لجريدة عمان:
2025-04-16@15:51:41 GMT

الدولة والحقوق

تاريخ النشر: 22nd, January 2025 GMT

في مقابـل نظـرةٍ فلسفـيّة إلى الدّولة، سادت في القرنين السّابع عشر والثّامن عـشر، ودارت على فكـرةِ مـركزيّةِ الحقّ الطّبيعيّ في التّأسيس للـدّولـة ومشـروعيّـتـها، نشـأت نـظرةٌ أخرى مختـلفة تمامًا إلى العلاقة التّـكويـنيّـة بين الظّاهـرتيـن، منصرفـة إلى قلب تلك العلاقة بحيث تصير العِـلّـة معلولًا ويصير المعلـول علّـة.

هكـذا وُجِـد من قال إنّ الـدّولـة لا تَـديـن في الوجـود إلى أفـرادٍ اصطـنعـوها، بمحض إرادتـهـم الحـرّة، من أجل أن تحـميَ حقوقهم من غائلـة التّـعادي والانتهاك المتبادَل، بـل إنّ الأفـراد أُولاء ومعهم حقوقهم يدينـون للـدّولـة بما يتـمـتّعون بـه من حقـوق (الأفـراد) ومن ضمانات (الحقـوق). تحظى النّـظرةُ الفـلسفـيّـة المعاكسة هـذه بسمـةٍ مميَّـزة هي نـقـدها لكـلّ نـزعـةٍ إرادويّـة في النّـظر إلى ظواهـر الاجـتماع الإنسانيّ، ولكلّ ما يتـرتّـب عن تلك النّـظرة من ميْـلٍ رومانسيّ في رؤيـة الـدّولـة والمجتمع على حـدٍّ سواء مقـترحةً، في مقـابل ذلك، طـريقـةً أخرى لمَـفْـهَـمـةِ الظّـواهـر وتجريـدِ النّظـر إليها سبيـلًا إلى تـميـيـز بعضها من بعـض وتصنيـفـِها إلى مـا هـو عـامٌّ منها وما هـو خاصّ، من دون السّقـوط في وضْع عـوازلَ قاطعـة بينها تـنفـي عنها ديناميّـات الـتّـفاعُـل والـتّـأثيـر المتبادَل.

ارتبط القـولُ بهذه الأطـروحة عن تـبعيّـة الحـقّ للـدّولة بالفيلسـوف الألمانيّ هـيجـل وكتـابـاتـه في العـقـديـن الأوّلـيْن من القـرن التّاسع عشر، لكنّ جذورها تعـود إلى ما قبـل ذلك بما يقارب السّـبعيـن عامًا؛ إلى كـتابات مونـتسكـيو وبالذّات، كتـابه روح القـوانيـن الذي وضعه في عام 1748. وما مـن شـكٍّ في أنّ أعلى تـنـظيرٍ ودرسٍ فـلسفـيّـيْن للحـقّ والقانون هـو ذاك الذي تجلّـى في كـتابات هـذيْـن المفـكّـريْـن. وإذا كان كـلُّ دارسٍ للـفلسفـة السّياسيّـة الحديثة يَـعْـلَم، على القطـع، أنّ منـتهـى التّجريد النّـظريّ والمَـفْـهَـمة والبناء الفـكريّ الصّـارم لنظريّـة الـدّولـة والحـقّ والقانون هـو ما سطّـره هـيجـل في كتـابه مبادئ فـلسفة الحـقّ وقبلـه، في مـوسوعة العلـوم الفـلسفيّـة، فهـو يَعْـلم - في الوقـت عيـنـه - أنّ أساسات ذلك التّـنظير العالي موجودة في كـتاب مونتسكيو المُشار إليه؛ الكتاب الذي كان إطارًا مرجـعيّـًا للعـديد من أطـروحات هـيجـل والفلاسفة الألمان: خاصّـةً حول القانون والـدّستور والحريّـة وعلاقـتها بالـدّولة. أمّا النَّـفَـس التّـجريـديّ لهـيجـل، في ما كتبه في المسألة، فمـردُّه إلى التّـقاليـد النّـظريّـة الألمانـيّـة، مـن وجْـهٍ، وإلى ذهابـه بعيـدًا - من وجْـهٍ ثـانٍ - في طـريق البناء المفهـوميّ والنّـظريّ الصّـارم لموضوعات الفـكر إلى حـدٍّ جاوز فيه، أحيانًا، ما استطاعه إيمانـويـل كَـنت قبله، مـثلًا، في هذا الباب خاصّـةً في كـتابه نـقـد العـقـل بأجزائه الثّـلاثة (النّـظر، العـمل، القـيم).

