الغاز يفتك بأجسادهم.. الجزيرة نت تكشف روايات مروعة لمصابي الكيميائي بدمشق
تاريخ النشر: 23rd, January 2025 GMT
دمشق- في الساعة الثانية والنصف من صباح 21 أغسطس/آب 2012، أطلقت قوات النظام السوري المخلوع الموجودة داخل اللواء 155 بالقلمون مئات الصواريخ من نوع أرض أرض على مناطق في غوطة دمشق، محملة بغاز السارين السام (غاز الأعصاب).
حينها، كان الموت اختناقا بقذيفة الكيمائي نهاية للحدث والخبر، إلا أن قصصا أخرى مرعبة لم ترو بعد مرور أكثر من 12 عاما على الجريمة، فالغاز القاتل الذي تحمله القذيفة المميتة، بعد أن أودى بحياة المئات، مازال حتى الآن يفتك بأجساد الكثيرين من سكان المدن السورية المنكوبة.
ووثقت الجزيرة نت الأعراض التالية الناتجة عن استنشاق تلك الغازات السامة:
ضعف في النمو. فقدان شبه كامل للعقل. تآكل الأسنان. تساقط الشعر. ضيق التنفس. ألم شديد في العيون. الأمراض النفسية الناجمة عن رؤية الموت وجثث الضحايا من الأهل والأصدقاء والجيران.تتميز الصواريخ التي تحمل رؤوسا كيميائية، والتي استعملتها قوات النظام المخلوع، بأنها لا تُحدث صوتا بعد انفجارها، ولا تخلف أضرارا على المباني، بل تخنق الأنفاس وتدمر الأعصاب. ومنذ عام 2012، استهدف النظام عددا من المناطق 184 مرة، استخدم فيها السلاح الكيميائي 217 مرة، بحسب تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
إعلانتُعتبر مدينة المعضمية الواقعة غربي العاصمة دمشق من أكثر المناطق التي تأثرت بالهجوم الكيميائي، حيث يقول سكانها إن "مجزرة الكيميائي"، التي قتلت المئات من أهلها بصمت وهدوء بارد، ما زالت مشاهدها محفورة في ذاكرتهم وآثارها على أجسادهم، وسط تجاهل حكومي ودولي مخيف، وفق تأكيدهم.
يقول رياض عبد الغني، المسؤول عن إحدى النقاط الطبية في المعضمية أثناء المجزرة، للجزيرة نت "إننا أول وسيلة إعلامية تأتي وتسأل عن حال من أصيبوا فيها خلال وجود نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وبعد سقوطه"، مؤكدا أن وزارة الصحة في عهده كانت "تتنكر للمصابين بغاز الأعصاب"، ولا تقدم لهم أي خدمات صحية، مما ضاعف من الحالة السيئة التي يعاني منها المئات الآن.
ويضيف "في عهد الأسد كنا لا نستطيع القول إننا مصابون بمضاعفات غاز السارين القاتل رغم الألم المميت"، كاشفا أن كثيرين كانوا يخفون إصابتهم خشية الاعتقال والقتل من قبل مخابرات النظام المخلوع.
وحسب عبد الغني، يعاني كثير من سكان غوطة دمشق الآن من آثار غاز السارين إلا أنهم يخافون الحديث عن أمراضهم لسببين:
الأول: خشية أن يخافهم الناس ويبتعدوا عنهم ويتجنبوا الاختلاط بهم خوفا من العدوى. الثاني: ظنهم أن لا أحد سيهتم بأمرهم "لوجود مسائل أكثر أهمية لدى السلطات الجديدة"، مثل ملف المعتقلين، والاقتصاد المنهار، والبنية التحتية المدمرة.وطالب وزارة الصحة الحالية بالتدخل السريع لعلاج المصابين من مجزرة الكيميائي حتى لا تتضاعف حالتهم الصحية وتصل لمراحل لا يمكن علاجها، مثل الأطفال الذين أصيبوا بضعف النمو، حيث أثبتت التحاليل أن غاز السارين يعوق التطور الطبيعي في أجزاء مختلفة من الجسم.
