«ساعدني أيها الرب» هكذا أنهى الرئيس السابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية قسم تنصيبه، وهي صلاة يقال إن جورج واشنطن أضافها للقسم، ورددها رؤساء أمريكيون بعده.
وهي عبارة قد ينظر إليها من زاوية تقليدية، خالية من حمولتها الدينية، ولا تعني أية تداعيات ثيولوجية، تماماً، كما ينظر لذهاب الرئيس إلى كنيسة القديس يوحنا، على أنه تقليد يخلو من أية ارتباطات دينية، أو كما فُسرت مقولة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن الذي تحدث عن «حربه الصليبية» ضد «الإرهاب الإسلامي» وهي العبارة التي أمكن إعادة تخريجها على أساس أن كلمة «صليبية» منقطعة عن سياقاتها التاريخية والدينية، بعد أن أدمجت في القواميس، لتحمل دلالات لغوية، ليس لها أية محمولات أو إشارات إلى «الحرب الدينية المقدسة» كما يحلو للمدافعين عن «العلمانية الأمريكية» أن يطرحوا.
ومع ذلك، فإن الخطاب والسلوك السياسي الأمريكي أصبحا ـ بشكل متزايد ـ يغترفان من القاموس الديني المسيحي، ويحفلان بإشارات ثيولوجية مكثفة، عجنت الخطاب السياسي باللغة الدينية، وهو أمر لم يعد مقتصراً على المحافظين الجمهوريين، بل إن عدوى «التدين السياسي» تلك انتقلت من الجمهوريين إلى الديمقراطيين الذين بدأوا يحاكون الجمهوريين، ويرقصون على إيقاع الترانيم المقدسة، لأهداف سياسية واضحة، مع تنامي الخطاب الديني الأصولي في الولايات المتحدة.
وبالعودة لدونالد ترامب الذي يمشي متثاقلاً، بشيء من خيلاء، كأنه لا يرى من حوله، حتى إذا ما لفتوا انتباهه بصفير أو صرخات إعجاب التفت إليهم ممسكاً بكلتا يديه، في حركة تشي بالحزم، ترامب يحاول الظهور لأنصاره وخصومه ـ على حد سواء ـ بمظهر الرجل القوي، مستعيناً بما أوتي من تكوين جسماني يجعله يمضي متثاقلاً لا يأبه بأحد.
كأنه يريد ـ من خلال طريقته في المشي والحركة ـ أن ينفي أي أثر للزمن على جسده، وهو الذي طالما لعب على عامل العمر، في منافسته الشرسة مع «جو العجوز» أو «جو النائم» أو كأنما يريد أن يحفر صورته في أذهان الناس: بطلاً أسطورياً، يشبه أولئك الأبطال الخارجين من صفحات الملاحم الإغريقية، أبطالاً لا يشيبون، لا يهرمون، وربما لا يموتون، بل يرتقون إلى مصاف الآلهة، أو أنصاف الآلهة، أو على أقل تقدير إنه «رسول العناية الإلهية» كما يراه 30٪ من الأمريكيين الذين يرون ـ كذلك ـ أنه أصبح رئيسا بـ«فضل الرب».
إنه دونالد ترامب، «الفادي» «المُخلِّص» وهما لقبان ـ يخصان السيد المسيح ـ يطلقهما المتدينون من أنصار ترامب عليه، بما أنه يُعدُّ في نظر كثير من أتباعه «مسيح أمريكا» أو «رسول المسيح». وكيف لا يكون كذلك؟! وهو الذي «حاولوا سجنه ونجا، حاولوا اغتياله ونجا» وضحى بنفسه من أجل أمريكا، «كما فدى المسيح الخراف الرب» حسب المعتقد المسيحي، وقد كاد «المسيح الأمريكي» الجديد أن يكون «الفادي» لولا أن الله نجاه، ليكون «المخلص» الذي نهض بعد محاولة الاغتيال، مُصِرّاً على مواصلة القتال.