تنفي هذه النّـظرة الفلسفيّة الثّانية أن تكون الـدّولـة منتوجًا سياسيّـًا لعملِ أفـرادٍ تعاقـدوا، بشكـلٍ حـرٍّ وطوعيّ وبإرادةٍ مستـقـلّة، على أن يقـيموا الـدّولـة ويَكِـلوا إليها وظائفَ مّا. ليست حريّة هؤلاء سابقة للـدّولـة وجودًا وبالتّالي، ليست علّـةً لذلك الوجود، في نظر ممثّـلي هذه الرّؤية، وإنّما هي منتوج سياسيّ من منتوجات الـدّولـة، شأنها شأن سائر الحقوق المدنيّة الأخرى. بعبارة أخرى، ليست الحقوق الطّبيـعيّة هي التي تقـود إلى صناعة كيان الـدّولـة، كما يعتـقـد فلاسفة العـقـد الاجتماعيّ، بل قيامُ الـدّولـة هـو ما يفتح الباب أمام إنتاج حقوق مدنيّة وإقرارِها وحمايـتِها بمنـظومة من القوانين خاصّة. الـدّولة، عند هـيجـل، لا تَدين للأفراد بشيء - فكيف بوجودها؟ - لأنّ الأفراد ليسوا معطًى طبـيعيًّا موروثًا، بل صناعة سياسيّـة وراءها الـدّولـة الوطنيّـة الحـديثة. إنّ هذه الـدّولة هي من أَنْـجَـب الفـرديّـة بعد تفكيك النّـظام الجمعانيّ الموروث، وهي مَـن حـوَّل الفرد إلى وحـدةٍ سياسيّـة يخاطبها القانون ويشـرِّع لها. إنّ الكـليَّ في الـدّولـة هو الذي يحـدِّد الجـزئيّ (الذّات الفرديّـة) ويرسُم له الوجودَ والفاعليّـة وليس العكـس، ولا يمكن لذلك الكليّ والجوهريّ في الـدّولـة أن يَـديـن لأجزائـه.

يستمدّ الأفرادُ حقوقَـهم من الـدّولـة التي تمنحها إيّـاهم بعد أن تُـحْدِثها لهم بوصفهم جزءًا منها خاضعًا لوَلايتها السّياسيّـة والقانونيّـة، وأساسُ هـذه الحقوق - في الـدّولـة الحديثـة - الحريّـة. صحيحٌ أنّ هذه لا تـتأتّـى، عند هـيغـل، إلاّ متى وضع الأفراد أنـفسَهم في خدمة المصلحة العامّـة وأدّوا ما عليهم من واجب تجاه الـدّولـة، إلاّ أنّه ما من إمكانٍ عنـده - وعنـد مونتسكيو قـبله - لافـتراض دولـةٍ حديثةٍ من غير حريّـات. تسلِّـم هذه النّـظرة، إذن، بجدليّـة الحـقّ والواجب، الحريّـة والضّرورة وبتـفاعل حـدَّيْـها الذي يتـولّـد منه تـوازنٌ تُـحْـفَـظ فيه حقوق العامّ والخاصّ؛ حقوق الـدّولـة وحقوق الأفـراد وحقوق المجتمع المـدنيّ (= مجتمع المصالح الخاصّـة عند هـيغـل). خـلافًا للنّـظرة الفلسفيّـة الأولى التي تـفـترض المصالح الخاصّـة (للأفراد) سابقة وجودًا للمصلحة العامّة وتـفترض أنّ الأخيرةَ ليست سوى محصَّـلة للأولى، تـذهب هذه الفلسفة النّـقـديّـة إلى التّـشـديـد على أنّ الأفراد لا يـحقّـقـون مصالحهم الخاصّـة إلاّ من طريـق مشاركتهم في تحقيق المصلحـة العامّـة الجامعة، لأنّ تحقيقَ هذه المحافظة عليها تحقيقٌ للمصلحة الخاصّـة في الوقت عينه. هكذا نلْحـظ كيف أنّ مبْنى العلاقةِ الصّحيحَ هـو أنّ العامّ يُـحـدِّد الخاصّ وليس العـكس.