مأساةضعف النمو وانكماش العضلات أكدته ديبة الدوماني، وهي سيدة من سكان الغوطة الغربية، تحدثت للجزيرة نت عن مأساة حفيدها غياث مطر الذي استلهمت اسمه من أيقونة مدينة درايا المجاورة، والمعروف بأنه بطل المظاهرات السلمية الذي قتله نظام الأسد بطريقة بشعة استنكرتها المنظمات الدولية.
إعلانأصيب غياث بنقص النمو ورغم أنه يبلغ 13 عاما، فإن عقله وجسده يشيران إلى أنه في الخامسة من عمره بسبب إصابته بغاز السارين، وفق الدوماني.
لم تتمالك الجدة دموعها التي انهمرت على وجنتيها وهي تقول "ذبح نظام الأسد زوجي بالسكين أمام عيني وأهلك حفيدي بمرض عضال، وقال أطباء مختصون إنه فقد عقله ولن يكون قادرا على العيش بشكل طبيعي مثل باقي الأطفال".
التقت الجزيرة نت بطفل آخر قال أهالي المدينة إنه مصاب بالآثار ذاتها التي ظهرت على غياث بعد استنشاق غاز السارين.
عبد الرحمن خالد الواوي يبلغ من العمر 11 عاما، إلا أن شكله وعقله يشيران إلى أنه لا يتجاوز 6 سنوات أو أقل. يقول والده للجزيرة نت إنه يعاني من سوء تغذية وضعف نمو تسببا بانكماش في الجسد وخلل في العقل بسبب استنشاق هذا الغاز السام.
وأوضح الأطباء للوالد أن عبد الرحمن استنشق كمية كبيرة من غاز الأعصاب أنهكت جسده النحيل وتسببت له بمضاعفات خطيرة، وأنه كان يحتاج تدخلا سريعا بعد الإصابة لتخفيف الآثار المدمرة للكيميائي، و"لكن هذا لم يحدث".
كان النظام المخلوع يمنع أي أحد من الحديث عن إصابته بالغاز الفتاك، يؤكد والد عبد الرحمن. وتابع "جسد ولدي يتآكل كل يوم أمام عيني ولم أستطع أخذه إلى المستشفيات أثناء حكم الأسد، وتقبلت إصابته خيرا من فقدانه أو قتله من قبل أعوان النظام في مستشفياته التي كانت تخفي أي دليل على مجزرة الكيميائي التي مازالت آثارها حاضرة حتى اليوم".
بطل المقابرمن جانبه، يملك خالد الهمشري، وهو موظف في بلدية المعضمية، عربة لنقل القمامة يعتبرها جزءا منه، ورفض الحديث مع الجزيرة نت إلا والعربة الخضراء بجانبه مطالبا تصويرها بشكل واضح.
يملك الهمشري ابتسامة مميزة، إلا أن الأسد الذي أخفى ضحكات الآلاف من الشباب في سجونه المخيفة، تسبب بتآكل أسنان خالد. ويقول "ربما خرب الأسد ابتسامتي، ولكنه هرب وأنا مازلت أبتسم".
إعلانبحسب خالد، تسبب غاز السارين بالتهاب شديد في لثته وأسنانه وتساقط مستمر لشعره. ويضيف ضاحكا "أشعر كل يوم أن شكلي يتغير وشعري يسقط وأسناني أصبحت شبه متآكلة بسبب الكيماوي، ولكن ذلك لا يهم فأنا اليوم حر وأعمل لخدمة أهل منطقتي، فما دامت عربتي الخضراء تعمل فأنا بألف خير".
بحثت الجزيرة نت عن الأشخاص الذين كانوا يسعفون الناس أثناء قصف النظام للغوطة بصواريخ الكيميائي، لتكتشف أن معظمهم قد ماتوا اختناقا لحظيا، أو نتيجة الآثار الفتاكة لغاز السارين بعد يومين أو 3 أيام من وقوع المجزرة.
نجا منهم راتب رجب المعروف بين أهالي المعضمية بـ"بطل المقابر"، وذلك لدفنه أكثر من ألف شهيد في الغوطة الغربية. ويقول للجزيرة نت إن كثيرا من زملائه المسعفين "استشهدوا" على الفور بعد استنشاقهم غاز الأعصاب، و"لم يبق منهم إلا أنا وبعض الشباب".
يصف راتب حالة من تبقى من المسعفين بـ"المأساوية"، إذ يعانون من ضيق في التنفس حتى الآن، وعدم القدرة على التحرك في كثير من الأحيان، وضعف في النظر، وآلام شديدة في العضلات وفي الصدر، وفقدان جزئي للعقل.