كل ذلك لم يكن ليحدث لولا أن «االله نجّاه من الموت لينقذ الولايات المتحدة» حسب اعتقاد ملايين من المسيحيين الإنجيليين، أو المسيحيين الجدد، وحسب تصريحات ترامب التي قال فيها: «لقد أخبرني الكثيرون أن الرب أنقذ حياتي لسبب ما، وهذا السبب هو إنقاذ بلادنا واستعادة عظمة أمريكا» وقد أشار لفكرة: «ترامب المُخلِّص» عدد من كبار مسؤوليه، إبان فترة رئاسته السابقة، فبالإضافة لفكرة «مخلص أمريكا» ذكر مايك بومبيو، وزير الخارجية الأسبق أن دونالد ترامب «هدية الرب لإنقاذ اليهود» وهي تصريحات سبقته إلى مثلها عمدة ألاسكا السابقة سارة بالين، عام 2016، عندما ذكرت أن الله «تدخل فى الانتخابات الأمريكية ليفوز بها دونالد ترامب» من أجل إنقاذ أمريكا بالطبع، وقد رددت بالين مقولاتها، قبل ذلك، في 2008، إبان استعار الحملة الانتخابية بين باراك أوباما وجون ماكين، غير أن «تدخل الرب» المزعوم لم يحل دون فوز أوباما آنذاك.
هكذا إذن يتقدم الخطاب الديني في إعادة تشكيل الخطاب السياسي الأمريكي، متكئاً على معتقدات شعبوية لملايين المسيحيين الإنجيليين الذين يميلون إلى اعتناق عقائد ذات علاقة بتنبؤات الكتاب المقدس، وبالتفسيرات الغيبية وأخبار آخر الزمان وملاحمه.
وهؤلاء المسيحيون الإنجيليون، أو المسيحيون الجدد، هم الوريث الآيديولوجي لـ«البيوريتانت/التطهريين» الذين خرجوا من «إنكلترا القديمة» على فترات، في القرن السابع عشر، بسبب الاضطهاد الذي عانوا منه من قِبَل المؤسستين: الكنسية والملكية، فهاجروا، ليؤسسوا «إنكلترا الجديدة» أو «نيو إنكلاند» متقمصين شخصيات «بني إسرائيل» في العهد القديم، عند خروجهم من مصر، ورحلتهم إلى «أرض الميعاد» حسب رواية الكتاب المقدس.
وعلى الرغم من ذوبان «التطهريين» في تيار الزمن، إلا أن كثيراً من أفكارهم عن الدين والمجتمع والحياة والسلطة والثروة تسربت، وذابت ضمن رؤى جديدة إلى أن وصلنا إلى «المسيحيين الإنجيليين» الذين يمكن النظر إليهم ـ مع شيء من التحفظ ـ على أنهم نسخة منقحة من «التطهريين» القدماء، بعد أن خرج «التطهريون المحدثون» بخلطة يجتمع فيها الدين والسياسة والأفكار القومية، والتاريخ والحاضر في آيديولوجيا مسيحية ترى أن دونالد ترامب هو «منقذ المسيحية» كونه «منقذ أمريكا» التي تعد في نظرهم «حامية المسيحية» والمبشرة بتعاليم «السيد المسيح».
قد لا يبدو التوظيف السياسي للدين في الولايات المتحدة خطيراً، عند البعض، في مراحله الحالية، نظراً لقوة المؤسسات المدنية والديمقراطية، لكننا اليوم إزاء موجة «تدين سياسي» أو لنقل: «تدين مرضي» يبالغ في تقديس الغيبيات، مع محاولة تحويلها إلى حِسّيات، وتحويل الظنيات إلى يقينيات، تدين يغترف بشكل كبير من قاموس غزير من التراث الثيولوجي المسيحي، ويمشي بخطى حثيثة إلى «الأحادية» التي تمثل ضرباً من «الديكتاتورية الثيوقراطية» التي يمكن ـ إذا ما قدر لها أن تتسع ـ أن تكون كارثة على النموذج الأمريكي الذي يرى كثيرون أنه لم يعد ملهماً، أو محفزاً على الأحلام والطموحات.