من النّافـل القول إنّ هـذه النّظرة الفـلسفيّة إلى مسألة الحقوق، التي دشّـنها مونـتسكيو وذهب فيها هـيجـل بعيدًا، تَـقْـلب منظـور فلاسفة العـقـد الاجتماعيّ رأسًا على عقـب، وتميـط النّـقاب عن كثيـرٍ من نقائـضهم ومن رؤاهـم الرّومانسيّـة والمثاليّـة إلى السّياسة والـدّولـة. والحـقّ أنّـه ما كان يمكن الوقـوف على مثـالب الفـلسفـة السّياسيّـة الحديثة إلاّ من طريق وضْـعها موْضـع فـحصٍ نـقـديّ يسائـل منطلـقاتها النّـظريّـة، ومفاهيـمَها، وفـرضيّـاتها الضّـمنيّـة كاشفـًا ما يعـتـورها من خلـل؛ وهذا عيـنُ ما فعـله هـيجـل في مطلع القـرن التّاسع عشر مستـفيدًا، في نـقـده ذاك، من حدثٍ تاريخيّ مفـصليّ بَـدَا مختَـبَـرًا تاريـخيًّا لفحص منظـومات الفـكـر السّياسيّ هو حدث الثّـورة الفرنسيّـة في عام 1789.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الـد ولـة الس یاسی الخاص ـة یاسی ـة خاص ـة

إقرأ أيضاً:

الفاشر.. او على السودان السلام

حينما التقيت الرئيس الاريتري أسياس افورقي فى يناير المنصرم ضمن مجموعة من زملائي الاعلاميين السودانيين باسمرا ، لاحظت انه كان كثير التركيز على “معركة الفاشر”، مع استيعاب متقدم لطبيعة الحرب ، فهي عند افورقي نزاع اقليمي يستهدف السودان، وينبغي التعامل معه بالجدية اللازمة وليست مجرد تمرد على الجيش، افورقي كان يحذرنا برؤية الجنرال الافريقي العظيم من ان الدولة السودانية تواجه تحدي البقاء او الفناء وان التصدي لهذا الخطر يبدا من بوابة دارفور..

كان هذا الحديث قبل 3 اشهر ، وقبل ان يصل الهجوم على فاشر السلطان الى الرقم 202 امس ، فالرجل وبخبرة المعارك الكبيرة سبق الجميع وهو يؤكد ان الفاشر هي بوابة اجتياح السودان وان الحرب تبدا من هناك رغم مظاهر الفوضوية والدمار فى الخرطوم والجزيرة وسنار ومناطق اخرى.

اذكر يومها ان الرئيس الاريتري قال كلاما كثيرا لم يخرج للناس لان “المجالس امانات ” ولكنا استشعرنا جدية طرحه ورؤيته حينما هدد بان بلاده لن تقف مكتوفة الايدي اذا اقتربت الحرب من 4 ولايات حدودية وهي ( القضارف، وكسلا، والبحر الاحمر، والنيل الازرق).

فى كل يوم تتأكد رؤية افورقي مع اصرار التامر اقليمي على تمكين مليشيا الدعم السريع من الفاشر، التى مازالت صامدة بعد الهجوم ( 202) ، كل السودان وليست الشمالية ونهر النيل فقط مثلما هدد المتمرد عبدالرحيم دقلو سيكون هدفا سهلا للجنجويد وكفلائهم اذا ما قدر لهم الوصول الى الفاشر .

وازاء هذا الخطر الماثل والمستمر والمعلوم تتمدد كثير من الاسئلة ، وابرزها ما الذى يؤجل فك حصار الفاشر؟! ، ولماذا لانلمس حتى الان استراتيجية عسكرية كبيرة لانجاز هذا الامر على النحو الذى يخرج المدينة من مربع الدفاع عن اسوارها الى مرحلة كنس الجنجويد ومهاجمتهم بضراوة وانهاء خطر وجودهم المهدد للفاشر البوابة التى يسعى عبرها ال دقلو للعودة الى واجهة الاحداث من جديد.