وطالب بتدخل الجهات المختصة لعلاج من عاش من أصدقائه المسعفين قائلا "لقد دفنت المئات من الشهداء في مقابر مجهولة الهوية وأخرى معروفة، ولكنني لا أريد أن أدفن أحدا من أصدقائي بعد الآن".
إخفاء الجريمةبدوره، نجا الشاب أحمد الخطيب من المجزرة، لكنه دفن أباه سعيد وأخاه عمر بعد تعرضهما لموجة كبيرة من غاز السارين نتيجة إصابة مباشرة لصاروخ يحمل رأسا كيميائيا أصاب منزلهم.
يروي أحمد للجزيرة نت مأساة صباح 21 أغسطس/آب 2012، حيث شاهد الجثث وهي تملأ حارته الضيقة المدمرة، وعلى أطرافها جثتا والده وشقيقه.
ويقول "أبي كان بطلا انشق عن النظام المخلوع لخدمة أهالي مدينته، ليقتله بصاروخ كيماوي دمر رئتيه وأخرج الزبد من فمه، وارتقى شهيدا مع الذين استشهدوا وكتب استشهاده قصة رجل رفض الذل ومات حرا بين أهله وناسه".
إعلانحاولت الجزيرة نت التواصل مع وزارة الصحة الجديدة لمعرفة خططهم بشأن ملف المصابين بمجزرة الكيميائي، لكن لم تتلق إجابة واضحة. ورفض بعض الأطباء في المستشفيات الكبيرة بدمشق الحديث عن الأمر، قائلين إنه "حساس للغاية ويتطلب موافقة مباشرة لكشف تفاصيله".
يقول طبيب دمشقي يعمل ضمن الإدارة السورية الجديدة، رفض الكشف عن اسمه، للجزيرة نت إنه كان يعمل في مستشفى "المجتهد" أكبر مشافي دمشق وأهمها أثناء حدوث المجزرة المروعة.
وأوضح أنه عندما وقعت مجزرة الكيميائي في غوطة دمشق، جاءهم توجيه من جهات عليا بعدم التعامل مع أي حالة مصابة بغاز السارين، وطُلب منهم الإبلاغ عن أي شخص يأتي للمستشفى بغض النظر عن جنسه وعمره يدعي إصابته بهذا الغاز.
ووفق المصدر نفسه، حدثت في مستشفيات عديدة بدمشق عمليات إخفاء لأشخاص قدموا لتلقي العلاج من آثار الكيميائي ولم يُعرف عنهم أي شيء بعد اعتقالهم. وأكد أنهم كأطباء يدركون تماما الآثار السلبية التي يتسبب بها غاز السارين، و"لكننا كنا نخاف حتى قول كلمة مجزرة الكيماوي أمام أي أحد خشية الاعتقال".
وخلال عام 2012 وحده، يضيف، أنه وصلتهم عشرات الحالات المصابة بالكيميائي وكانوا يسجلونها حالات اختناق أو ضيق في التنفس أو أي شيء آخر، "المهم ألا تسجَّل أنها مصابة بغاز الأعصاب السام".
وقال إن الحالات المصابة التي وصلتهم في مستشفى "المجتهد" كان معظمها من غوطة دمشق، وكانت حالات شبه ميؤوس منها، و"كنا نقول بين بعضنا: هناك جريمة جديدة مروعة ومتكاملة الأركان تحدث في غوطة دمشق بطلها بشار الأسد المخلوع".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات النظام المخلوع غاز الأعصاب الجزیرة نت للجزیرة نت غوطة دمشق إلا أن
إقرأ أيضاً:
العلاقة الإشكالية بين نظام الأسد في سوريا والمحور الشيعي
22 يناير، 2025
بغداد/المسلة:
علي المؤمن
منذ سقوط نظام البعث في سوريا في ٧ كانون الأول/ ديسمبر ٢٠٢٤، والأسئلة تتراكم وتتكاثر حول مساحات التشابه والاختلاف بينه وبين نظام البعث العراقي، وأسباب تأييد شيعة العراق لنظام الأسد البعثي ومعارضتهم لنظام صدام البعثي، وحلف الجمهورية الإسلامية الإيرانية وشيعة لبنان مع نظام الأسد.
