
واستطاعت الدولة العميقة بسياساتها البراغماتية من الاستفادة من مثليتها في دور الجوار السوداني مما شكل دعما لوجستيا وتدخلا مباشرا في الحرب لصالحها تنازلا ومغامرة بأمنها القومي وسيادتها الوطنية. وحرب السودان التي أصبحت حرب محاور تورط فيها الطرفان في صراعهما على سلطة يعصب التنبؤ بعودتها على ما كانت عليه ما قبل الحرب. وإن المعاناة التي خلفتها الحرب لسكان السودان تجعل من وجود الدولة العميقة بعناصرها مهددا دائما للسلام طالما أن الهدف يستدعي عودة السلطة مهما كلف ذلك على حساب المواطنين وامنهم.
الوسومالدولة العميقة حرب السودانالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الدولة العميقة حرب السودان
إقرأ أيضاً:
الخروج من الحلقة الجهنمية من أهم دروس الانتفاضة
١
أشرنا في مقال سابق إلى الذكرى الأربعين لانتفاضة مارس - أبريل ١٩٨٥ التي تمر في ظروف الحرب اللعينة التي أدت للخراب والدمار والمآسي الإنسانية التي نعيشها، جاءت الانتفاضة على خطى الثورات والانتفاضات السابقة في السودان. فقد أوضحت تجربة الثورة المهدية ١٨٨٥، ثورة اكتوبر 1964م ، انتفاضة مارس – ابريل 1985م ، وثورة ديسمبر 2018م في السودان أن الانتفاضة أو الثورة تقوم عندما تتوفر ظروفها الموضوعية والذاتية والتي تتلخص في :
– الأزمة العميقة التي تشمل المجتمع بأسره، ووصول الجماهير لحالة من السخط بحيث لا تطيق العيش تحت ظل النظام القديم.
– التناقضات العميقة التي تشمل الطبقة أو الفئة الحاكمة والتي تؤدي إلى الانقسام والصراع في صفوفها حول طريقة الخروج من الأزمة ، وتشل اجهزة القمع عن أداء وظائفها في القهر ، وأجهزة التضليل الأيديولوجي للجماهير.
– وأخيرا وجود القيادة الثورية التي تلهم الجماهير وتقودها حتي النصر.
٢
كان من أهم دروس انتفاضة مارس- ابريل 1985م ، أنه كان يجب مواصلتها حتى تحقيق أهدافها النهائية، بحيث لا يصبح التغيير فوقيا ، سواء عن طريق انقلاب عسكري أو تسوية مع النظام القديم تقوم بتغييرات شكلية وتبقي علي جوهر النظام ، كما حدث بعد ثورة ديسمبر في الوثيقة الدستورية والاتفاق الإطاري الذي كان هدفه تكريس الانقلاب بانتخابات مزورة ، والإفلات من العقاب ، وتصفية الثورة .
لكن يجب أن يكون التغيير جذريا يشمل كل النظام القديم ورموزه الفاسدة وقوانينه المقيدة للحريات ، حتي لاتنتكس الانتفاضة ، وبحيث يتم الخروج من الحلقة الجهنمية للانقلابات العسكرية ، واستدامة الحكم المدني الديمقراطي..
٣
لا شك أن مواصلة قيام اوسع جبهة جماهيرية قاعدية لوقف الحرب واسترداد الثورة، ومواصلة التضحيات والمقاومة الجماهيرية من أجل وحدة البلاد والدفاع عن السيادة الوطنية، وتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية والصحية والأمنية وعودة النازحين لمنازلهم وقراهم ومدنهم، سوف تصب في النهاية مهما اعترضت العقبات مجرى السيل الثورى ، في توفير العامل الذاتي بوجود القيادة الموحدة لقوى الثورة والتغيير الجذرى ، الاضراب السياسي والعصيان المدني لإسقاط الانقلاب وخروج العسكر والدعم السريع والمليشيات من السياسة والاقتصاد، وانتزاع الحكم المدني الديمقراطي، وتفكيك التمكين واستعادة أموال الشعب المنهوبة ، ومحاكمة القتلة مجرمي الحرب وضد الانسانية ، وتحسين الأوضاع المعيشية وتحقيق مجانية التعليم والصحة ، وتوفير الدواء ، والخدمات الأساسية “مياه ، كهرباء، انترنت”، وتحقيق السيادة الوطنية وحماية ثروات البلاد من النهب والتهريب للخارج ، وعودة شركات الجيش والأمن والدعم السريع والشرطة لولاية وزارة المالية ، وحل المليشيات وفق الترتيبات الأمنية “دعم سريع ، مليشيات المؤتمر الوطني ، وجيوش الحركات المسلحة وبقية المليشيات ” ، وقيام الجيش القومي المهني الموحد ، والغاء القوانين المقيدة للحريات ، واعادة النظر في كل الأراضي التي تم ايجارها بعقود تبلغ 99 عاما ، واتفاقات التعدين المجحفة في حق السودان ، واستعادة أراضي السودان المحتلة. وقيام علاقات خارجية متوازنة مع كل دول العالم، وقيام المؤتمر الدستوري في نهاية الفترة الانتقالية للتوافق على شكل الحكم ودستور ديمقراطي وقانون انتخابات يفضي لانتخابات حرة نزيهة في نهاية الفترة الانتقالية.
alsirbabo@yahoo.co.uk