ومع الزمن قد نصبح إزاء خلطة من تحالفات رجال الدين والسياسة والاقتصاد التي تعلن أنها تتصرف باسم الرب، وتلتف حول أيديولوجيا دينية قومية، لها تفسيرها الخاص للدين والقومية والاقتصاد والسياسة، آيديولوجيا تؤمن بأنها هي الحق وما عداها باطل، وتسعى لتشكيل تحالفات ولوبيات جديدة، تحت مسمى محاربة اللوبيات التقليدية التي تشكل أسس وأنساغ الدولة العميقة في الولايات المتحدة، لا لكي تتخلص من سطوة الدولة العميقة وقبضتها المحكمة على مناحي الحياة المختلفة، داخل وخارج الولايات المتحدة، ولكن لكي تغدو اللوبيات الجديدة نسخة من اللوبيات التقليدية، في الخصائص والصلاحيات، مع توليفة ينصهر فيها الدين بالتوجهات القومية المتعصبة، أو يصبح معها الدين ممزوجاً بالجين، ويغدو الموروث الثيوقراطي معجوناً بالتعصب القومي، ونصبح إزاء «مسيحية بيضاء/شقراء، مسيحية عرقية/جينية، مسيحية نقية/تطهرية، أو مسيحية أمريكية» مسيحها دونالد ترامب، وحواريوه رجال ونساء يفكرون، على طريقة مايك بنس وسارة بالين.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الولايات المتحدة ترامب الولايات المتحدة اليمين ترامب مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة دونالد ترامب
إقرأ أيضاً:
ما هي أوامر ترامب التنفيذية الصادرة وتلك التي ألغاها؟
أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب سلسلة من الأوامر التنفيذية والتوجيهات في سعيه لوضع بصمته على إدارته الجديدة في أمور تتراوح من الطاقة إلى العفو الجنائي والهجرة.
وفيما يلي بعض الأوامر التنفيذية الرئيسية التي وقعها ترامب في اليوم الأول من عودته للمنصب:
العفو
أصدر ترامب عفوا عن نحو 1500 شخص اقتحموا مبنى الكابيتول الأميركي في السادس من يناير 2021، في لفتة لدعم الأشخاص الذين اعتدوا على الشرطة في أثناء محاولتهم منع المشرعين من التصديق على هزيمته في انتخابات 2020.
وقال ترامب: "نأمل أن يخرجوا الليلة، بصراحة، نتوقع ذلك".
كما يخفف الإجراء أحكام 14 عضوا من منظمتي براود بويز وأوث كيبرز اليمينيتين المتطرفتين، ومنهم بعض الذين أدينوا بالتآمر للتحريض على العنف.
كما يوجه الأمر وزير العدل الأميركي بإسقاط القضايا المعلقة بالشغب.
الهجرة
وقع ترامب على أوامر تعلن الهجرة غير الشرعية على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك حالة طوارئ وطنية، وتصنف العصابات الإجرامية منظمات إرهابية، وتستهدف الجنسية التلقائية للأطفال المولودين في الولايات المتحدة لمهاجرين غير شرعيين.
وسيعلق أمر ترامب الذي يتعامل مع إعادة توطين اللاجئين في الولايات المتحدة البرنامج لمدة أربعة أشهر على الأقل وسيأمر بمراجعة الأمن لمعرفة ما إذا كان المسافرون من دول معينة يجب أن يخضعوا لحظر السفر.
وجاء في الأمر "الولايات المتحدة تفتقر إلى القدرة على استيعاب أعداد كبيرة من المهاجرين".
إلغاء إجراءات بايدن
في تجمع حاشد في ساحة رياضية، ألغى ترامب 78 إجراء تنفيذيا للإدارة السابقة.
وقال ترامب "سألغي ما يقرب من 80 إجراء تنفيذيا مدمرا للإدارة السابقة".
وأضاف أنه سيوقع أمرا يوجه كل الوكالات بالحفاظ على جميع السجلات المتعلقة "بالاضطهاد السياسي" في ظل إدارة الرئيس السابق جو بايدن.
وينطبق الإلغاء على الأوامر التنفيذية التي تمتد من اليوم الأول لبايدن في منصبه في 2021 إلى الأسبوع الماضي، وتغطي موضوعات من الإغاثة من كوفيد إلى تعزيز صناعات الطاقة النظيفة.
حظر تيك توك
وقع ترامب أمرا بتأخير حظر لمدة 75 يوما لتطبيق المقاطع المصورة القصيرة تيك توك الذي كان من المقرر إغلاقه في 19 يناير.
ويوجه الأمر وزير العدل بعدم فرض القانون "للسماح لإدارتي بفرصة تحديد مسار العمل المناسب فيما يتعلق بتيك توك".
تجميد الإجراءات التنظيمية والتوظيف
وقع ترامب على أوامر بتجميد التوظيف الحكومي واللوائح الاتحادية الجديدة، بالإضافة إلى أمر يلزم العاملين الاتحاديين بالعودة التامة إلى العمل بنظام الحضور الشخصي.