وسأتناول هذه الأسئلة وأجيب عليها، ليس من منطلق المسموعات والمعرفة النظرية، وإنما بناءً على معايشتي للواقع السوري خلال إقامتي في لبنان منذ العام ١٩٩٢.
التشابه والاختلاف بين نظامي البعث في العراق وسوريا:
بعيداً عن تعقيدات الانشقاق في حزب البعث في شباط/ فبراير ١٩٦٦، الى بعث عراقي وبعث سوري، وأسبابه ومساره التاريخي؛ فإن الجذور الفكرية والثقافية والتنظيمية والسلوكية للحزبين البعثيين في سوريا والعراق هي جذور واحدة، لكن هناك فروقات جوهرية بينهما، أبرزها:
١- إن حزب البعث السوري ليس عفلقياً في آيديولوجيته وقيادته؛ إذ يعتبر البعثيون السوريون ميشيل عفلق منحرفاً فكرياً عن مبادئ البعث، وجاسوساً للغرب، وخائناً، وهو موقفهم نفسه من حزب البعث العراقي وقيادته.
وكان حزب البعث العراقي قد تحوّل من حزب عفلقي الى حزب عفلقي صدّامي منذ العام ١٩٧٩ وحتى وفاة ميشيل عفلق في العام، ثم تحوّل الى حزب صدّامي بامتياز بعد ذلك وحتى الآن. وصدام حسين المولود في عائلة سنية؛ يمثل التيار الأكثر طائفية وعنصرية في حزب البعث العراقي، رغم أنه علماني لا ديني، لكن طائفيته السياسية الاجتماعية العلمانية تستقي جذورها من المشروع القومي العربي العراقي الطائفي.
في حين أن حزب البعث السوري كان عفلقياً حتى العام ١٩٦٦، ثم استحال أسديّاً بامتياز، أي أنه ظل مطبوعاً بطابع الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وهو علوي متمسك بعلويّته الاجتماعية، مثله مثل الأغلبية الساحقة للعلويين النافدين في الحزب والدولة السورية. ورغم أن العلويين هم شيعة إثنا عشريون، وليسوا كما يشيع عنهم خصومهم بأنهم (علي اللهية) و(نصيرية)، إلّا أن لهم نظاماً اجتماعياً دينياً خاصاً منفصلاً عن النظام الاجتماعي الديني الشيعي الإثني عشري العام، فضلاً عن غلبه الطابع العلماني على علويي الحزب والدولة، شأنهم في ذلك شأن علويي تركيا وإيران ولبنان، مقابل تميّز الشيعة السوريين من غير العلويين بالطابع الديني؛ لكن هذا لم يمنع من التحام الطرفين وتحالفهم على مر التاريخ، بما في ذلك فترة نفوذ العلويين في قرار الحزب والدولة السورية.
٢- الفارق الأهم بين حزب البعث العراقي وحزب البعث السوري يرتبط بالمشروع الطائفي، وهو فارق لا يعترف به الحزبان، بل يتبادلان الاتهام بشأنه فيما بينهما؛ فحزب البعث العراقي يصف حزب البعث السوري بأنه طائفي منحاز لطائفة الأقلية العلوية الشيعية في سوريا، وحزب البعث السوري يتهم حزب البعث العراقي بأنه طائفي منحاز لطائفة الأقلية السنية العربية في العراق، وهذه التوصيفات الطائفية للطرفين ليست اتهامات، وإنما هي حقيقة، ولذلك؛ نجد أن البعثيين العراقيين والإسلاميين السنة العراقيين هم الأكثر فرحاً وترحيباً بسقوط نظام البعث في سوريا، على العكس من الشيعة العراقيين غالباً.