بالامس نفذت المليشيا مجزرة جديدة فى الفاشر وهي تهاجم معسكر ابو شوك للنازحين وتقتل مئة نفس بريئة بينها اطفال طلاب خلاوي ونساء وعجزة، حتى طواقم المنظمات الاجنبية جميعهم حصدتهم المدافع بلا رحمة ، بينما كان بواسل الفرقة السادسة والقوات المشتركة والمستنفرين من ابناء المدينة يصدون هجوما شرسا ، فاقم من الازمة الانسانية وقدم دليلا جديدا على عظمة انسان الفاشر وهو يفدي السودان ويفشل مؤامرات الجنجويد ببسالة وفدائية سيوثقها التاريخ..

ولكن هل يكفي ان نجعلهم يموتون كل يوم على اسوار المدينة ، ونكتفي بكلمات الاشادة، والاحتفاء بقصص البطولات لتى ظل يسطرها شباب وميارم الفاشر ، ومواطنوها الشجعان..
ما يحدث في زمزم والفاشر ضد المواطنين جريمة مكتملة الأركان تؤكد ان التعويل على المجتمع الدولي ومؤسساته رهان خاسر، وان الفاشر تحتاج ونظرا لاوضاع مواطنيها اولا وـ استراتيجيتها واهميتها- فى معركة بقاء السودان ان نتعامل مع حصارها بطريقة مختلفة تقفز بها الى صدارة المشهد الحربي ، لان سقوطها لاقدر الله سيكون كارثة ووبالا على الدولة السودانية.

الاجتماع المهم الذى جمع الوزير محمد بشير ابونمو القيادي الابرز فى حركة تحرير السودان مع “اسد العمليات” الفريق اول ياسر العطا امس ، يفتح كوة الامل فى تفكير عملي وجديد يخاطب اوضاع المدينة التى يهددها التمرد ويعمل جاهدا على اجتياحها ، حتى تسهل مهمة اسقاط الدولة فى يد الجنجويد والمرتزقة وكفلائهم الاقليميين..

يعلم “اولاد دقلو” ان استمرار الشريان الاماراتي الذى يغذيهم بالمال والسلاح رهين باسقاط الفاشر، فقد ابلغتهم ابوظبي رسميا انها لن تمول التمرد او تعول عليه مالم يستلم المدينة ويتخذها منصة لاعلان حكومة الجنجويد فى دارفور واجتياح بقية مناطق السودان…

نعم فك الحصار عن مدينة الفاشر وتقديم الدعم العاجل لأهلها يجب أن يكون في صدارة أولويات المرحلة القادمة باعتباره واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا ، فمعركة اجتياح السودان بعد فشل الخطة الاولى للجنجويد تبدا من فاشر السلطان، وعلى الدولة ان تضع ترتيباتها العسكرية على هذه الفرضية، وبلا تاخير او ابطاء.

هلموا الى معركة الفاشر العظيمة ، فضياع المدينة سيعيد الجنجويد الى الواجهة، وسيجعل من انتصارات الجيش فى الخرطوم والجزيرة وسنار بلاقيمة، ونامين المدينة سيعزز النصر ويفتح على الدولة السودانية ابواب الامن والاستقرار.. علينا التفكير الان فى كسر حصار الفاشر، واثق ان جيشنا البطل والقوات المشتركة والمساندة الاخرى لن تعجزها الفاشر الصابرة الصامدة المحتسبة، والتى تنتظر القيادة الان لاتخاذ قرارات حاسمة تنهي مغامرات ال دقلو وتكسر الحصار وتؤمن الانتصار..
*هلموا الي الفاشر…*
*وكل “القوة الفاشر جوة”*
*وما النصر الا من عند الله..*
محمد عبدالقادر
محمد عبدالقادر

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • دولة فلسطينية موعودة
  • ترامب إلى أين.. وماذا بعد؟!
  • عون يصل الدوحة ويلتقي أمير قطر غدا الأربعاء
  • الدولة والسلفيات الدينية والمذهبية
  • إبراهيم الشاذلي يكتب: رقم لم ينتبه له أحد
  • متى تتكلم البنادق؟
  • الفاشر.. او على السودان السلام
  • مسعود بارزاني: على الدولة العراقية منع تكرار السياسات الشوفينية
  • عون إلى قطر غداً او الاربعاء فيزيارة شكر
  • تقرير أممي.. اغتصاب طفل كل نصف ساعة في هذه الدولة