وقال ترامب: "سأنفذ تجميدا فوريا للإجراءات التنظيمية الجديدة، مما سيمنع بيروقراطيي بايدن من الاستمرار في إصدار اللوائح"، مضيفا أنه سيصدر أيضا "تجميدا مؤقتا للتوظيف لضمان توظيفنا فقط للأشخاص الأكفاء المخلصين للجمهور الأمريكي".
وستجبر هذه الخطوة أعدادا كبيرة من موظفي الحكومة على التخلي عن ترتيبات العمل عن بُعد، في عدول عن اتجاه بدأ في المراحل المبكرة من جائحة كوفيد-19.
وقال بعض حلفاء ترامب إن تفويض العودة إلى العمل يهدف إلى المساعدة في تقليص الخدمة المدنية، مما يسهل على ترامب استبدال العاملين الحكوميين الذين خدموا لفترة طويلة بموالين له.
التضخم
أمر ترامب جميع الإدارات والوكالات التنفيذية بتقديم إغاثة طارئة للشعب الأميركي في ظل ارتفاع الأسعار وبزيادة رخاء العامل الأميركي.
وتشمل التدابير خفض اللوائح والسياسات المناخية التي ترفع التكاليف، والإجراءات اللازمة لخفض كلفة الإسكان وتوسيع المعروض من المساكن.
وجاء في الأمر "على مدى السنوات الأربع الماضية، ألحقت سياسات إدارة بايدن المدمرة أزمة تضخم تاريخية بالشعب الأميركي".
المناخ
كما وقع ترامب على الانسحاب من معاهدة باريس للمناخ، بما في ذلك رسالة إلى الأمم المتحدة تشرح أسباب الانسحاب.
يهدد الإعلان، الذي كان متوقعا على نطاق واسع منذ فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية في الخامس من نوفمبر، الهدف الرئيسي للاتفاقية بتجنب ارتفاع درجات الحرارة العالمية 1.5 درجة مئوية عن مستويات ما قبل الصناعة.
ويقول الأمر "سياسة إدارتي هي وضع مصالح الولايات المتحدة والشعب الأميركي في المقام الأول".
وألغى مذكرة من عام 2023 أصدرها بايدن تحظر التنقيب عن النفط في نحو 16 مليون فدان في القطب الشمالي، قائلا إن الحكومة يجب أن تشجع استكشاف الطاقة وإنتاجها على الأراضي والمياه الاتحادية، وألغى تفويضا بخصوص المركبات الكهربائية.
الصحة
أمر آخر أصدره ترامب بسحب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، قائلا إن المنظمة أساءت التعامل مع جائحة كوفيد-19 والأزمات الصحية الدولية الأخرى.
وتمثل الخطة، التي تتماشى مع انتقادات ترامب الطويلة الأمد للمنظمة التابعة للأمم المتحدة، تحولا كبيرا في سياسة الصحة العالمية الأميركية وتعزل واشنطن بشكل أكبر عن الجهود الدولية لمكافحة الأوبئة.
حرية التعبير
وقع ترامب على أمر تنفيذي قال إنه يهدف إلى "استعادة حرية التعبير وإنهاء الرقابة الاتحادية".
وقال البيت الأبيض أنه "تحت ستار مكافحة "التضليل" و"التضليل الإعلامي" و"المعلومات الخاطئة"، انتهكت الحكومة الاتحادية حقوق التعبير المحمية دستوريا للمواطنين الأميركيين".
واتهم ترامب وحلفاؤه الجمهوريون إدارة الرئيس الديمقراطي السابق بايدن بتشجيع قمع حرية التعبير على المنصات الإلكترونية.
الطاقة
أعلن ترامب حالة طوارئ وطنية للطاقة، ووعد بملء الاحتياطيات الاستراتيجية من النفط وتصدير الطاقة الأميركية في جميع أنحاء العالم.
ووضع خطة شاملة لتعظيم إنتاج النفط والغاز في الولايات المتحدة بما في ذلك إعلان حالة طوارئ وطنية للطاقة وإزالة اللوائح التنظيمية الزائدة، وانسحاب الولايات المتحدة من ميثاق دولي لمكافحة تغير المناخ.
وقال ترامب إنه يتوقع أن تساعد الأوامر في خفض التضخم وحماية الأمن القومي الأميركي. كما وقع على أوامر تهدف إلى تعزيز تطوير النفط والغاز في ألاسكا، وألغى جهود بايدن لحماية أراضي القطب الشمالي ومياهه من التنقيب.