والحقيقة أن دور العلويين عموماً وآل الأسد خصوصاً في إعادة توجيه حزب البعث السوري والدولة السورية باتجاه إنصاف علويّي سوريا خصوصاً والشيعة عموماً، لا يمكن إنكاره بأي وجه؛ فقد تمكن العلويون بعد العام ١٩٧١، وخاصة بيت الأسد، من كبح جماح الطائفية والعنصرية في الحزب وفي الدولة السورية، بل انقلب الواقع تدريجياً على الطائفيين في سوريا عموماً وعلى البعثيين الطائفيين خصوصاً، والذين لم يكونوا يخفون فخرهم بأنهم أمويون قبل العام ١٩٧١، ولم يعد هناك إقصاء وتهميش للشيعة أو السنة أو أية طائفة أخرى، بل أصبحت سوريا حليفة لشيعة لبنان في حياة السيد موسى الصدر، وخاصة بعد العام ١٩٧٤، وهي السنة الذي تحوّل فيها بيت الأسد إلى شيعة إثنى عشرية، وليس مجرد علويين، بفضل السيد موسى الصدر. ثم أصبحت سوريا الأسد حليفة لإيران بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية، انطلاقاً من إيمان حافظ الأسد الحقيقي بتشكيل جبهة إقليمية ضد الكيان الصهيوني.
كما بدأت سوريا الأسد منذ العام ١٩٨٠، باحتضان المعارضين الشيعة العراقيين لنظام البعث العراقي، وبقي العراقيون المعارضون والمهاجرون في سوريا، يتحركون كما يشاؤون في سوريا، ويدرسون ويعملون، دون أن يحمل أغلبهم الوثائق الثبوتية من جواز سفر وإقامة، في الوقت الذي كانت الدول العربية تمنع سفر العراقيين إليها، وتلقي القبض على المعارضين وتسلِّمهم إلى نظام صدام. ولم يقتصر ذلك على العراقيين، بل كانت هناك أعداد كبيرة من السعوديين والبحرانيين والأفغانستانيين والباكستانيين الشيعة وغيرهم، يقيمون في سوريا، ويتحركون بحريتهم، دون أن يجدوا ملاذاً آخر لهم في أية دولة عربية.
وكانت سوريا تلعب دوراً مهماً في دعم شيعة لبنان، معنوياً وسياسياً وعسكرياً، وخاصة حركة أمل وحزب الله والمجلس الشيعي الأعلى، وظلت بعد العام ١٩٨٢، الممر الآمن لمرور الدعم الإيراني المفتوح لشيعة لبنان، بما في ذلك الدعم العسكري الضخم، وكان ذلك سبباً مهماً في قدرة حزب الله على مواجهة الكيان الصهيوني.
ورغم إنصاف نظام الأسد لعلويي سوريا وشيعتها، وحماية شيعة العراق ولبنان والخليج، والتحالف مع إيران الشيعية، إلّا أن إطلاق تهمة الطائفية على نظامه ربما لا تصح؛ لأنه في الوقت نفسه كان يحتضن أيضاً الجماعات الفلسطينية السنية، بما فيها حركة حماس، فضلاً عن الجماعات القومية السنية العربية والأحزاب الماركسية.
ولم يكن نظام الأسد يمارس تهميشاً لسنّة سوريا أو إقصاءً لهم من المناصب الرأسية والقيادية العليا في الحزب والدولة والقوات المسلحة؛ فكون رئيس الحزب ورئيس الجمهورية في سوريا كان شيعياً، لم يحوّل النظام الى نظام طائفي علوي. على العكس مما كان عليه نظام البعث العراق؛ فقد كان رئيس النظام البعثي العراقي و٩٠% من أعضاء مجلس قيادة الثورة وقيادات حزب البعث والوزراء وقيادات الجيش، من السنة العرب، رغم أن نسبة السنة العرب لا تتجاوز ١٦% من نفوس العراق. بينما تبلغ نسبة العلويين والشيعة في سوريا حوالي ٢٠% من السكان، وفي المقابل؛ لا تتعدى نسبة العلويين والشيعة في قيادة حزب البعث السوري والحكومة وكبار المسؤولين نحو ١٠% من عدد المناصب العليا، أي وزيراً واحداً عادة في كل حكومة، وعضوين قياديين في كل تشكيلة قيادية، وربما محافظاً واحداً، بل أن كثيراً من الحكومات البعثية في سوريا كانت تخلو من وزراء علويين وشيعة.
وحتى رئيس الجمهورية السورية، العلوي الشيعي، كان يصلي خلف علماء الدين السنة وهو يتكتف، احتراماً للأكثرية السنية في سوريا؛ بينما كان صدام حسين يصلي وهو متكتف داخل ضريح الإمام علي وفي عقر دار المرجعية الشيعية في النجف. والأكثر من ذلك؛ أن النظام البعثي العراقي منع طباعة رسالة المرجع الأعلى السيد الخوئي بسبب وجود مسألة شرعية تتعلق بمبطلات الصلاة، وأحدها التكتّف؛ لأن رئيس النظام سنياً ويتكتف في الصلاة.
وفي حين كانت مناهج الدين والتاريخ في المدارس والجامعات السورية، سنّية بامتياز، ولم تُكتب يوماً في إطار ثقافة شيعية وعلوية إطلاقاً؛ فإنّ المناهج الدراسية العراقية في الدين والتاريخ، كانت على العكس منذ تأسيس الدولة العراقية في العام ١٩٢١ وحتى العام ٢٠٠٣؛ فقد كانت مذهبية سنية طائفية، وقومية عربية عنصرية، تتطابق تماماً مع ثقافة الأقلية السنية العربية البالغة ١٦% فقط من الشعب العراقي.
٣- على مستوى الحقوق والحريات الدينية والمذهبية والاجتماعية والإعلامية، كان نظام الأسد يعطي فسحة مهمة من النقد الإعلامي والفني والمعارضة السياسية، ويسمح لكل المشارب الدينية والمذهبية بممارسة شعائرها وطقوسها، وكان السوريون يحظون بكل وسائل التواصل والاتصال، من الموبايل إلى الإنترنيت إلى الكمبيوتر إلى الستلايت، وكل هذا لم يكن متاحاً في عراق البعث، بأي شكل. ويعرف المتابعون للدراما والمسرح السوريين منذ سبعينات القرن الماضي وحتى سقوط النظام، حجم النقد الكبير الذي كان يوجّه للحكومة وأجهزتها الأمنية، وهو النقد الذي كان يقود في عراق البعث، حتى ولو واحد بالمائة منه، إلى منصات الإعدام وثرامات اللحم ومسالخ الجلود.
وبالتالي؛ فإن التشابه بين حزب البعث الأسدي وحزب البعث العفلقي الصدامي هو تشابه نظري وشكلي، أي تشابه في الفكر القومي العربي العام، وتشابه في بعض سلوكيات الاستبداد والقمع الداخلي. أما الاختلاف بينهما في المواقف الفكرية والسياسية وفي ثقافة الدولة وسلوك الحكومات؛ فإنه اختلاف جوهري.
وحين تَكرّس بعد العام ٢٠٠٦ انخراط الدولة السورية في محور المقاومة والممانعة الذي تقوده إيران؛ فقد قررت الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني وتركيا والسعودية وقطر والأردن والإمارات، إسقاط نظام البعث – الأسد، وإعادة سوريا الى وضعها الطائفي السابق، وضمِّها الى الحلف الأمريكي الإسرائيلي السعودي، تمهيداً للقضاء على المحور الشيعي برمته، وهو التهديد الذي كان يستهدف أحد أهم أجنحة محور المقاومة، وصولاً إلى تهديد لبنان ثم العراق ثم إيران.
معايير التحالف بين نظام الأسد في سوريا والمحور الشيعي:
كانت علاقة التحالف والدعم المتبادل بين المحور الشيعي، الإيراني اللبناني العراقي السوري الخليجي الأفغانستاني الباكستاني، ونظام الأسد في سوريا، تحكمها خمسة معايير، هي:
١- موقف نظام الأسد المبدئي من القضية الفلسطينية والكيان الصهيوني، والرفض القاطع لكل أنواع التطبيع، مقابل تيار الاستسلام العربي المنخرط في مشروع الولايات المتحدة الأمريكية والمتحالف أمنياً مع الكيان الصهيوني، وهو الموقف الذي ظلّ يكلف نظام الأسد الكثير من أمنه واقتصاده.
٢- إنصاف نظام الأسد لشيعة سوريا وعلوييها، ورفع الظلم والتهميش الطائفي التاريخي عنهم، وتنميتهم سياسياً وثقافياً وتعليمياً ودينياً واجتماعياً ومعيشياً، وفسح المجال أمام التبليغ الشيعي بكل أشكاله.
٣- احتضان نظام الأسد شيعة لبنان والعراق والخليج وأفغانستان وغيرها، في أحلك الظروف وأكثرها قسوة، وتحديداً في فترات المعارضة والأزمات والتشريد، مقابل ما كانوا يتعرضون له من عدوانية من أنظمة الدول العربية الطائفية.
٤- انخراط نظام الأسد في محور المقاومة الذي تقوده إيران، وتحمّل جراء ذلك عقوبات الأنظمة العربية ومؤامراتها، وفي الوقت نفسه رفض إغراءاتها.
٥- مشكلة البديل الذي سيأتي عقب سقوطه، وهو خليط من الجماعات المسلحة والسياسية المرتبطة بالمشاريع الأمريكية والإسرائيلية والتركية والسعودية والقطرية والإماراتية، والتي تتميز بخطابها الطائفي العنيف، والتكفيري غالباً. وهو ما حصل بالفعل، وبوضوح كامل، بعد سقوط نظام الأسد في ٧ كانون الأول/ ديسمبر ٢٠٢٤.
وقد كانت هذه المعايير هي نفسها التي تدفع الأنظمة العربية والجماعات الطائفية والكيان الصهيوني وأمريكا وتركيا، لمعاداة نظام الأسد والتآمر عليه، أو محاولة إغرائه بأن ينقلب على هذه المعايير.
ولذلك؛ فإن المحور الشيعي لم يكن ير في سقوط نظام الأسد مشكلة سورية داخلية؛ إنما مشكلة مركبة عميقة، ستكون لها ارتداداتها الكبيرة على مستوى الصراع مع الكيان الصهيوني ومواجهة المشروع الأمريكي وتيار التطبيع العربي، وامتداد التيارات التكفيرية الأممية إلى لبنان والعراق، فضلاً عما تخلقه من تهديد وجودي وعقدي لشيعة سوريا وعلوييها. وهو ما يعني أن انخراط الشيعة في جبهة نظام الأسد، لمنع سقوطه، لم يكن انخراطاً من أجل شخص الأسد نفسه وأسرته وحزبه، وإنما لما يترتب على سقوطه من كارثة على الواقع الشيعي برمته، سواء من ناحية ما سيتركه من فراغ في محور المقاومة، أو ناحية البديل الطائفي الذي سيحل محله.
وهذا الخطاب الطائفي المتجذر، لم تكن تخفيه جماعات المعارضة السورية، السلمية منها والمسلحة، والتي ظلت ترفع شعارات الوصول إلى كربلاء والنجف، وظلت ترفع الشعارات نفسها بعد استلامها السلطة. وإذا كان جزء من خطابها التكفيري والطائفي، قد تغيّر خلال السنة الأخيرة؛ فإنما هو تغيير مؤقت ومصطنع ونفاقي، من أجل أن يستتب لها الأمر وتستقر، ثم تبدأ بتنفيذ مشروعها الطائفي بعد بضع سنوات.
ولا شك أن الالتحام الدفاعي لأجنحة محور المقاومة بقوات الدولة السورية منذ العام ٢٠١١، لا يعني تسويغ الفكر العنصري العلماني للبعث وخلفياته العفلقية، ولا بالفساد الأخلاقي والسياسي والإداري، ولا السلوكيات القمعية والاستبدادية التي كانت يمارسها النظام ضد معارضيه، ولا السلوكيات الخاطئة التي أثّرت سلباً على أمن العراق بعد العام ٢٠٠٣، وتسببت في إراقة دماء كثير من العراقيين. وهي سلوكيات يتحمل مسؤوليتها ــ غالباً ــ بقايا الطائفيين في حزب البعث السوري ومخابراته، والذين بدأوا بالانقلاب تدريجياً على قيادة الأسد فيما بعد، وتحديداً خلال العام ٢٠٠٥، وهو ما كتبتُ عنه حينها قبل انشقاق عبد الحليم خدام وفاروق الشرع وغيرهما عن النظام.
ولا تزال كلمات السياسي العراقي الدكتور فاضل الأنصاري، عضو القيادة القومية لحزب البعث السوري، ترن في الآذان، وهو يتحدث في العام ١٩٩٩ عن طائفية بعض القيادات السنية في حزب البعث السوري، أمثال عبد الحليم خدام وفاروق الشرع وعبد الله الأحمر، وكيف كان الأحمر يدعم البعثيين العراقيين السنة على حساب البعثيين العراقيين الشيعة، وكيف كان بعض هؤلاء يخاطبونه بمصطلح (عجمي)، بسبب كونه شيعي، وكان الأنصاري يشبِّه طائفية هؤلاء القياديين البعثيين السوريين السنة بطائفية بعث العراق، وقد كادوا يطيحون بالأنصاري أكثر من مرة، لولا دعم الرئيس حافظ الأسد له.
حين كسر النظام السوري درعه وسيفه:
خلال الهجوم الدولي الشامل على سورية بأدوات تكفيرية وطائفية في العام ٢٠١١، وبدعم مباشر من حكومات أمريكا وتركيا و(إسرائيل) والإمارات وقطر والسعودية والأردن ومصر وبريطانيا وفرنسا، استنجد النظام السوري بإيران، وكانت مصلحة محور المقاومة الشيعي تلتقي بمصلحة النظام السوري؛ لأن سوريا كانت حلقة أساسية في سلسلة محور المقاومة، وأن سقوطها بيد الجماعات التكفيرية والطائفية المدعومة من أمريكا وأوروبا وتركيا وإسرائيل والأنظمة الطائفية العربية؛ لن يؤدي إلى تقطيع أوصال المحور وحسب، وإنما سيجعل أمريكا وتركيا وإسرائيل والأنظمة العربية تحاصر شيعة لبنان من الشرق، وشيعة العراق من الغرب، وتحول دون دعم الفلسطينيين في الداخل.
ولذلك؛ بادرت إيران بتشكيل قوات عقدية خاصة، من مقاتلين إيرانيين وعراقيين ولبنانيين وباكستانيين وأفغانستانيين وآذربيجانيين، ودعمتها بالسلاح والإمكانات اللوجستية والمال والتدريب والتخطيط والقيادة. وقد تألفت هذه القوات (وفق تقديرات العام ٢٠١٦) من:
١- “قوات الدفاع الوطني”، وهي قوات خاصة سورية تتألف من (٢٥) ألف مقاتل شيعي وعلوي سوري.
٢- “قوات زينبيون”، وتتألف من (١٠) آلاف مقاتل أفغانستاني.
٣- “قوات فاطميون”، وتتألف من (٥) آلاف مقاتل باكستاني.
٤- قوات المقاومة الإسلامية العراقية، وتنقسم إلى أربع ألوية أساسية، تتألف بمجموعها من (١٥) ألف مقاتل.
٥- قوات حزب الله اللبناني، وتتألف من (١٠) آلاف مقاتل.
٦- المستشارون الإيرانيون، الذين وصل عددهم إلى (١٥) ألف قائد ومدرب ومستشار.
وقد بلغ مجموع هذه القوات في العام ٢٠١٦ نحو (١٠٠) ألف مقاتل، وهي القوات التي منعت سقوط سوريا طيلة (١٣) عاماً، وكان تأثيرها على الأرض أقوى بكثير من تأثير الجيش السوري، وأقوى من تأثير الطيران والصواريخ الروسية التي دخلت المعركة فيما بعد.
إلّا أنّ قرارات النظام السوري بالتخلي عن هذه القوات بالتدريج، وتحديداً بين العامين ٢٠١٦ و٢٠٢٢، نتج عنها حل الوحدات السورية منها، وإخراج الوحدات غير السورية إلى خارج سوريا، وذلك خضوعاً للتهديدات الأمريكية والتركية والإسرائيلية، والإلحاحات الأردنية والمصرية، والإغراءات الإمارتية والسعودية، بالرغم من الرفض الإيراني وتحذيراته المتكررة.
وكان النظام السوري يطمع مقابل ذلك ببقائه وإطالة عمره وإعادة اندماجه في الواقع العربي ودعمه اقتصادياً، ومساعدته على رفع العقوبات الدولية عنه، وهو ما كانت توحي له به الأنظمة العربية الطائفية، وخاصة الإمارات والسعودية. وكانت النتيجة أن بقيت سوريا عارية دون غطاء ودون درع وسيف. وكان النظام يعتقد أن اعتماده على الجيش سيمنع سقوطه، في الوقت الذي كان أغلب جسد الجيش يتكون من عناصر طائفية لا يعنيها سقوط النظام، وهي العناصر التي قامت بالانقلاب على النظام، وسلمت المدن السورية الواحدة تلو الأُخر إلى جماعة الجولاني.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author زينSee author's posts